فهتفجيبرن هُتافًا مؤثرًا، وهو يدفع بوابة منزله المصنوعة من خشب البَلُّوط المنقوش
«. إنه يضاعفها ألف مرة، عدة آلاف من المرات » : ذي الطراز الإنجليزي القديم
وتبعتُه إلى باب المنزل. «! أوف » : هتفت منهكًا
لا أدري كم ضِعفًا على وجه » : قال البروفيسور جيبرن وهو يُمسك بمِفتاح الِمزلاج
«. الدقة
«… وأنت »
إنه يلقي ضوءًا كاشفًا على خفايا علم الفسيولوجيا العصبية، ويرسم ملامح جديدة »
تمامًا لنظرية الإبصار! … لله وحدَه يعلم كم ألف ضعف. سنجرب كل ذلك بعد … المهم
«. أن نجرب العقَّار الآن
«؟ نجرب العقَّار » : هتفت ونحن نجتاز الممر
بالتأكيد. ها هو ذا في تلك » : أجاب جيبرن وهو يلتفت إليَّ وقد دخلنا غرفة مكتبه
«؟ القارورة الخضراء! إلا إذا كنت خائفًا
أنا بطبيعتي شخصحذر، ولست مغامرًا إلا على المستوى النظري. كنت خائفًا، لكن
كبريائي غلبني.
«؟ حسنًا. تقول إنك جربتَه » : قلت مساومًا
جربتُه ولا يبدو أنه ألحق بيضررًا، أليس كذلك؟ لا أبدو حتى منفعلًا أو » : فأجاب
«… متوعكًا وأشعر
ناوِلني العقَّار. في أسوأ الأحوال، سوف يرفع عن كاهلي عبء » : جلست وخاطبتُه قائلًا
قصشعري، وأعتقد أن هذا من أبغضالواجبات إلى قلب أيِّ رجل متحضر. كيف تتناول
«؟ المزيج
«. مع الماء » : أجابني وهو يضع دورق الماء بقوة على المنضدة
وقف البروفيسور أمام مكتبه وتطلَّع إليَّ وأنا جالسفي مقعده الوثير؛ وصارت طريقته
«. إنه عقَّار غريب، كما تعلم » : فجأة متأثرة بعضالشيء بأسلوب الأطباء، لا سيما وهو يقول
أشرت بيدي.
ينبغي أن أحذِّرك في البداية أنه بمجرد ابتلاعك العقَّار عليك أن تُغمض عينيك ثم »
تفتحهما بحذر شديد خلال دقيقة تقريبًا. ستظل ترى، فحاسة الإبصار تعتمد على طول
الاهتزازات لا كثرة التأثيرات؛ لكن لو ظلت العينان مفتوحتين فسوفتتعرضشبكية العين
«. في حينها فقط لما يشبه الصدمة، في هيئة تشوش بغيضيُسبب الدوار؛ لذلك أغمضهما
«! أغمضهما. أحسنت » : فأجبت
ثانيًا، ابقَ ثابتًا. لا تبدأ في البطش بما حولك؛ لأنك قد توجه لشيء ماضربة خطرة. »
تذكر أن سرعتك ستتضاعف عدة آلاف من المرات مقارنة بما كانت عليه سابقًا، قلبك،
ورئتاك، وعضلاتك، ومخك — كلشيء — ستشتدضرباتك دون أن تدري. لن تدرك ذلك.
ستشعر بما تشعر به الآن تمامًا، الشيء الوحيد الذي سيصبح مختلفًا هو أن كل ما يُحيط
«. بك سيبدو كأنه أبطأ عدة آلاف من المرات، وهو ما يجعل الأمر غريبًا إلى أقصىحد
«… يا إلهي! وأنت تعني أن » : قلت معلقًا
ثم التقط مقياسًا صغيرًا، وألقى نظرةسريعة على الأشياء «. سترى » : فقاطعني قائلًا
أكواب زجاجية، وماء. كل شيء جاهز. ينبغي ألا تتناول كَمية » : الموجودة على مكتبه وقال
«. كبيرة في التجرِبة الأولى
انسابت المحتويات الثمينة مترقرقة من القارورة الصغيرة.
قال البروفيسور مذكرًا وهو يصبُّ محتويات المقياس في كوب زجاجي، تمامًا مثلما
لا تنسَ ما قلتُه لك. اجلس في ثبات تام لمدة دقيقتين » : يقيس نادلٌ إيطالي كَمية النبيذ
«. مُغمضًا عينيك بإحكام. ثم ستسمعني وأنا أتحدث
أضاف البروفيسور جيبرن مقدار بوصة من الماء تقريبًا إلى الجرعة الصغيرة في كل
كوب.
بالمناسبة، لا تضع كوبك على المكتب. أبقه في يدك وضعها على ركبتك. » : ثم أضاف
«… أجل، هكذا. والآن
رفع البروفيسور كوبه.
«. المعجِّل الجديد » : فقلت
ثم قرعنا كأسَينا وشربنا، وأغمضت عينيَّ على الفور. «. المعجِّل الجديد » : فأجاب قائلًا
أتعرف ذلك العدم المطلق الذي يهوي فيه المرء حين يستنشق مخدِّرًا. هكذا بدا لي
الحال لفترة لا أملك تحديدها، سمعت بعدَهاصوت جيبرن يطلب مني الاستيقاظ، فتحركت
وفتحت عينيَّ، فرأيته واقفًا حيث كان ولم يزل الكوب في يده، لكنه كان فارغًا، وكان هذا
الاختلاف الوحيد.
«؟ حسنًا » : قلت
«؟ لاشيء غير معتاد »
«. لاشيء. ربما شعور طفيف بالانتشاء، ليس إلا »
«؟ وماذا عن الأصوات »
الأشياء ساكنة. يا إلهي! أجل! أقسم أنها ساكنة، باستثناء ما يشبه النقرات » : قلت
«؟ الخفيفة كالتي تُصدرها حبات المطر المتساقطة. ما هذا
هكذا كان رده حسبما أظن، لكنني لست متأكدًا. رمق «. وحدات صوتية مفككة »
«؟ أرأيت من قبلُ ستارًا مثبتًا هكذا أمام نافذة » : البروفيسور النافذة ثم توجه إليَّ سائلًا
تتبعتُ مرمى بصره فلاحظت طرَف الستار وبدا كأنه قد تجمد أعلى الزاوية بينما
كان من المفترضأن يرفرف بخفة مع نسمات الهواء.
«. لا، ذلك أمر غريب » : أجبت قائلًا
ثم بسط كفه التي كانت تحمل الكوب، فأجفلت بطبيعة الحال، «. وها هنا » : فقال
متوقعًا أن يتهشم، وهو ما لم يحدث. لم يتهشم الكوب، بل لم يتحرك حتى من مكانه؛ لقد
ظل معلقًا في الهواء، دون أدنى حركة.
بوجه تقريبي، تسقط الأشياء من تلك الارتفاعات بسرعة ١٦ قَدمًا في » : قال جيبرن
الثانية الأولى، وهذا الكوب يسقط الآن بسرعة ١٦ قدمًا في الثانية، لكن ما تراه هو كوب لم
«. يسقط بعدُ لجزء من مِائة من الثانية. إن ذلك يعطيك فكرة ما عنسرعة معجِّلي الجديد
راح جيبرن يلوِّح بيده في حركة دائرية، فوق الكوب المتهاوي ببطء وتحته، ثم أمسك به من
قاعدته وجذبه إلى أسفل، ووضعه بحذرٍ شديدٍ فوق المنضدة، ثم تطلع إليَّ وقال مبتسمًا:
«؟ أليس كذلك »
وبدأت في النهوض بحذر شديد من مقعدي. «. يبدو ذلك صحيحًا » : أجبته قائلًا
شعرت أنني في حالة ممتازة، وأحسست بخفة وراحة شديدتين وثقة تامة داخلي. كنت
أتحرك بسرعة في كل مكان، وكان قلبي، على سبيل المثال، يخفق بمعدل ألف دقة في الثانية،
لكن ذلك لم يزعجني البتة. نظرت إلى الخارج عبر النافذة فلمحت قائد دراجة بخارية
ساكنًا في مكانه ومُطرقًا، وخلفه سحابة متجمدة من الغبار، ويبدو أنه كان يُهرَع بدراجته
للَّحاق بعربة ركاب مسرعة لا تتحرك. وقفت في ذهول، محدقًا وفاغرًا فاهي، أمام هذا
«؟ جيبرن، إلى متى سيدوم مفعول هذا العقَّار اللعين » : المشهد المدهش. هتفت قائلًا
لله أعلم! آخر مرة تناولته فيها أويت إلى الفراش ونمت حتى زال » : فأجاب قائلًا
مفعوله. كنت خائفًا بالطبع. لا شك أن مفعوله استمر لدقائق معدودة — حسبما أظن —
غير أنها بدت كساعات. لكنني أعتقد أن مفعوله قد تضاءل بعد قليل على نحو مفاجئ
«. بعضالشيء
لاحظت أنني لم أكن خائفًا — ربما لأننا كنا معًا — وكان ذلك من دواعي فخري.
«؟ لِمَ لا نخرج » : سألت البروفيسور مقترحًا
«؟ لِمَ لا »
«. سوف يرَوْننا »
لا، لن يرَوْنا. يا إلهي، لا! لماذا، لأننا سنمضي بسرعة تفوق أسرع الحيل السحرية »
«؟ ألف مرة. هيا أسرع! في أيِّ اتجاه سنذهب؟ النافذة أم الباب
وخرجنا من ناحية النافذة.
مما لا شك فيه أنه من بين كل التجارِب الغريبة التي مررتُ بها في حياتي، أو
تخيلتُها، أو قرأتُ أن آخرين مروا بها أو تخيلوها، كانت زيارتي القصيرة مع جيبرن
إلى مروج فولكستون تحت تأثير المعجِّل الجديد هي أغرب تلك التجارِب وأشدها جنونًا.
خرجنا من بوابته متجهَين إلى الطريق، وأجرينا هناك فحصًا دقيقًا لحركة المرور الساكنة
سكون التماثيل. كانت الأجزاء العليا من العجلات وبعضمن سنابك الخيول الجارَّة لتلك
العربة، وطرَف السوط، والفك السفلي للمحصِّل — الذي بدأ لتوِّه في التثاؤب — كل ذلك
كان من الواضح أنه يتحرك، أما ما عدا ذلك من باقي وسائل الانتقال المتثاقلة فبدت جامدة
تمامًا، ودون أدنى ضوضاء باستثناء صوت حشرجة صادر من حنجرة أحدهم! وكان هذا
المشهد الهامد يتكون من سائق، ومحصِّل، وأحد عشر شخصًا! حين مررنا بهذا المنظر،
كان تأثيره علينا في بدايته عجيبًا بشدة، وفي نهايته مزعجًا وبغيضًا؛ لقد كانوا أناسًا مثلنا
لكنهم ليسوا مثلنا، متجمدين في أوضاع عشوائية، ورهائن حركات غير مكتملة. فهناك
رجل وفتاة يتبادلان الابتسامات، ابتسامات مختلسة شبِقة تنذر بالاستمرار إلى ما لا نهاية،
وتلك سيدة ذات قبعة لدنة تريح ذراعها على قضيب العربة محدقة في منزل جيبرن في نظرة
أبدية شاخصة لا تقطعها طَرْفة عين، وذلك رجل يتحسسشاربه كتمثال من الشمع، وآخر
يمد يدًا متيبسة منهكة مبسوطة الأصابع نحو قبعته المهلهلة. أطلنا النظر إليهم، وسخرنا
منهم، وصنعنا بوجهَينا تعبيرات مضحكة تهكمًا عليهم، ثم أصابنا ما يشبه النفور منهم،
فأعرضنا عنهم ومررنا أمام قائد الدراجة متجهَين إلى المروج.
«! يا إلهي! انظر هناك » : صاح جيبرن فجأة
وأشار بإصبعه، فلمحت عند أنملته شيئًا يدفع الهواء بأجنحة تخفق ببطء يماثل بطء
حلزون غاية في الخمول والكسل، كان هذا الشيء نحلة.
وهكذا شارفنا المروج، وهناك بدا الأمر أشد جنونًا من كل ما سبق. كانت هناك فرقة
موسيقية تعزف أنغامها في الِمنصة العليا، بَيد أن كل موسيقاهم بدت لنا كصلصلة خافتة
لها أزيز، وكأنها زفرة موت ممتدة، وكانت تتحول أحيانًا إلى صوت يشبه دقات بطيئة
مكتومة تصدرها ساعة عملاقة. أشخاص واقفون منتصبون في جمود تام، وكأنهم دمًى
صامتة، غريبة الأطوار، تبدو وكأنها واعية، لكن جميعها متوقفة في منتصف خطواتها على
نحو غير مستقر، وكأنها خرجت للتنزه فوق العشب. مررت بالقرب من كلب بودل صغير
معلق في وضع القفز، وتابعت الحركة البطيئة لقدميه وهو يهبط على الأرض. هتف جيبرن
توقفنا برهة أمام شخصبَهيِّ الهيئة، مهيب المظهر، يرتدي «! يا إلهي! انظر هنا » : صائحًا
سروالًا صوفيٍّا أبيضذا خطوط باهتة، وحذاءً أبيض، وقبعة، وقد استدار ليغمز لسيدتين
ترتديان ثيابًا زاهية كان قد تجاوزهما. بدت الغمزة، في ظل مثل هذه الدراسة المتأنية التي
نجحنا في إجرائها، شيئًا غير جذاب يفتقد أيَّ سمة من سمات المرح والحيوية. يلاحظ المرء
أن العين الغامزة لا تنغلق بالكلية، بل يظهر من تحت جَفنها المتهدل الطرَف السفلي من
يا إلهي ذكِّرني لكيلا أغمز ثانيةً » : حدقتها وخط رفيع من بياضها. لم أتمالك نفسيفهتفت
«. أبدًا
«. أو أبتسم » : فأضاف جيبرن، وقد لمح السيدة ترد بابتسامة
«. إنني أشعر بحر شديد، بطريقة ما. لنُهدئ منسرعتنا » : قلت
«! أوه، هيا أسرع » : فرد جيبرن قائلًا
تحسسنا طريقنا وسط الكراسيِّذات العجلات. بدا كثير من الجالسين في تلك المقاعد
شبه عاديين في أوضاعهم الساكنة، إلا أن رؤية ملابس أعضاء الفرقة ذات اللون القرمزي
وهي تنثني لم يكن مريحًا. شاهدنا شابٍّا أرجواني الوجه متسمرًا في خِضمِّصراع عنيف
مع الرياح من أجل طيِّ صحيفته؛ كان ثَمة كثير من الدلائل تشي بأن كل هؤلاء البِطاء
كانوا تحت تأثير نَسيم محسوس، لكن لم يكن له وجود بحسب ما استشعرَتْه حواسُّنا.
خرجنا من بين هذا الجمع وسرنا لمسافة قصيرة بعيدًا عنه، ثم استدرنا وأبصرناه من
بعيد. إن رؤية كل هذا الحشد، وقد تحوَّل إلى لوحة جامدة متيبسة أبطالها تماثيل شمع
لكنها حقيقية، كانت أمرًا مذهلًا إلى حد لا يُصدَّق. لا شك أن المشهد كان عبثيٍّا؛ لكنه ملأني
بشعور جذل غير منطقي بالتفوق. فكر في روعة هذا! كل ما قلته، وفكرت فيه، وعملته منذ
أن بدأ مفعول العقَّار يسري في عروقي قد حدث في لمح البصربالنسبة إلى أولئك الأشخاص،
لكن جيبرن «… إن المعجِّل الجديد » : وبالنسبة إلى هذا العالم بصفة عامة. بادرت قائلًا
«! ها هي تلك العجوز اللعينة » : قاطعني بقوله
«؟ أيُّ عجوز »
التي تعيش في المنزل المجاور لي. لديها كلب صغير مدلل له نُباح مزعج. » : فرد جيبرن
«! يا إلهي! يا له من إغراء قوي
أحيانًا ما تصدر عن جيبرن أفعال صبيانية متهورة. قبل أن أبدأ في الاعتراضوجدته
قد اندفع متقدمًا وانتزع الكلب البائس بسرعة فائقة، وهُرع به نحو جُرف المُروج. كان
مشهدًا غاية في الغرابة؛ فالكلب الصغير لم ينبح أو يحاول التخلص من قبضته أو حتى
يحرك ساكنًا؛ بل ظل متسمرًا تمامًا في وضع الرقاد الناعسبينما جيبرن يحمله من رقبته.
ثم هتفت مضيفًا: «! جيبرن، اتركه » : كان الأمر أشبه بالركضبكلب خشبي.صرخت قائلًا
إذا ركضت هكذا يا جيبرن فسوف تَضطرِم النيران في ثيابك. إن سروالك الكَتَّاني يتحول »
«! إلى اللون البُني بالفعل
ضرب جيبرن فخذه بكفه ووقف مترددًا فوق شفا الجُرف. تقدمت وواصلتصياحي:
ضعه على الأرض، إن هذه الحرارة مرتفعة أكثر من اللازم! إنه ركْضنا إذن! مِيلان أو »
«! ثلاثة في الثانية! الاحتكاك بالهواء
«؟ ماذا » : رد جيبرن وهو يرمق الكلب
الاحتكاك بالهواء، الاحتكاك بالهواء، التحرك بسرعة شديدة، » : فصحت لأسُمِعه
كالنيازك وما شابه، حرارة شديدة، و… جيبرن! جيبرن! أشعر بالوخز في كل أجزاء
جسدي وما يشبه التعرق. يمكنك أن ترى الناس حولَنا يتحركون قليلًا. أعتقد أن مفعول
«. العقَّار ينتهي الآن! اترك هذا الكلب
«؟ ها » : فما كان منه إلا أن قال
إن مفعوله ينتهي الآن. نحن نشعر بحرارة شديدة والعقَّار يبطل » : فقلت مكررًا
«. مفعوله الآن! إنني أتصبب عرقًا
حدق جيبرن فيَّ، ثم في الفرقة الموسيقية، فلم يكن ثمة شك أن أزيز صلصلتهم تسارع
إيقاعُه؛ فأسرع جيبرن ومد ذراعه في حركة هائلة وطوَّح بالكلب بعيدًا عنه فراح يدور
صاعدًا، دون أن يحرك أيٍّا من أعضائه، حتى استقر به المطاف معلقًا في الهواء فوق
مجموعة من الِمظلات تحتَها جماعة من الناس يتجاذبون أطراف الحديث. تشبث جيبرن
يا إلهي! أعتقد أنه … كذلك!شيء كالوخز الساخن و… أجل. ذلك الرجل » : بمرفقيصائحًا
«. يحرك مِنديل جيبه! إنه أمر واضح. يجب أن نغادر هذا المكان في الوقت المناسب تمامًا
لكننا لم ننجح في مغادرته في الوقت المناسب بالضبط، وربما كان ذلك لحسن حظنا!
ربما كنا سنحتاج إلى الركض، ولو ركضنا، لاشتعلتْ فينا النيران، على حد اعتقادي. من
شِبه المؤكد أن النيران كانت ستشتعل فينا! في الواقع، لم يفكر أيٌّ منا في أمر كهذا … لكن
مفعول العقَّار بطل تمامًا حتى قبل أن نبدأ في الركض. لم يتجاوز الأمر جزءًا دقيقًا من
الثانية. لقد تلاشى تأثير المعجِّل الجديد في لمح البصر. تناهى إلى سمعي صوت جيبرن في
فارتميت جالسًا فوق العشب عند حافَة المروج — وقد بدأت النار «. اجلس » : هلع لا حد له
تنشَب في ملابسي أثناءَ جلوسي. لا تزال هناك رقعة محترقة من العشب حيث جلست. في
تلك اللحظة التي انبطحت فيها جالسًا، بدا لي كأن الحياة قد دبت في ذلك المشهد الساكن؛
الأنغام المفككة التي كانت تصدرها الفرقة امتزجت ثم انطلقت معًا كموسيقى صاخبة،
وزوار المروج استقرت أقدامهم على الأرضوسلك كل منهم طريقه، الأوراق والأعلام بدأت
في الخفقان، والابتسامات انبثقت منها الكلمات، ومن كان يغمز بعينه أنهى غمزته ومضى
في طريقه دون أدنى غضاضة، وكل من كانوا جالسين تحركوا متحدثين.
عاد العالم من حولنا إلى الحياة مجددًا ومضى بنفس سرعتنا، أو بالأحرى لم نكن
أسرع من بقية العالم. كان الأمر أشبه بالإبطاء عند الوصول إلى محطة القطار وخُيِّل إليَّ
أن العالم يدور من حولي لثانية أو اثنتين وعانيت من أقصر شعور بالغثيان في حياتي،
وكان ذلك كل ما في الأمر. أما الكلب الصغير الذي بدا معلقًا لوهلة حين نفدت قوة ذراع
جيبرن فقد سقط فيسرعة خاطفة مخترقًا مِظلة سيدة!
هكذا كانت نجاتنا. كنت سأظن أنه ما من أحد لاحظ ظهورنا المفاجئ وسط الجمع
لولا أن عجوزًا بدينًا جالسًا في كرسيٍّ متحرك قد أجفل بالتأكيد لرؤيتنا ثم بدأ يراقبنا بين
حين وآخر بعين مرتابة لا تبشر بخير، وانتهى به الحال إلى أن أسرَّ إلى ممرضته بشيء،
أعتقد أنه بشأننا. ازدردْتُ ريقي متوجسًا! لا بد أننا ظهرنا بغتة. توقفنا عن الاشتعال على
الفور تقريبًا رغم أن العشب تحتي كان ساخنًا على نحو ضايقني. استَرعَتِ انتباهَ الجميع
— بما فيهم أعضاء الفرقة الموسيقية الذين نشزت ألحانهم في ذلك الموقف وللمرة الأولى
والوحيدة في تاريخهم — تلك الواقعةُ العجيبة، واللغط والجلبة الأشد عجبًا اللذان كان
سببهما أن كلبًا بدينًا مهذبًا كان نائمًا في وداعة إلى الشرق من الِمنصة التي تقف عليها
الفرقة الموسيقية سقط فجأة فوق مِظلة سيدة جالسة في غربها، وعليه آثار احتراق بسيط
جرَّاءسرعته الفائقة عبر الهواء. كل ذلك حدث في تلك الأيام العبثية؛ حيث نحاول جميعًا أن
نتصف بالروحانية والسخافة والإيمان بالخرافات قدر إمكاننا! نهضالحاضرون مندفعين
فداس بعضهم بعضًا، وبُعثِرت الكراسيُّ، وركض شرطي الِمنطقة. لا أدري كيف هدأت
الأوضاع، لقد كنا في غاية الارتباك والتوتر بحيث لم نتمكن من تخليصأنفسنا من المأزق
والتواري عن عينَيْ هذا العجوز القابع في الكرسي المتحرك لدراسة الموقف دراسة متأنية.
لكن بمجرد أن هدأنا وتعافينا من أعراضالدوار والغثيان والارتباك بما يمكننا من الخروج
من هذه الورطة، نهضنا وسرنا بمحاذاة الجمع عائدَين أدراجنا إلى الطريق الممتد أسفل
قلب المدينة متجهَين نحو منزل جيبرن. لكن وسط كل هذا الصخب، سمعت بوضوح شديد
ذلك الرجل الجالس إلى جوار السيدة التي تمزقت مِظلتها إثرَ سقوط الكلب وهو يتوعد
إن لم تكن » : قائلًا « مشرف » أحد المسئولين عن تنظيم الكراسيِّ المكتوب على قبعته كلمة
«؟ أنت من ألقيت الكلب، فمن الذي ألقاه
إن العودة المباغتة للحركة والضوضاء المعتادة، بالإضافة إلى قلقنا على أنفسنا
(كانت ملابسنا لا تزال شديدة السخونة والجزء العلوي من سروال جيبرن الأبيضتحوَّل
إلى لون بني شاحب من أثر الاحتراق) منعتني من الملاحظات الدقيقة التي كنت أود إجراءها
لكل هذه الأمور. لم أجُرِ في الواقع أيةَ ملاحظات ذات قيمة علمية في طريق عودتي. اختفت
النحلة، بالطبع، وبحثتُ عن قائد الدراجة لكنني لم أرَه حين وصلنا إلى طريق ساندجيت
العلوي أو لعل حركة المرور حجَبتْه عن أنظارنا؛ لكنني عثرت على عربة الركاب، وكانت
تتقدم فيصخب وخفة بمحاذاة الكنيسة القريبة، وقد عاد جميع ركابها إلى الحياة، وصاروا
يتحركون في نشاط.
لكننا لاحظنا أن عتبة النافذة التي وطئناها بأقدامنا عند خروجنا من المنزل عليها
آثار حروق طفيفة وأن آثار خطواتنا فوق الحصى الذي يغطي الطريق كانت أعمق من
المعتاد.
هكذا كانت تجرِبتي الأولى للمعجِّل الجديد، وخلال تلك التجرِبة كنا نتحرك ونتحدث
ونفعل كلشيء في غضون ثانية تقريبًا. لقد عشنا نصف ساعة ربما عزَفت خلالها الفرقة
الموسيقية مقطعين، لكننا شعرنا تحت تأثيره كأن العالم قد توقف من أجلنا لنتمكن من
معاينته بسهولة. بالنظر إلى كل ما جرى، ولا سيما اندفاعنا النزِق أثناءَ خروجنا من المنزل،
فمن المؤكد أن التجرِبة كان يمكن أن تصير أسوأ كثيرًا مما كانت، كما أنها أظهرت أن
جيبرن لا يزال أمامه الكثير ليدرسه قبل أن يصير مستحضره عقَّارًا مفيدًا يسهل التعامل
مع آثاره، أما بالنسبة إلى فاعليته فقد ثَبَتت على نحو لا مِراء فيه بالطبع.
تمكن جيبرن، منذ تلك المغامرة، من السيطرة على تأثير العقَّار بانتظام، ولطالما
تناولتُ منه جرعات محددة ومدروسة تحت إشرافه دون أدنى نتيجة سلبية. بَيد أن عليَّ
الإقرار بأنني لم أغامر ثانية بالخروج من المنزل وأنا تحت تأثيره. يَجدُر بي أن أقول
مثلًا إنني كتبت هذه القصة التي تقرؤها الآن في جلسة واحدة دون توقف — إلا لأقضم
بعض قطع الشوكولاتة — تحت تأثير المعجِّل الجديد. بدأتُ الساعة السادسة والنصف
إلا خمس دقائق، وساعتي الآن تكاد تشير إلى الدقيقة الأولى بعد منتصف الساعة. لا شك
أن الحصول على فترة عمل طويلة ومتواصلة وسط يوم مترَع بالالتزامات إنما هو ميزة
لا مجال لإنكارها. يدرس جيبرن في الوقت الحاليِّ المعالجة الكَمية لمستحضره، مع اهتمام
« مبطِّئ » خاصبآثاره المميزة على مختلف أنواع البنى البشرية، ثم إنه يأمل في التوصل إلى
يمكن استخدامه في التخفيف من فاعليته الحالية المفرطة نوعًا ما. سيكون لهذا المبطِّئ
بالطبع تأثير عكسي يُقابل تأثير المعجِّل؛ في حال استُخدِم هذا المبطِّئ وحدَه فإنه سيمكِّن
المريضمن أن يطيل الزمن بحيث تمتد الثواني المعدودة لعدة ساعات من الوقت العاديِّ؛
ومن ثمَّ سيشهد المريض حالة متبلدة من اللافعل والبرود تنعدم فيها همَّتُه وسرعته،
ولا شك أن لهذا فائدته في محيط مفعَم بالحركة أو بيئة مثيرة للأعصاب. مما لا شك فيه أن
العقَّارين معًا سيُحدثان ثورة كاملة في العالم المتحضر؛ إذ يمثلان بداية تحررنا من عباءة
الزمن التي تحدَّث عنها كارليْل، ففي حين سيمكِّننا المعجِّل من تركيز جهدنا وتحقيق
تأثير هائل في أيَّة لحظة أو مناسبة تتطلب أكبر قدر من إدراكنا وذكائنا ونشاطنا، فإن
المبطِّئ سيتيح لنا اجتياز أشد الظروف صعوبة وأكثرها مللًا في هدوء خامل وطمأنينة
سلبية. ربما أشعر بقليل من التفاؤل بشأن المبطِّئ الذي لا يزال يتعين اكتشافه في الواقع،
أما فيما يخصالمعجِّل، فلا مجال للشك في جدواهُ مطلقًا. ستشهد الأشهر القليلة القادمة
ظهوره في الأسواق في شكل مناسب، سهل الامتصاص، يمكن التحكم في آثاره. وسيصير في
متناول جميع الكيميائيين والصيادلة؛ إذ سيتسنَّى لهم الحصول عليه في زجاجات خضراء
صغيرة بثمن مرتفع، لكن بالنظر إلى خواصه الاستثنائية المذهلة، فلا شك أن هذا الثمن
ويأمل جيبرن ،« معجِّل جيبرن العصبي » مستحق وغير مبالغ فيه البتة. سيحمِل العقَّار اسم
أن يتمكن من تقديمه في ثلاثة تركيزات: ٢٠٠ و ٩٠٠ و ٢٠٠٠ وستتمايز الأنواع الثلاثة
بملصقات صفراء وزهرية وبيضاء على التوالي.
لا شك أن استعمال العقَّار سينجم عنه عدد هائل من الآثار غير المعتادة؛ أبرزها
بالتأكيد أن الإجراءات الجنائية ربما تنتهي بإفلات المُدانين من العقوبة من خلال اتخاذ
الفجوات والثغرات الزمنية منفذًا ومهربًا. وشأن غيره من المستحضرات الفعالة، سيكون
المعجِّل عُرضة لإساءة الاستعمال. ولقد ناقشنا تلك المسألة مناقشة مستفيضة، وخلصنا
إلى أنها قضية تندرج بالكلية تحت اختصاص القانون الطبي، ولا تقع نهائيٍّا في نطاق
مسئوليتنا. سوف نصنِّع العقَّار ونعرِضه للبيع، أما فيما يخص التبعات فسنرقُب ما
سيحدث