تراودني ذكرى مشوَّشة في عقلي لحديثٍ سمِعْتُه من صديقي إدوارد مالون، الصحفي
بالجريدة الرسمية، عن البروفيسور تشالنجر الذي شاركه بعض المغامرات الرائعة. غير
أنني غارق حتى أذنَيَّ في عملي، وشركتي مثقلة بالطلبات، حتى إن معرفتي بما يدور في
العالم لا تتجاوز نطاق اهتماماتي الخاصة إلا قليلًا. كل ما أذكره هو الصورة التي وُصف
بها البروفيسور تشالنجر؛ باعتباره عبقريٍّا متهوِّرًا ذا طِباعٍ تميل إلى العنف والتشدُّد، لا
يعرف إلى التسامح سبيلًا. ولكم كانت دهشتي عظيمةً حين تلقَّيتُ منه رسالةَ عملٍ جاءت
على النحو التالي:
١٤ (مكرر)، إنمور جاردنز، كنسينجتون
سيدي
أنا بحاجة إلى الاستعانة بخدمات خبيرٍ في الحفر الارتوازي. لا أخفيك سرٍّا أن
رأيي في الخبراء ليس بالرأي الجيد، وأنني عادةً ما أرى أن رجلًا مثلي ذا عقلية
راجحة، يمكن أن تكون له رؤيةٌ أصح وأشمل ممن تخصَّصفي فرع بعينه من
المعرفة (والذي، وللأسف، غالبًا ما يكون مجرَّد مهنة يتكسَّب منها)؛ ومن ثَمَّ
فهو محدود الأفق. ومع ذلك، فأنا على استعداد لأن أجرِّبك. حين اطَّلعتُ على
قائمة أهل الثقة في مجال الحفر الارتوازي، وجدتُ في اسمك شيئًا غريبًا — كدتُ
أكتب شيئًا سخيفًا — جذب انتباهي، وبعد البحث تبيَّن لي أن صديقي الشاب،
السيد إدوارد مالون علىصلة بك بالفعل؛ لذلك أكتب إليك لأخبرك بأنني يسعدني
أن أجُريَ معك مقابلةً، وأنك إذا كنت على قدر متطلباتي وشروطي — ومعاييري
ليست بالمعايير المتوسطة — فقد تكون لدي رغبة في أن أضعَ بين يديك أمرًا
عندماصرخت الأرض
على قدْرٍ بالغ من الأهمية. لا يمكنني الخوضُفي تفاصيلَ أكثر في الوقت الحالي؛
إذ إن الأمر بالغ السريَّة بحيث لا يمكن مناقشتُه إلا شفاهةً؛ لذلك ألتمس منك
إلغاء أي ارتباط لديك وزيارتي في العنوان السابق ذِكرُه في العاشرة والنصف
صباح الجمعة القادم. يوجد على الباب مِكشطة للأحذية وكذا مِمْسحة للأرجل،
مع ملاحظة أن السيدة تشالنجر أنيقة لأقصىالحدود.
سأظل، كما كنتُ دائمًا.
جورج إدوارد تشالنجر
سلَّمتُ هذا الخطاب إلى مدير مكتبي للرَّد عليه، وأخطر البروفيسور بدوره أن السيد بيرلس
جونز يُسعِده الالتزام بالموعد المحدَّد. كان خطابَ عمل مهذبًا تمامًا، لولا أنه بدأ بعبارة
«.( وصلنا خطابكم (غير المؤرَّخ »
فقد جرَّت هذه العبارة رسالةً أخرى من البروفيسور:
سيدي، لقد لاحظتُ في رسالتك انتقادًا لتلك » : قال وقد بدت كلماته كأسلاك شائكة
التفصيلة الفارغة بخصوص عدم تأريخ خطابي. هل لي أن ألُفتَ انتباهك إلى حقيقة أن
حكومتنا قد اعتادت لصقَ علامةٍ دائرية صغيرة أو الخَتم على الظَّرف من الخارج لبيان
تاريخ إرسال الخطاب، مقابلَ الضرائب الباهظة التي تفرضها؟ في حال فقدان هذه العلامة
أو عدم وضوحها، سوف يكون تعويضك مسئولية هيئات البريد المعنيَّة. في الوقت ذاته،
ألتمس منك أن تُقصِرملاحظاتك على الأمور المتعلِّقة بالعمل الذي أستشيركم بخصوصه،
«. والتوقُّف عن التعقيب على الشكل الذي تتخذه خطاباتي
بات واضحًا لي أنني أتعامل مع شخص مختل؛ لذا فكَّرت مليٍّا — قبل المضي في
أي خطوة أخرى في هذا الشأن — أن أعُرِّج على صديقي مالون، الذي أعرفه من الأيام
الخوالي، حين كان كلانا يلعب الرجبيضمنصفوف فريق ريتشموند. وجدته نفسالرجل
الأيرلندي المَرِح كما عهدته دائمًا، وسُرَّكثيرًا حال ورود أول ذكر لتشالنجر في حديثي.
كل هذا لا شيء يا صديقي. سوف تشعر كما لو أنك تُسلخ حيٍّا حين تظل » : قال
«. برفقته خمس دقائق. لا أحدَ في العالم يفوقه عدائيةً
«؟ ولماذا ينبغي أن يتحمَّل العالم ذلك »
إنهم لا يتحملون. فلو أنك جمعت كل دعاوى القذف والتشهير، وكل المشاجرات »
«… وقضايا الاعتداء المنظورة أمام محكمة الجنح
«! اعتداءات »
مهلًا، إنه لن يتردد لحظة في إلقائك من أعلى الدَّرَج إذا لمس منك مخالفةً له في الرأي. »
إنه إنسان بدائي من عصر الكهوف في حُلَّة عصرية، لكأني أراه ممسكًا هراوة في يد وفي
الأخرى قطعة مسنَّنة من حجر الصوان. بعض الناس يعيشون خارج إطار زمنهم بمائة
عام، أما هو فخارج إطار زمنه بألف عام؛ إنه ينتمي إلى أوائل العصرالحجري الحديث أو
«. نحو ذلك
«! وتقول إنه بروفيسور »
ذاك هو العجيب في الأمر! إنه العقل الأعظم في أوروبا، تدفعه قوةٌ يمكنها أن تحوِّل »
أحلامه كافة إلى حقائق. إنهم يبذلون كل ما في وُسعِهم لوضع العراقيل أمامه؛ نظرًا لما
يُضمِره له زملاؤه من كراهية شديدة، ولكن كم من مراكبصيدصغيرة قد تحاول اعتراض
«. طريق أعتى السفن! إنه يتجاهلهم فحسب، ويمضيفي طريقه دون الالتفات إليهم
حسنًا، الشيء الجلي لي الآن أنني لا أريد أن يكون لي أيما صلة به. سوف ألغي » : قلت
«. ذلك الموعد
لا، بل على العكس تمامًا. سوف تذهب حسب الموعد المتَّفق عليه بالدقيقة؛ وتذكَّر أن »
«. عليك أن تلتزم به بالدقيقة، وإلا فسترى ما لا تُحمد عقباه
«؟ ولمَ عليَّ الذهاب »
حسنًا، سوف أخبرك. أولًا، لا تأخذ كلَّ ما رويته لك بشأن تشالنجر العجوز بجدية »
أكثر مما ينبغي؛ فكل مَن يتقرَّب منه يتعلَّم أن يحبه. لا ضرر حقيقي من دُبٍّ عجوز.
أذكر أنه حمل رضيعًا هنديٍّا مصابًا بالجدري على ظهره مسافة مائة ميل من أقصىالبلاد
حتى نهر ماديرا. إنه عظيم في كل شيء، ولن يُلحِق بك أذًى إن تعاملت معه على النحو
«. الصحيح
«. لن أتيح له الفرصة »
سوف تكون أحمقَ إن لم تفعل. هل سمعت من قبلُ عن لغز هينجست داون؛ ذلك »
«؟ النفق الرأسيعلى الساحل الجنوبي
«. إنها بعثة استكشافيةسرِّية للتنقيب عن الفحم، على حدِّ علمي »
حسنًا، لتُسمِّها كذلك إن شئت. تعلم أنني من الموثوق فيهم » : غمز مالون بعينه وقال
لدى ذلك العجوز، ولا يمكنني الإفصاح عن أي شيء حتى يأذن لي، ولكن يمكنني أن
أصرِّح لك بهذا؛ إذ إنه نُشر في الصحف. ثمَّة رجلٌ يُدعى بيترتون، يملك ثروة ضخمة،
ترك تَرِكَته بالكامل لتشالنجر قبل بضع سنوات، شريطة أن تُستغَل في صالح العلم،
وتبيَّن أنها تَرِكةٌ ضخمة قُدِّرت بعدة ملايين. بعد ذلك اشترى تشالنجر أرضًا في هينجست
داون، في ساسيكس؛ كانت أرضًا بخسة على الطرف الشمالي من منطقة التلال الجيرية،
واشترى قطعةً كبيرة منها، أحاطها بأسلاك شائكة، وكان في منتصفها أخدود عميق، بدأ
وأعلن أن هناك نفطًا في إنجلترا، وأنه يعتزم » : ثم غمز مالون ثانيةً وأردف «. التنقيب منه
إثبات صحة ذلك. فشيَّد قرية نموذجية صغيرة شغلها بجماعة من العمال، وأجزل لهم
الأجر، وأقسموا جميعًا ألا ينبسوا ببنت شفة. وأحاط الأخدود بالأسلاك الشائكة، تمامًا كما
فعل بالأرض، وحمى المكان بالكلاب البوليسية الضخمة. كم من صحافيين كادوا يفقدون
أرواحهم، فضلًا عن فقدان مؤخرة سراويلهم، بسبب هذه المخلوقات. إنها عملية ضخمة،
وتتولاهاشركة سير توماس موردن، ولكنهم أيضًا أقسموا على التزام السرِّية. من الواضح
أن أوان الاحتياج إلى مساعدة خبراء الحفر الارتوازي قد حان. الآن، ألن تكون أحمقَ إذا
رفضت مهمةً كهذه، بكل ما تحمله من أهمية وخبرة، بالإضافة إلى شيكٍ يحمل رقمًاضخمًا
في نهايتها؛ فضلًا عن المقابلة والتعامل المباشر مع أروع رجل قابلته على الإطلاق أو قد
«؟ تقابله
أقنعتني حجج مالون، وفي صباح يوم الجمعة كنت في طريقي إلى إنمور جاردنز،
وحرصت تمام الحرصعلى الوصول في الموعد المحدَّد، حتى إنني وجدت نفسي على الباب
قبل الموعد بعشرين دقيقة. كنت منتظرًا في الشارع حين خطر لي أنني أعرف السيارة
الرولز رويس التي تحمل شعارًا بسهم فضي والتي تقف عند الباب. لا شكَّ أنها كانت
تخصُّجاك ديفونشير، الشريك الأصغر فيشركة موردن العظيمة. طالما عهدتُه رجلًا شديد
التحضروالكياسة؛ ولذلك كان الأمر بمثابة صدمة لي عندما ظهر فجأة، ورأيته واقفًا على
«! تبٍّا له! تبٍّا له! عليه لعنة الرب » : الباب رافعًا يديه إلى السماء، قائلًا بحرارة وحرقة
«. ما الخطب يا جاك؟ تبدو ناقمًا هذا الصباح »
«؟ مرحبًا بيرلس! هل أنت هنا من أجل هذه المهمة أيضًا »
«. هناك احتمال أن أشارك بها »
«. حسنًا، ستجد الأمر وكأنه تهذيب للنفس »
«. أكثر مما يمكن لنفسك أن تتحمله، على ما يبدو »
البروفيسور يريدني » : حسنًا، أنت على حق؛ لقد كانت رسالة كبير الخدم لي كالتالي »
أن أخبرك يا سيدي، بأنه مشغول الآن بتناول بيضة، وأنك لو جئت في وقت أكثر ملاءمة،
تلك كانت الرسالة التي أبلغني إياها خادم. أود أن أزيد أنني «. لكان من الوارد أن يقابلك
«. قد جئت لاسترداد اثنين وأربعين ألف جنيه يدين لنا بها
أطلقتُ صافرة اندهاش.
«؟ ألا يمكنك أن تتحصَّل على أموالك »
أوه، بلى، لا غبار على الرجل فيما يتعلق بالمال. من الإنصاف أن أقول إنه سخي اليد »
بخصوص المال، ولكنه يدفع حين يشاء وكيفما شاء، ولا يعبأ بأحد. ومع ذلك، عليك أن
ثم ألقى بنفسه داخل سيارته وانطلق مسرعًا. «. تذهب وتجرِّب حظك وتنظر ماذا سترى
ظللت منتظرًا أرمق ساعتي من حين لآخر حتى حانت ساعة الصفر. أنا شخصضخم
الجثة نوعًا ما، إن كان لي أن أقول ذلك، وحللتُ ثانيًا في مسابقات الملاكمة للوزن المتوسط
في نادي بلسايز للملاكمة، بيد أنني لم يسبق لي أن واجهت لقاء بمثل هذا القدْر من الرهبة؛
لم تكن الرهبة منشيء بدني؛ إذ كنت واثقًا أن بمقدوري الصمود والمقاومة حال هاجمني
هذا المختل المُلهَم، بل كانت مزيجًا من المشاعر اختلط فيه الخوف من مواجهة فضيحة
علنية مع الخوف من ضياع عَقْد مجزٍ. غير أن الأمور دائمًا ما تصير أيسر حين يتوقَّف
الخيال ويبدأ الفعل. أغلقت ساعة اليد التي أحملها واتجهت صوب الباب.
فتح البابَ خادم ذو وجه خشبي، يحمل تعبيرًا — أو بالأحرى يخلو من أي تعبير —
يترك لديك انطباعًا بأنه متمرِّس على الصدمات حتى إنه لاشيء على وجه الأرضيمكن أن
يثير في نفسه أي دهشة.
«؟ ألديك موعد يا سيدي » : سألني
«. بالتأكيد »
نظر إلى قائمةٍ كانت بيده.
ما اسمك يا سيدي؟ … بالضبط، السيد بيرلس جونز … العاشرة والنصف. كلشيء »
مضبوط. لا بد أن نكون حذرين يا سيد جونز؛ فنحن نتعرَّض لمضايقات كثيرة من قِبَل
الصحفيين. والبروفيسور، كما تعلم، لا يستسيغ الصحافة. من هنا يا سيدي. البروفيسور
«. تشالنجر في انتظارك الآن
في اللحظة التالية وجدت نفسي في حضرته. أظن أن صديقي، تيد مالون، قد وصف
أفضل مما قد أتمنى؛ ومن ثَمَّ سأدعني من وصفه. كل « العالَم المفقود » الرجل في روايته
ما كنت أعيه جِذعًا ضخمًا لرجل جالس خلف مكتب من الماهوجني، له لحية سوداء كثة
كبيرة تشبه المجراف، وعينان رماديتان كبيرتان يغطي نصفهما جَفنان متهدلان يَنُمَّان عن
صلف وغطرسة. كان رأسه الكبير مائلًا إلى الوراء، بينما انتصبت لحيته إلى الأمام، وكان
مظهره العام يرسل انطباعًا بالتشدُّد المتغطرس. كانت هيئته بالكامل وكأنما كُتب عليها:
وضعتُ بطاقة عملي على الطاولة. «؟ حسنًا، ماذا تريد بحق الجحيم »
آه، نعم. » : قال وهو يلتقطها ويقلِّب فيها كأنما يشتم رائحة بغيضة تفوح منها
بالطبع أنت ذلك الخبير المزعوم؛ السيد جونز، السيد بيرلس جونز. ربما عليك أن تشكر
«. عرَّابك، يا سيد جونز؛ إذ كان ذلك الاسم الأول المضحك هو أول ما جذب انتباهي إليك
أنا هنا لمقابلة عمل، يا بروفيسور تشالنجر، » : قلتُ مستجمعًا كل ما أستطيع من إباء
«. وليس للنقاش بشأن اسمي
يا إلهي! تبدو شخصًا شديد الحساسية يا سيد جونز. إن أعصابك تعاني حالة بالغة »
من الانفلات. لا بد إذًا أن نحذر في التعامل معك يا سيد جونز. رجاء اجلس وتمالك نفسك.
«؟ لقد كنت أقرأ كُتيِّبك الصغير بشأن استصلاح شبه جزيرة سيناء. هل كتبته بنفسك
«. بالطبع يا سيدي؛ إنه يحمل اسمي »
تمام! تمام! ولكن ذلك لا يصح دومًا، أليسكذلك؟ ومع ذلك فأنا على استعداد لقبول »
زعمك. الكتاب ليس بلا فائدة على الإطلاق؛ فخلْف رتابة التعبير تقع عينُ المرء على فكرةٍ
«؟ ما من حين لآخر. ثَمَّة بذورُ فكر متناثرة هنا وهناك. هل أنت متزوج
«. كلا يا سيدي، لست متزوجًا »
«. إذًا ثمة إمكانية لأن تحفظسرٍّا ما »
سنرى. إن صديقي » : ردَّ قائلًا «. لو تعهدتُ بأن أحفظه، فلا شك أنني سأفي بعهدي »
إنه » . كان يتحدَّث عن تيد مالون كأنهصبيٍّا في العاشرة «. الصغير، مالون، له رأي طيب فيك
يقول إن بإمكاني الوثوقُ بك. وهذه الثقة كبيرة للغاية؛ إذ إنني منخرط الآن في واحدة من
«. أعظم التجارب — بل أعظم التجارب على الإطلاق — في تاريخ العالم، وأطلب مشاركتك
«. شرف لي »
هوشرف بالفعل. أعترف بأنه لم يكن ينبغي أن أطُلِع أحدًا على مجهوداتي، لولا أن »
الطبيعة الضخمة للمشروع تتطلب أعلى قدْر من البراعة التقنية. الآن، يا سيد جونز، بعد
أن حصلت منك على وعد بالحفاظ على السرِّية المطلقة، سوفأدخل في الموضوع؛ والموضوع
هو أن هذا العالم الذي نحيا عليه هو في ذاته كائن حي، وُهِب، حسبما أعتقد، دورةً دمويةً،
لقد كان الرجل معتوهًا لا ريب. «. وجهازَ تنفُّس، وجهازًا عصبيٍّا
لعلي ألاحظ أن عقلك عاجزٌ عن الاستيعاب، ولكنه سيستوعب الفكرة » : أردف قائلًا
تدريجيٍّا. لعلك تذكر كيف أن الأراضيالمعشوشبة أو المروج تشبه الجانب المشعر لحيوان
ضخم. ثَمَّة تناظرٌ معيَّن يسري عبْر جوانب الطبيعة بأسرها. بعدها فكِّر في ارتفاع الأرض
وهبوطها، الذي يشير إلى التنفُّسالبطيء لهذا الكائن، وأخيرًا، لاحِظ حركات التململ والحك
«. التي تظهر لمدركاتنا المتواضعة بوصفها زلازلَ وهزاتٍ
«؟ وماذا عن البراكين » : سألت
«. أووه! إنها تُناظر بقعَ الطفح الحراري على أجسامنا »
دار عقلي كمن سقط في دوامة بينما كنت أحاول إيجاد ردٍّ على هذه الآراء الرهيبة.
الحرارة! أليست حقيقة أنها ترتفعسريعًا عندما ينزل المرء إلى الطبقات » : صِحتُ قائلًا
«؟ السفلية، وأن مركز الأرضحرارةٌ سائلة
فقوَّضزعمي تمامًا.
لعلك تعي، يا سيدي، بما أن المدارس الحكومية قد صارت إلزامية الآن، أن الأرض »
مسطحةٌ عند القطبين. وهذا يعني أن القطب أقربُ إلى المركز من أي نقطة سواه، ومن ثَمَّ
يتأثر بهذه الحرارة التي تحدثت عنها. ومن المعروف، بالطبع، أن المناطق القطبية ذات
«؟ ظروف جوية استوائية، أليس كذلك
«. إن الفكرة بِرُمَّتها جديدة عليَّ »
هي كذلك بالطبع. إن ميزة المفكِّر المبدع تكمُن في طرح الأفكار الجديدة التي عادة لا »
كان يحمل شيئًا صغيرًا «؟ تلقى قبولًا لدى الشخصالعادي. والآن يا سيدي، قل لي ما هذا
التقطه من فوق الطاولة.
«. أظنه قُنفُذَ بحر »
وحملت نبرةُ صوته دهشةً مبالغًا فيها، مثلما يحدث حين «! بالضبط » : صاح قائلًا
إنه قُنفُذ بحر؛ قُنفُذ بحر عادي. إن الطبيعة » : يبدي طفلٌصغير مهارةً فيشيءٍ ما؛ ثم أردف
تُكرِّر نفسها في أشكال عديدة بصرف النظر عن الحجم. وهذا القُنفذ نموذج مصغَّر، مجرَّد
نموذج أوليٍّ للعالم. لعلك تدرك أنه مستديرٌ تقريبًا، ولكنه مفلطح عند القطبَين. دعنا إذًا
«؟ نَعُدُّ العالم قُنفذَ بحرٍ ضخمًا. ما اعتراضاتك
كان اعتراضي الأول أن الأمر أسخف من أن يُناقش، ولكني لم أجرؤ على التصريح
بذلك؛ فأخذت أبحث عن زعم أقل تهورًا.
«؟ أي كائن حي بحاجة إلى الطعام؛ من أين للعالم تغذيةُ جسده الضخم ذاك » : قلتُ
نقطة ممتازة، رائع! لديك عينٌ تلتقط » : قال البروفيسور بنبرة مفعمة بالاستحسان
البديهيات سريعًا، وإن كنت بطيئًا في إدراك الأفكار الضمنية الأدق. كيف يحصل العالم
على الغذاء؟ فلنَعُد أدراجنا إلى صديقنا الصغير قُنفذِ البحر. إن الماء المحيط به يتدفق عبْر
«. صمامات هذا المخلوق الصغير ويؤمن له غذاءه
«… إذًا تعتقد أن الماء »
لا يا سيدي، إنه الأثير. الأرض تتحرَّك عبْر مسارٍ دائريٍّ في مجالات الفضاء، وفي »
حركتها يتدفَّق الأثير عبْرها على نحو متواصل، ويمدها بحيويتها ونمائها. ثمَّة سربٌ من
قنافذ العالم الصغيرة تفعل الشيء نفسه؛ أعني فينوس، والمريخ، وبقية الكواكب الأخرى،
«. كلٌّ في حقله يرعى
كان جنون الرجل واضحًا، ولكن لم يكن ثَمَّة مجالٌ للجدال معه. اعتبرصمتي موافقةً
على ما يقول، وابتسم لي ابتسامةً تفيضمَنٍّا.
أرى أننا نقترب من هدفنا؛ لقد بدأ الضوء بالبزوغ؛ إنه مبهر بعض الشيء في » : قال
البداية، لا ريب، ولكنسرعان ما نعتاده. أرجو أن تُعِيرني انتباهك بينما أبُدي ملاحظة أو
اثنتين بخصوصهذا المخلوق الصغير الذي بين يدي.
سوف نفترضأنه على هذه الطبقة الخارجية القاسية توجد حشرات معينة متناهية
«؟ الصغر تزحف على السطح. هل كان القنفذ سينتبه إلى وجودها
«. لا أظن »
يمكنك إذًا أن تتخيَّل أن الأرضليس لديها أدنى فكرة عن الطريقة التي تُستغَل بها »
من قِبَل البشر؛ إنها لا تعي أبدًا هذا النمو المتسارع للنباتات، وتزايد أعداد هذه الحيوانات
المجهرية التي تجمَّعت عليها أثناء دورانها حول الشمس مثلما يتجمع البرنقيل على قيعان
«. السُّفن القديمة. ذاك هو الواقع الراهن، وهو ما أعتزم تغييره
«؟ تعتزم تغييره » : حدَّقتُ في دهشة
إنني أعتزم تعريف الأرض بأن ثمَّة شخصًا واحدًا على الأقل، هو جورج إدوارد »
تشالنجر، يطالب بالانتباه إليه؛ بل يصرعلى الانتباه إليه. لا ريب أنه أول إشعار من نوعه
«. تلقيته على الإطلاق
«؟ وكيف ستحقق هذا يا سيدي »
آه! ها نحن نبدأ العمل؛ لقد أصبتَ الوتر. سوف أستعير انتباهك مرة أخرى لهذا »
المخلوق الصغير المثير الذي أحمله في يدي؛ إن تلك القشرة الواقية تخفي تحتها كل
الأعصاب وأعضاء الإحساس. أليس بديهيٍّا أنه إذا رغبت الحيوانات الطفيلية الصغيرة في
«؟ جذب انتباهه، حفرت ثقبًا في قشرته؛ ومن ثَمَّ تُحفِّز جهازه الحسي
«. قطعًا »
أوه! مرة أخرى، سنستشهد بحالة البرغوث العادي أو بعوضة تستكشفسطح جسم »
الإنسان. قد لا نكون على وعي بوجودها، ولكن في اللحظة الحالية، حين تغرس خرطومها
14
عندما صرخت الأرض
مخترقةً الجِلدَ الذي يمثل قشرتنا الواقية، نتذكر على نحو مزعج أننا لسنا بمفردنا تمامًا.
«. لا ريب أن خططي قد بدأت تتضح لك. والنور يبدِّد الظلام
«؟ يا إلهي! أتعتزم حفر نفق رأسيعبْر قشرة الأرض »
أغلق عينيه برضا يفوق الوصف.
أنت الآن أمام أول شخص سوف ينفُذ إلى ذلك الجِلد الصُّلب؛ بل إن بإمكاني أن »
«. أصيغ ذلك في الزمن الماضيوأقول إنني قد نفذت إليها بالفعل
«! لقد فعلتها »
أعتقد أن بإمكاني القول إنني قد فعلتها، بمساعدة موردن الفعالة للغاية. سنوات »
عدة من العمل المتواصل ليلًا ونهارًا، والذي نُفِّذ بكل نوع معروف من الحفارات والمثاقيب
«. والكسارات والمتفجرات، ها هي أخيرًا قد قادتنا إلى هدفنا
«! أنت لا تعني بالتأكيد أنك قد اخترقت القشرة الأرضية بالفعل »
إذا كانت تعبيراتك تعني الذهول، فلا بأس منها. أما إذا كانت تعني الشك وعدم »
«… التصديق
«. كلا يا سيدي. لا أقصد شيئًا من هذا أبدًا »
سوف تتقبل روايتي دون سؤال أو شك. لقد اخترقنا القشرة الأرضية؛ كان سُمكها »
أربعة عشر ألفًا وأربعمائة واثنتين وأربعين ياردة؛ أو حوالي ثمانية أميال. في أثناء حفرنا،
قد يكون مثيرًا لك أن تعرف أننا اكتشفنا ثروة من طبقات الفحم الحجري؛ ومن ثَمَّ يحتمل
على المدى الطويل أن تعوِّض تكلفة المشروع. كانت العقبة الأساسية التي واجهتنا هي
عيون الماء في الطبقة الجيرية السفلى، ورمال هاستينجز، ولكننا تغلبنا عليهما. وقد وصلنا
الآن إلى المرحلة الأخيرة؛ وما المرحلة الأخيرة إلا السيد بيرلس جونز. إنك تمثِّل البعوضة
يا سيدي؛ وحفارك الارتوازي يلعب دور الخرطوم اللاسع. لقد أدى المخ عمله؛ فليخرج
«؟ المفكِّر، وليدخل الميكانيكي، بيرلس، بآلاته المعدنية! هل أنا واضح فيما أقول
أنت تتحدث عن ثمانية أميال؛ هل تدرك يا سيدي، أن خمسة آلاف قدم » : صِحتُ
تُعتبر تقريبًا الحدَّ الأقصىالذي يمكن للحفارات الارتوازية الوصول إليه؟ أعرف حُفَرًا في
«. سيليزيا العليا على عمق ستة آلاف ومائتي قدم، ولكنها تُعتبر أعجوبة
لقد أسأتَ فهمي يا سيد بيرلس؛ ربما كان الخطأ في شرحي للأمر أو في عقلك، »
ولكن لن أصرَّ على معرفة أيهما المخطئ؛ إنني أعي تمامًا حدود الحفر الارتوازي، ومن
غير المحتمل أن أكون قد أنفقت ملايين الجنيهات على نفَقِي العملاق لو أن ثقبًا قطره
15
عندماصرخت الأرض
ست بوصات من شأنه أن يلبي احتياجاتي. كل ما ألتمسه منك أن تجهِّز حفارًا بأقصىقدْر
ممكن من الحدة، ولا يزيد طوله على مائة قدم، ويعمل بواسطة محرِّك كهربائي؛ حفَّار
«. دقٍّ عادي يمكن غرسه لأقصىعمق بواسطة ثقل سوف يفي بالغرضتمامًا
«؟ لماذا محرك كهربائي »
سيد جونز، أنا هنا لإعطاء أوامرَ، وليس أسبابًا. قبل أن ننتهي من الحفر، ربما »
يحدث — أقول ربما يحدث — أن تعتمد حياتك على تشغيل هذا الحفَّار عن بُعد بواسطة
«. الكهرباء. أظنه أمرًا يمكن تنفيذه
«. بالتأكيد يمكن تنفيذه »
إذًا استعِدَّ للتنفيذ؛ إن الأمور ليست مهيأة بعدُ بما يقتضيوجودك الفعلي، ولكن من »
«. الممكن أن تبدأ استعداداتك الآن. ليس لدي أكثر من ذلك لقوله
ولكن من الضروري أن تخبرني بنوع التربة التي يخترقها الحفَّار؛ » : اعترضتُ قائلًا
«. فسواء كانت رملية، أو طينية، أو جيرية، ستحتاج كلٌّ منها إلى معالجة مختلفة
لِنقُلْ إنها هلامية. أجل، سوف نفترض في الوقت الحالي أن عليك أن » : قال تشالنجر
تغرس حفَّارك في هلام. والآن يا سيد جونز، لدي أمورٌ أخرى مهمة لأشغل بها عقلي؛ لذا
«. أتمنَّى لك صباحًا طيبًا؛ يمكنك أن تحرِّر عَقدًا رسميٍّا تذكر فيه أتعابك لمدير أشغالي
انحنيتُ واستدرتُ متأهبًا للمغادرة؛ بيد أن فضولي غلبني قبل أن أصل إلى الباب. كان
يكتب بنشاط وحماسة بريشةٍ تصدِر صريرًا على الورق، ورفع عينيه ناظرًا إليَّ بغضب
لمقاطعتي له.
«. حسنًا يا سيدي، ماذا الآن؟ تمنيتُ لو أنك ذهبت »
«؟ رغبت فقط في أن أسألك يا سيدي، ما الهدف من تجربة خارقة كهذه »
اغرب عني أيها السيد، اغرب عني! اسمُ بعقلك فوق الأهداف التجارية » : صاح غاضبًا
والنفعية الوضيعة للتجارة. انفض عن نفسك المعايير التافهة للعمل التجاري. إن العلم
يسعى إلى المعرفة؛ فلتدعِ المعرفة تقودنا حيث شاءت؛ فنحن لا نزال نبحث عنها. أليست
معرفة ماهيتنا، ولماذا نُوجَد، وأين نُوجَد، مرةً واحدةً وبصورة نهائية، هي أعظم الطموحات
«! البشرية أجمع في حد ذاتها؟ فلتذهب أيها السيد؛ فلتذهب
وانكفأ رأسه الأسود الكبير على أوراقه، ممتزِجًا بلحيته، وتعالىصرير القلم ذي الريشة
عن ذي قبل. غادرتُ تاركًا ذلك الرجل الخارق، وقد غرق رأسي في دوامة من التفكير في
هذه المهمة الغريبة التي وجدت نفسي شريكًا فيها