hindawiorg

Share to Social Media

انتُزع جسدي على الفور
بألمٍ يُثير الأسى،
أجبَرَني على بدء قصتي،
ثم حرَّرني.
ومنذ ذلك الحين، وفي ساعةٍ غير مُحدَّدة
يعود الألم،
وحتى أرويَ قصتي المريعة
يظل هذا القلب يَحترق بداخلي.
كولريدج ،« البحَّار العجوز » من قصيدة
سمعتُ أنه حينما تَحدُث لإنسانٍ مغامرةٌ غريبة أو خارقة للعادة أو سِحرية، فإن هذا
الشخص، مهما تكن رغبتُه في إخفاء الأمر، يشعر في فترات معيَّنة بأنه محطَّم بفعل زلزالٍ
فكري إن جاز التعبير، ويُضطرُّ إلى كشف أعماق رُوحه الدفينة لشخصٍ آخر. وأنا شاهد
على صحة ذلك. لقد قطعتُ على نفسي عهدًا غاليًا بألا أقصَّأبدًا على أذُُن بشرٍ الأهوالَ التي
سبَّبتُها لنفسي بسبب فرط كبريائي الشيطانية. وقد مات الرجل المقدَّس الذي استمع إلى
اعترافي وأعادني إلى الكنيسة؛ فلا أحد يعرف أنه ذات مرة …
لماذا ينبغي ألا يكون الأمر كذلك؟ لماذا تقصُّ قصة تحدٍّ غير وَرِع للقدر، وذلٍّ قاهر
للروح؟ لماذا؟ أَخبِرْني أيها العالِم بأسرار الطبيعة البشرية! أنا أعلم فقط أن الأمر هو هكذا،
تحوُّل
وعلى الرغم من العزم القوي، ومن الكبرياء التي تتملَّكني، ومن الشعور بالخزي، وحتى
من الخوف من أن أضع نفسي موضع احتقار بني جنسي؛ فلا بدَّ لي من أن أتحدَّث.
جنوة! مدينتي التي ولدتُ فيها وأفخر بها! ها أنا أنظر إلى أمواج البحر المتوسِّط
الزرقاء. هل تَذكرينني فيصباي، حينما كانت مُنحدراتُك وصخورك البارزة من مياه البحر
وسماؤك الصافية وكرومك المبهجة هي عالمي؟ كم كان وقتًا سعيدًا! فالقلب كان شابٍّا،
والعالم الضيِّق الحدود يُقيِّد طاقاتنا البدنية، ويفتح — بسبب هذا القيد نفسه — مجالًا
رحبًا للخيال، وتتَّحِد فترات الوحدة في حياتنا والبراءة والمُتعة. لكن، مَن ذا الذي يستطيع أن
يتذكَّر الطفولة ولا يتذكر مآسيها ومخاوفَها المريعة؟ لقد وُلدتُ برُوح هي الأكثر استبدادًا
وتعاليًا وجموحًا، لم تُمنح لبشرفانٍ قط. لم أرتجف إلا أمام والدي. ولأنه كان رجلًا كريمًا
ونبيلًا، وإن كان متقلِّب المزاج ومستبدٍّا، فقد عزَّز الرعونة الجامحة في شخصيتي وقمَعَها
في الوقت نفسه، جاعلًا الطاعةضرورية، وإن لم تَجلب أي احترام للدوافع التي كانت توجِّه
أوامره. كان أمل قلبي المتمرِّد ودعاؤه هو أن أصُبح رجلًا حرٍّا ومستقلٍّا، أو بالأحرى أن
أصُبح وقحًا ومُسيطرًا.
كان لوالديصديق ثري من نُبلاء جنوة، حُكِم عليه فجأة بالنفي في اضطرابٍ سياسي،
وصودرت أملاكه. ذهب الماركيز توريلَّا إلى المنفى بمفرده. كان أرمل مثل والدي، وكانت له
طفلة واحدة، هي جولييت الرضيعة تقريبًا، التي تُركت تحت وصاية أبي. ولولا أني كنت
مُجبَرًا على حمايتها، لأصبحتُ بالتأكيد سيدًا قاسيًا لهذه الفتاة اللطيفة. لقد أدَّت مجموعة
من الأحداث الطفولية إلى نتيجة واحدة، وهي أن تَراني جولييت ملاذًا آمنًا؛ وأن أراها
شخصًا سيهلك حتمًا، بسبب رهافة الشعور الغالِبة على طبعها، لولا رعايتي الحارسة.
كبرنا معًا، وكان جمال هذه الفتاة العزيزة يفوق جمال الوردة المتفتِّحة في الربيع. كان
وجهها يشع جمالًا. قوامها وخطوتها وصوتها … ما زال قلبي يَنتحِب حتى الآن حين أفكر
فيما حواه هذا الكائن الملائكي من اطمئنان ولطف ونقاء. حينما كنتُ في الحادية عشرة
من عمري وكانت جولييت في الثامنة، أظهر قريبٌ لي أكبر منا كثيرًا — وكان يبدو لنا
كأنه رجل — اهتمامًا كبيرًا برفيقة لعبي، وكان يُطلق عليها عروسَه، وطلب منها الزواج.
رفضَتْ، فأصرَّ، وجذبها نحوه على غير رغبتها. ألقَيتُ نفسي عليه وقد ارتسم الجنون على
وجهي وسيطر على مشاعري — وحاولتُ جاهدًا أن أستلَّ سيفه — وتعلَّقتُ في رقبته عازمًا
بشدة على خنقه، فاضطر إلى طلب المساعدة ليتحرَّر من قبضتي. في تلك الليلة، اصطحبتُ

جولييت إلى غرفة العبادة في منزلنا، وجعلتُها تلمسالآثار المقدسة، وخطفتُ قلبَها الطفولي،
ودنَّست شفتَيها الطفوليتَين بأن جعلتها تُقسم أن تكون لي، ولي وحدي.
حسنًا، انقضت تلك الأيام. وعاد توريلَّا بعد بضع سنين، وقد أصبح أكثر ثراءً وازدهارًا
مما كان. ولما بلغتُ السابعة عشرة تُوفيَِّ والدي، وقد كان معروفًا بشدة الإسراف، وابتهج
توريلَّا لأن كوني قاصرًا سيَسمَح له باستعادة ثرواتي. أعُلنت خطبتي أنا وجولييت بجوار
فراش أبي المُحتضر. وكان من المفترضأن يصير توريلَّا أبًا ثانيًا لي.
رغبتُ في رؤية العالم، وانغمستُ في رغبتي. سافرت إلى فلورنسا، وإلى روما، وإلى
نابولي، ومنها ذهبت إلى تولون، وبعد فترة طويلة وصلتُ إلى ما كان لوقت طويل مُنتهى
أمنياتي؛ إلى باريس. في ذلك الوقت، كانت باريس تعجُّ بأحداث صاخبة؛ فقد أصبح الملك
المسكين شارل السادس مسخرةً بين البشر؛ إذ كان تارةً عاقلًا، وتارةً مجنونًا، وتارةً
ملكًا، وتارةً عبدًا ذليلًا. وكانت الملكة، ووريث العرش، ودوق بورجندي — الذين كانوا
يَتناوَبون الصداقة والعداوة، فتارة يَلتقون في احتفالات باذخة، وتارة يسفكون الدماء وهم
يَتنافسون — غافلين عن حالة البلاد البائسة، والأخطار المُحدِقة بها، وتفرَّغوا بالكامل
للملذات المنحلَّة أو للصراع الوحشي. تبعتني شخصيتي أينما ذهبت؛ فقد كنت مغرورًا
وعنيدًا، ومحبٍّا للتفاخر، وفوق كل هذا رميتُ كل أنواع السيطرة خلف ظهري. فمَن يُمكنه
أن يُسيطِر عليَّ في باريس؟! تحمَّس أصدقائي الشباب لتعزيز كل شغف يَغمُرهم بالمُتَع.
كنتُ أعُتبر وسيمًا، وكنتُ سيد كل مُغامرات الفروسية. لم تكن لي علاقة بأي حزب سياسي،
وأصبحتُ مفضَّلًا على الرغم من العجرفة والغرور، فقد عُذِرتُ بسببصِغَر سني، وأصبحتُ
طفلًا مدللًا. من ذا الذي كان يستطيع التحكُّم بي؟! ليسخطابات توريلَّا ونصائحه، وإنما
الحاجة الماسة التي تَزورني في الصورة المُخيفة لمحفظة خاوية. ورغم ذلك، كانت تُوجد
وسيلة لإعادة ملء الوفاض الخالي. بعتُ فدانًا تلو الآخر، وعزبةً تلو الأخرى. وتقريبًا لم
يكن يُضاهي ملابسي ومجوهراتي وخيولي وأغطيتها مثيل في باريس البهيَّة، بينما كانت
الأراضيالتي ورثتُها تَنتقِل إلى حوزة الآخرين.
تربص دوق بورجندي بدوق أورليانز وقتله، واستحوذ الخوف والرُّعب على باريس
كلها، والتزم وريث العرش والملكة الصمت، وأوُقفَت كل المباهج. وانتابني القلق من هذه
الحالة، وحنَّ قلبي إلى مراتع صباي. كنت شبه مُتسوِّل، لكن كان بإمكاني الذهاب إلى
هناك، مع ذلك، والمطالَبة بعروسي، وإعادة تكوين ثروتي. كان يُمكن لبضع مجازفات
محظوظة أن تجعلني ثريٍّا مرة أخرى. ورغم ذلك، فلم أكن لأعود بمظهر متواضع، وكان

آخر ما فعلتُ هو التخلُّصمن الضيعة الباقية القريبة من ألبارو مقابل نصف ثمنها كي
أحصل على مالٍ نقدي. وبعد ذلك، أرسلتُ كل أنواع العُمال المهرة، والأقمشة المطرَّزة، وأثاثًا
تبدو عليه الأبهة الملَكية، من أجل تجهيز قصري في جنوة، وهو آخر أثرٍ من إرثي. إلا أنني
مكثتُ هنا قليلًا خجلًا من دور الابن الضال العائد الذي خشيتُ أن أمثِّله. أرسلتُ الخيول؛
وأرسلت حصانًا إسبانيٍّا لا مثيل له إلى عروسي الموعودة، وكانت كسوتُه تبرق بالجواهر
جولييت » — والقماش المنسوج من خيوط الذهب، وجعلتُ الحرفَين الأولين من اسمَيْنا
يُنقشان متشابكَين على كل أجزاء الكسوة. ولقيَتْ هديتي استحسانًا في عينها — « وجويدو
وعين أبيها.
لكن تصوُّر أن أعود مسرفًا مذمومًا في نظر الناس، رمز الزهو المُتبجِّح، وربما الازدراء،
وأن أواجه ملامات أبناء وطني أو تهكُّماتهم بمفردي لم يكن مغريًا. ولأتَّقي الاستهجان،
دعوتُ ثلة من رفاقي الأكثر طيشًا ليَصحبوني، وهكذا ذهبت متسلِّحًا ضد العالَم، أخُفي
غصة من الخوف والندم وراء ستار من التبجُّح والإظهار الوَقِح للغرور المُشبَع.
وصلت إلى جنوة. ووطأتْ قدمي رصيف قصر أجدادي. ولم تكن خُطوتي الفخورة
تُعبِّر عما يجيشفي قلبي؛ لأنني شعرتُ من أعماقي، وإن كنت محاطًا بمظاهر الترف، بأني
متسوِّل. ولا بد أن أول خطوة أتخذها في طلب يد جولييت ستَكشِف بجلاء أنني مُتسول.
قرأتُ الازدراء أو الشفقة في نظرات الجميع. تخيَّلتُ، وهكذا يتخيل الوعي ما يستحقه، أن
الغني والفقير، والشاب والعجوز، يَنظرون إليَّ باستهزاء. لم يقترب مني توريلَّا. ولا عجب
في أن يتوقَّع والدي الثاني مني احترام الابن، المُتمثِّل في أن أبادر أنا بزيارته. لكنني، بسبب
الغضب والحنق النابعَين من الإحساس بحماقاتي ورذيلتي، اجتهدتُ في إلقاء اللوم على
الآخرين. أقمنا الحفلات الصاخبة في بالاتسو كاريجا كل ليلة، وتبع كل ليلة من الليالي
الصاخبة الخالية من النوم، صباحٌ مفعم بالإرهاق والكسل. وفي آفي ماريا استعرَضنا
أجسادنا الجميلة في الشارع، وضحكنا من المواطنين غير الثَّمِلين، ورمقنا بنظرات وقحة
النساءَ اللاتي كنَّ يتحاشَينَنا. ولم تكن جولييت بين هؤلاء النساء، كلا، كلا، فلو كانت هناك
لابتعدتُ خجلًا، إن لم يَرمِني الحب أسفل قدمَيها.
سئمتُ ذلك، وقمت بزيارة مفاجئة للماركيز، وكان في إحدى فيلاته الكثيرة المُنتشرة في
ضاحية سان بيترو دارينا. كان ذلك في شهر مايو؛ شهر مايو في هذه الجنة الأرضية حيث
يتوارى نُوَّار أشجار الفاكهة بين الأوراق الخضراء الكثيفة، وتتسلَّق النباتات المعترشة،
وتعج الأرضبزهور الزيتون المتساقطة، وتنتشرالفراشات المضيئة على سياج نبات الآس،

وترتدي السماء والأرض عباءة من الجمال الفائق. رحَّب بي توريلَّا بلطف، وإن كان
بصرامة، وسرعان ما اختفت لمحة الاستياء التي اكتنفته. رقَّق تشابُه الملامح بيني وبين أبي،
ونبرة سذاجة الشباب التي لم تزل تسكنُني رغم أفعالي السيئة، قلب العجوز الطيب. أرسل 1
في طلب ابنته، وقدَّمني لها بصفتي خطيبها. بُوركت الغرفة بنور مقدَّس بمجرد دخولها.
كانت ملائكية المظهر، ذات عينين واسعتَين وحنونتَين، يَرتسِم على خدَّيها غمازتان، وكان
فمها حلوًا مثل الأطفال، فصارت تجسيدًا للاتحاد النادر بين السعادة والحب. وتملَّكني
الإعجاب في البداية، أما كونها لي فكان ثاني مشاعر الفخر التي اعترَتْني، وزُمَّت شفتاي في
انتصار مُتكبِّر. لم أكن لأستحق أن أكون الفتى المدلَّل (أو الحبيب المدلل في هذا السياق)
لدى جميلات فرنسا لو لم أتعلم فن إرضاء قلب المرأة الرقيق. وإذا كنتُ شخصًا لا يُطاق
فيما يخصالرجال، فإنني على النقيض، أظُهر قدرًا أكبر من الاحترام للنساء. بدأتُ التودُّد
بترديد الكثير من عبارات الغزل على مسمعَي جولييت التي لم تقبَل مطلقًا بالحب الذي
أبداه لها الآخرون؛ لأنها تعهَّدت أن تكون لي منذ الطفولة، والتي لم تزل مبتدئة في لغة
المحبِّين، وإن اعتادت سماع تعبيرات الإعجاب
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.