hindawiorg

Share to Social Media

ذهب ستراوت وهو يُصفِّر من فندق برينس كارل متجهًا إلى شارع بلوك. استرجع وداعه
لعل هذا أفضل. فَقدْتُ حلمًا في الحياة، وأفسحتُ مجالًا أوسع » : لبلانش، وقال في نفسه
ورأى في الساعة المعلقة في السوق أن الساعة قد بلغت التاسعة والنصف، وأن «. للحقائق
البدر المكتمل المُطل على تل كونيجشتول يغمر المدينة والوادي بنوره. وفي أعلى جانب التل،
برزت أطلال القلعة العتيقة العملاقة بجسارة من بين الأشجار.
توقَّف عن الصفير وكزَّ على أسنانه.
تبٍّا! لا يَسَعُ المرءَ التخلي عن معتقداته كما يخلع زوجًا من الأحذية » : قال بصوتٍ عالٍ
غير المريحة. على أيِّ حال، ما الحب إلا انحلال جزيئات بعينها من المخ أو النخاع وإعادة
وإذ يقول ذلك «. تجميعها، ولا تزال القوانين الدقيقة التي تحكم ذلك غير معروفة يقينًا
مندفعًا في طريقه اصطدم بشخصٍبَدِين يسير في الشارع.
مرحبًا! سيد ستراوت، إلى أين تذهب بهذه » : قال البروفيسور شفانك بصوته المبتهج
«؟ السرعة، وبأي فسيولوجيا تتحدَّث إلى القمر
أنا أسير تحت تأثير ثلاث زجاجات من نبيذ أفنتال اللعين الذي نزل » : ردَّ ستراوت
إلى قدميَّ يا سيدي البروفيسور، وأغازل القمر. إنها علاقة غرامية قديمة تلك التي تربط
«. بيننا
«؟ ماذا عن صديقتك الأمريكية الجميلة » : تساءل البروفيسور البدين مقهقهًا
«. سترحل في قطار الصباح » : أجاب ستراوت بحزن
يا للسماء! وأعماك الحزن لدرجة أن تندفع مصطدمًا » : قال البروفيسور متعجبًا
«. ببطون الأكبر منك؟ فلتأتِ معي إلى شقتي، ولتُدخن إلى أن تصل إلى حالة عقلية فلسفية
كانت شقة البروفيسور شفانك تواجه مبنى الجامعة في لودفيج-بلاتس. استقرَّ
ستراوت في مقعدٍ وثير بذراعين، واضعًا في فمه غليونًا به نوعية ممتازة من التبغ؛ ومِن ثَمَّ

شعر بالانسجام التام مع محيطه. كان يجلس حينها في جوٍّ من النشاط العلمي الصحي
والعملي يُهدِّئ رُوحه. لقد ذهب البروفيسور شفانك أبعد من أبرز معاصريه في توضيح
الأساس الفسيولوجي المحض للعقل والفكر. واقترب أكثر من أيِّ رجل آخر في أوروبا
من أسرار هالة الأعصاب، وأعماق المخ، وندوب ذاكرة العقد العصبية. كان رأيه الفلسفي
يناقض، على سبيل المثال، رأي الدكتور بلجلوري المبجل. وعَكَست غرفة المكتب اهتمامات
الرجل. في أحد الأركان قبع ملف رومكورف ضخم، وتناثرت الكتب في كلِّ مكان … على
الأرفف وعلى المناضد وعلى المقاعد وعلى الأرض. كان ثمة صورة نصفية لأرسطو تُحدِّق
عبر الغرفة في وجه صورة نصفية للايبنتس. صور فوتوغرافية لجال وبابنهايم وليفينهوك
مُعلَّقة على الجدران. كان المكان يعجُّ بالحيوانات المُشرحة المطلية والمستحضرات المبتلة.
وفي وعاء زجاجي على المنضدة الموضوعة تحت مرفق ستراوت، كان يطفو مخُّ فيلسوفٍ
وضعي في كحول أصفر اللون، وبالقرب منه، أيضًا يتقلب في الكحول النخاع المستطيل
للصٍّمشهور.
كان منظر البروفيسور نفسه، وهو يجلس في مقعده الوثير أمام ستراوت، ساحبًا
سحابات الدخان بهدوء وسكينة من مبسم غليونه الصيني الطويل بلون الكهرمان؛ منظرًا
من النوع الذييُبشرسلفًا بالتعاطف، ويُغريبالدخول في أحاديث خاصة. ليسفقط وجهه
المتورِّد، المزين بلحيته الصفراء، بل أيضًا جسده الضخم ككلٍّ بدا أنه يُرسل لستراوت شعاعًا
من الود والألفة. بدا كملاذٍ لمكسوري الفؤاد. ومدفوعًا على الرغم منه بابتسامة البروفيسور
العطوفة المجامِلة وأسئلته الحصيفة المتحفِّظة، وجد ستراوت راحةً في البوح بكلِّ ما يعتمل
في صدره من هموم. استمع البروفيسور بصبر، وهو يُدخن في صمت، إلى القصة الطويلة.
ولو أن ستراوت كان أقل انشغالًا بمآسيه وآلامه، فلربما كان سيكتشف خلف هذا الاهتمام
الودود الذي الْتمع في عدسات نظارة البروفيسور الذهبية، عينَين صغيرتَين رماديتَين بلون
المعدن تراقبانه ببرود البحث العلمي الصارم الذي لا يلين.
«. ها قد رأيت يا سيدي البروفيسور أن حالتي ميئوس منها » : وأخيرًا قال ستراوت
«. زميلي العزيز، لستُ أرى شيئًا من هذا » : رد البروفيسور
لكنها مسألة اعتقاد. لا يستطيع المرء إنكار الحقيقة حتى إذا كان » : أوضح ستراوت
«. ذلك للفوز بزوجة. هي نفسها ستحتقرني إذا فعلت
في هذا العالم كل شيء حقيقي ولا شيء حقيقي. » : رد البروفيسور بحكمة وحصافة
«. يجب أن تغير معتقداتك

«! هذا مستحيل »
نفث البروفيسور سحابةً عظيمةً من الدخان وراقب الشاب بتعبير ينم عن الشفقة
والاندهاش، وبدا لستراوت أن أرسطو ولايبنتس وليفينهوك وبابنهايم وجال كلهم ينظرون
إليه بشفقة واندهاش.
أتقول مستحيل؟ على العكس يا بني العزيز، لا شيء أسهل » : رد البروفيسور شفانك
من أنْ يُغيِّر المرء معتقداته. في ظل الوضع الحالي المتقدم للجراحة، هناك صعوبة ضئيلة
«. للغاية
نظر ستراوت إلى معلمه المحترم نظرةً خاوية ذاهلة. واستأنف العالِم حديثه قائلًا:
ما تُطلق عليه معتقداتك ما هو إلا تكوين عقلي، يعتمد على ظروف عارضة. فأنت وضعي »
أو مثالي أو متشكك أو صوفي أو أيٍّا ما يكن، لماذا؟ لأن الطبيعة والميول وطريقة احتواء
العناصر العظمية جعلت جمجمتك أكثر سُمكًا في مكان ما، وأقل سُمكًا في آخر. وعندما
يضغط الجدار القحفي بشدة على المخ في بقعة معينة يجعلك تسخر من آراء صديقك
الدكتور بلجلوري. وعندما يتقيد نمو الأنسجة في بقعة أخرى يجعلك ترفض الإيمان
بفلسفة معينة. وأنا أؤكد لك يا سيد ستراوت، لقد اكتشفنا وصنَّفنا بالفعل الجزء الأكبر من
الأسباب الفيزيائية التي تحدد المعتقدات وتقيدها، ومِن ثَمَّ فإننا نعمل على اختزال النظام
«. بسرعة إلى يقين العلم
قاطعه ستراوت الذي كان رأسه يدور بفعل التأثير المركَّب لنبيذ أفنتال ودخان التبغ
أعجز عن فهم كيف يمكن أن يساعد ما تقوله في حالتي. » : والأفكار الجديدة المفاجئة
للأسف الشديد لم تَعُد عظام جمجمتي غضروفية كالرُّضع. ولا يمكنك تشكيل فكري
«. بواسطة الأربطة والعصابات
«! آه، ها أنت تُسيء لكبريائي المهني. لو أنك فقط تضع نفسك بين يدي » : صاح شفانك
«؟ وماذا سيحدث عندئذٍ »
عندئذٍ سأعُيد تشكيل تفكيرك ليناسب هذا الوضع الطارئ. » : ردَّ البروفيسور بحماس
تسألني كيف؟ إذا أصابتكضربة على رأسك وسقطت شظية من العظام في المادة الرمادية
التي تُبطِّن الدماغ، وأفقدتك الذاكرة، أو القدرة اللغوية، أو أي حاسة أخرى من الحواس،
أيٍّا كانت، فكيف سأواصل عملي؟ سوف أرفع جزءًا من العظام وأزيل الضغط. الأمر نفسه
عندما يحُد التكوين الفيزيائي للجمجمة قدرتك على فهم وتصديق الفلسفة التي يُصرعالِم
اللاهوت الأمريكي على وجودها في زوج ابنته. سوف أزيل الضغط، وأعطيك زوجة ساحرة،
«! في حين يكسب العلم حقيقة رائعة قيِّمة. هذا ما أعرضه عليك يا سيد ستراوت

«… بعبارة أخرى » : قال ستراوت
بعبارةٍ أخرى، » : صاح البروفيسور قافزًا من مقعده غير عابئٍ الآن بإخفاء حماسته
«. سوف أثقب جمجمتك
قال ستراوت ببطء، بعد أن سكت فترة طويلة، حاوَل خلالها اكتشاف السبب الذي
حسنًا سيدي البروفيسور … حسنًا » : جعل وجه جال المصور تبدو عليه نظرة انتصار
«. سيدي البروفيسور، أوافق على إجراء العملية. فلتثقب جمجمتي الآن … الليلة
التجهيزات » : اعترضالبروفيسور اعتراضًا فاترًا على التعجل في هذا المسار، وقال منبهًا
«. لا يجب أن تستغرق أكثر من خمسدقائق؛ فغدًا قد أغُيِّر رأيي » : فردَّ ستراوت «. الضرورية
هل تسمح » : كان هذا التلميح كافيًا لإجبار البروفيسور على التنفيذ الفوري، وسأل
وافق ستراوت «؟ لي بأن أرُسل في طلب زميلي المحترم في الجامعة الدكتور أنتون ديجلمان
«. افعل كلَّ ما تجدهضروريٍّا لنجاح التجربة » : قائلًا
رنَّ البروفيسور شفانك الجرس، وقال للخادم الأسود الذي يبدو على مُحيَّاه الغباء
أسرع عبر الميدان واطلب من الدكتور ديجلمان الحضور إليَّ فورًا، » : والذي ردَّ على الجرس
واطلب منه إحضار حقيبة أدوات الجراحة وأثير السلفوريك. وإذا وجدت الدكتور، فلستَ
«. مضطرٍّا للرجوع
مُنفِّذًا فكرة فجائية واتته، أخذ ستراوت ورقة ملقاة على منضدة البروفيسور وكتب
خذ! سلِّم » : عليها بضع كلمات بسرعة، وقال معطيًا الخادم قطعة ذهبية بعشرة ماركات
«. هذه الرسالة في فندق برينس كارل في الصباح … انتبه، في الصباح
كانت الرسالة التي كتبها كما يلي:
بلانش، عندما تصلك رسالتي سأكون قد حللت المشكلة بطريقة أو بأخرى. أنا
على وشك إجراء جراحة ثقب للجمجمة على يد صديقي البروفيسور شفانك.
فإذا أزُيلت العقبة الفكرية التي تحُولُ دون لمِّ شملنا بالعملية الجراحية فسوف
أتبعك إلى بافاريا وسويسرا. أما إذا لم تُسفر العملية عن النتائج المرجوة فتذكري
بالخير تعيسك.
جي إس
لودفيج-بلاتس، العاشرة والنصف مساءً

وصَّل فريتس الرسالة بإخلاص إلى الدكتور ديجلمان، ثم أسرع ناحية أقرب متجر
يا له من سيدٍ نبيلٍ سخيٍّ ولطيف! » : خمور، إذ أبهرته القطعة الذهبية. وقال في نفسه
عشرة ماركات لتوصيل الرسالة إلى برينس كارل في الصباح … عشرة ماركات، ألف بفنج،
ملأتْه ضخامة الأمل المرتقب «! وزجاجة الجعة بخمسة بفنجات أي مائتي زجاجة جعة
سوف أوُصِّل «. لن أنتظر حتى الصباح » : بالسعادة. كيف يُبدي امتنانه؟ فكَّر، وواتَته فكرة
فريتس، أنت شخصيقظ. أنت تُبلي بلاءً » : رسالة السيد الليلة، وعلى الفور. وسوف يقول
«. أحسن من المطلوب
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.