hindawiorg

Share to Social Media

تمدَّد ستراوت على مقعدٍ قابل للفرد، وقد خلع معطفه وصُدرته. ووقف البروفيسور شفانك
بجواره وفي يده جريدة ملفوفة على شكل مخروط فارغ. أمسك المخروط من قمته، وضغط
بفتحة المخروط الواسعة في قاعدته على وجه ستراوت، مغطيًا كلَّ وجهه ما عدا عينيه
وجبهته.
تنفسْ أنفاسًا طويلة وثابتة ومنتظمة. هذا » : قال البروفيسور بصوت هادئ رتيب
«! صحيح، هذا صحيح، هذا … صحيح، هكذا … هكذا … هكذا
مع كلِّ شهيق كان ستراوت يستنشق البرودة الواخزة اللطيفة لأبخرة الأثير. في البداية
كان تنفُّسه قسريٍّا: في نهاية كلِّ نفَس كان يشعر للحظة كما لو كانت مياه مندفعة
تتدفَّق عبر مخه. وبالتدريج امتدت فترة الشعور بالتدفق، إلى أن أضحت تبدأ مع بداية
كل نفَس. بعد ذلك بدا أن الأثير سيطر على تنفُّسه، وتحكم في انبساط وانقباض صدره
بعيدًا عن إرادته. كان الأثير يتنفس بالنيابة عنه؛ فسلَّم نفسه لتأثيره شاعرًا بالسعادة.
وباتت التدفقات إيقاعية، وقصرت الفترات الفاصلة بينها أكثر وأكثر. بدا أن تفرده قد
سأفقد » : غُلِّف بالتدفقات، وبأنه يتبعها جيئةً وذهابًا في السريان والانحسار. وقال في نفسه
وغرق وعيه في الفيضان الدوامي. «. وعيي بعد لحظة واحدة
أومأ البروفيسور شفانك إلى الدكتور ديجلمان، الذي ردَّ عليه بإيماءة مماثلة.
كان الدكتور ديجلمان عجوزًا نحيلًا ضئيل الجسم، يزن بالكاد أكثر من مائة رطل.
وكان يرتدي شعرًا مستعارًا أسود اللون، أكبر بكثير من رأسه. وكانت عيناه عميقتَين
تحت حاجبَين متغضنَين، ويحفر وجهَه خطَّان واضحان يسيران من زاويتَي أنفه إلى
زاويتَي فمه يضفيان على وجهه تعبيرًا ساخرًا هزيلًا، على نحو يتناقضبشدة مع البدانة

الظريفة للبروفيسور شفانك. كان الدكتور ديجلمانصَمُوتًا، لكنه قويُّ الملاحظة. عند إيماء
البروفيسور، فتح حقيبة أدوات الجراحة الخاصة به واختار مشرطًا ذا نصلٍ ملتوٍ حاد،
وأيضًا قطعة معدنية لامعة تُشبه الجزء اللولبي الدوَّار من مثقب النجار ولها مقبض.
وبعد أن تأكد بنفسه أن هذه الأدوات كانت في حالة جيدة، شمَّر عن ساعديه واقترب من
ستراوت الفاقد الوعي.
عند الخط الناصف تقريبًا، خلف نقطة التقاء » : همس البروفيسور شفانك بحماس
«. الدرز الإكليلي والدرز السهمي
«. نعم، أعرف … أعرف » : رد ديجلمان
كان على وشك قص بعض الشعر البني الذي يعوق إجراء العملية فوق قمة رأس
ستراوت بمشرطه، عندما فُتح الباب بسرعة من الخارج ودلفت منه سيدة شابة، بصحبة
خادمة، دون استئذان.
أنا بلانش » : أَعلنت السيدة الشابة للعالمَين المندهشَين بعد أن استردت أنفاسها مباشرة
«… بلجلوري. جئت كي
في هذه اللحظة لاحظت جسد ستراوت المُسجَّي على المقعد القابل للفرد، وقد جذب
انتباهها الأداة المعدنية اللامعة في يد الدكتور ديجلمان. أطلقت صرخة ضعيفة وجرت
نحوهم.
«. أوه، هذا فظيع! لقد تأخَّرتُ، وقد قتلتماه بالفعل » : صاحت قائلةً
أرجوكِ، هدئي من رَوعك. لا شيء فظيع في هذه الظروف » : قال البروفيسور المهذب
«. التي نَدِين لها بهذه الزيارة الجميلة من شابة ساحرة مثلك
يا له من » : أضاف الدكتور ديجلمان وهو يُكشِّر عن ابتسامة شيطانية ويفرك يديه
«! شرفٍ عظيم
وللأسف، لم تُثقَب جمجمة السيد ستراوت بعد؛ فقد كنا على » : واستطرد البروفيسور
«. وشك الشروع في العملية، عندما دخلتِ
أطلقت الآنسة بلجلوري زفرةَ ارتياحٍ وغاصت في أحد المقاعد.
شرح البروفيسور النظرية الكامنة وراء تجربته بكلمات قليلة مُنتقاة، مسهبًا بشكلٍ
خاصٍّ في الحديث عن التأثير الذي كان متوقعًا لها أن تُحدثه على قَدرَي الشاب والفتاة.
وعندما انتهى، كانت عينا الفتاة مغرورقتَين بالدموع، ولكن خطوط فمها الصارمة بيَّنت
أنها قد اتخذت قرارها بالفعل.

يا لنُبل أخلاقه، أن يُخضِع نفسه لجراحة يثقب فيها جمجمته من » : قالت متعجبة
أجل خاطري! ولكن هذا يجبُ ألَّا يحدث. لا يمكن أن أقبل أن يُشجَّ رأسه المسكين العزيز.
ما كنت لأسُامح نفسيعلى الإطلاق. تنبع المشكلة كلها من قراري بألا أتزوجه دون موافقة
«… أبي. ومن وجهة نظري الحالية للواجب، لا أستطيع أن أغُيِّر هذا القرار. ولكن ألا ترى
إنك إذا فتحت جمجمتي، فقد » : وواصلت حديثها خافضة صوتها إلى درجة الهمس قائلة
«؟ أرى واجبي من وجهة نظرٍ مختلفة
أجاب البروفيسور، ملقيًا نظرة ذات معنًى على الدكتور ديجلمان الذي ردَّ عليه بغمزة
«. هذا محتمل جدٍّا يا سيدتي الشابة العزيزة » : غير واضحة بالمرة
إذًا، فأرجوك أن » : قالت الآنسة بلانش وهي تنهضمن مكانها وتشرع في خلع قبعتها
«. تبدأ ثقب جمجمتي على الفور. أنا أصُرُّعلى ذلك
سأل الصوت العميق للدكتور بلجلوري المبجل، الذي كان قد دخل «؟ ما كل هذا »
جئت بأقصىسرعةٍ » : الغرفة دون أن يَلحظه أحد بعد أن أرشده إليها فريتس. ثم أردف
ممكنة يا بلانش، ولكن يبدو أنني لم آتِ مبكرًا بما يكفي لأعرفالدوافع المبدئية لتصرفاتك
«. الغريبة
«. أبي أيها السيدان » : قالت الآنسة بلجلوري
انحنى الألمانيان بلياقة، ورد الدكتور بلجلوري تحيتهما بأدبٍ جم.
هذان السيدان يا أبي تفضلا بأن يأخذا على » : وضَّحت الآنسة بلانش الأمر قائلة
عاتقَيهما مسئولية إنهاء الخلاف في الرأي بيننا وبين جورج المسكين وذلك عن طريق
عملية جراحية. أنا لا أفهمها على الإطلاق، ولكن جورج يفهمها، فقد وجد، كما ترى، أن
من الأفضل له الخضوع للجراحة، التي كانا على وشك إجرائها عندما وصلت. والآن، لا
يمكنني أن أسمح له بأن يعاني من جرَّاء عنادي؛ ولذا يا أبي العزيز، طلبت من السيدين
«. أن يفتحا جمجمتي أنا بدلًا منه
كرَّر البروفيسور شفانك على مسامع الدكتور بلجلوري الشرح الذي شرحه للفتاة
الشابة ليكون على علم بالأمر. وعندما علم الدكتور بلجلوري بما قرره ستراوت، تأثَّر جدٍّا.
لا يا بلانش، ليس على صديقنا الشاب أن يُجري العملية. على الرغم من أنني » : وقال
لا أستطيع في قرارة نفسيقَبوله كزوج لابنتي؛ نظرًا لاختلاف وجهة نظرنا فيصدق المعرفة
المادية اختلافًا جذريٍّا، فإنني أستطيع على الأقل أن أقتدي باستعداده النبيل لفتح عقله

للإيمان بمعتقدٍ جديد. أنا الذي سأخضع للعملية، فقط لو أن هذين السيدين النبيلَين قَبِلا
«. أن يأخذاني بدلًا من المريضالذي بين أيديهم
سيكون ذلك من دواعي » : قال البروفيسور شفانك والدكتور ديجلمان في وقت واحد
«. سرورنا
«! شكرًا جزيلًا! شكرًا جزيلًا » : صاح الدكتور بلجلوري بمشاعر حقيقية
ولكني لن أسمح لك بأن تُضحيَ بمعتقداتك » : لكن بلانش تدخَّلت في الحديث قائلة
وأصرالدكتور على أنه لا يفعل إلا «. التي تمسَّكت بها طوال حياتك من أجل سعادتي يا أبي
واجبه كأب. استمر الخلاف الودي بين الأب وابنته لبعضالوقت، وكان الألمانيان يستمعان
له بلامبالاة. فما داما على يقين من أن هناك من سيخضع لتجربتهما على أي حال، فلم
يعبآ أي الأمريكيين الثلاثة سيخضع لمشارطهما. وفي الوقت نفسه فتح ستراوت عينيه،
ونهضبجسمه ببطء معتمدًا على مرفقه، ونظر حوله في الغرفة لثوانٍ قليلة نظرة خاوية،
ثم استغرق مرة أخرى في سبات عميق، فاقدًا الوعي مؤقتًا.
أما البروفيسور شفانك، الذي أدرك أن كلٍّا من الأب والابنة مصران بالدرجة نفسها
على عزمهما، وأن كليهما من غير المرجح أن يتنازل للآخر، فقد كان على وشك أن يقترح
أن تُحلَّ المسألة بإخضاع الاثنين للجراحة، وفي هذه اللحظة استعاد ستراوت وعيَه مرة
أخرى. ونهض من رقدته جالسًا بظهر مفرود، ومحدقًا في الوعاء الزجاجي المحتوي على
مخ الشخص الوضعي. ثم ضغط بكلتا يديه على رأسه ناطقًا بضع كلمات غير مترابطة.
وتدريجيٍّا، وهو يسترد حاسة تلو الأخرى من براثن الأثير، لمعت عيناه وبدا أنه قد تَعرَّف
على الوجوه المحيطة به. وبعد بعضالوقت فتح شفتيه وتكلَّم.
«! رائع » : قال متعجبًا
اندفعت الآنسة بلجلوري نحوه آخذةً يده. وأسرع الدكتور متقدمًا نحوه، عازمًا على
إعلان قراره بإجراء عملية ثقب الجمجمة. ضغط ستراوت على يد بلانش بشفتيه للحظة،
وشدَّ على يد الدكتور بودٍّ، ثم أمسك بيد البروفيسور شفانك، وهزَّها بقوة تعبيرًا عن امتنانه
واحترامه الشديدين للبروفيسور.
«. عزيزي البروفيسور، كيف أردُّ لك هذا الجميل؟ لقد نجحت التجربة أيَّما نجاح » : قال
«… ولكن » : شرع البروفيسور في الحديث مذهولًا
لا تحاول أن تُقلِّل من شأن إسهامك في قدَرِي السعيد؛ فقد » : قاطعه ستراوت قائلًا
كانت النظرية نظريتك، ويرجع الفضل في النجاح العملي للتجربة لك ولمهارة الدكتور
«. ديجلمان

ثم استدار ستراوت، الذي كان لا يزال ممسكًا بيد بلانش، إلى والدها.
ليس هناك عقبات الآن أمام زواجنا يا دكتور. بفضل عملية البروفيسور » : وقال
شفانك، أرى الآن الخطأ الأعمى لآرائي السابقة حول الاستبطان. وأنا أعترف أمامكم
بخطئي. لم أعد وضعيٍّا. لقد تخطى عقلي الحدود الضيقة التي كانت تُقيِّده. وأنا الآن
أعرف أن هناك في فلسفتنا ما هو أكثر مما يمكن قياسه بالمسطرة المترية أو وزنه بميزان
كولوم. منذ أن استسلمت لتأثير الأثير، رحت أسبح في اللانهائية، وتحرَّرت من قيود الزمان
والمكان، وفقدت فرديتي في سبيل المجموع. عشرات المرات استغرقت في البراهما، وعشرات
المرات تحرَّرت منه، لقد أصبحت إنسانًا جديدًا، ونسيت ذاتي القديمة. لقد وقفت وجهًا
لوجه أمام الأوم الرهيب والصوفي، وطَفَت رُوحي الدنيوية، المنحدرة إلى المتناهي، بهدوء
فوق محيط من نبيذ الأفنتال. وقفز وعيي للماضيإلى أن وصل للقرن الثلاثين قبل ميلاد
المسيح وللمستقبل إلى أن وصل للقرن الأربعين. لا يوجد زمان، لا يوجد مكان، لا وجود
فردي، لا شيء سوى المجموع، والإيمان الذي يرشد العقل عبر الظلام الدائم. لقد ظلت
هُويَّتي لأكثر من مليون عام هي ذلك الوضعي المحبوس في الوعاء الزجاجي هناك. واسمح
لي يا بروفيسور شفانك، لكن هويتك ظلَّت لنفس الفترة الزمانية هي ذلك اللصفي الوعاء
الآخر. يا للسماء! كم كنتُ مخطئًا إلى الليلة التي تولَّيتَ فيها أنت يا سيدي البروفيسور
«. مصيري الفكري
صمت لوهلة ليلتقط أنفاسه، ولكن بريق نشوة الصوفي كان لا يزال يُضيء ملامحه
الوسيمة. وساد في الغرفة صمت حَرِج لفترة طويلة. ثم قطعه صوت الدكتور ديجلمان
أنت ترزح تحت نير وهمٍ سخيف مُنافٍ للحقيقة أيها الشاب. لم تُجرَ لك » : الجاف الخشن
«. العملية بعد
نظر ستراوت باندهاشلأصدقائه واحدًا تلو الآخر، ولكن وجوههم أكدت زعم الطبيب.
«؟ ماذا كان ذلك إذن » : قال لاهثًا
«. أثير السلفوريك » : رد الطبيب باقتضاب
لكن أيٍّا يكن، لا يهم الطريقة التي فتحت عقل صديقنا » : قاطعهما الدكتور بلجلوري
«. لإدراك الحقيقة. إن انتفاء الحاجة للعملية الجراحية مدعاة للتهنئة
سوف نفقد فرصة » : تبادل الألمانيان نظرات القلق، وهمس البروفيسور لديجلمان
أنصحك بأن تخضع » : ثم أكمل بصوتٍ عالٍ موجهًا حديثه لستراوت «. إجراء التجربة
للجراحة، على أي حال. لن يكون هناك شفاء ذهني دائم دونها، وسرعان ما ستزول آثار
«. الأثير هذه

رد ستراوت الذي نجح أخيرًا في قراءة التعبير البارد الأناني الذي يقبع خلف نظارة
«. شكرًا لك، شكرًا لك، أنا راضٍتمامًا عن نفسي كما أنا » : العالِم
«… لكن بإمكانك، من أجل العلم، أن توافق » : أصرشفانك
«. نعم، من أجل العلم » : كرر ديجلمان
فليذهب العلم إلى الجحيم. ألا تعرف أنني لم أعد أومِن » : أجاب ستراوت بعنف
«؟ بالعلم
بدأت بلانش أيضًا تفهم الدوافع الحقيقية وراء تدخُّل البروفيسور الألماني في علاقتها
الغرامية. وتطلعت إلى ستراوت بنظرة ملؤها الاستحسان والرضا عمَّا يقوله ونهضت كي
تغادر المكان. تحرك الأمريكيون الثلاثة تجاه الباب، وكزَّ البروفيسور شفانك والدكتور
ديجلمان على أسنانهما غضبًا. استدارت الآنسة بلجلوري وانحنت لهما بأدب.
إذا كان عليكما أن تثقبا رأسأحد من أجل العلم أيها السادة، » : وقالت بأعذب ابتسامة
«. يمكنكما إجراء قرعة لتحديد من منكما سيَثقب جمجمة الآخر
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.