ليلة القبض على الطريدة
أبي كان يأمل أن أولد وأعيش حرًّا وطليقًا فسماني "ازاد" قبل أن يفارق الحياة دفاعًا عن الوطن؛ فقد زُج هو والكثير من أبناء جلدته في حرب استمرت وطرا من الزمن كانت كافية لتحصد اليانع من شبابنا. لا أحد يعلم السبب الحقيقي الذي يقف خلف اندلاعها.
"أبو حيدر" جارنا أصبح بلا ساق؛ لأن لغمًا أرضيًّا انفجر فيه وفي رفاقه فجعلهم عصفًا مأكولًا، أما "وداد" وهي من أقارب أمي من بعيد فقد شقت جيبها ولطمت خدها عندما سمعت أن العدو أصاب جبين زوجها وهما لم ينهيا شهر العسل فصدق من قال:
"إن كل رصاصة في الحرب لا تقتل شخصًا واحدًا بل كل واحدة تقتل اثنين".
آلاف الحالات المشابهة لجارنا أبو حيدر والعروس وداد خلفتها تلك الحرب اللعينة.
أحدهم أخبر "أبو ازاد" أن الوطن أغلى من حياته وزوجته وأولاده فتركنا إلى الأقدار تتقاذفنا يمينًا ويسارًا، فمرة أبيع الماء في "تقاطع المسبح"، وتارة أخرى أبيع "حب، جكاير، علج" في الباب الشرقي وصولا إلى منطقة السنك.
كنت محظوظا منذ ولادتي، عفوا كنت محظوظا ولكن ليس كثيرا ... في الحقيقة، لا أعرف إن كنت محظوظا أم لا، ولكن على الأقل نجوت من محاولات الاغتيال العديدة التي تعرضت لها. نعم... فأنا مثل المشاهير والزعماء الأفذاذ تعرضت على الأقل لمحاولتي اغتيال فاشلتين حين حاولت أمي إسقاطي من بطنها عدة مرات. لم أكن مرحَّبا بي فالفتات الذي تجلبه كان بالكاد يكفي إخوتي. خالتي "بلاسم" كانت تغص بالضحك عندما تقارن عملية ولادتي المتعسرة التي أجريت في بيت الجدة "أم رزوقي" مع ولادة طفل في مستشفيات إحدى الدول الغربية فالفرق مجرد فجوة زمنية تزيد عن مئتي حول.
شاء من شاء وأبى من أبى كتب لي أن أعيش وأكبر. الرجال المسنون في "المنطقة" الذين يجتمعون في "راس الدربونة" يتبادلون الأمثال والقصص القديمة كنت أسمعهم يقولون عني: "الحي لا يقتله قاتل"
كان اختياري لكلية اللغات قسم الإنكليزي من الخيارات القلائل التي اتخذتها بدون ندم، ليس بمحض إرادتي بشكل مطلق، ولكنها كانت قسمة عادلة إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار معدلي في "البكلوريا" وظروفي المادية في كفة وشغفي بتعلم اللغات في كفة أخرى، فأنا مُهوَّس بتعلمها فأجيد منها الكردية والعربية والإنكليزية والتركمانية وقريحتي تستوعب المزيد، لا أحب الترجمة إلى لغات أخرى فقط، بل هي الشيء الوحيد الذي أتقن فعله.
أحس بنشوة عندما أسمع صدى المفردات وإيقاع الحروف في الألسنة الأعجمية المختلفة. شغفي باللغات ربما كان نتاجا حتميا للنسيج الفسيفسائي المتنوع لمدينة صغيرة شمال بغداد تسمى كركوك يختلط فيها الناس مثل كوكتيل عصير الفواكه.
حتى عندما تسنح الفرصة للسفر لمحافظة أخرى فأنا أستلذ بتمييز اللهجات وطريقة تكلم أصحابها؛ ففي الجنوب يضعون كلمة "جا" قبل كل جملة تقريبا "جا اكلك" و"جا رحت لبيت فلان" و" جا ليش ما جيت ويانة للعرس"، أما الغربية فلا تكاد أي جملة خاصة الاستفهامية منها أن تخلو من كلمة "عجل" فصديقي مروان يقول: "عجل ما اجيت؟" و"عجل ما رحت؟" و"عجل ما اكلت؟"
يشاع أن بعض هذه المقاطع في اللهجة العراقية لها جذور تمتد لعمق التاريخ السحيق قبل ولادة السيد المسيح بآلاف السنين. أمي دائما تقول لي: "يمة وليدي، مو تمشي وية أصدقاء السوء، تره أخاف عليك" فكلمة "مو" المستخدمة بكثرة في كلامنا الدارج ماهي إلا كلمة بادئة في اللغة السومرية.
وتبقى كلمة "شكو ماكو" أيقونة اللهجة العراقية التي تعني نوعًا من السؤال عن الأحوال والأخبار الجديدة، أما أصلها فهو "ماكو\ اكو" من بقايا اللغة البابلية القديمة عندما لا يوجد شيء نقول "ماكو"، و"اكو" عند وجود ذلك الشيء، كنت أنا ومروان زميلي في الجامعة نبحث أيام الصبا والشباب في الجامعة المستنصرية عن جذور تلك الكلمات الغريبة المكونة للهجاتنا الجميلة في أرض الحضارات.
شبابنا معطل ومغيب ونادرا ما يحصل على فرصة عمل كريمة، يعلقون شهادة التخرج بالقرب من صور المتوفين من الأقارب في غرفة الاستقبال لتعطيهم دعما معنويا لا أكثر. باستثناء بعض الحالات القليلة التي يجد فيها الخريج فرصة جيدة مباشرة بعد التخرج. وأنا من باب الوفاء وضعت شهادة التخرج المترجمة بالدرجات بجانب صورة والدي ولكني بعد فترة من الزمن قررت أن أغير مكانها وأضعها في صندوق الحاجات غير الضرورية في "البيتونة" بعد أن زارنا عمي "حجي مكي"؛ فقد قال عبارة من غير قصد أشعرتني بالضياع:
- لماذا تضعون ورقة تحليل البول بجانب صورة المرحوم أبو ازاد؟
كثير من الناس هنا مثل عمي مكي لم يعد يكترثون للتحصيل العلمي ولا يميزون بين تحليل الادرار ووثيقة التخرج.
أمي كانت تدعو لي ليل نهار... جهارا ومرارا أن أحصل على وظيفة بعد التخرج ربما لأنها تشعر بعقدة الذنب من محاولاتها المتكررة للتخلص مني وأنا مجرد حيوان منوي لا حول له ولا قوة أو حتى عندما كبرت وأصبحت جنينا مكتملا أسبح في رحمها.
جربت الدعاء فما نفع دعاؤها في كسر شفرة الفساد في وطني، فلجأت إلى النذور والصيام فما جنت غير الجوع والعطش. كان لديها برد اليقين أني أستحق وظيفة أفضل من تلك التي كنت أشغلها، في الحقيقة هي لم تكن وظيفة بالمعنى الحرفي للكلمة بقدر ما كانت مصدر رزق متواضعًا.
لا تتفاجؤوا أيها السادة إذا قلت لكم إني كنت أجوب شوارع وأزقة وتقاطعات كركوك وبغداد عاصمة ثاني مصدر للنفط في العالم أبيع الشاي للمارة، نعم هذه هي الوظيفة التي أشغلها ويحسدني عليها الناس، ليس كل الناس ولكن على الأقل البعض منهم؛ فأبو حيدر جارنا تمنعه الإعاقة من أن يحصل على وظيفة مثل التي عندي فهي تحتاج إلى قدمين نشيطين يجوبان الشوارع ذهابا وإيابا من أجل درهم هنا ودراهم معدودات هناك.
على الرغم من أن هذا العمل كان لا يغني ولا يسمن من جوع، ولكن كنت أشك بيقين أم ازاد أني أستحق مهنة أفضل من بائع شاي معدم؛ فصديقي "إياد" خريج القانون كان يعمل في مقهى وصاحبي الآخر "عماد" خريج الطب البيطري وصاحب نكتة ودم خفيف يعمل سائق أجرة وبعد منتصف الليل يوصل المومس "لهيب" من ملهى الأكابر في السعدون إلى شقتها في مجمع "شقق زيونة"، كانت تعطيه خمسة وعشرين ألف دينار مع الإكرامية حسب الزبون ووقت الانتظار.
كنا نجتمع في كشك صاحبنا " شعلان" نلعب "الدومنة" وننتظر عمادًا بفارغ الصبر ليقص لنا الأحداث المشوقة التي صادفته مع لهيب لكنه كان يتوقف عند اللحظة التي ترمي عليه "البخشيش" وتصعد مع عشيقها سكارى ونصف عرايا إلى عش الغرام فيتنهد وتخنقه العبرات. أحس أنها أصعب اللحظات مرارة وأكثرها مهانة.
في احدى الليالي وكالعادة ركبت الفنانة الاستعراضية لهيب في تاكسي عماد بعد أن أنهت فقرتها الغنائية في الملهى الليلي وكان معها زبون جديد.
يبدو أنه شخصية مهمة ومسؤول مرموق في الدولة فقد استنتج عماد ذلك من عطره وبدلته ونظارته الشمسية التي يلبسها في الليل و"الجكارة" الفاخرة التي يدخنها ومن تملق لهيب له؛ فقد كانت تلتصق به كما يلتصق القطب السالب من المغناطيس بالقطب الحديدي الموجب وتقوم بحركات إغرائية وتحضيرية له قبل الليلة الحمراء الواعدة.
كانت تأخذ في الليلة الواحدة "تبياتة" خمس أوراق أي 500 دولار، ولكن عماد سمعها تتفق مع الزبون "الثقيل" على عشر أوراق تشمل الرقص والفراش ومشروب الويسكي نوع "شيفاز" والمقبلات "المزة" و"النركيلة".
- أبو زيدون حبيبي، لقد وصلنا لنصعد إلى الشقة فجسمي خدران ولا أستطيع الانتظار أكثر.
كانت تبيع له الهوى باحترافية عالية. كانت توهمه بأنه جميل وجذاب ومفترس جنسيا بينما هو أصلع وبدين ومتزوج من امرأتين وله أربعة أطفال ويعاقر الخمر والثريد, لكنه كان يثير غريزة لهيب عندما يتحدث عن صفقات بمليارات الدنانير يقوم بها مع مسؤولين كبار في الدولة.
صعد العاشقان إلى الشقة وتركا عمادًا ينظف سيارته "السمند" من قاذورات بعض الزبائن الذين يرمون "كشور الحب" وقناني المياه الفارغة وحتى أعقاب السجائر في المقاعد الخلفية. كان يتمتم: "لو كان أبو زيدون أحد أقاربي لكنت الآن موظفا في دائرة محترمة بدلا من شغل التاكسي المهين".
في أثناء حملة التنظيف وجد عماد محفظة نسائية سوداء يشك أنها تعود للهيب فتحها مباشرة ليجد فيها قلم حمرة وعلبة عطر صغيرة و"واقي ذكري" عدد أربعة وزيتا ومرطبا للمناطق الحساسة، بالإضافة إلى "وارد" الليلة في الملهى وهوية لهيب وعليها صورتها القبيحة قبل عمليات التجميل والنفخ والشفط.
كان ينظر إلى شباك شقتها المضيء ويعيد النظر إلى المحفظة محاولا اتخاذ القرار في إعادتها الآن أم غدا مساءً، لكن الفضول والهيجان الجنسي الذي سببته حركاتها الشيطانية دفعاه للصعود إلى شقتها لعله يجد المزيد من الإثارة.
- أنت أفضل سائق في الوجود، سوف أعطيك إكرامية كبيرة غدا.
شكرته كثيرا وهي تحاول تعديل خيوط "حمالة الصدر" الملتفة. يبدو أنها لبسته من جديد على عجالة. كانت تستند بصعوبة على الباب ورائحة الويسكي تفوح منها ومن المكان كله.
- لا داعي للشكر.
لم يكن عماد طماعا واكتفى بالإكرامية واللقطات المثيرة للهيب والتي ستظل بذاكرته طويلا واستدار ليعود يلتقط رزقه.
- لحظة عماد، هل من الممكن أن تشتري لي شريط "فياكرا" مئة ملي غرام من الصيدلية التي تقع في "ساحة ميسلون" وتنقذ الليلة؛ فحال أبو زيدون لا يسر عدوا ولا صديقا وسأعطيك أجرة سخية؟
كان عماد مطيعا وخدوما خاصة عندما تستنجد به لهيب وزبونها يمر بمحنة عدم الانتصاب التي أصبحت شائعة حتى لدى الشباب لازدحام الأفكار وتضاربها في عقولهم وتشتت تفكيرهم.
- هل تريدين وصل الشراء؟
قال لها وهو يعطيها شريط الحبوب الزرقاء التي تعيد الميت إلى الحياة.
- لا شكرا أنا مسرورة جدا منك.
كان أبو زيدون يجلس في الصالة يسمع حوارهما، فأصر أن يدخل عماد ليشاركهما جلستهما على الرغم من تأفف لهيب.
جلس على استحياء في مقعد منزوٍ ينظر إلى ميز الزبون العامر بأنواع المزة "الجاجيك" و"البغدادية" و"الجبس" و"الكرزات" وينتصب في الوسط بطل الويسكي الشيفاز وبجانبه الثلج و"الصودة" بالليمون وساجدة عبيد تصدح بأغاني السكارى الخالدة والتي تفضلها جميع العاهرات للرقص المغري.
- هل أكملت دراستك؟
سأل أبو زيدون وهو يرتشف من "البيك" الذي أعدته له لهيب وهي تجلس بجانبه تمد يدها بين الحين والآخر لتتأكد من أن مفعول "الفياكرا" بدأ يعمل.
- تخرجت من كلية الطب البيطري بتقدير عالٍ ولكنه علم لا ينفع للحصول على وظيفة هنا فأنت تعلم كيف تسير الأمور. أنا أقترح أن نضع لوحة كبيرة في مدخل الكلية "اللهم أني أعوذ بك من علم لا ينفع".
غص أبو زيدون بالضحك وملأت قهقهته أرجاء الشقة. كان الشراب قد أحاله إلى شخص يضحك لأتفه الأسباب وبلا أسباب في بعض الأحيان.
أراد عماد استغلال هذه الفرصة ليقدم للثقيل "أبو زيدون" سيرته الذاتية لعله يظفر بوظيفة ما، لكن لهيب كانت تنافسه فهي تنتمي للطبقة الكادحة مثله تماما، الاختلاف فقط في وسيلة الرزق.
أعطته قطعة من الجبس وأخذت دور المسكينة المتباكية وهي تشرح له عن معاناتها في هذه المهنة والصعوبات التي تواجهها وأنها ترغب في توبة نصوح لا عودة فيها وأن تحج البيت لتكفر عن ذنوبها وتفتح بيت دعارة. عفوا أقصد مركز مساج تديره هي فترتاح من تعب العهر للتحول إلى "كوادة"؛ فمراكز المساج لدينا ليس للتدليك وإزالة التشنج بل هي واجهة لأوكار الدعارة وتجارة الرقيق الأبيض.
لم تفلح إغراءاتها بقدر ما نجحت "قفشات" عماد في استمالة قلب الباشا ودخل في حوارات ساخرة وهزلية في ظاهرها وفي باطنها كانت تكمن الحقيقة. كان يصف الحكومة والأحزاب الحاكمة بدقة متناهية ومن قلب الحدث فهم مرتبطون بسلسلة إذا انكشفت إحدى حلقاتها ستنكشف باقي الحلقات تباعا إلا إذا قطعت السلسة.
- كيف تقطع السلسلة، أستاذ؟
- بقتل أحدهم فينفرط عقد السلسلة المكشوفة وينقطع الاتصال بباقي السلسة لكن لا تشغل بالك أنت بهذه الأمور الكبيرة ودعني أدلك على الكلمة السحرية التي يبحث عنها المسؤولون في السير الذاتية.
- عجل بها فهي جل ما أحتاج.
- المتنفذون لا يحتاجون إلى سيرة ذاتية تحتوي على شهادة عالية أو خبرة عملية كبيرة فهذه الأمور تهدد مراكزهم التي حصلوا عليها بصفقات سياسية وليس عن طريق الكفاءة لذلك هم يبحثون عن الطاعة... الطاعة العمياء فقط. الذكاء هو ليس أن تأخذ درجة عالية في الرياضيات ولكن أن تعرف كيف تقرأ المرحلة وتتكيف معها.
تدخلت لهيب لتحافظ على زبونها من أن يخطفه منها سائقها فجرت أبو زيدون من قميصه كما يجر البغل وأخذته إلى الفراش بعد أن تأكدت من وجود حركة من أثر الحبة التي تناولها.
- شكرا جزيلا على المحفظة والدواء... أغلق الباب وراءك...
وبدأت أسمع صراخها وتنهداتها الكاذبة، كانت ممثلة بارعة أجبرتها الحياة أن تكون بارعة وإلا فقدت مهنتها وأصبحت عرضة لكلاب الشارع تنهش لحمها، حتى إنها أزاحت "عماد" من طريقها قبل أن يسلمه السيرة الذاتية فيجره الحديث حتى ينقضي الليل ويفشل البرنامج الذي أعدته لإرضاء زبونها، فإذا سارت الأمور على ما يرام فقد تقنعه بافتتاح مركز للمساج في "الكرادة" أو "المنصور" وسط بغداد، تشغل فيه الطاقات الشابة أو قد يرتفع سقف المطالب فتصبح عشيقة ثم زوجة حتى وإن كانت على ضرتين وفي أضعف الإيمان تكسبه زبونا ثقيلا دائما ما يتردد عليها.
لكن كلماته السكرانة ظلت تدق في رأس عماد الطبول وانتقلت تدقها في عقولنا عندما روى لنا قصته مع لهيب والزبون الثقيل.
نحن في دولة تبالغ في احترام الجنس وحقوق الحيوان... نعم، حقوق الحيوان، هذا حقيقي فنحن نمنح كامل الحقوق ل “أبو صابر" وهو اسم الحمار في لغة الشارع، حتى إنها عبدت الطريق لهم ليتسنموا أرفع المناصب المرموقة في الدولة.
بعض الأحيان نتهامس فيما بيننا عندما يمر من أمامنا موكب مهيب لمسؤول بارز مع رتل من الحمايات "والله إن للحمير حظوظا" مغيرين المثل الأصلي الذي يقول "إن للكلاب حظوظا."
في أغلب الأوقات كنا نترجم أوجاعنا إلى نكتة أو قفشة.
مرحبا بكم في العراق أرض ما بين النهرين كل القوانين مختلفة فكأنما نحن نعيش على كوكب وباقي الناس يعيشون على كوكب آخر.
أم ازاد لجأت إلى العرافات والسحر أخيرا لحلحلة ملف تعيين ابنها فآخر العلاج الكي. العرافة " أم دموع" أخبرتها أن المشكلة بل إن كل المشكلة تكمن في لون رابطة العنق التي أرتديها في مقابلات العمل. اللون لم يكن ذا طالع جيد، بل كان يجلب النحس...
أصحاب العمل في العشرين مقابلة التي أتممتها للحصول على العمل كانوا يقولون لي: "سنتصل بك لاحقا", ولكنهم لا يتصلون. كنت أعتقد أن المشكلة في هاتفي النقال ولكن إياد صديقي أخبرني أن هذه العبارة هي طريقة مؤدبة للرفض.
في المقابلة الواحدة والعشرين اشترت لي أمي بدراهمها المتبقية من ميراث أبي بدلة فاخرة ورابطة عنق لونها "شذرماوي" لا يخالطها الحظ العاثر، ثم عززته بحجاب فيه طلاسم مضادة للعين والسحر والطالع السيئ.
المقابلة الواحدة والعشرون كانت مختلفة وغيرت حياتي إلى الأبد... وأخيرا ابتسم لي الحظ وحصلت على الوظيفة ولم يقل لي أحد "سنتصل بك لاحقا"، بل قالوا لي "إن هذا المنصب دائما ما يكون شاغرا" الموظف السابق الذي كان يشغل المنصب ذبح على طريق "المحمودية"، أما الموظف الأسبق فقد اغتاله قناص خلسة وهو يمارس عمله في إحدى الزيارات الميدانية.
صحيح أن الحظ لم يبتسم لي ابتسامة عريضة لكنه على الأقل ابتسم بعد دهرٍ من العبوس.
حصلت على وظيفة مترجم في قاعدة الصقر العسكرية التابعة للجيش الأمريكي في العراق. لم تكن وظيفة جيدة، بل لم تكن وظيفة آمنة أصلا فقد كان عملا محفوفا بالمخاطر.
الوضع الأمني في العراق في تدهور مستمر والقوات الأمريكية ومن معها كانت مستهدفة دائما ولكن كانت خياراتي قليلة إما مترجم أو مترجم فهذه هي الوظيفة الوحيدة التي حصلت عليها وهي أكيد أفضل من بائع الشاي على الأقل من ناحية المردود المادي.
العيش في المدرعة العسكرية أغلب ساعات النهار والليل ليس بالأمر الهين... صفائح معدنية سميكة مغلقة النوافذ بإحكام ومظلمة يسكن فيها أربعة أو خمسة أشخاص. يأكلون فيها وينامون فيها حتى إنهم يطلقون الريح فيها.
وجبة الطعام تسمى "الام آر آي" وهي عبارة عن طعام جاف ليس له أي طعم أو رائحة ... لكي أكون أدق أكثر إنه لا يمكن اعتباره طعاما بشريا بالمواصفات العراقية فلو أن "الكنة" وهي زوجة الابن في البيت أعدت طعاما لعمتها -أم زوجها- يشبه وجبة "الام آر آي" لطلبت من ابنها أن يطلق زوجته وتحقق المثل الذي يقول "لو رضت العمة على الكنة لدخل إبليس الجنة".
على أي حال فإن وجبات الجيش لها فوائد فهي لا تساعد على تكوين الغازات كما نشك أنها تسبب في تقليل فعالياتنا الجنسية. فقد أقسم "مهند" وهو مترجم يعمل معي بأغلظ الأيمان أن الماسونية العالمية تضع مادة " الكافور" في الطعام والماء لتصيبنا بالعجز الجنسي وبالتالي يقل تناسلنا وتكاثرنا وأعدادنا.
واجباتنا تتلخص في مراقبة وتعقب أهداف معينة في الصحراء ورصد أي تحركات للمجاميع المسلحة. قد تستغرق مهمتنا بضع ساعات أو عدة أيام حسب طبيعة المهمة.
فريقي كان يتكون من الرقيب درو وهو مسؤول المدرعة "ارمورد" المباشر والجندي "ديسمند" وبعض الجنود الآخرين بالإضافة إلى السائق.
كنت أرى "ديسمند" أكثر مما أرى عائلتي، نتكلم في كل المواضيع كي نكسر ساعات الملل الطويلة، فهو أصغر مني بربيعين وولد وترعرع في ولاية صغيرة في شمال أمريكا تسمى كونيتيكت من أب أيرلندي وأم مصرية، احتفل الشهر الماضي بعيد ميلاده الثاني والعشرين. والداه كانا قلقين عليه لأنه لم يرتبط بفتاة حتى الآن، كانا يعتقدان أنه شاذ لكنه لم يكن كذلك فكل ما في الأمر أنه لم يجد الفتاة المناسبة بعد.
كان يتلفظ ببعض الكلمات العربية مكونا منها جملا بسيطة. بعض الأحيان أحتاج أن أفهم المعنى العام للجملة كي أفهم بعض الكلمات التي ينطقها حتى عندما يتكلم بلغته الأم الإنكليزية. لقد كان ألثغ يقلب "السين" إلى "ثاء". في كل المواقف المرة والحلوة كان بجانبي، كان صديقي المقرب وخازن أسراري.
- الهدف الذي نطارده اليوم شخصية خطرة لم نفلح بالقبض عليه منذ فترة طويلة. قواتنا المشتركة كانت قريبة جدا من الإمساك به ولكنه كان يهرب منا بأعجوبة. جميع قواعدنا العسكرية لديها أوامر بالقبض على هذا الشخص.
قال الرقيب درو ومرر إلي سجلًّا فيه كل المعلومات التي تم جمعها عن صاحبنا المطارد.
المعلومات متضاربة حوله وإفادات الشهود مبهمة ومتناقضة بعضهم يصفه بالمجرم والارهابي والبعض الآخر يصفه بالمقاوم البطل.
اختلطت الإشاعات مع الحقيقة: "أبو صهيب" يقول إنه ساحر، ويؤكد أنه شاهده يضرب مدرعة أمريكية بوميض من الضوء نزل من السماء فأحالها إلى رماد، و"أم عمار" كانت تحلف أنه يسيطر على الشياطين والجن.
لقد هرب من قبضتنا عدة مرات بطريقة مريبة، بالإضافة إلى ذلك فإن اسمه اقترن بعدة عمليات ضد الجيش العراقي والأمريكي. ولدينا معلومات لم نتثبت من صحتها أن له يدا بطريقة ما في إصابة الجنود بأمراض نفسية غريبة.
- ما هو اسمه؟
سألني "ديسمند" وهو يختلس النظر إلى السجل في يدي. كان الفضول يقتله لمعرفة أسرار تلك الشخصية التي يكتنفها الغموض.
- السكان المحليون يطلقون عليه اسم "سيد الرمال المتحركة."
قال الرقيب درو وهو يتابع جهاز المراقبة في المدرعة.
الرقيب كان مربوع القامة ومفتول العضلات، آثار التدريب والانضباط العسكري بادية عليه. أحسست من طريقة كلامه أنه يولي هذا الهدف أهمية مضاعفة. يعتقد أنهم أسموه بهذا الاسم لأنه يظهر فجأة ويختفي فجأة مثل الكثبان الرملية المتحركة. يختفي مثل السراب ويعاود الظهور من جديد.
- ولكني واثق أننا سنمسك به يوما وآمل أن يكون هذا اليوم هو اليوم الموعود.
قال الرقيب درو بحماس ليزيل الخوف عن نفسه وعن جنوده.
بعد سويعات قليلة جاءنا نداء من القاعدة المركزية أنه تم تحديد مكان وجود الهدف وعلى كل القوات التوجه إلى المكان للإمساك به.
- لقد وقع في أيدينا لن يفلت هذه المرة.
الكل أعد عدته كما يستل الفارس المغوار سيفه من غمده. التعليمات أتت أن نلبس الأقنعة المضادة للغازات السامة والكيمياوية فقد كانوا على ما يبدو يتوقعون استخدام أسلحة غير تقليدية.
لم يكن مسموح لي بالمشاركة في القتال. بينما أنا أنتظر في المدرعة كانت القوات المشتركة تشتبك مع مجاميع مسلحة تابعة للطريدة.
القتال كان شديدا استخدمت فيه كل أنواع الأسلحة الخفيفة والمتوسطة وحتى المحرمة دوليا.
كنت أشاهد قذائف "الار بي جي سفن" ترد على البيوت التي تصدر منها إطلاقات نار فتدكها دكا.
كانت الخسائر كبيرة في صفوف الجيش العراقي والأمريكي وأنصار سيد الرمال المتحركة وحتى من الأبرياء الذين كان كل ذنبهم أنهم جاوروا أوكار المجاميع المسلحة.
قتل وأصيب العديد حتى الرقيب درو أصيب في كتفه ولكن الخبر الأهم هو أننا ألقينا القبض على الطريدة.
لم يكن شكله طبيعيا بل في الحقيقة كان أثرد وقصيرًا. به آثار جروح في وجهه ولديه أخدود بين أسنانه الأمامية. جلس مكبلا أمامي، نظراته تنذر بشر مستطير. لم تربكني هيئته ولا نظراته المريبة بل أرعبني الصوت الذي كان يصدره وهو يشبه الأزيز، أو صوت أحد أنواع الطيور، أو ربما صوت إحدى الحشرات لا أعرف بالضبط لكنه كان صوتا مزعجا.
- وأخيرا وقعت في قبضتنا، أيها الوغد. ضع كل أغراضك هنا.
قال الجندي "مايلز" وهو أحد المسؤولين عن السجن في قاعدة الصقر العسكرية وأنا أترجم الكلام بينهما كان الفضول يدفعني لمعرفة المزيد عن هذه الشخصية الغامضة. عيناي تفتشانه من الأعلى إلى الأسفل مثل الماسح الضوئي.
أخرج من جيبه قطعا معدنية وقلما وقصاصات ورق صغيرة ووضعها على الطاولة.
- هل تمزح معي؟ هل هذه الخردة كل ما لديك، أيها الوضيع؟
أخرج سيد الرمال المتحركة قطعة صابون تغير لونها إلى الأسود من شدة القذارة العالقة بها ووضعها على الطاولة.
- ما هذه القذارة؟
سأله الجندي "مايلز" بأسلوب استفزازي ثم حاول أن يرميها في سلة المهملات ولكن سيد الرمال المتحركة أمسك يده.
- " تبا لك ... ما هذا؟ لقد صعقت"
قال الجندي وهو يسحب يده بسرعة متأثرا وكأن تيارا كهربائيا مر من خلاله.
سألته إذا كان بخير وهو يقسم أن كهرباء عالية الجهد تسربت إلى الأرض مرورا بجسمه محدثة ألما فضيعا.
حاولت أن أهدئ من روع الجندي وأتدارك الموقف.
قال سيد الرمال المتحركة وهو يبتسم ابتسامة لم أفهم سببها.
- ربما هي الكهرباء الساكنة.
- نعم ...نعم ... ربما...
كان سيد الرمال المتحركة يبتسم ابتسامة لم أفهم سببها، لكنها أيقظت الطفل المتسائل في داخلي والذي طالما أرهق المعلمين والمدرسين في المدرسة بأسئلته التي تتوارد مثل زخات المطر على عقله، قد تكون ابتسامة ثقة أو رضى بما قسم القدر أو حتى قد تكون إشارة منه إليّ "نحن عرق واحد أما هو فغريب بيننا."
عدة أيام مضت على احتجازه في القاعدة العسكرية، الأمور لم تكن على ما يرام.
مسلسل دموي يعصف بالجنود هنا لا أحد يستطيع أن يضع له تبريرا مناسبا ومنطقيا يتوافق مع قوانين الأرض الطبيعية، لذا قررت أن أزور الرقيب درو في المستشفى لأطمئن عليه وأطلعه على آخر المستجدات.
- الأمور ليست جيدة، رقيب درو... الأمور تزداد سوء في القاعدة، رصدت ثلاث حالات انتحار لجنودنا في القاعدة في اليومين الماضيين فقط. الجندي "مايلز" كتب على المرآة كلمات بلغة ليست إنكليزية أو عربية أو أي لغة أعرفها عندما وجد مشنوقا في غرفته، الحالة نفسها حصلت مع جنديين اثنين آخرين. الرعب والخوف يدب في جميع أرجاء القاعدة.
- مايلز انتحر! مستحيل، ماذا تقول؟
تعابير الدهشة والحزن كانتا ترتسمان على تقاسيم وجه الرقيب الملقى في سرير المستشفى.
أمسك يقلّب شعر رأسه وعيناه الزرقاوان لا ترمشان من شدة الهول وضعف الحيلة.
- عليّ أن أخرج من المستشفى وأقابل ذلك المجرم.
فعلا بعد عدة ساعات وقّع الرقيب درو تعهدا بالخروج على مسؤوليته من المستشفى ليقابل الوافد الجديد الذي أقلق بقدومه منام القادة والجنرالات في أقوى جيش في العالم عدة وعددا.
دخل الرقيب إلى زنزانة احتجاز سيد الرمال المتحركة بخطوات واثقة مقتحما خلوة الرجل ووقف على مبعدة عدة خطوات منه بينما فضلت أنا إحدى زوايا الغرفة لأستقر فيها.
- أريد أن أسألك سؤالا صريحا ومباشرا وأحتاج إلى إجابة واضحة منك. هل لك علاقة بالأحداث الأخيرة التي حدثت في القاعدة اليومين المنصرمين؟
- سأجيبك فقط إذا أجبتني أنت عن سؤالي. لماذا دمرتم بلدنا؟ هل وجدتم الأسلحة الخطرة التي تدعون أنها هنا؟
أجاب ببرود شديد وقتَ كان جالسا على سريره ينظر إلى شيء ما في الأرض من دون أن يرفع عينيه إلى الرقيب درو.
- لكننا على الأقل خلصناكم من الدكتاتورية ... وجلبنا لكم نظاما ديمقراطيا جديدا.
- معظم الناس هنا يشككون في نواياكم بالتغيير نحو الأحسن ولا شيء ملموسا على أرض الواقع. الأمر يزداد سوءا.
وقف وتقدم خطوة نحو الرقيب فأصبحت المسافة بينهما خطوتين فقط.
في أثناء ترجمتي للحوار الساخن بينهما وقعت عيناي على قطعة الصابون السوداء القذرة التي رأيتها معه في التفتيش. كانت مرمية في أحد أركان الغرفة تحت السرير. كان الجراد يجتمع حولها، المنظر مثير للاشمئزاز، لكني أرجعت بصري إليهما لأركز في المحادثة وأترجمها بشكل دقيق فالوضع لا يحتمل الأخطاء.
- الديمقراطية تحتاج إلى وقت. أوروبا وأمريكا عانت فترات طويلة حتى ترسخت فيهما النظم الديمقراطية.
قال الرقيب درو وتقدم خطوة باتجاه سيد الرمال المتحركة. لم يعد يفصل بين الاثنين سوى سنتيمترات معدودات.
نظرات الأعين بينهما كانت تنذر بحرب حامية الوطيس وتترجم حجم السخيمة بينهما.
حرس السجن وضعوا أيديهم على الزناد تحسبا لأي ردة فعل غير محسوبة.
- ما الذي يجعلك متفائلا الى هذا الحد. إن استنساخ تجربتكم قد لا تنجح في مجتمعنا، الأواصر المجتمعية هنا تختلف؟
النقاش كان يحتاج إلى فاصل قبل أن يتطور مثل الانشطار الذري الذي ينتج عنه الانفجار النووي فأقحمت نفسي في وسط السجال.
- غرفتك تحتاج إلى تنظيف. هناك العديد من الحشرات تتجول هنا. هل ترغب أن أستدعي المنظف؟
سؤالي كان كل قصده تحويل مجرى النقاش وفك الاشتباك الخطابي المحتدم الواقع بين الاثنين لكنه أربك سيد الرمال المتحركة وشتت تفكيره بشكل غريب فالتفت إليّ بسرعة وقال:
- لا تتعب نفسك. أنا معتاد على هذه الحشرات. أعتقد أن كل العراقيين معتادون على الجراد.
- لنعد إلى صلب الموضوع. حدثت حالات انتحار متعددة هنا. هل لك أي صلة بهذا الموضوع؟
قال الرقيب درو وقد ارتفع مستوى صوته. أكاد أرى الدخان يخرج من أذنيه.
- عقولنا لديها نظام تشغيل معقد مثل الحواسيب والأجهزة الذكية المختلفة فإذا دخل فايروس إلى هذا النظام وغير بعض الثوابت وشوه الفطرة وقتها سيتصرف العقل بجنون تصرفات لا تخضع لقوانيننا ويختل عنده التوازن. هل تؤمن بهذا الشيء؟
- بالطبع لا ... من لديه ثوابت ومعتقدات راسخة لا يمكن لأحد أن يزحزحها.
- وفقا لجوابك أنا لا أستطيع وأنا خلف القضبان أن أساعد جنودك على الانتحار. أنا رجل عاجز وأنت رجل لا تؤمن سوى بالعلم.
قال وهو ينظر إليّ ويبتسم تلك الابتسامة المحيرة التي لم أفهم مغزاها وقدحت في مخيلتي جملة استفهامات.
ظل الرقيب يحاول أن يجد أي خيط يوصله إلى الطريقة الغامضة التي ينتحر بها جنوده ولكن دون جدوى فلا دليل مادي يملكه ويدين به صاحبنا المتمرد وهو محتجز خلف القضبان.
- دعني أرَ يدك قد أتمكن من علاجها.
قال وقد أمسك بيد الرقيب فصعقه كما فعل مع الجندي مايلز في حين صرخ الرقيب من شدة ألم الصعقة وابتعد بضع خطوات.
- دعني أعطك بعض الأعشاب سوف تعجل بشفاء يدك.
- لا أحتاج مساعدتك. سوف أحرص على أن تقضي حياتك في السجن للجرائم التي ارتكبتها.
- تذكر أنكم أنتم من عبرتم البحار إلينا. إنها وقت قيلولتي أيها السادة.
قال واستدار نحو سريره.
خرج الرقيب درو والحمم البركانية تتصبب من يافوخ رأسه، أما أنا فقد ذهبت إلى غرفتي أجتر الأحداث والحوارات التي شاهدتها.
عقلي ومنطقه لا يصدقان أن هذا الرجل يملك قوة خارقة ولكن ما تراه عيني تنسف كل قوانين المنطق وترميها عرض الحائط.
بعد فترة وجيزة جاءني ديسمند وكله لهفة وفضول لتبادل الأخبار معي. كان يقص عليّ أحداث اقتحامهم لبيت الطريدة وأنا مستلقٍ على سريري أستمع إليه.
البيت كان مظلما وفيه الكثير من الدهاليز والأنفاق ومسكونا بعشرات المسلحين والانتحارين الذين بدأوا يفجرون أنفسهم علينا الواحد تلو الآخر ولكن الرقيب درو كان مصرا على الإمساك بطريدته هذه المرة حتى حاصرناه في أحد الأنفاق فأصيب الرقيب بطلقة أطلقها سيد الرمال المتحركة عليه فأصابت كتفه ولكن جنودنا استبسلوا حتى ألقوا القبض عليه.
كنا نتوقع أن يستخدموا أسلحة غير تقليدية فوضعنا الأقنعة لكن يبدو أنهم تفاجؤوا من الكمين الذي نصبناه لهم.
كان النفق مرعبا مليئا بالجماجم والهياكل العظمية والحيوانات المتفسخة، كنت أحس بالعظام تتكسر تحت أقدامي وكذلك كنا نسحق الجراد المنتشر في كل مكان في أثناء مطاردتنا له.
- جراد... هل قلت جراد؟
قفزت من على سريري...
- نعم... مئات من الجراد يملؤ النفق...
- لا أعلم ولكن أعتقد أن هناك علاقة بين سيد الرمال المتحركة والجراد فقد رأيت بعضا منهم يتجمعون تحت سريره ويصدرون أصواتا مزعجة.
- حشرات تصدر أصواتا مزعجة؟! كلماتك تذكرني بالقصص التي كانت جدتي تحكيها لي قبل النوم عندما كنت صغيرا.
قال ديسمند ضاحكا...
- أي قصص؟
جدة ديسمند العربية الأصل كانت تقول إن العرب القدماء كانوا يؤمنون أن الشياطين والجن يدخلون داخل الحشرات وأن أصوات الحشرات هي لغة الشياطين والجن.
- هل أنت تمزح؟
لكنه كان مصرا أن الأسطورة تقول إن هناك كتاب اسمه العزيف كتبه رجل ادّعى أن الجن تلبّسه. يشرح فيه كل هذه التفاصيل، فألّفت حوله وحول صاحبه المجنون عشرات القصص الخيالية.
استرجع ديسمند قصص جدته وجميع أخبار الجن والشياطين التي سمعها،
العزيف كتب على جلد الموتى وحروفه خطت باستخدام العظام البشرية ودمهم كحبر.
- أين يمكن أن أجد النسخة الأصلية؟
النسخة الأصلية اختفت. البعض يقول احترقت والبعض الآخر يعتقد أنها دفنت في مكان ما.
النسخ المترجمة في بعض المتاحف فقدت الكثير من تأثيرها بسبب الترجمة لكن صاحب ديسمند المغربي "مراد" قال له ذات يوم أن عرافة ادعت أنها تعرف مكان النسخة الأصلية للعزيف.