ودعني أبي، ووعدني أنه سيأتي؛ ليصحبني إلى منزلنا في نهاية اليوم.
سِرتُ بملابسي الجديدة أحمل حقيبتي تجاه البوابة، فصاح أحد الأشخاص عندما علم بقدومي قبل أن يراني من ثقب صغير في البوابة الحديدية، وقبل أن تُفتح على مصراعيها أمامي؛ لأعبر إلى الداخل بخطوات بطيئة حذرًا، يدق قلبي بقوة، وكأنني عبرتُ إلى منطقة أخرى من حياتي.
صار اليوم الدراسي كما توقعت إلى حد ما، بدأنا بتعلم بعضًا من قواعد القراءة، والكتابة كان قد علمني إياها أبي من قبل.
أعتقد أن جميع الأطفال في مثل سني مُلمين بتعلم القراءة، والكتابة مثلي أيضًا، ثم بدأنا بدراسة بعض من تاريخ بلادنا قبل أن نخرج إلى حديقة المدرسة، ثم بدأت أتعرف على زُملاء فصلي حينها.
كانت حديقة المدرسة مكانًا يُشع بالبهجة، منظرها البديع، ورائحة الأشجار، والأزهار من حولها جعلت منها مكانًا رائعًا، يجعلني أشعر بالاسترخاء عندما أجلس بها إلى حد كبير، وصار الوقت الذي يفصل بين الحصص حلقةً للسمر بيننا، نتعرف على بعضنا البعض، ونتحدث عن أشياء كثيرة، فكان أغلب ما نتحدث به عن ما نُحب، أو عن المناطق التي نعيش بها.
أتى الطفل الذي كان يجلس في المقعد الموازي لمقعدي في الفصل، ثم وقف أمامي، وبدأ بالتحدث معي قائلًا: مرحبًا، أردتُ أن أسألك عن سبب تركنا، وذهابك؛ لتجلس وَحيدًا.
أجبت: لا شيء يا صديقي، أنا فقط لم أعتَد على الأجواء الصاخبة أو التحدث إلى كثير من الأشخاص من قبل.
- حسنًا، هل تسمح لي بالجلوس؟
- نعم، بكل تأكيد.
ابتسم ثم قال: شكرًا لك، ما اسمك؟
- اسمي سليم، وماذا عنك؟
- أنا حمزة، لم تخبرني، هل تعيش في (راياتيا)؟
- في الحقيقة لا، أنا أعيش في أقصى جنوب إقليم بلاد الهضاب الحمراء، تحديدًا بجانب بحيرة (لونار).
- اعتقدت ذلك، لم يسبق لي رؤيتك هُنا في (راياتيا) من قبل.
دق بوق؛ لنعود إلى الفصول من جديد، ثم قُلت لحمزة: هيا بنا نعود إلى الفصل، وسنكمل كلامنا غدًا.
- حسنًا.
عُدنا إلى الفصل من جديد، ثم تابعنا حصة التاريخ قبل أن يأتي المعلم الجديد، ونبدأ بالتعرف عليه، بدأنا بدراسة المناطق البعيدة والقريبة من إقليم بلاد الهضاب الحمراء، ثم انتهى اليوم الدراسي الأول مع اقتراب غروب الشمس.
خرجنا من الفصل متجهين إلى البوابة الحديدية للمدرسة، ثم عبأتُ صدري بالهواء، وأنا أسير بحقيبتي مع غروب الشمس بين الطلاب مبتعدًا عن البوابة التي أُغلقت من خلفنا.
كان أبي في انتظاري كما وعدني، وضحك عندما رآني أضع الحقيبة فوق رأسي من شدة التعب، ثم قام باحتضاني، وقال: كيف كان يومك الأول؟
قلت: ليس سيئًا، تعرفتُ على بعض الأصدقاء الجدد، ولعبنا، ولكن لم أعلم أن الدراسة مملة هكذا.
ضحك وقبَّل جبيني، ثُم حمل حقيبتي إلى عربته، وانطلقنا في طريقنا إلى لُونار، لم يتوقف عن طرح أسئلته عمّا تعلمناه داخل المدرسة، فأجبته قائلًا: تعلمنا بعضًا من قواعد اللغة التي علمتها لي سابقًا، و بعضًا من حصص التاريخ وحضارات المناطق التي حولنا.
- اهتم بالتاريخ جيدًا، سأعتمدُ عليك كثيرًا مُستقبلًا.
كُنت أعلم أن أبي يُحب دراسة تاريخ البلدان التي حولنا، ويستفيد منها إلى حد كبير في مغامراته، وأعلم أيضًا أن إصراره في التركيز على دراستي لمادة التاريخ تحديدًا، يعني ذلك أنه سيكلفني بمهمة البحث عن شيءٍ ما مُستقبلّا.
ربما هذه الأيام فرصة؛ لكي أتعلم ما سيعينني غدًا، لا أدري ماذا سيحدث مُستقبلًا في باقي العمر، وعلى أي حافة سأقف؟ وهل ستلتقي بي الأحلام التي أنتظرها بشغف؟
لا أدري، ولكن رغم ذلك، سأبقى دائمًا على قيد الأمل..