اعترفت أن هذه الفكرة خطرت لي أيضًا.
في هذه الحالة ليسعليكسوى إبطال طبيعتك، وإلغاء فرديتك، » : استطرد البروفيسور
كي تستقبلَ في جسدك هذه الروح العظيمةَ التي يخبرني حدسٌ بأنها روح سقراط، وأنها
تحوم حول كِيانك المادي على أمل أن تدخل فيه. استمِرَّ أيها التلميذ الشاب الجليل في
«؟ تجربتك الجديرة بالثناء، وفي العلوم الميتافيزيقية … يا إلهي! أهذا هو الشيطان
كان ذلك هو الفأر الرمادي الضخم الذي يزورني كل ليلة، لقد كبُر هذا المخلوق
المخيف على مدار حياته التي تُقدَّر بقرن تقريبًا، وأصبح يناهز حجم كلب ترير صغير.
كانت شواربه بيضاء تمامًا وسميكة للغاية، واستطال ناباه الضخمان وأصبحا ذَوَي طرفَيْن
مقوَّسَين تنحصرجمجمته بينهما. كانت عيناه كبيرتين وفي حمرة الدم. وكانت زاويتا الشفة
العليا شديدتَي التجعُّد والانكماش لدرجة أن وجهه ارتسم عليه خبثٌ شيطاني قلما نراه
إلا في بعض وجوه البشر. كان عجوزًا وحكيمًا فلم يقرض الأسلاك، بل جلس في الخارج
على مؤخرته وحدَّق فينا بنظرة كراهية لا تُوصف. ارتجفصديقي. وبعد فترة التفت الفأر
وجرَّ ذيله الغليظ مُصدرًا صوتًا عند ملامسته الشبكة السلكية، واختفى في الظلام. تنهَّد
1البروفيسور كالكاريوستنهيدةً عميقةً تنم عن ارتياحه، وسرعان ما غطَّ في نوم عميق ولم
تجرؤ بومة أو فأر أو شبح على الاقتراب منَّا حتى الصباح.
كنت قد نجحت حتى تلك اللحظة في دمج خصالي الفكرية والمعنوية في روتين الوجود
الحيواني المحض، لدرجة أنه عندما حان موعد قدوم كالكاريوس مرة أخرى كما وعدني،
لم أشعر باهتمام كبير بزيارته الوشيكة. أما هانزل الذي كان مسئولًا عن إحضار المؤن فقد
أصُيب بالحصبة، وأصبح الحصول على الطعام والخمر معتمدًا على قدوم أخته الجميلة
إيما؛ تلك الفتاة ذات الشعر الأشقر صاحبة الثمانية عشر ربيعًا، التي تصعد الطريق
المنحدر بخفَّةِ الغزال ورشاقتهِ. كانت صغيرةً وذات جمال طبيعي، وأخبرتني من تلقاء
نفسها عن قصة حبها البسيطة؛ فقد كان حبيبها فريتس جنديٍّا في جيش الإمبراطور
فيلهلم، وكان في حاميةٍ بكولونيا. كانا يأملان في أن يحصل عما قريب على رتبة ملازم نظرًا
لشجاعته وإخلاصه، وأن يعود إلى الوطن بعد ذلك ويتزوجها. ادخرت من المال الذي تجنيه
من منتجات الألبان حتى كوَّنت مبلغًا صغيرًا أرسلته إليه كي يساعده فيشراء الرتبة. هل
رأيتُ فريتس من قبلُ؟ لا؟ لقد كان وسيمًا وطيبًا، وكانت تحبُّه حُبٍّا لا تستطيع وصفه.
استمعت لهذه الثرثرة بالقدْر نفسه من الاهتمام الرومانسي الذي قد تثيره فيَّ مسألة
رياضية لإقليدس، وهنَّأت نفسيعلى أن روحي القديمة كادت تختفي. كانت البومة الرمادية
تقف فوق القفص كل ليلة. وكنت أعلم أن سقراط ينتظر ليستحوذ على جسدي، فكنت
مشتاقًا لأن أفتح ذراعَيَّ وأستقبل هذه الروح العظيمة. وفي كل ليلة كان يأتي ذلك الفأر
البغيضوينظر إليَّ عبْر الأسلاك، واستفزَّني حقده البارد المزدري استفزازًا غريبًا، وتمنيت
أن أمد يديَّ من أسفل القفصوأمسكه وأخنقه، لكنني خِفت عضته السَّامة.
بحلول ذلك الوقت، كانت روحي على وشْك أن تتلاشى تمامًا بسبب إهمالها المتعمد
المنضبط، وأخذت البومة تنظر إليَّ بمحبة بعينيها الهادئتين، وبدا كما لو أن روحًا نبيلة
وكنت أنظر إلى «. سآتي عندما تكون جاهزًا » : تلمع من خلال هاتين العينين وتقول لي
تعالَسريعًا يا سقراط؛ » : هاتين العينين العميقتين اللامعتين وأقول بشوق منقطع النظير
ثم ألتفتُ وأجد النظرة الشيطانية من الفأر البشع، الذي كان يسحبني «! لأنني شبه جاهز
شرُّه المستهزئ إلى الأرضوكراهيتها.
كان كرهي لهذا الوحش الشنيع هو الأثر الوحيد المتبقي من طبيعتي القديمة، وفي
عدم وجوده بدت روحي كأنها تحوم حول جسمي وفوقه استعدادًا لأن تطير وتتركه حرٍّا
للأبد. وبمجرد أن أراه ينتابني اشمئزاز وكراهية لا يمكنني التغلب عليهما، فيُبطلان كل ما
أنجزته، وأجدني ما زلت نفسي، وشعرت بأنني لكي أنجح في التجربة لا بد من التخلُّصمن
هذا المخلوق الكريه الذي يحجُب روح الفيلسوف العظيم مهما كلَّفت التضحية أو الخطر.
سوف أقتلك أيها الحيوان الكريه، وستحُل في جسمي المتحرِّر » : صِحتُ في الفأر قائلًا
«. روحُ سقراط التي تنتظرني هناك
وجَّه الفأر عينيه الخبيثتين نحوي وابتسم ابتسامةً ساخرة لم يسبق أن رأيت لها
نظيرًا. كان ازدراؤه لي يفوق احتمالي، ففتحت جانب القفص السلكي، وتشبثت بعدوِّي
باستماتة. أمسكته من ذيله، وجذبته نحوي، وحطمت عظام أرجله الشحمية، وتحسست
بلا تبصُّر بحثًا عن رأسه، وعندما وضعت كلتا يديَّ حول عنقه، طوَّقت حياته بقبضة
محكَمة. وبكل ما أوُتيت من قوة، وبكل طيش الرغبةِ المستميتة مزَّقت لحم الضحية
الكريهة ولويته، فشهق، وصاح صيحةَ ألمٍ رهيبة، وأصبح أخيرًا خائرًا وهادئًا في قبضتي.
لقد أرضيت كراهيتي وانتهى آخر شغف لي، وأصبحت حرٍّا لاستقبال سقراط.
عندما استيقظت بعد نوم طويل خالٍ من الأحلام، لم أكد أتذكر أحداث الليلة البارحة؛
بل كل حياتي السابقة كما لو كانت أحداث قصة قرأتها منذ سنوات.
رحلت البومة، لكن جثة الفأر المشوَّهة كانت راقدة بجواري، وتلك الابتسامة المريعة
مرسومةً على وجهه حتى وهو ميت، بل أصبحَت الآن تبدو كابتسامة انتصار شيطانية.
نهضت ونفضت عن عيني النعاس، وبدا كما لو كانت حياة جديدة تسري فيشراييني.
لم أعد لامباليًا وسلبيٍّا. أصبحت مهتمٍّا بما حولي بحيوية، وأردت الخروج للعالم بين البشر،
للانخراط في الأحداث والاستمتاع بالعمل.
سوف أتركك. سأجد مكانًا » : صعدَت إيما الجميلة التل جالبة معها سلَّتها، فقلتُ لها
«. أفضل من قلعة شفينكشفانك
وهل ستذهب إلى كولونيا؛ حيث الحامية التي يوجد بها جنود » : فسألتني في حماسة
«؟ الإمبراطور
«. ربما سأذهب إليها … في طريقي إلى العالم »
هلا ذهبت إلى فريتس نيابةً عني؟ لديَّ أخبار جميلة لأرسلها » : استطردت في خجل
إليه؛ لقد تُوفي عمُّه، كاتب العدل العجوز البخيل ليلة أمس، وأصبح فريتس يمتلك الآن
«. ثروة صغيرة، ويجب أن يعود إليَّ على الفور
«؟ كاتب العدل مات ليلة أمس » : قلت ببطء
نعم يا سيدي، ويقولون إن وجهه كان مسودٍّا في الصباح، لكن هذا خبر رائع بالنسبة »
«. إلى فريتس ولي
ربما … ربما لن يصدقني فريتس؛ فأنا غريب، والأشخاص » : أردفتُ بمزيد من البطء
«. الذين يعرفون حال الدنيا مثل هذا الجندي الشاب يميلون إلى التشكك
خذ هذا الخاتم. لقد أعطاني » : أجابت بسرعة وهي تخلع من إصبعها حلية رخيصة
«. فريتس إياه وسيعرف منه أنني أثق بك
كان الزائر التالي العالم كالكاريوس، وكان شبه مقطوع النَّفَس عندما وصل إلى
السكن الذي كنت أستعد لمغادرته.
كيف حال تناسخ الأرواح يا تلميذي الجليل؟ لقد جئت ليلة البارحة من » : قال متسائلًا
بون، لكن بدلًا من قضاء ليلة أخرى مع فئرانك المرعبة عرَّضت مالي لابتزاز صاحب النُّزل
واستطرد وهو يُخرِج محفظته ويَعُد ثروة صغيرة من «. في القرية؛ لقد احتال عليَّ النصَّاب
«. لقد أخذ مني أربعين عملة فضية مقابل المبيت والفطور » : العملات الفضية
رؤية العملات الفضية وسماع خشخشتها وهي تحتكُّ بعضها ببعض في يد
البروفيسور كالكاريوس أنعشا روحي الجديدة بشعور لم أشعر به من قبلُ؛ ففي تلك
اللحظة بدت الفضة الأكثر لمعانًا في الكون من وجهة نظري، وبدا لي أن الاستحواذ على
هذه الفضة بأي طريقة هو الاستخدام الأنبل للطاقة البشرية. وتحت تأثير دافعٍ مفاجئ
لم أستطِع مقاومته، هجمتُ على صديقي ومعلِّمي وانتزعت المحفظة من يديه، فصرخ في
دهشة وفزع.
استمِرَّ في الصراخ! لن ينفعك بشيء؛ فلن يسمعصرخاتك الضعيفة إلا » : صحتُ قائلًا
«. الفئران والبوم والأشباح، أما المال فهو لي
ما هذا؟ أتسرق ضيفك وصديقك وموجِّهك ومرشدك في دروب العلوم » : تساءل ذاهلًا
«؟ الميتافيزيقية المتسامية؟ أي غدرٍ استحوذ على روحك
أمسكت السيد البروفيسور من ساقيه وقذفته بعنف على الأرض. قاوم مثلما قاوم
الفأر الرمادي، فكسرتُ قطعة سلك من القفصوربطتُ يديه وقدميه بإحكام، لدرجة أن
السلك جرح لحمه السمين جرحًا غائرًا.
«! ها! كم ستكون جثتك السمينة وجبةً رائعة للفئران » : قلت وأنا أقف عليه ضاحكًا
وانصرفتُ عنه راحلًا.
«. يا إلهي! أنت لا تنوي أن تتركني، فلا أحد يأتي إلى هنا أبدًا » : صاح
هذا أفضل؛ فسوف تحظى » : أجبت وأنا أكزُّ على أسناني وألوِّح بقبضتي أمام وجهه
الفئران بفرصة إراحتك من لحمك السمين دون أن يقاطعها أحد. آه، إنها جائعة جدٍّا، أؤكد
لك ذلك أيها العالِم الميتافيزيقي، وسوف تساعدك سريعًا في قطع الرابط الغامض الذي
يربط الروح بالجسد الحي؛ فهي تعلم جيدًا كيف تخلص الأنا الفردية من اللحم المحيط
«. بها. أهنِّئك على هذه التجربة النادرة المحتملة
أخذتْ صرخات البروفيسور تخفُت شيئًا فشيئًا وأنا أنزل على التل. وبمجرد أن
أصبحتصرخاته خارج حيز سمعي توقَّفتُ لأعد غنيمتي. عددت المال الموجود في محفظته
مرارًا وتكرارًا ببهجة استثنائية، وحصلت دائمًا على النتيجة نفسها؛ فلم يكن في المحفظة
سوى ثلاثين قطعة فضية.
قادني طريقي إلى عالَم المقايضة والربح إلى المرور عبْر كولونيا، وبحثت في الثكنات
العسكرية عن فريتس شنايدر ابن بلدة شفينكشفانك.
يا صديقي، سأسديك أكبر خدمة يمكن أن يقدِّمها » : قلتُ وأنا أضع يدي على كتفه
«؟ رجل لآخر؛ أنت تحب الشابة إيما ابنة صاحب النُّزل، أليس كذلك
«؟ أحبها حقٍّا، هل أتيت بنبأ عنها » : فقال
«. لقد انتزعتُ نفسي للتوِّ من عناقها الحار »
«. هذا كذب! إن الفتاة الشابة نقية كالذهب » : فصاح
بل مزيفة كمعدن هذه الحلية الرخيصة، لقد » : قلتُ في هدوء وأنا ألقي إليه خاتم إيما
«. أعطتني إياها بالأمس عندما افترقنا
هذا صحيح، هذا خاتم » : نظر إلى الخاتم ثم وضع كلتا يديه على جبهته وقال متأوِّهًا
وراقبت ألمه باهتمام هادئ. «! الخطبة
انظر، هذا هو المال الذي » : استطرد وهو يُخرِج من صدره محفظةً مغزولة بإحكام
«؟ أرسلتْه إليَّ لتساعدني فيشراء الترقية، ربما هذا المال مالك
«. من المحتمل جدٍّا؛ فالقطع المعدنية تبدو مألوفة » : أجبت ببرود شديد
ودون أن ينطق الجندي بكلمة أخرى قذف المحفظة عند قدمي وولَّى مدبرًا، وسمعته
يبكي، وكان الصوت في أذني كأنه الموسيقى، ثم التقطتُ المحفظة وأسرعت إلى أقرب مقهًى
كي أعدَّ القطع الفضية، فلم أجد بها إلا ثلاثين قطعة أيضًا.
كان مصدر السعادة الأساسيلطبيعتي الجديدة هو الحصول على الفضة، إنها متعة
عظيمة، أليس كذلك؟ كم أنا محظوظ لأن الروح التي استحوذت على جسدي في القلعة لم
تكن روح سقراط التي كانت ستجعلني على أفضل تقدير مفكرًا بائسًا مثل كالكاريوس،
بل كانت الروح التي كانت تسكن الفأر الرمادي قبل أن أخنقه. لقد اعتقدت في لحظةٍ أن
الروح الجديدة جاءتني من كاتب العدل المتوفىَّ في القرية؛ أما الآن، فأنا أعلم أنني ورثتها
من الفأر، وأعتقد أنها الروح التي كانت تسكن في الماضيجسد يهوذا الإسخريوطي، أمير
رجال الأفعال.