بينما كانا يخرجان من متاهة أكوام رماد الأتون وتلال الفحم والمعدن الخام، هبَّتْ
عليهما بغتةً أصواتُ ضجيجِ طاحونة الدرفلة، صاخبةً وقريبةً ومميزة. مر ثلاثة عمَّال
غير واضحين ولمسوا قبعاتهم تحيةً لهوروكس. كانت وجوههم غيرَ بادية في الظلام. شعر
راوت برغبةٍ مُلِحَّة في مُخاطَبتهم، لكنها ذهبت أدراجَ الرياح؛ إذ مروا داخلين إلى الظلال قبل
أن يتمكَّن حتى من صياغة كلماته. أشار هوروكس إلى القناة التي أصبحت قريبةً منهم
في ذلك الحين؛ بدَتْ مكانًا غريبَ الشكل، مع الانعكاسات الحمراء الدموية للأفران فيها.
كانت المياه الساخنة التي تُبرِّد قصباتِ دخول الهواء تصبُّ فيها، على ارتفاعِ خمسين ياردة
تقريبًا إلى الأعلى، كان يتدفق نُهَيْرٌ مضطربٌ يكاد يغلي، وتصاعَدَ البخار من المياه في حِزَمٍ
وخطوطٍ بيضاء خامدة، تغلِّف ما حولهما برطوبة خانقة، سلسلة متواصلة من الأطياف
التي تتصاعد من الدوامات السوداء والحمراء، ثَوران أبيض يسبِّب الدُّوَار. ارتفع البرج
الأسود اللامع لفرن التفجير الأكبر فوق رأسَيْهما من بين الضباب، وملأ آذانَهما صخبُه
المائج. ابتعَدَ راوت عن حافة المياه، وراح يراقِب هوروكس.
هنا هو أحمر، بخار أحمر بلون الدم وساخن كالإثم؛ لكنِ انظرْ إلى » : قال هوروكس
«. هناك، حيث يسقط ضوء القمر عليه ويمر عبر أكوام رماد الأتون، تجده أبيضَكالموت
هيا بنا » : أدار راوت رأسَه للحظةٍ ثم عاد بسرعةٍ إلى مراقَبةِ هوروكس. قال هوروكس
لم تكن القبضةُ المُنذِرة بالخطر واضحةً جدٍّا تلك المرة، وشعر راوت «. إلى طواحين الدرفلة
أحمر » و « أبيضكالموت » : ببعضالاطمئنان. لكن مع ذلك، ماذا عساه كان يقصد بعبارتَيْ
لعلها كانت مُصادَفة! ؟« كالإثم
سارا معًا ووقفا خلف أفران الصهر لبرهة من الوقت، ثم مرَّا عبر طواحين الدرفلة،
حيث كان — وسط الجلبة المستمرة التي تُصدِرها مطرقةُ البخار الحازمة التي تدقُّ الحديدَ
الطري مُستخرِجةً منه العصارة — عمالقةٌ سُودٌ لا يسترون من أجسامهم سوى نصْفِها
السفلي، يدفعون القضبانَ البلاستيكية، مثل شمع الختم الساخن، بين الدواليب الدوَّارة.
وسارا ونظرا من الثقب الزجاجي الصغير الموجود «. هيا بنا » : همسهوروكسفي أذن راوت
خلف قصبات دخول الهواء، ورأيا النارَ تتلوَّى عشوائيٍّا في حفرة الفرن اللافح. أدَّى ذلك إلى
فقدان الإبصار في إحدى العينَيْن لبعضالوقت. ثم ذهبا — وبُقَعٌ خضراء وزرقاء تتراقص
أمام أعينهما في الظلام — إلى الرافعة التي تُرفَع بها شاحناتُ المعدن الخام والمحروقات
والكِلْس إلى أعلى الأسطوانة الكبيرة.
في الخارج أمام القضيب الضيق الذي كان الفرن معلَّقًا عليه، عادت الشكوك تراوِد
راوت من جديد. هل كان من الحكمة أن يكون هنا؟ لو أنَّ هوروكس كان يعرف كل
شيء! وبرغم محاولته، فإنه لم يستطع مُقاوَمة هزَّة عنيفةسرت في جسده. وتحت الأقدام
مباشَرةً، كان العمق العمودي سبعين قدمًا. كان مكانًا خَطِرًا. دفعا شاحنةَ نقلِ محروقاتٍ
جانبًا لكي يصلا إلى السياج الذي كان في قمة المكان. بدا دخان الفرن — بخار كبريتي
مختلط بمرارة لاذعة — وكأنه يتسبَّبُ في اهتزاز سفْحِ تَلَّةِ هانلي البعيدة. حينذاك كان
القمر يطلع من بين سرب من السحب، في منتصف الطريق إلى كبد السماء فوق الإطار
المتموج من الغابات الذي يَحُدُّ نيوكاسل. جرَتِ القناة التي يتصاعد منها البخار بعيدًا
من تحتهما، أسفلَ جسرٍ لا تتضح مَعالِمُه، واختفت في الضباب المعتم بالحقول المستوية
باتجاه بورسلِم.
هذا هو القِمْع الذي كنتُ أخبرك عنه، ومن تحته يوجد ستون قدمًا » : صاح هوروكس
«. من النار والمعدن المنصهر، مع هواء التيار الذي يفور عبره مثل الغاز في المياه الغازية
قبض راوت على الدرابزين بإحكام، وراح يحدق لأسفل في القِمْع. كانت الحرارة
شديدة، وكان لغليانِ الحديد وضجيجِ تيار الهواء تأثيرٌ مُصاحِب كصوت الرعد مع صوت
هوروكس. ولكنْ على هذا الأمر أن ينتهي الآن. ربما على كل حال …
في المنتصف، تقترب درجة الحرارة من ألف درجة، لو أسُقِطت فيها » : صاح هوروكس
… ستنفجر متحوِّلًا إلى لهيب مثل حفنةٍ من البارود في شمعة. ضَعْ يدَك خارجًا واشعرْ
بحرارة أنفاسه. بل لقد رأيتُ هنا بالأعلى مياه المطر تغلي وهي تنزلق على عربات الشحن،
أتصدِّق ذلك؟ وهذا القِمْع هناك، إنه في غاية السخونة أيضًا، حتى إنه لا يصلح لتحميص
«. الكعك؛ إذ تبلغ درجة حرارة الجزء العلوي فيه ثلاثمائة درجة
«! ثلاثمائة درجة » : قال راوت
«. ثلاثمائة درجة مئوية، احترس! ستغلي دماؤك على الفور » : قال هوروكس
قالها راوت واستدار. «؟ ماذا »
«! ستغلي دماؤك في … لا، كلا »
«! اتركني! أفلِتْ ذراعي » : راح راوت يصرخ
قبض على الدرابزين بيدٍ واحدة، ثم بيدَيْه كلتَيْهما. وقف الرجلان يتمايلان للحظة.
وفجأةً، كان هوروكس قد لوى قبضتَه بانتفاضةٍ عنيفة. تمسَّكَ هو بهوروكس، ثم أخفَقَ
في الإمساك به، وعادَتْ قدَمُه مرةً أخرى إلى الهواء؛ الْتَفَّ بجسمه وهو معلَّق في الهواء، ثُم
اصطدَمَ كلٌّ من خدِّه وكَتِفه وركبته معًا بالقِمْع الساخن.
أمسَكَ بالسلسلة المعلَّق منها القِمْع، الذي هبط بقدرٍضئيل حينما اصطدم به. وظهرت
حوله دائرةٌ من الحُمْرة المتوهجة؛ فقد انطلَقَ من الفوضى المضطرمة بداخله لسانٌ من
اللهيب، وراح يومضإلى الأعلى باتجاهه. شعر بألم شديد في ركبتَيْه، وشم رائحةَ الاحتراق
السطحي ليدَيْه. رفع نفْسَه معتمِدًا على قدمَيْه وحاوَلَ أن يتسلَّق السلسلة، ثم اصطدم
رأسُه بشيءٍ ما. وأمامه، ظهر حلقُ الفرن أسودَ لامعًا في ضوء القمر.
رأى هوروكس وهو يقف فوقه بجوار إحدى شاحناتِ نقلِ المحروقات على القضيب.
خسِئْتَ » : كان جسمه أبيضَ وساطعًا في ضوء القمر وقد راح يصيح وهو يهتزُّ بجسمه
«! أيها الأحمق! خسِئْتَ يا صائِدَ النساء! أيها الكلبُ الشهواني! اغلِ! اغلِ! اغلِ
وفجأةً، أمسَكَ بحفنةٍ من الفحم الموجود في الشاحنة، وراح يقذفها على مهل واحدةً
تلو الأخرى على راوت.
«! هوروكس! هوروكس » : صرخ راوت
تعلَّقَ بالسلسلة وهو يصرخ ويبتعد عن حريق القِمْع. أصابَتْه جميع القذائف التي
قذفه بها هوروكس، واحترقَتْ ثيابه وتوهَّجَتْ بالحرارة، وفي صراعه هذا سقَطَ القِمْعُ
وخرج منه بصوتٍ كالشهيق تدفُّقٌ من غازٍ ساخن خانق، واحتدَمَ حولَه في نفحة سريعة
من اللهيب.
لم يَعُدْ يُشبِه البشر؛ فحين زالت عنه تلك الحُمْرةُ المؤقتة، رأى هوروكس جسدًا
متفحِّمًا أسودَ، مُلطَّخًا رأسه بالدماء، لا يزال يقبض على السلسلة ويتخبَّط، ويتلوَّى من
الألم والعذاب وكأنه حيوانٌ من الرماد، لا ينتمي إلى فصيلة البشر؛ مسْخٌ رهيبٌ بدأ يَنشِجُ
بصرخات متقطعة.
وفجأةً، لدى رؤيته المشهد، ذهب غضبُ مديرِ مصنع الحديد، وحلَّ عليه سقَمٌ قاتل.
تطايَرَتْ رائحةُ اللحم المحترِق الثقيلةُ إلى أنفه، وعاد إليه عقلُه.
«؟ ارحمني يا إلهي! ويحي! ماذا فعلت » : راح يصرخ
كان يعرف أنَّ هذا الشيء الموجود تحته، باستثناء أنه كان لا يزال يشعر ويتحرك؛
كان بالفعل قد صار رجلًا ميتًا، وأنَّه لا بد أنَّ دمَ هذا التعيسِ البائس يغلي في عروقه. حلَّ
على عقله إدراكٌ مكثَّف لحجم هذا الألم والمعاناة، وتغلَّبَ على أي شعورٍ آخَر. وقف حائرًا
للحظة، ثم عاد إلى الشاحنة، وبسرعةٍ أمالَ محتوياتها على الشيء المُقاوِمِ الذي كان يومًا ما
رجلًا. سقط الجسمُ بصوتِ ارتطامٍ مكتوم، وراح يَشعُّ فوق القِمْع، ومع صوت الارتطام
المكتوم، انتهى الصراخ، وتصاعَدَ مزيجٌ يغلي من الدخان والغبار واللهب مندفعًا نحوه.
وحين مر، رأى القِمْعَ واضحًا مرةً أخرى.
بعد ذلك، ترنَّحَ إلى الوراء، ووقف يرتجف، وهو مُمسِكٌ بالدرابزين بكلتا يديه. تحرَّكت
شفتاه، ولكن دون أن تنطقا بكلمة.
ومن الأسفل، تصاعدت أصواتُ الحديث ووَقْع خُطوات تجري. وفجأةً، توقَّفَ صوتُ
قعقعة الدرفلة في العنبر