hindawiorg

Share to Social Media

كانت شمس اليوم الثاني من أيام رحلتنا توشك على المغيب، حينما أطلق كيلوا — الذي
كان يركب متقدمًا إيانا بعدة قصبات —صيحة قصيرة، وقفز عنسرجه، وخرَّ إلى الأرض.
هرع بريري إليه في الحال. وتبعتُه بسرعة أقل؛ إذ كانت مفاصلي متيبسة للغاية، ولم
أملك شيئًا من الحماسة العلمية لتليينها. كان بريري منكبٍّا على يديه وركبتيه، يتفحَّص
بتلهُّف ما بدا أنه اضطراب حديث في التربة. وكان الهمجي منبطحًا، يمرِّغ جبهته في التراب،
كما لو أنه في حالة هيام ديني، ويترنم باللحن المصطنَع نفسِهِ، الذي سمعناه في كوخ المرأة
التقية.
«؟ أثر أيِّ حيوانٍ ذلك الذي عثرت عليه » : سألته
لم أعثر على أثر أي حيوان! هل ترى هذا » : أجاب بريري بلهجة أقرب إلى الغضب
الكشط الكبير المستدير على سطح التربة، حيث وَطِئَها وزن ثقيل؟ هل ترى هذه الأغوار
الصغيرة المتكوِّنة حديثًا في الأرض، وتشع من نقطة واحدة كأنها رءوس نجمة؟ إنها
الآثار التي خلَّفتها جذورٌ نحيلة مُنتزعة من مغارسها السطحية. هل ترى تصرفات كيلوا
الهستيرية؟ أقول لك إننا في طريقنا إلى العثور على الشجرة المقدسة. لقد كانت هنا، ولم
«. يمضِعلى ذلك زمن طويل
نزولًا على تعليمات بريري الحماسية، تابعنا المطاردة سيرًا على الأقدام. اتجه كيلوا
جهة الشرق، واتجهتُ أنا إلى الغرب، وسلك بريري المسلك الجنوبي.
ولكي نغطي المنطقة بالكامل، اتفقنا على أن نسير في مسارات متعرجة تتسع تدريجيٍّا،
وأن نتواصل بعضنا مع بعضعلى فترات، من خلال طلقات نارية. ما كان بالإمكان وضع
خطة أسخف من هذه؛ ففي غضون ربع ساعة، جُنَّ جنوني وفقدت اتجاهاتي في إحدى
الأجمات. ولمدة ربع ساعة آخر، أطلقت رصاصات من مسدسيعلى نحو متكرر، ولم أحصل
على أيِّ ردٍّ من الشرق ولا من الجنوب. قضيت ما تبقَّى من النهار في سعيٍ متخبط، لشق
طريقي للعودة إلى المكان الذي كانت الخيول فيه، ثم غربت الشمس، تاركة إياي في ظلمة
مفاجئة، وحيدًا في برِّيَّةٍ لها من الاتساع والخصائصما لم يكن لديَّ أدنى فكرة عنه.
لن أضجرك بتفاصيل معاناتي طوال تلك الليلة، والنهار التالي، والليلة التالية، ونهار
آخر. حينما كان يحل الظلام، كنت أهيم في الأرجاء بيأس أعمى، متشوقًا لضوء النهار،
ودون جرأة على النوم أو حتى التوقف، وفي حالة رعب مستمر من المخاطر المجهولة التي
تحيط بي. وفي النهار، كنت أتوق لليل، إذ كانت الشمس الحارقة تنفذ من خلال الأسطح

الأشد كثافة التي وفرتها أوراق الأشجار الوارفة، وتدفعني إلى حافة الجنون. كانت المؤن في
جرابي قد نفدت؛ فكانت زجاجة المياه الخاصة بي على السرج، وكنت سأموت من العطش
لا محالة، لولا نبات الصبار ذي الأوراق الجرسية، الذي وجدته مرتين. لكن في تلك التجربة
المريعة، لا عذاب الجوع والعطش، ولا عذاب الحر، كان يعدل بؤس التفكير في أن حياتي
ستضيع فداءً لأوهام عالِم نبات مجنون يحلم بالمستحيل.
المستحيل؟
في عصراليوم الثاني، بينما كنت لا أزال أهيم على وجهي في أنحاء الغابة، فقدتُ ما
تبقَّى من قوَّتي وسقطتُ على الأرض. كان اليأس واللامبالاة قد أفسحا المجال منذ وقت
طويل لرغبة عارمة في الفَناء. أغلقت عينيَّ بارتياح لا يوصف، وبدت الشمس الحارقة
لطيفةً على وجهي، بينما غبتُ عن الوعي.
هل أتت إليَّ امرأة جميلة وحنون، وأنا أرقد مغشيٍّا عليَّ، وأخذت رأسي في حجرها،
وأحاطتني بذراعيها؟ هلضغطت بوجهها وجهي، في همسة تدعوني إلى التحلي بالشجاعة؟
كانت تلك هي الفكرة التي سيطرت على عقلي، حينما كافحت للحظة للعودة إلى وعيي؛
وتشبثت بالذراعين الدافئتين الطريتين، وأغُْمِيَ عليَّ من جديد.
لا ينظرن أحدكم إلى الآخر ويبتسم، أيها السادة؛ ففي هذه البرِّيَّة القاسية، في حالتي
البائسة، وجدتُ حنوٍّا ورقَّةً لطيفة. وحينما عاد إليَّ وعيي مجددًا، رأيت أن شيئًا ما كان
منحنيًا فوقي؛ شيئًا فخمًا لكن ليس جميلًا، إنسانيٍّا لكن ليس إنسانًا، حنونًا لكن ليس
امرأة. كانت الذراعان اللتان حملتاني ووضعتاني رطبتين، وكانتا تنبضان بنبضالحياة.
وكان ثمة عطر حلو خفيف، يشبه رائحة شعر امرأة معطَّر. كانت اللمسة تربيتًا، والضمة
احتضانًا.
هل يمكنني أن أصف شكلها؟ لا، ليس بالتحديد الذي قد يُرضيأمثال كويكفيرستش
وبريري. رأيتُ أن الجذع كان ضخمًا، والفروع التي حملتني عن الأرض واحتضنتني
بعناية ورفق، كانت مرنةً وموزَّعة بطريقة تناظرية. وكان فوق رأسي إكليل من أوراق
الشجر الغريبة، يتوسطه انتفاخ قرمزي مبهر. وبينما كنت أراقب، نما الانتفاخ القرمزي،
لكن المجهود المبذول في المراقبة كان أكبر من احتمالي.
تذكَّروا من فضلكم، أنه في ذلك الوقت، كان الإرهاق البدني والألم النفسيقد أوصلاني
إلى مرحلة كنت أتنقل فيها بين فقدان الوعي واستعادته، بمثل سهولة وتكرار تقلُّب المرء
المستمر بين السُّبات واليقظة، في ليلة من الحمَّى. أن تحبني صبارة وتعتني بي في عز

ضعفي، بدا وكأنه الشيء الأكثر طبيعية في العالم. لم أبحث عن تفسير لذلك الحظ السعيد،
ولم أحاول تحليله؛ قَبِلْته ببساطة كأنه أمر طبيعي، مثلما يقبل طفل عطيةً ما من جهة
غير متوقعة. أما الفكرة الوحيدة التي سيطرت عليَّ فكانت أنني وجدتُ صديقًا مجهولًا،
مفطورًا على عطفٍ أنثوي، ولطفٍ لا يُقاس.
وبحلول الليل، بدا لي أن الانتفاخ القرمزي فوق رأسيأصبح متضخمًا تضخُّمًا كبيرًا،
إلى حدِّ أنه كاد يملأ السماء. هل كنت أهُدهَد بلطفٍ بواسطة الذراعين اللينتين اللتين كانتا
لا تزالان تحملانني؟ هل كنا نُقلِع معًا طافيين في الهواء؟ لم أكن أعرف، ولم أكن أهتم.
والآن، تخيلتُ أنني كنتُ في مهجعي على متن سفينة، يكتنفني موج البحر، الآن تخيلتُ
أنني أشارك نوعًا من الطيور العظيمة التحليق، الآن تخيلتُ أنني أحُمَل عبر الظلام بسرعة
مذهلة، بإرادتي الحرة. أثَّر الشعور بالحركة المتواصلة على كل أحلامي. كلما أفقت شعرت
بنسيم بارد يلفح وجهي باستمرار؛ وهو أول نسيم هواء أشعر به منذ هبطنا. كنتُ سعيدًا
على نحو غامضأيها السادة. كنتُ قد تنازلت عن كامل مسئوليتي عن مصيري؛ فقدصرت
في حماية كائن ذي قوًى خارقة.
«! زجاجة البراندي، يا كيلوا »
كنا في وضح النهار. استلقيتُ على الأرض، وكان بريري يسند كتفي. ارتسمت على
وجهه نظرة ذهول لن أنساها أبدًا.
«. يا إلهي! كيف وصلتَ إلى هناك؟ لقد يئسنا من البحث منذ يومين » : صاح
أعانني البراندي على تمالُك نفسي. وقفت على قدميَّ ونظرتُ حولي. كان السبب وراء
دهشة بريري العارمة واضحًا من النظرة الأولى. لم نكن في البرِّيَّة، بل كنا على الساحل. كان
هناك الخليج، والسفينة راسية على بُعد نصف ميل من الشاطئ. وكانوا قد بدءوا بالفعل
يُنزلون قاربًا ليرسلوه إلينا.
وإلى الجنوب، كان في الأفق بقعة حمراء ساطعة، أكبر بقليل من نجمة الصباح؛ إنها
الشجرة المنطاد تعود إلى البرِّيَّة. لقد رأيتها، ورآها بريري، ورآها كيلوا الهمجي. ظللنا
نشاهدها حتى اختفت. شاهدناها بأحاسيس مختلفة كل الاختلاف: كيلوا أحس بمهابة
خرافية، وبريري انتابه فضول علمي وخيبة أمل فادحة، وأنا امتلأ قلبي بالدهشة والامتنان.
وضعت كلتا يَدَيَّ على جبيني. لم يكن ذلك حلمًا إذن. الشجرة، التربيت، الاحتضان،
الانتفاخ القرمزي، الرحلة الليلية عبر الجو؛ كل ذلك لم يكن صنيعة هذيان، ولا عرَضًا
من أعراضه. سمُّوها شجرة، أو سمُّوها نباتًا حيوانًا، لقد كانت هناك! لندَعْ رجال العلم

يتجادلون حول مسألة وجودها في الطبيعة؛ فما أعرفه هو ذا: لقد وجدَتْني وأنا مُشرِف
على الموت، وحملَتْني لأكثر من مائة ميل، مباشرةً إلى السفينة حيث أنتمي. بعناية إلهية
أيها السادة، أنقذ هذا الكائن النباتي الذكي والحساس حياتي.
عند هذه النقطة، نهض الكولونيل وغادر النادي. لقد تأثر كثيرًا. وبعد مدة وجيزة،
دخل بريري، خفيفًا كعادته. التقط نسخة غير محررة من رحلات اللورد براجماتش في
أرضكيرجيلون، وجلس على كرسيٍّمُريح في زاوية المدفأة.
اعذرني يا سيد بريري، » : اقترب تراديز الشاب في تردد من الرحالة المخضرم وقال
لكن أود أن أسألك سؤالًا عن الشجرة المنطاد. هل كانت هناك أسباب علمية للاعتقاد بأن
«… جنسها كان
أوه، هل كان الكولونيل يختصك بهذه القصة » : قاطعه بريري وقد بدا عليه السأم
الاستثنائية؟ هلشرفني مرة أخرى بقسط من المغامرة؟ نعم؟ حسنًا، هل أفلحت مغامرتنا
«؟ هذه المرة
لماذا؟ لا، لقد رأيتَ الشجرة آخر مرة، على هيئة بقعة قرمزية في » : قال الشاب تراديز
«. الأفق
«! يا إلهي، فشلٌ آخر » : قال بريري، وقد بدأ يقطِّع أوراق كتابه بهدوء
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.