تعرفون أنه عندما يسكن رجلٌ في قلعة منعزلة على قمَّة جبلٍ شاهق على ضفة نهر الراين
يكون عرضةً لإساءة الظن به؛ فقد اعتقد نصف أهل قرية شفينكشفانك الطيبين، بما
فيهم العمدة وابن أخيه، أنني هاربٌ من العدالة الأمريكية. بينما كان النصف الآخر مقتنعًا
اقتناعًا راسخًا بأنني مجنون، ووجدتْ هذه الفرضية دعمًا من كاتب العدل بمعرفته
العميقة بالطبيعة البشرية وذكائه الحاد. وكان كلا فريقَي هذا الجدل المثير على الدرجة
نفسها من القوة، لدرجة أن كلٍّا منهما كان يقضيكل وقته في مواجهة حجج الفريق الآخر؛
ومن ثَمَّ لم تَنلْني منهم أي مضايقات تقريبًا.
ومعروف لأي شخص يزعم امتلاك معرفة عالمية أن قلعة شفينكشفانك القديمة
مسكونةٌ بأشباحِ تسعة وعشرين بارونًا وبارونة من بارونات العصور الوسطى. كان
سلوك هذه الأشباح القديمة متحفظًا جدٍّا؛ ففي المجمل كانت مضايقتهم لي أقلَّ بكثير من
مضايقة الفئران التي كانت تتجول بأعداد كبيرة في كل أرجاء القلعة. وعندما امتلكت هذا
المسكن، كنت أضُطرُّ إلى إبقاء المصباح مشتعلًا طوال الليل، وكنت أضرب حولي باستمرار
بعصًا خشبية كي لا ألقى مصير الأسُقف هاتو. وبعد ذلك أرسلت رسولًا إلى فرانكفورت
جلب لي قفصًا من السلك، تمكنت من النوم فيه براحة وأمان بمجرد أن اعتدت على صوت
الصرير العالي الصادر عن أسنان الفئران وهي تقرض الحديد في محاولاتها العاجزة
للدخول إليَّ والتهامي.
وفيما عدا الأشباح والفئران، والوطاويط والبوم العابرة بين الحين والآخر، كنتُ أول
ساكن يسكن قلعة شفينكشفانك منذ ثلاثة أو أربعة قرون؛ فلقد تركت بون بعد أن استفدت
كثيرًا من المحاضرات المتبحرة والعبقرية التي قدَّمها السيد كالكاريوس، بروفيسور العلوم
الميتافيزيقية الشهير في تلك الجامعة المثيرة للإعجاب، واخترت هذه الأطلال كأفضل مكان
لإجراء بعضالتجارب في علم النفس. ولم يُظهِر اللاندجراف فون توبليتس (الوريث الذي
يملك قلعة شفينكشفانك) أيَّ علامة دهشة عندما ذهبت إليه وعرضتُ عليه إيجارًا قدْره
ستة تالرات شهريٍّا نظيرشرف الإقامة في قلعته المتداعية؛ لقد كان يفوق في بروده موظفَ
استقبال في أحد فنادق برودواي؛ يملأ استمارة النزلاء ويتسلَّم منهم النقود في احترافية.
«. سيكون من الضروري أن تدفع إيجار شهر مقدمًا » : قال
وأنا لحسن الحظ مستعدٌّ لذلك أيها اللاندجراف » : فأجبت وأنا أَعُدُّ الدولارات الستة
وضع المال في جيبه وأعطاني إيصالًا بقيمة المبلغ، وتساءلت إن كان قد حاول من «. النبيل
قبلُ الحصول على إيجار من الأشباح التي تسكن القلعة.
كانت أكثر الغرف الصالحة للسكن في القلعة هي تلك الموجودة في البرج الشمالي
الغربي، التي كانت تسكنها من قبلُ السيدة أديلايد ماريا، الابنة الكبرى للبارون فون
شوتن، التي ماتت جوعًا في القرن الثالث عشرعلى يد والدها الحبيب بسبب رفضها الزواج
من قرصان ذي رِجلٍ واحدة يسكن وراء النهر. ونظرًا لأنني لا يمكنني التطفُّل على سيدةٍ،
أقمتُ في غرفةٍ فوق سلالم البرج الجنوبي؛ حيث لم يكن يسكن هناك إلا راهب عاطفي كان
يغيب في ليالٍ كثيرة، ولا يسبب لي المتاعبَ في أي وقت.
في هذه العزلة الهادئة التي استمتعت بها في القلعة، من الممكن تقليلُ النشاط البدني
والذهني إلى أقل درجة ممكنة للحياة؛ فالقديسبيدرو دي ألكانتارا الذي قضىأربعين سنة
في صومعة أحد الأديرة علَّم نفسه أن ينام ساعة ونصف الساعة فقط في اليوم، وأن يتناول
الطعام مرةً كل ثلاثة أيام، ولأنه قلَّل وظائف جسده لهذا الحد فإنني أعتقد بشدة أنه
حتمًا قلَّص روحه لتصبح كروح الشخصية السلبية لرضيعٍ غير واعٍ. إن التمرين والفكر
والاحتكاك والنشاط هي ما تُظهر تفرُّدَ طبيعة الإنسان. وما زالت كلمات البروفيسور
كالكاريوس المقنعةُ محفورةً في ذاكرتي؛ حيث قال:
ما الرابط الغامض الذي يربط الروحَ بالجسم الحي؟ لماذا أنا كالكاريوس، أو على »
الأحرى لماذا تسكن الروح المدعوة كالكاريوسفي هذا الجسد الحي بالتحديد؟ [وهناضرب
البروفيسور العلَّامةُ على فخذه الضخمة بيده المكتنزة.] أليس ممكنًا أن أكون شخصًا آخَر،
أَوَليس ممكنًا أن يكون الآخر هو أنا؟ فإذا حرَّرنا الأنا الفردية من الجسد المحيط الذي
ترتبط به بحكم العادة وبموجب التواصل الطويل، فمن يستطيع أن يقول إنه من غير
الممكن طردُ الروح بالإرادة الحرة لتترك الجسد الحي في حالة استقبال لتسكن فيه أنا
«؟ أخرى غير فردية، تكون أكثر استحقاقًا له، وأفضل من الأنا القديمة
تركت هذه الفكرة العميقة انطباعًا دائمًا في ذهني؛ فعلى الرغم من أنني راضٍتمامًا
عن جسمي؛ فهو سليم ومفعم بالصحة ووسيم بدرجة معقولة، فلطالما كنت غير راضٍ
عن روحي، فضلًا عن أن التأمل المستمر في مواطن ضعفها وفظاظتها وعجزها زاد حالة
السخط وحوَّلها إلى ازدراء. هل يمكنني واقعيٍّا أن أهرُب من نفسي؟ وهل يمكنني إخراج
هذه الجوهرة الزجاجية من عُلبتِها الأنيقة وأضع بدلًا منها جوهرة حقيقية؟ وما التضحيات
التي قد لا أوافق عليها؟ هل سأشكر كالكاريوس بحماس وأشكر الساعة التي أخذتني إلى
بون؟
اعتزمت خوضَ هذه التجربة التي لم تُجرَّب من قبل، فحبست نفسي في قلعة
شفينكشفانك.
وباستثناء الصغير هانز، ابن صاحب النُّزل الذي كان يصعد الجبل ثلاث مرات
أسبوعيٍّا قادمًا من القرية ليجلب لي الخبزَ والجبن والنبيذ الأبيض، وأخته التي جاءت
لاحقًا، كان البروفيسور كالكاريوس هو زائري الوحيد أثناء فترة العزلة؛ وقد جاء من بون
مرتين ليحيِّيني ويشجعني.
أثناء زيارته الأولى لي، أقبل الليل ونحن ما زلنا نتحدث عن فيثاغورسوتناسُخ الأرواح.
وكان عالم الميتافيزيقا العلَّامة رجلًا بدينًا يعاني قِصرَنظرٍ شديدًا.
لا يمكنني أبدًا أن أنزل حيٍّا من فوق هذا التل. سوف » : قال وهو يعصريديه من القلق
«. أتعثر، يا إلهي، وربما أسقط على صخرة مسنَّنة
يجب أن تبقى هنا طول الليل يا بروفيسور، وأن تنام معي في القفصالسلكي. » : فقلت
«. وأود أن تقابل الراهب زميلي في الغرفة
هذا الراهب لا وجود له إلا في عقلك فقط يا صديقي الشاب العزيز؛ فهذا الشبح » : قال
«. ليس إلا مِن صُنعِ العصب البصري، وسوف أتأمله بلا انزعاج كما يفعل الفيلسوف
جعلت البروفيسور يخلُد إلى النوم في القفصالسلكي، وبصعوبة بالغة حشرت نفسي
ليس » : بجواره. وبطلب خاص منه أبقيت المصباح مضاءً. فسَّر البروفيسور طلبه قائلًا
الأمر أنني قلق بشأن أشباحك المتخيلة؛ فهي من نسج خيالك فحسب. لكنني قد أتقلَّب
«. وأسحقك في هذا الظلام
«؟ كيف يسير قمع الذات؛ أي إخضاع روح الفرد؟ ها! ماذا كان ذلك » : وقال في النهاية
إنه فأر يحاول الدخول إلينا؛ كن هادئًا، أنت لست في خطر. إن تجربتي تسير » : قلت
على نحوٍ مُرضٍ. لقد تخلصتُ تمامًا من أي اهتمام بالعالم الخارجي؛ لقد اختفت تقريبًا
مشاعر الحب والعرفان والصداقة والاهتمام برفاهيتي ورفاهية أصدقائي، وآمل عما قريب
«. أن تتلاشىذكرياتي أيضًا، وأن يتلاشىمع ذكرياتي ماضيَّالفردي
أنت تُحرِز نجاحًا ساحقًا! وكذلك تسدي لعلم النفس خدمةً لا » : صاح في حماس
تُقدَّر بثمن. سرعان ما ستكون طبيعتك الروحية خاليةً وخاوية وجاهزة للاستقبال …
«؟ فليحفظني الرب! ماذا كان ذلك
بينما طار ذلك الطائر الرمادي الضخم «. هذاصياح بومة فحسب » : فقلت مُطَمْئنًا إياه
الذي أصبح مألوفًا بالنسبة إليَّ مرفرِفًا بصوت مزعج، ونزل من فتحة في السقف واصطدم
بأعلى القفصالسلكي.
رمق كالكاريوس البومة باهتمام، ونظرت البومة بجدية إلى كالكاريوس.
مَن يعلم إن كانت تلك البومة تحرِّكها روح فيلسوف راحل عظيم » : قال البروفيسور
أم لا؟ ربما فيثاغورس، ربما أفلوطين، ربما روح سقراط نفسه تسكن مؤقتًا أسفل هذا
«. الريش