يمر جميعنا بتلك الأزمة التي تعترينا وتغير توجهاتنا والتي أطلق عليها علماء النفس "أزمة منتصف العمر".
تلك الأزمة التي تدخلنا شرنقة صمتٍ، وعنفوان غضبٍ يمكن أن يدمرَ حياتنا.
وهي مثلها مثل أقرانها في هذا الجيل تمر بأزمة منتصف العمر.
فالأزمة التي كان يؤرخ لها العلماء بدايتها من عمر الأربعين ربيعًا تقلصت وأصبحت أزمة جيلٍ كاملٍ يعاني من الدمور العاطفي.
جيلٌ يشعر بالخيبات أكثر من الإنجازات.
جيلٌ كاملٌ يمر بأزمة منتصف العمر ويدهور حياته بيده، يقتل ما فيها من قيمٍ وأحلامٍ ومستقبل.
وكلما حاول أن ينجو بنفسه من ظلام هذا الشعور ابتلعته مجددًا أمواجه.
هل تعرف ذلك الإحساس المفاجئ برغبة تناول شيءٍ ما، دون شعورك بالجوع أو أي سبب وجيه آخر؟
هذا هو ما يسمى بـ "شهوة الغذاء"، ونادرًا ما تجلب هذه الرغبة الخير لأجسادنا!
وتشرح أخصائية التغذية والحميات "ماري بيث سودس"، من مركز جامعة ميريلاند الطبي أن "الرغبات" تكون رغبات عاطفية، مضيفة:
- "إن هناك فرقًا بين الجوع الفعلي والجوع العاطفي، الذي يكون رغبة في تناول نكهة ما، وليس حاجة للطعام لسد الجوع".
كذلك في الحب ليس بالضرورة أن يكون الإنسان جائعًا أو محرومًا من تلك الرغبة أو الشهوة العاطفية ولكن يمكن في ظل الملل أو فقدان الكثير من المشاعر في صخب الحياة أن يشتهي الإنسانُ الحبَّ.
أن يكون له رغبةٌ في تناول الحياة بنكهة اشتياق ولوعة حنان ودفء الإثارة.
والفارق كبير بين شهوة الحب وشهوة الجسد.. فأغلبنا يبحث عن الحب بمعناه الواسع والذي قد يضم معه الشهوة الجسدية لكن في أبهى صورها.. والإنسان السوي يسعى للحصول عليه بكل الوسائل ليرضي غريزته ونفسه ومشاعره، ليرضي أشياء يخفيها خوفًا من ذلك المجتمع الازدواجي الناقم للحياة، الرافض والقامع للمشاعر الوجدانية خصوصًا إذا كانت الباحثة عن الحب أنثى.
فالأنثى في مجتمعاتنا إما صالحة تستطيع أن تخفي احتياجاتها ومشاعرها عن مجتمعها وعن نفسها أحيانًا.. وإما فاجرة عندما تبوح بمشاعرها ورغبتها في الحصول على ما يكفي جوعها العاطفي وما تفتقده من مشاعر.
على الرغم من أن الجوع العاطفي أصبح الشبح المؤرق لحياتنا ذكورًا وإناثًا.. فنحن نسعى، نتقاتل عملًا، نتظاهر بكبرياءٍ فجة، لا يهمنا شيء ولا تسقطنا أزمات، نخاف من نظرات الناس وشماتة الأعداء، لكننا ننصهر شوقًا لكلمة تدغدغ فؤادنا، ولأننا لا نجد تلك الكلمة، نغرق، نغرق بشرنقة صمت وندخل كهوف الفتور والاكتئاب.
وهي مثل جيلها تمر بتلك الأزمة الطاحنة فرغم ثقافتها ونمو عقلها إلا أنها في النهاية أنثى تحتاج لتلك الكلمات؛ كي تعيش.
فالغذاء الروحي أهم بكثير من الغذاء البدني، والإشباع العاطفي كان أول أولوياتها التي لم تعترف بها لأحد.
ففي مجتمعاتنا لا يمكن للمرأة أن تعترف باحتياجاتها العاطفية، لا يمكن أن تحتاج إلى رجل يفهمها، يضفي على عينها لمعة الحب والسعادة، فالرجل في مجتمعاتنا هو من يستطيع أن ينفق.
فقط الإنفاق هو من يحدد قيمة الرجل ويجعله الأعلى في عيون الأنثى أو المجتمع، تلك الأكذوبة لم تكن هي بحاجة إليها؛ كانت تتمنى رجلًا يفهمها ويقدر وجودها، رجلًا يضفي على وجهها أنوثةً ورقة، رجلًا يكسبها الحياة وترى الأمان بين يديه.
نعم، أعترف أن الأمان نسبيّ؛ فهناك من يراه في المال والقدرة على الإنفاق، ومنهم من يراه في الزواج، وآخرون يرونه في السكن ووجود أطفال يغذونه، لكن ما تعتنقه "حنان" هو الأمان العاطفي، أن تجد رجلًا يدللها، يشعرها أنها الشمس والجميع كواكبُ تدور حولها وتتحكم هي في مصائرها بتلك الابتسامة الحانية.
إنها "حنان" سيدة في العقد الثالث من العمر، اتخذت من اسمها صفته فاتسع حضنها ليضم أهل الأرض كافة، كانت تتمنى لو استطاعت مساعدة الناس كلهم، وكل من احتاج عملًا أو أموالًا للعلاج، تمنت لو كان القرار بيدها فلا تجعل في الأرض مسكينًا أو محتاجًا أو مريضًا.
كانت تسعدها الأشياء البسيطة:
- "مساعدة أحد، مشهد الطيور حينما تهبط على الأرض بحثًا عن غذائها، الشمس وقت الغروب، الأشجار المتراصة بالغابة أو إحدى الحدائق...".
تهوى القراءة والهدوء والسفر وفي المقابل كانت شخصية مثابرة محبة للعمل، تعلم أنه بالعمل تتحقق الأحلام، لهذا التحقت بالعمل في إحدى شركات الإنشاءات والمقاولات فور تخرجها في كلية الهندسة المعمارية بجامعة عين شمس، وأثبتت جدارتها في تسليم العديد من المواقع العقارية بالمدن الجديدة والتي أثنت على تصميماتها إدارة الشركة والعملاء على حدّ سواء.
لم ينسِها عملُها قلبَها ورغبتها في الحب والزواج والاستقرار، كانت تنتظر الحب لكنها لم تحصل عليه أبدًا، وتكمن هنا المشكلة التي طالما تناقشت فيها مع صديقاتها "شيرين – كاريمان – مي – دنيا – سارة – رنا ".
جميعهن بمختلف مستوياتهن الاجتماعية والثقافية تواجهن مشكلة واحدة وهي "الحب".
جميعهن يحتجن إلى الحب أو إلى رجلٍ يكفي ويلبي احتياجات القلب... لكن دون جدوى.
كان حب الجامعة أو حب المراهقة ما هو إلا محاولة للأنثى للتعبير عن وجودها، تحتاج من يصغي إلى أنوثتها التي بدأت في الظهور فهل من معجب يتلو عليها ترانيم الغرام الجميلة التي تذوب بها وتحلم معها بالفستان الأبيض والعش المخذول بأحلام الفتيات الصغيرات.
العش الذي يملؤه الحب والأشواق والسعادة دون التفكير في أي مسئوليات، حتى حلم الإنجاب كان حلمًا باكتساب صفة الأمومة دون النظر إلى المعاناة التي تعانيها الأمهات في توفير احتياجات أطفالهن.
حب الجامعة كان مادة خصبة للحنين والذكريات، نوستالجيا انغمست بها حنان بإرادتها لتخفف عنها مسئوليتها.
جلست لتتذكر كاريمان، كيف كانت تلك البنت الجميلة، ضعيفة البنية، ورقيقة الطبع، وذات العيون الواسعة.
كانت تتمنى هي الأخرى أن تجد حبيبًا يغدق عليها بهداياه ومفاجآته، لكن كما كانت نظرة المجتمع للرجل المنفق، كانت تبحث عن فارس أحلامها وسط السيارات الفارهة والمقاهي باهظة الفواتير، فهي تحاول أن تقصر الطريق على قلبها فتحب من يوافق عليه مجتمعها ممن له القدرة على الإنفاق ببذخ ويوفر لها أعظم احتياجاتها، لكن كالعادة تأتي الريح بما لا تشتهي السفن، فقد وجدت ذلك الحبيب الذي أغدق عليها الحب والهدايا، وبمرور الأيام اكتشفت أنه قبطي ولا يمكنه الزواج منها أو التنازل عن ديانته، فكان الألم والحسرة والخذلان نتيجة لتجربتها.
عانت مرارة تعلقها به طوال سنوات الجامعة، هذا غير المشكلات المجتمعية والأسرية التي تعرضت لها وأدخلتها في كهوف الخيبة والخذلان.
تنهدت حنان لتتذكر كلمتها المدوية لها طوال سنوات الجامعة:
"إحنا طول عمرنا بندور على الحب لكن عمرنا ما هنلاقيه".
تُرى هل كانت كاريمان محقة في ذلك؟
هل سنظل دائمًا نبحث عن الحب ولن نجده تحت تلك السماوات؟
وماذا إن لم نجده؟
نعيش عمرنا كله ناقصًا نبحث عنه ونشعر بالنقص والاحتياج ولا شيء يرضينا فنستمر بالبحث ونستمر بمقابلة الأوغاد ونحاول أن نتعلم وندخل شرنقة خوف من أي علاقة جديدة، لكن رغبتنا في إيجاد الحب تجرنا بقوة إلى داخلها لنختبر نصيبنا ونتعلم شيئًا جديدًا.
ابتسمت حنان ابتسامة ساخرة عندما رأت وجه أحمد يقفز في ذاكرتها؛ ذلك الوغد الذي أحبته فترة الجامعة وانتظرت أن يكون فارسها ويحملها على ذلك الحصان الأبيض ويطير بها إلى عش الحب الدافئ، ولكنها لم تجد منه سوى الهروب بحجة الظروف، لم يستطع أن يواجه أهلها ويتقدم لخطبتها بالطرق الشرعية، كان يفضل فقط السير حول أذن الفتيات ليذيقهن أجمل العبارات ويحصل منهن على أدفأ المشاعر والأحاسيس، وفي لحظات الصدق يهرب، يختفي وكأنه لم يولد من الأساس.
ابتلعت ريقها وهزت رأسها مؤمنة بالرضا وعادت تسبح في ذاكرتها لعلها تجد ما ينسيها ذكراه.
وهنا تذكرت صديقتها الثانية شيرين تلك الفتاة الجميلة الطويلة ذات الشفايف الملساء التي عشقت العمل الخدمي فالتحقت باتحاد الجامعة ومن ثَم رئاسته وكان له أثر بالغ في تكوين شخصيتها.
كانت سطوة أمها السبب الرئيسي في ضياع حياتها حيث أجبرتها على الزواج بقريبها الذي يقيم في إيطاليا وله من المال ما مكنه أن يشتري فيلا في التجمع الخامس للزواج.
كانت شيرين هي العروس التي حلمت أن تنشئ بيتًا سعيدًا، لكن لا يمكن أن توجد سعادة وسط سطوتين، سطوة الشخصية القوية والاستقلالية التي نمت بها شيرين واكتسبتها من انضمامها للأعمال الخدمية، وسطوة المال الذي يفكر مالكه أنه يمكن أن يشتري به كل شيء حتى الحب والنفوس.
تذكرت حكايتها عنه وكيف كان يطلب معاشرتها مغريًا لها بالمال:
- تعالي ندخل الأوضة مع بعض وأديكي 500 جنيه.
وكيف كانت تنهره وتصرخ بوجهه:
- هو إنت جايبني من الشارع؟! أنا مراتك يعني لازم لما تكون عايزني تطلبني بشكل أشيك من كده.
وكيف أسفر هذا الزواج عن طفلة وعدم رضا أودى بهما إلى الطلاق والعودة للعيش ببيت أبيها تحت لوعة الاحتياج ونظرات الأهل القاتلة واللوم المستمر لأنها خربت بيتها وكأن المفروض أو الطبيعي أن تتحمل الأنثى كل شيء حتى الإهانة ولا تترك للشيطان ملاذًا أن يلعب بعقلها ويخبرها أنها ملكة نفسها لا بد أن تختار حياتها وأن ترفض ذلك الجاهل المهين التي وقعت عقد احتكاره لها.
ويظل الخوف والاحتياج وغلق الروح والقلب هو المأوى خوفًا من النقد المجتمعي أو تحكم طليقها في الحصول على ابنتها والهروب بها إذا تزوجت بآخر.
فترحب أن تكون أسيرة لأمومتها أفضل من أن تحرم من روح عشقتها وابنة أصبحت الملاذ ونبض القلب والعين.
يقطع تفكير حنان صوت صغيرها الذي يلهو بجوارها:
- ماما عايز آكل.... يا ماما أنا جعان، قومي اعملي لي آكل.
فترد عليه في خمول:
- حاضر يا قلب ماما، تعالَ نعمل أكل ونتصل على بابا نشوفه اتأخر ليه؟
تحمل صغيرها وتتجه إلى المطبخ تعد له الطعام وفي يدها الهاتف، تتصل على زوجها:
- ألو.... إيه الأخبار؟ اتأخرت ليه كده؟ قلقت عليك؟! جبت ليلى من المدرسة؟! طيب تمام ترجعوا بالسلامة.
تغلق الهاتف وتقدم الطعام لصغيرها "عليّ" وتبدأ بتحضير السفرة استعدادًا لقدوم زوجها وابنتها ليلى التي تبلغ من العمر تسع سنوات والتي اعتادت أن تقدم السفرة للغداء فور عودتهما من المدرسة حيث يعمل زوجها مصطفى مدرسًا لمادة اللغة العربية بمدرسة C-I-A الأمريكية بالتجمع الخامس، نفس المدرسة التي تدرس بها ابنتهما في صفها الثالث الابتدائي والذي اعتاد أن يأتي بها كل يوم من المدرسة معه ويتناول مع أسرته الغداء ومن ثم يعود ليستكمل أعماله التعليمية الخاصة بأحد المراكز التعليمية الخاصة الذي يمتلكها ليعود منها يوميًّا في الثانية صباحًا ليجد طفليه نائمين، وحنان في انتظاره لتعد له العشاء ومن ثم يستقلان سريرهما للنوم واللحاق بعملهما في اليوم الثاني.
كانت حنان تعمل بالشركة نفسها التي عملت بها منذ تخرجها ولكفاءتها تقلدت العديد من المناصب إلى أن تولت منصب نائب مدير الشركة التنفيذي رغم حداثة عمرها، وبهذا المنصب خصص لها أربعة أيام أسبوعيًّا للعمل؛ يومان بمقر الشركة ويومان في المواقع لمتابعة سير العمل وتقديم تقارير عن تطورات المشاريع لرؤسائها، وكان لهذا العمل فرصة لإثبات ذاتها وأيضا منحة يمكنها من الاهتمام ببيتها وأطفالها.
وكان سببا واضحا لغيرة البعض من أهل زوجها كإخوته من الإناث وزوجات إخوانه الذكور.
وكان كثيرًا ذريعة للمشكلات والقلق في البيت لكن دون اكتراث منها أو رغبة في موافقتهم على تركه يومًا.
يُفتح باب المنزل وتنطلق منه إلى الداخل ليلى، تلك الفتاة الجميلة ذات الشعر الأسود الطويل والبشرة السمراء، ويطبع تحت ذقنها طابع الحسن بتلك الغمازة التي تضفي عليها جمالًا ورقة، ولها عينان خضراوان في لون الزيتون. وشفاه صغيرة باللون الوردي تملأهم ابتسامة صافية حانية لا تعرف للشقاء طعمًا.
تجري ليلى على أمها:
- ماما ... أنا جيت وحشتيني قوي.
تقبّلها حنان وتضمها إلى صدرها:
- حمدًا لله على السلامة يا قلب ماما.
يدخل خلفها مصطفى: مساء الخير، عاملين إيه؟ يلا يا حنان حضري الأكل علشان عندي شغل كتير النهارده.
فتسرع حنان في تحضير السفرة كإجابة منها سريعة على طلبه، في حين تدخل ليلى لتبدل ملابسها وتغسل يدها وتعود لنتنظر الطعام.
يجلس الجميع على الطاولة لتناول الطعام وسط صخب التلفاز الذي اعتاد مصطفى على تشغيله فهو يهوى التلفاز بصوته العالي ولا يعرف أن يجلس أو يأكل دون وجوده حتى إنه في كثير من الأحيان لا يعرف أن يغفو دون أن يشاهده وينام على صوته، ورغم أن حنان لم تكن من هواة التلفاز إلا أنها اعتادت على صخبه وعدم ثبات قناة واحدة للمشاهدة أو عمل دراميّ واحدًا للمتابعة.. فالريموت دائمًا بيد مصطفى يتنقل من قناة لأخرى وقت وجود الإعلانات مما يفقدها أحيانًا التركيز معه أو متابعة عملٍ واحدٍ دون الخلط بينه وبين أعمال أخرى.
تبدأ ليلى في الحديث:
- أخدت "full mark" النهاردة يا ماما في الماث وأصحابي صقفوا لي.
يقاطعها مصطفى:
- وبالنسبة للإنجليزي اللي نمتي في حصته دا إيه؟ مش هنحكيه؟ شوفي صِرفة للبنت يا حنان عاملة مشاكل دايمًا مع مدرس الإنجليزي في المدرسة؛ يا تنام، يا تتطلب الحمام وتتأخر في حصته، حتى الأخصائية طلبت أكتر من مرة إنك تروحي بس أنا بنسى أقولك.
حنان: طب وأنت ما شفتش ليه المشكلة وأسبابها؟ ما أنت هناك كل يوم!
- أنا هشوف شغلي بقى ولا هروح أسال المدرسين عن أحوال العيال؟ دي مسئولية الأم وكفاية إني ما بخليش الإدارة تبعت لك استدعاء ولي أمر أو يفصلوا البنت.
تقاطعه ليلى: ما هو يا بابا أنا مش بحب مستر وليد هو على طول بيزعق لي.
- ما هو لو كنتِ عاملة كل شغلك ومؤدبة مش هيزعق لك.
يقولها مصطفى بعصبية وبصوت مرتفع فتنظر ليلى إلى طبقها في استحياء لما قاله والدها ولم تكمل حديثها عن إنجازاتها في المدرسة.
تشعر حنان بغصة ابنتها فتلاحقها:
- ما فيش مشكلة أنا بكرة هروح معاك أعرف إيه الموضوع، وخلصي أكل وقومي البسي لبس النادي علشان عندك تمرين النهارده.
ليلى: حاضر.
مصطفى: ما تخفّي شوية النادي ده، واقعدوا ذاكروا في البيت شوية؛ ليلى مستواها مش حلو في المدرسة ركزي معاها شوية.
ليلى: يا بابا أنا شاطرة وكمان عندي بطولة لازم أتمرن.
مصطفى بسخرية: وأنت يا عليّ عندك إيه؟ أنا عارف يا ابني أنت اللي هترفع راسي.
حنان: ربنا يحفظهم ويوفقهم كلهم، مش اتاخرت عالسنتر ولا أعمل لك شاي؟
تقولها حنان في غصة وهي تبعد عنها صحنها
مصطفى: لا هشربه هناك، عايزين حاجة أجيبها معايا؟
حنان: هات جبنة ولانشون علشان المدرسة بكرة.
مصطفى: ااه دي نزولة لهايبر كده، ما تروحي أنتِ بقى وأنتِ راجعة من النادي طالما نازلة.
حنان: طيب.
يرن هاتف مصطفى فيقفز مشاورًا بإصبعه يطلب منهم الصمت بل كتم الأنفاس، يأخذ مفاتيحه وينزل ملوحًا لهم بالسلام.
تنهي حنان طعام طفليها وتقوم متباطئة في وهن أو ضيق تلم الأطباق.
يرن هاتفها فتجدها هدى صديقتها من النادي، تلك الفتاة القصيرة، السمراء، التي لا تفارق الضحك والنكات فمها، وأنفها الدقيق الذي يعشق الفضول ومعرفه أخبار كل من حولها، فتجدها تعرف كل شيء عن كل سيدات النادي وبناته وسيدات وأمهات التلاميذ بمدرسة أولادها وأيضًا كل شيء عن جيرانها وأصدقائها.
تعد هدى وكالة أنباء متحركة؛ تعرف كل شيء عن كل الناس ولا تستحي أن تتكلم عنهم مع آخرين وتبادل النكات عليهم، حتى في وجودهم يمكن أن تتحدث عنهم وسط الأغراب فتقلب الجو مرحًا وتقصر مسافات التعارف، أحيانا يضيق البعضُ من سذاجتها هذه، وكثيرون يشيحون بوجوههم عنها، وأحيانا يتهمونها بالمكر والثرثرة، ولكن هي لا تبالي فإذا رمقتها أحدهن تضحك وتحكي حكايتها معها وما تعرفه عنها ويمكن أن تفعل ذلك بصوت عالٍ لتسمعها تلك التي رمقتها.
كانت حنان تفضل الاستماع إليها فهي تخرجها من حياتها وتذهب بها لعوالم مختلفة وحكايات جديدة تقتل الروتين في حياتها.
وكانت حنان تحاول دائمًا أن تكون حريصة في حكاياتها عن بيتها وزوجها؛ فلا تحكي إلا الأشياء العامة التي تعاني منها كل النساء، مشكلات الرجل مع المرأة التي تجدها في كل بيتٍ حتى لا تتهم بخبثها وفي الوقت نفسه لا تفضح حياتها للعوام
ترد عليها فينطلق صوت هدى بمرحه وضحكه:
هدى: إيه يا مُزة فينك؟ وصلتي النادي ولا لسه؟
حنان: لا لسه، هنلبس أهو ونيجي.
تشاور حنان لابنتها لتنتهي من ارتداء ملابس النادي وتومئ ليلى لها بالموافقة في سعادة وتنطلق أمام خزانتها لتحضر نفسها.
تستطرد حنان: دنيا هتيجي النهاردة ولا لأ؟
هدى: هتيجي يا ستي علشان كدا بكلمك ما تتأخريش؛ عندنا حكايات كتير عايزين نعرفها.
حنان: يا لهوي عليكِ أنا مش عارفة هتكبري امتى وتبطلي تحطي مناخيرك في حياة الناس.
هدى: أكبر؟! لا دي دعوة أنا مش حباها، أما إني أعرف حكايات الناس ف دي تجارب بنعرفها من غير ما نعيشها علشان ما نقعش فيها ولو وقعنا نعرف نخرج.
تضحك حنان: لا بتتعبي، عمل وطني ده؟ ماشي يا فيلسوفه، ربنا يخليكي للغلابة اللي زينا، ههههه يلا اقفلي علشان أغسل المواعين وأنزل لكم.
تغلق حنان الهاتف وتشمر الثياب عن يدها لتغسل الصحون، وتخرخ عليها ابنتها بزي النادي وتمسك بشنطة النادي لتجهزها وتأخذ ما تحتاج إليه.
بينما يبكي عليّ ويرغب بارتداء ملابسه هو أيضًا ووسط مشاكسة ليلى له وهي تقول (مش هتيجي معانا هنسيبك هنا) يزداد بكاء عليّ ويزداد ضيق حنان وتطلب من ليلى أن تصمت وتذهب لتحضر له ملابسه الخاصة بالنادي.
تمتنع ليلى ضاحكة لتستشيط غضب أخيها، فتنهرها حنان وتقول لها: خلاص ما فيش نادي.
فتضحك ليلى: لا هتروحي علشان طنط هدى ودنيا مستنينك.
حنان: طب يلا يا سوسة علشان نلحقهم، لبّسي أخوكِ على ما ألبس.
تدخل حنان أمام خزانتها وتنتقي قميصًا أبيضَ منقوشًا بالورود السمراء وبنطالًا من الجينز الأسود وتسكب على شعرها بعض الفراشات الملونة كالأطفال فهي تحب الفراشات وزينات الشعر الملونة منذ طفولتها وتوزعها على شعرها الأسود الطويل في سرعة، تضع حبات العطر من نوع (جوتشي) وترتدي حذاء من القماش أبيض اللون ومعها شنطة من القش.
تخرج في أبهى زينتها وخلفها طفلاها، تدير سيارتها من نوع (ستورين زرقاء اللون) متجهة إلى النادي ولا تنسى أن تدير أغانيها المفضلة في السيارة وتغني مع أطفالها تلك الأغاني.
تصل حنان إلى النادي وتركن سيارتها في مكانها المعتاد آخر نقطة بالجراج العلوي ذلك المكان الذي لا يفضله الكثيرون حيث ارتفاع مطلعه الذي يتطلب قوة دفع متضاعفة للوصول إلى سيارتك، لكنها كانت تفضله حيث ينفتح منظر النادي بأكمله من حدائق وبحيرات واتساع الطرق والهواء المتطاير، تشعر دائمًا في هذا المكان بالحياة أو إنها عند نقطة بداية الحياة أو العالم حيث الإنسانية والحب ودفء الطبيعة الذي يملأ الوجدان بالأمل.
تستنشق حنان الهواء المندفع النقي وتُخرج مع زفيرها همومًا ومتاعبَ تحملها وحدها لا أحد يعلم عنها شيئًا.
تغلق سيارتها وتمسك بيد طفليها ولكنهما سرعان ما تركاها وانطلقا مسرعين مهرولين يعرفان طريقهما إلى أصدقائهما فتنطلق هي الأخرى خلفهما خائفة عليهما من أي خطر قد يتعرضان له.
يصلا إلى الكافيتريا أمام حمام السباحة، يقذفان شنطهما على الكراسي بجوار هدى، فتضحك هدى وتشير إلى حنان من بعيد. فتبتسم لها في هدوء.
ينطلق الطفلان إلى حمام السباحة، يلعبان قبل بدء التمرين وتستقل حنان الكرسي المجاور ل هدى وتسألها:
حنان: إيه؟ دنيا لسَّا ما جتش؟
هدى: لا جت بس راحت تجيب حاجة.
حنان: طب تمام.
هدى: ما سألتيش ليه هتجيب إيه؟
حنان: آه، كدا وراكِ حكاية يا سوسة، إيه فيه إيه؟
هدى: دنيا خدت حبوب الشجاعة وراحت تكلم مدرب العيال.
حنان: وفين الشجاعة في كده؟! ما كلنا بنكلم المدربين عادي!
هدى: إيه يا بنتي أنت هتفضلي على نياتك كدا لحد امتى، ما أنتِ عارفة إن عينها منه من فترة وما بتنزلش عينها من عليه طول ما هو في الميه مع العيال.
حنان: يا بنتي اتلمي، أكيد مش اللي في بالك، وبعدين ما كلنا عينا بتطلع عليهم يا هدى، الجثة دي يا ماما مش موجودة في بيوتنا، تلاقي الواد من دوول واقف أسد، رشاقة، وترابيس ومجانس، وفورمة الساحل ويروح ناطط نطة بهلوانية في الميه تبقى عايزة تترمي وراه وتعوم عوم كلابي مش مهم هههه لازم عينينا تطلع يا ماما عليهم.
تضحك هدى وتمر جوارها إحدى الفتيات فتوقفها:
هدى: سماح.. ازيك.. مختفية ليه من فترة؟
سماح: كنت في الساحل.
هدى: آه ما أنا شفتك بترقصي بالمايوه على الفيس بوك وما كنتش مصدقة إن أنتِ تعملي كده، بس بصراحة المايوه كان جمييل، منتظرين الرقصة الجديدة بالمايوه الجديد أهو يمكن تطلعي بعريس المرة دى.
احمر وجه الفتاة،
تنظر إليها حنان وتضحك في استحياء
تعود هدى إليها وكأن شيئًا لم يكن
حنان: يخرب بيتك كسفتِ البنت.
هدى: يا أختي وهم دوول بيتكسفوا؛ دا رقصت رقص وسط ميت راجل على الأقل اصبري أنا حفظت الفيديو.
وتمسك بهاتفها لتشغيله ومن ثم تعطيه لحنان التي أخذته منها على عجل لتشاهد الفتاة.
*****
تصل إليهما دنيا تلك السيدة الطويلة الممتلئة التي تعرف كيف تظهر أنوثتها.
هدى: عود البطل جت أهي.
تقوم حنان لتأخذها في أحضانها قائلة:
- وحشتيني... وحشتيني جدًّا، حمدًا لله على السلامة.
دنيا: أنتم كمان وحشتوني جدًّا، إيه بتتفرجوا على إيه؟
تنظر في الهاتف
دنيا: آه البت البيض دي، دا الفيديو بتاعها خد تريند على الفيس بوك شوفته وأنا في السعودية.
حنان: آه ما هدى لسَّا موقفة البت دي ومدياها من المنقي.
تضحك دنيا وتنظر إلى هدى قائلة:
- يخرب بيتك أنتِ لسَّا مدب كده؟
هدى: يعني أنافق الناس؟ البنت بقت مشهورة يا جماعة مش لازم نقف جمبها ونتصور معاها يمكن نتشهر إحنا كمان.
يضحك الجميع
حنان: إيه بقى احكي لنا إيه أخبارك؟ عملتِ إيه في السعودية؟
دنيا: بلا نيلة هعمل إيه قاعدة خانقة ونزول بالنقاب وهو كالعادي رخم، طول اليوم في الشغل وأنا قاعدة في وش أمه تناقر فيا.
حنان: أنا مش عارفة ليه بيبعت لكم مع أمه كل سنة
دنيا: علشان يقرفني، بيقول إنها تبقى معايا تونسني في الطريق والبيت لما يكون في الشغل وما يبقاش خايف عليا في الغربة.
حنان: بس أكيد كان وَحَشك، كويس إنكم شوفتوا بعض.
دنيا: وحشني.. هو أنا لحقت أعرفه أصلًا.. دا إحنا اتخطبنا وهو مسافر، واتجوزنا وبعد أسبوعين سافر، وكل ما بينزل ينزل أسبوعين في السنة أو نسافر له برضو أسبوعين في السنة، يعني واحد بشوفه شهر كل سنة زيه زي أي حد غريب.
تتلألأ دمعة في عينها وتستطرد:
- دا حتى لما بيلمسني بحس إني لسَّا مكسوفة منه، بحس إنه واحد معرفهوش.
تقاطعها هدى بمرحها الدائم قائلة:
- بلا نيلة خدنا إيه من اللي عرفناهم ولازقين لنا وشنا في وشهم على الأقل أنتِ مستريحة من طلباته.
يضحك الجميع
حنان: أنت ازاي فقر كده؟
هدى: يعني أكدب.. أنافق؟ الراجل يا أختي كل شوية طلبات طلبات طلبات، اشي أكل، اشي شرب، اشي حاجات حلوة، تيجي بقى عند الدلع والكلام الحلو.. تلاقي حنفي قاعد معاكِ.
يضحك الجميع وتستلقي حنان على ظهرها من الضحك:
حنان: هموت يخرب بيتك، اهمدي.
هدى: والله.. يا راجل قول كلمة عدله، يا راجل تعالَ نقول كلمتين جوه، يا راجل ما تيجي ونجيب مليجي، ودا إيه صنم.. ما فيش.
يقترب منهن الطفلان، يأخذان أشياءهما من الشنط فتغمزها حنان بالصمت لحين انتهائهما فلا يصح أن يسمع الأطفال مثل هذه الكلمات.
يقفز المدرب في المياه بعد أن ألقى ابتسامة ل دنيا من بعيد فطأطأت دنيا رأسها في ابتسامة خجل.
لاحظت حنان ذلك ولكنها فضلت الصمت، في حين لاحقتها هدى:
هدى: المُز بيغمز لك يا مزة إيه النظام؟
دنيا: مين ده؟
هدى: أيوة اعملي عبيطة يا بت، اعملي عبيطة.
تنظر إليهما حنان من تحت نظارتها السوداء ولكن دون أن تتحدث في شيء وكأنها تركت لهما المجال لتسمع وتفهم ما يحدث.
ومن الماء يبدأ المدرب في شد انتباهها برمي بعض الكلمات المتوارية التي تمتدح بها، أو تعليقات على ابنها مصطفى ليلفت انتباها.
يُعرف عمر بمرحه وانطلاقه الدائم، لذا لا يمكن لأحد أن يرفض أو يتجنب الحديث معه، فهو طاقة حياة متجددة كل يوم، تعليقاته في أثناء التمرين يضحك عليها كل الحضور فلا هي بالتطاول أو بالإسفاف أو التعدي والتنمر على أحد، كلها تعليقات مضحكة تعزز من روح التمرين وتجعل الأطفال يعشقونه ويلبون أوامره مما ساعد الكثيرين الالتحاق في المسابقات الأوليمبية والحصول على مداليات، وقد عزز ذلك موقفه لدى إدارة النادي وأعضائه.
تستحي دنيا من كلام هدى وتقوم لتحضر شيئًا ما ليشربنه رغم مرور السعاة ومضيفي الكافيتريا إلا أن دنيا أصرت على القيام وأخذ جولة داخل الكافيتريا هروبًا من رشقات هدى التي لا تنتهي.
لحظات تضمد بها خجلها وتستعيد مكانتها ورزانتها، لحظات تواري ابتسامتها ونظرتها الفاضحة.
لكن حنان سألتها أن تذهب معها فوافقت دنيا وتركتا هدى بمفردها وهما يعلمان أن مهما تركاها من الوقت لن تكون بمفردها مطلقا ففي جعبتها الكثير من الحكايات والقصص التي تشغل عقلها وفي جرأتها أو سذاجتها المقدرة على الحديث مع أي فرد تعرفه أو لا تعرفه.
اتخذتا مكانًا في زاوية الكافتيريا حتى غابتا عن أنظار هدى التي كانت تتبعهما.
فاجأتها حنان بسؤالها:
- إيه بقه؟ إيه موضوع عمر؟
دنيا: أنتِ هتمشي ورا كلام هدى ولا إيه؟ ما أنتِ عرفاها بترغي في أي هري.
حنان: لا مش همشي ورا كلام هدى مشيت ورا ارتباكك وخجلك كأنك لسَّا عروسة في العشرينات بتتعرف على حد علشان تحبه.
دنيا: أحبه؟!
حنان: آه تحبيه، أنا حسه بيكي.. زوج بعيد عنك، وعايشة لوحدك، أي ست محتاجة مشاعر وأحاسيس كتير، أنتِ مفتقداها، لكن يا دنيا ما ينفعش، ما ينفعش لأن زي ما قلت في الأول زوجة، في زوج لازم نحترمه.
دنيا: عارفة يا حنان ودا اللي تاعبني أكتر، أنا بتشد ل عمر بطريقة غريبة، الأول كان إعجاب، لكن دلوقتي أنا بتشد له ومش عارفة نهاية دا إيه.
حنان: نهايته حاجة من اتنين يا تكوني قوية وتكملي وتنفصلي عن الزوج اللي أصلا مش موجود وتكملي حياتك مع الشخص اللي ورّد خدودك ورجعك طفلة طايرة تاني، أو تنهي أي علاقة أو تفكير في عمر وتشتري خاطر ابنك.
دنيا: ابني اللي صعبان عليا مش عايزة أحرمه من أبوه رغم إنه مش بيشوفه غير كل فين وفين، لكن وجود أبوه مهم برضو، وكمان أهلي صعب يوافقوا على عمر، صعب لظروف كتير.
حنان: إيه هي؟!
دنيا: عمر رغم نجاحه في النادي إلا أنه فقير، ما عندهوش الفلوس اللي تخليه يفتح بيت وأسرة، مش بس كده، ازاي شاب لسَّا في أول حياته يتجوز بمطلقة، ازاي أنا أتطلق أصلًا علشان في واحد تاني غير زوجي في قلبي، لو حد عرف ده أكيد مش هيبقى عادي، دا غير ابني ازاي أوجهه؟ ازاي أقول له؟
حنان: طب لو لغينا كل الأفكار دي، أنت عايزاه ولا لأ؟
دنيا في سرعة:
- جدًّا، أقصد أن عمر هو الإنسان اللي حسيت معاه بالسعادة، نظرته فيها حاجة بتخلي جسمي كله يترعش، يتنفض من مكانه، بحس إنه دافي، هادي، مجنون، جواه حاجات كتير مش فهماها عايزة أكتشفها، حتى حضنه حساه مختلف.
حنان: حضنه؟! هو فيه بينكم حاجة؟
دنيا: لحد دلوقتي لأ، بس فعلا مشتاقة للإحساس دا جدًّا.
حنان: بس الأفضل الإحساس دا يكون في علاقة ما تندميش عليها.
تُطأطئ دنيا رأسها أرضًا قائلة: ادعي لي.
تربت حنان على كتفها وتدعو لها بصلاح الحال.
حنان: يلا بقى أحسن اتأخرنا على العيال وعلى المجنونة اللي هناك، وحاولي ما تحكيش معاها في حاجة أنتِ عرفاها لسانها عايز قصه.
دنيا: حاضر.