hindawiorg

Share to Social Media

حين عُدتُ إلى مكتبي، وجدت تيد مالون وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة عريضة في
انتظار معرفة نتيجة اللقاء.
حسنًا! ألم يُصِبك مكروه؟ ألم تتعرَّض لاعتداء أوضرب؟ لا بد أنك تعاملت » : صاح
«؟ معه بلباقة. ما رأيك في ذلك الرجل العجوز
«… أكثر مَن رأيت في حياتي إزعاجًا وغطرسة وتشدُّدًا وتعنُّتًا؛ ولكن »
بالطبع هو كل ما تقول وأكثر .« لكن » بالضبط! كلنا نصل إلى تلك ال » : صاح مالون
بكثير، ولكن المرء يشعر أن رجلًا بتلك العظمة لا يمكن تقييمه بميزاننا، وأن بمقدورنا أن
«؟ نتحمل منه ما لا نطيقه من أي كائن حي آخَر. أليس كذلك
حسنًا، لا أعرفه بما يكفي بعدُ لأجزم، ولكن أعترف أنه ليس مجرَّد متنمِّر مصاب »
بجنون العظمة؛ وإذا كان ما يقوله صحيحًا، فهو بالتأكيد في فئة بمفرده. ولكن أهو
«؟ صحيح
بالطبع صحيح؛ دائمًا ما يكون تشالنجر مصيبًا. والآن، أين تقف بالضبط في هذا »
«؟ الأمر؟ هل أخبرك بشأن هينجست داون
«. نعم؛ بشكل عام دون تفاصيل »
حسنًا، يمكنك أن تثق بي حين أخبرك بأن الأمر بِرُمَّته ضخم؛ ضخم في الفكرة »
وضخم في التنفيذ. إنه يكره الصحافيين، ولكنني من الثقات لديه؛ لأنه يعلم أنني لن أنشر
أكثر مما يصرِّح لي بنشره؛ لذلك أعرف خططه، أو جزءًا من خططه. إنه داهية ماكر، لا
يمكن للمرء أن يعرف أبدًا إن كان قد أدرك حقٍّا ما يدور في أعماقه. على أي حال، لدي من
المعلومات ما يكفي لأطمئنك بأن هينجست داون هي مسألة فعلية وشبه مكتملة. نصيحتي
لك الآن أن تنتظر ما تسفر عنه الأحداث ليس أكثر، وفي غضون ذلك أَعِدَّ عُدَّتك. عما قريب
«. ستَرِدُك أخبارٌ منه أو مني
وبالفعل كان مالون نفسه هو مصدر أخباري؛ فقد عرَّج على مكتبي في وقت مبكر
للغاية بعد بضعة أسابيع، حاملًا رسالة.
«. أنا قادم من عند تشالنجر » : قال
«. إنك بالنسبة له كسمكة الزامور بالنسبة إلى القرش »
أنا فخور بأن أكون أيشيء بالنسبة إليه. إنه معجزة بالفعل؛ لقد أتم كلشيء على »
«. أفضل ما يُرام. والآن حان دورك، وهو جاهز لرفع الستار
حسنًا، لا أستطيع أن أصدِّق حتى أرى بعيني، ولكنني جهَّزت كلشيء وحملته على »
«. سيارة نقل؛ بإمكاني البدء في أي لحظة
لتبدأ في الحال إذًا؛ لقد وصفتك بأنك مثال للنشاط والانضباط؛ فلا تخذلني. والآن »
«. فلتستقلَّ معي القطار، وسوف أعطيك فكرة عما يجب القيام به
كان صباح يوم ربيعي جميل — ٢٢ مايو، على وجه التحديد — حين انطلقنا في هذه
الرحلة المصيرية التي قادتني إلى مرحلةٍ قُدِّر لها أن تكون تاريخية في حياتي. وفي الطريق
أعطاني مالون رسالة من تشالنجر كان يُفترضأن أتعامل معها بوصفها تعليمات لي.
سيدي (هكذا بدأت الرسالة) …
عند وصولك إلى هينجست داون سوف تضع نفسك تحت تصرُّف السيد
بارفورث، كبير المهندسين، الذي يملك خططي. إنصديقي الشاب مالون، حامل
هذه الرسالة، على اتصال بي أيضًا، ويمكن أن يعفيني من أي تواصُلٍ شخصي.
لقد اختبرنا ظواهرَ بعينها في النَّفق عند مستوى الأربعة عشرألف قدم وأسفلها،
ظواهر تعزِّز تمامًا آرائي بشأن طبيعة أي جسم كوكبي، ولكنني بحاجة إلى
دليل أقوى قبل أن آملَ تَركَ بصمةٍ على الذكاء البليد لعالَم العلم الحديث. وقد
قُدِّر لك توفير ذلك الدليل، وقُدِّر لهم أن يشهدوه. سوف تلاحظ عند النزول عبْر
المصاعد، على افتراضأنك تحمل تلك السِّمة النادرة من قوة الملاحظة، أنك تمرُّ
بالتتابع بالطبقات الجيرية الثانوية، ثم طبقات الفحم، ثم بعضآثار من العصر
الديفوني والكامبري، وأخيرًا الجرانيت، الذي حُفر فيه الجزء الأكبر من النفق.
إن القاع مغطٍّى الآن بالمشمع الواقي الذي آمرك بألا تمسَّه أو تعبث به؛ إذ إن
أي تعاملٍ أخرقَ مع الطبقة الداخلية الحساسة للأرضقد يجلب نتائجَ مبكرة
سابقة لأوانها. وبناءً على تعليماتي، وُضعت عارضتان متينتان عبْر النفق تعلوان
القاع بعشرين قدمًا، بينهما فراغ. سوف يكون هذا الفراغ بمثابة مشبك لتثبيت
أنبوبك الارتوازي. يكفي الحفر لعمق خمسين قدمًا، سوف تمتد عشرون قدمًا
منها إلى أسفل العارضتين، بحيث يكاد رأس الحفار يصل إلى طبقة المشمع.
ولأنك تقدِّر حياتك، لا تدعه يصل إلى أبعدَ من ذلك. سوف تمتد ثلاثين قدمًا من
الحفار إلى أعلى داخل النفق، وحين تقوم بفك رأس الحفار، فلنفترضأن ما لا
يقل عن أربعين قدمًا من جسمه سوف يدفن نفسه داخل التراب؛ ونظرًا للنعومة
الشديدة لهذا التراب، أرى أنك لن تحتاج على الأرجح إلى قوةِ دفعٍ، وأن مجرد فك
الأنبوب سوف يكون كافيًا بوزنه لدفعه داخل الطبقة التي كشفناها. تبدو هذه
التعليمات كافية لأي ذي ذكاء عادي، ولكن لدي شك بسيط أنك سوف تحتاج
إلى المزيد من التعليمات؛ وهو ما يمكن إحالته لي عبْر صديقنا الشاب مالون.
جورج إدوارد تشالنجر
لك أن تتخيل أنني عند وصولنا إلى محطة ستورينجتون، بالقرب من السَّفح الشمالي لتلال
ساوث داونز، كنتُ في حالة من التوتر العصبي الشديد. كان في انتظارنا سيارة فوكسهول
أبلتها ظروفالطقس، أخذت تتأرجح بنا مسافة ستة أو سبعة أميال عبْر الطُّرق والحارات
الوعرة التي كانت، على الرغم من عزلتها الطبيعية، بها آثار حفر عميقة، وتُظهر كلَّ ما
يدل على وجود حركة سير مزدحمة عليها. وكانت ثمة شاحنة محطَّمة ترقد بين الحشائش
في نقطةٍ ما تدل على أن آخرين قد وجدوا السير فيها وعرًا مثلنا، وفجأة برزت لنا، من أَجَمَةٍ
من نبات الوزال، آلةٌ ضخمة بدت لي كصمامات ومكبس مضخة هيدروليكية اكتست تمامًا
بالصدأ.
«. هذه من صُنعِ يد تشالنجر » : قال مالون مبتسمًا ابتسامةً عريضة
يقول إن تصميمها خالف تقديره بعُشر بوصة؛ لذا ألقاها ببساطة على جانب »
«. الطريق
«. وتلا ذلك دعوى قضائية لا ريب »
دعوى قضائية! صديقي العزيز، يجب أن تكون لنا محكمة وحدنا. لدينا ما يكفي »
ليشغل قاضيًا عامًا كاملًا، والحكومة أيضًا؛ فالشيطان العجوز لا يعبأ بأحد. اليومَ الملك
ضد تشالنجر، وغدًا تشالنجر ضد الملك، وترى الاثنين يرقصان رقصةً شيطانية لطيفة من
«! محكمة إلى أخرى. حسنًا، ها قد وصلنا. لا بأسيا جنكينز، يمكنك أن تسمح لنا بالدخول
كان ثمة رجلٌ ضخم الجثة له أذن تشبه القنبيط يحدِّق داخل السيارة، بوجه عابس
ينم عن الشك، ولكنه استرخى ووجَّه إلينا التحيةَ بمجرد أن تعرَّف على رفيقي.
«. حسنًا يا سيد مالون، ظننت أنكم من الأمريكان أسوشيتد برس »
«؟ أوه، إنهم في الطريق، أليس كذلك »
وأشار إلى نقطة «! هم اليوم، وذا تايمز أمس. أوه، إنهم يحومون حولنا، انظر إلى ذلك »
بعيدة على خط السماء.
انظر إلى ذلك الوميض! إنه تليسكوب جريدة شيكاجو ديلي نيوز. أجل، إنهم وراءنا »
«. تمامًا الآن. لقد رأيتهم مصطفِّين، كأسراب الغربان المصطفَّة عبْر المنارة القائمة هنالك
مساكين جماعة » : قال مالون ونحن نمر عبْر بوابةٍ محاطة بأسلاك شائكة هائلة
«. الصحافيين! أنا واحد منهم، وأعلم كيف يشعرون في مثل هذه المواقف
كان «! مالون! تيد مالون » : في هذه اللحظة سمعنا صوتًا يهتف شاكيًا خلفنا يقول
الصوت قادمًا من رجلٍ بدين قصير وصلَ لتوه على دراجة بخارية، وكان في تلك اللحظة
يئن في قبضة حارس البوابة الجبارة.
«. دعني وشأني! كُفَّ يديك عني! مالون، أوقف وحشكم ذاك » : قال الرجل
دعه يا جنكينز! إنه صديق لنا. حسنًا، يا صاح، ما الأمر؟ عمَّ تبحث » : صاح مالون
«. في هذه الأنحاء؟ إن فليت ستريت هو مقصدكم المفضل، وليس براري ساسكس
أنت تعلم تمامًا ما أبحث عنه؛ لقد كُلِّفت بكتابة مقال إخباري عن » : قال زائرنا
«. هينجست داون، ولا يمكنني العودة دون النسخة
آسف يا روي، ولكن ليس بوسعك الحصول على أي شيء هنا. سوف تضطر إلى »
الجلوس على ذلك الجانب من السلك. إذا أردت ما هو أكثر من ذلك، فعليك أن تذهب
«. وتقابل البروفيسور تشالنجر وتحصل على إذنٍ منه
«. لقد فعلت، ذهبت إليه هذا الصباح » : قال الصحفي آسفًا
«؟ حسنًا، وما ردُّه »
«. قال إنه سيلقي بي من النافذة »
ضحك مالون.
«؟ وماذا قلت »
وغادرت عبْره فقط لأثبت أن لا مشكلة به. لم يكن الوقت «؟ وما خطب الباب » : قلت »
مناسبًا للجدال، غادرت فحسب. ما خطب ذلك الثور الآشوري الملتحي في لندن، وهذا
السفَّاح الموجود هنا، الذي أتلفشريط تصويري الشفاف، ما بالك ترافق أشخاصًا غريبي
«؟ الأطوار يا تيد مالون
لا يمكنني مساعدتك يا روي، كنت سأفعل لو كان بوسعي ذلك. يقولون في فليت »
ستريت إنك لم تُهزَم قط من قبل، ولكنك قد تواجه مشكلات عصيبة هذه المرة. عُد إلى
مكتبك، وإذا انتظرت بضعة أيام فقط، فسوف أمنحك الأخبار بمجرد أن يسمح لي العجوز
«. بذلك
«؟ ألا توجد أي فرصة لدخولي »
«. على الإطلاق »
«؟ ألن يجدي المال »
«. يجب أن تكون أكثر حكمة من أن تقول ذلك »
«؟ يقولون لي إنه طريق مختصرإلى نيوزيلندا »
سوف يكون الطريق المختصرإلى المستشفى إذا مكثت هنا يا روي. وداعًا الآن؛ لدينا »
«. بعضالأعمال يجب أن نقوم بها
هذا روي بيركينز، المراسل الحربي، » : قال مالون ونحن نسير عبْر الأرضِ المُسيَّجةِ
لقد حطمنا رقمه القياسي؛ إذ يُفترض أنه لا يُهزم. إن وجهه الممتلئ الصغير بقسماته
البريئة هو وسيلته للوصول إلى كلشيء، لقد كنا نعمل معًا في وقتٍ ما. الآن ها هي مساكن
إنهم زمرة كبيرة » : وأشار إلى مجموعة من الأكواخ الجميلة ذات أسطح حمراء «. العمال
رائعة من العمال المنتقين يتقاضون أجورًا تتجاوز الأجور المعتادة بكثير، لا بد أن يكونوا
عزَّابًا، وأن يكونوا عازفين عن المُسْكِرات تمامًا، وأن يقسموا على التزام السرِّية. لا أظن أن
ثَمَّة تسريباتٍ لأي شيء عن الأمر قد وقعت حتى الآن. ذلك الحقل هو ملعبهم لكرة القدم،
وذلك المبنى المنفصل هو المكتبة وقاعة الترفيه. يمكنني أن أؤكد لك أن ذلك العجوز يجيد
«. التنظيم. هذا هو السيد بارفورث، كبير المهندسين المسئول
لاح أمامنا رجل طويل القامة، نحيف، كئيب، حُفرت في وجهه خطوط عميقة تنطق
أظن أنك مهندس الحفر الارتوازي. أخبروني بأن أنتظر » : بالتوتر، قال في صوت كئيب
قدومك، أنا سعيد لمجيئك؛ إذ لا أمانع أن أخبرك بأن مسئولية هذا الشيء تثير أعصابي.
نحن نعمل في مكان ناءٍ، ولا أعرفإن كان ما ينتظرنا في المرة القادمة دفقًا من الماء الجيري،
أم طبقة من الفحم، أم نافورة بترول، أو ربما نيران الجحيم. لقد جُنبنا الأخيرة حتى الآن،
«. ولكنك قد توصلنا إلى هناك على حد علمي
«؟ هل القاع ساخن للغاية »
حسنًا، إنه ساخن، لا ريب في ذلك. ولكن ربما لا يكون أكثر سخونة من الضغط »
البارومتري، وقد يكون ضِيقُ المساحة هو السبب في ذلك. إن التهوية بشعة، بالطبع. نحن
نضخ الهواء إلى أسفل، ولكن أقصىمدة لمناوبات العمل يمكن للرجال تحمُّلها هي ساعتان،
مع العلم بأنهم رجال أولو عزم وهمة أيضًا. كان البروفيسور بالأسفل أمس، وكان سعيدًا
«. بكلشيء. من الأفضل أن تنضم إلينا في الغداء، ثم ترى كلشيء بنفسك
بعد وجبة مقتصدة تناولناها على عَجَل، أطُلعنا بكد ممتزج بالشغف والحب من
المدير على محتويات غرفة المحرِّك، وعلى الأدوات والآلات المتنوعة التي لم تعد تُستخدم
والمبعثرة على الحشائش. على أحد الجوانب كان هناك مجرفة آرول هيدروليكية ضخمة
مفككة أجزاؤها، تمت بواسطتها أعمال الحفر الأولى سريعًا، وكان بجوارها محرك كبير
لسحب حبل متواصل من الصلب تُربط فيه الأوعية التي تسحب الحطام عبْر منصات
متتابعة من قاع النفق. في غرفة توليد الطاقة الكهربية، كان ثمة العديد من توربينات
إيشر فايس التي تتميَّز بقدرة تشغيل هائلة تبلغ مائة وأربعين دورة في الدقيقة، ومراكم
كهرباء هيدروليكية متحكِّمة تولِّد ضغطًا يبلغ ألفًا وأربعمائة رطل لكل بوصة مربعة،
تمر في أنابيب قطرها ثلاث بوصات عبْر النفق، وتقوم بتشغيل أربعة حفارات صخور ذات
قاطعات مجوَّفة من نوع براندت. ملحق بغرفة المحركات غرفة الكهرباء التي توفِّر الطاقة
لوحدة إضاءة ضخمة جدٍّا، والتي يوجد بجوارها كذلك توربين إضافي بقوة مائتي حصان،
يشغِّل مروحة عشر أقدام تدفع الهواء عبْر أنبوب قطره اثنتا عشرة بوصة إلى قاع الثقب.
عُرضت كل هذه المعجزات مع العديد من الشروح التقنية التي ألقاها مُشغلها المزهو،
الذي كان على وشْك أن يصيبني بالملل الشديد، مثلما فعلت أنا بِقُرَّائي على الأرجح. غير أن
مقاطعة محمودة جاءت حين سمعت أزيز العجلات، وسُررت عندما رأيت شاحنتي الليلاند،
التي تَسَعُ حمولة ثلاثة أطنان تهدر وتزمجر على الحشائش، محملةً بأدوات وأجزاء شبكة
الأنابيب الارتوازية، وتحمل رئيس عمالي، بيترز، ومساعدًا آخَر مغطٍّى بالأوساخ في المقدمة.
بدأ الاثنان العمل على إنزال معداتي وحملها إلى الداخل، وتوجَّهت أنا والمدير ومالون نحو
النفق، تاركين العاملَيْن يزاولان عملهما.
كان مكانًا مدهشًا، على مساحة أكبر بكثير مما تخيَّلت. تكدَّست الأنقاضالتي جسدت
آلاف الأطنان التي أزُيلت، في هيئة حدوة حصان تحيط بالحفرة، وصارت في ذلك الوقت تلٍّا
كبيرًا. ويخرج من تجويفهذه الحدوة، المؤلَّفة من الجير والطين والفحم والجرانيت، أعمدةٌ
وعجلات حديدية تشغِّل المضخات والمصاعد، وتتصل هذه الأعمدة والعجلات ببناء قرميدي
قوي يملأ الفجوة في حدوة الحصان، ومن ورائها توجد فتحة النفق، وهي حفرة ضخمة
غائرة، يتراوح قطرها بين ثلاثين وأربعين قدمًا، يبطِّنها ويعلوها القرميد والأسمنت. عندما
مددتُ عنقي محدِّقًا في تلك الحفرة السحيقة المرعبة التي أكُِّد لي أن عمقها ثمانية أميال،
دار عقلي لمجرد التفكير فيما تمثِّله هذه الحفرة. كان ضوء الشمس يضرب فتحتها على
نحو مائل، ولم يسعني أن أرى إلا بضع مئات من الياردات من الجير الأبيض المتسخ،
مثبتة بقوالب من القرميد هنا وهناك؛ حيث بدا السطح غير ثابت؛ غير أنني حتى عندما
كنت أنظر، رأيت في عمق الظلام نقطة ضوء متناهية الصغر، لكنها واضحة وثابتة في تلك
الخلفية الحالكة السواد.
«؟ ما هذا الضوء » : سألت
انحنى مالون على الحاجز بجواري.
ذاك واحد من المصاعد يصعد إلى أعلى،شيء رائع، أليس كذلك؟ إنه على مسافة » : قال
ميل أو أكثر منَّا، وذلك الوميضالضئيل هو مصباح قوسيقوي، إنه يتحرَّكسريعًا، وسوف
«. يكون هنا في غضون دقائق معدودة
تعاظمت نقطة الضوء أكثر وأكثر بلا شك، إلى أن غمرت النفق بأشعتها الفضية،
وكان عليَّ أن أحجب عن عيني ضوءها المبهر. وبعد لحظة التحم المصعد بمنصة الهبوط،
وترجَّل منه أربعة رجال ببطء متجهين إلى المدخل.
الجميع تقريبًا مرهقون؛ إن القيام بنوبة عمل مدة ساعتين في هذا العمق » : قال مالون
أمر صعب لا ريب. حسنًا، إن بعض معداتك في متناولنا، أظن أن أفضل شيء يمكن أن
«. نفعله هو الهبوط، حينها سوف تستطيع تقييم الموقف بنفسك
كان لغرفة المحركات ملحق قادني إليه؛ كان ثمة عددٌ من أطقم الثياب الفضفاضة
المنتفخة المصنوعة من أخف أنواع حرير التوسة تتدلَّى من الجدار. واقتداءً بمالون، خلعت
كل قطعة من ثيابي، وارتديت واحدًا من هذه الأطقم، مع خُفَّين بنعل من المطاط. فرغ
مالون قبلي، وغادر غرفة الملابس. بعد لحظة سمعتضوضاء كأن عشرمعارك بينمجموعة
من الكلاب قد تداخلت معًا في صوت واحد، هرعت لأستطلع الأمر لأجد صديقي يتدحرج
على الأرض وقد التفَّت ذراعاه حول العامل الذي كان يساعد في رص أنابيبي الارتوازية،
كان يحاول نزع شيءٍ ما من يده كان العامل الآخر متشبِّثًا به باستماتة. بيد أن مالون
كان أقوى منه، وانتزع الشيء من قبضته، وظل يقفز فوقه حتى تحوَّل إلى أشلاء، أدركت
حينها فقط أنها كاميرا تصوير فوتوغرافي. نهضالعامل التابع لي من فوق الأرضفي حالةٍ
يُرثى لها، وقد اكتسى وجهه بالسُّخام.
«. تبٍّا لك يا تيد مالون! لقد كانت آلة تصوير جديدة قيمتها عشرة جنيهات » : قال
لم يكن لدي حلٌّ آخَر يا روي، رأيتك تلتقط الصورة، ولم يكن أمامي إلا تصرُّف »
«. واحد
«؟ كيف وصلت إلى زي عمالي بحق الجحيم » : سألت في سخط شديد
«. لدي طرقي الخاصة » : غمز الوغد بعينه وابتسم قائلًا
ولكن لا تلقِ اللوم على رئيس عمالك؛ فقد ظن أنها مجرد خرقة بالية. لقد بادلت »
«. الملابس مع مساعده، ودخلت
وسوف تخرج، لا فائدة من الجدل يا روي، لو كان تشالنجر هنا لأطلق » : قال مالون
الكلاب عليك. لقد كنتُ في نفس موقفك من قبل؛ لذا لن أقسو عليك، ولكنني كلب حراسة
«! هنا، وأستطيع أن أعقر كما أستطيع أن أنبح. هيا! اخرج من هنا
وهكذا اقتيد زائرنا المغامر إلى خارج الأرضالمُسيَّجة بواسطة اثنين من العمال عابسي
الوجه. وهكذا سوفيفهم الناسأخيرًا أصل ذلك المقال الرائع ذي الأربعة أعمدة الذي حمل
الذي ،« طريقٌسريع إلى أستراليا » مصحوبًا بالعنوان الجانبي ،« حُلم مجنون لعالِم » عنوان
ظهر في جريدة أدفيزر بعدها بأيام، وكاد يصيب تشالنجر بسكتة دماغية، وأودى بمحرر
الأدفيزر إلى المقابلة الأخطر والأكثر بغضًا في حياته. كان المقالسردًا مبالغًا ومضللًا إلى حدٍّ
على حدِّ وصف الجريدة، واحتوى « مراسلنا الحربي المحنك » ، كبير لمغامرة روي بيركينز
معسكر محاط » ،« هذا المتنمر المشعر القاطن في إنمور جاردنز » على فقرات لاذعة من قبيل
جرجرت من » وأخيرًا ،« بالأسلاك الشائكة، والحراس الغلاظ، والكلاب البوليسية الشرسة
حافة النفق الأنجلو أسترالي بواسطة شخصين همجيين، كان أكثرهما وحشية شخصمُدَّعٍ
عرفته شكلًا كأحد المتطفلين على مهنة الصحافة، بينما الآخر، وهو شخص خبيث يرتدي
ملابسَاستوائية غريبة، يدعي أنه مهندسآبار ارتوازية، على الرغم من أن مظهره يشيبأنه
وبعد الانتهاء من انتقادنا على مثل هذا النحو اللاذع، استفاض «. أحد مجرمي وايتشابيل
الوغد في وصف متقَنٍ للقضبان الحديدية في فتحة النفق، وحفرة متعرجة يمكن من خلالها
لقطارات معلَّقة أن تخترق باطن الأرض.
كان مصدر الإزعاج الفعلي الوحيد في المقال هو ما تسبَّب فيه من زيادة ملحوظة في
طابور المتسكعين الجالسين على سفح ساوث داونز في انتظار حدوث شيء. وجاء اليوم
الذي حدث فيه الشيء المنتظَر، وتمنَّوا لو كانوا في مكان آخَر.
فرشَ رئيس عمالي برفقة مساعده المزيف المكانَ بكل ما لدي من معدات، وعلبة
الجرس ومفتاح الصوامل والمثاقيب والأوتاد والثقل، ولكن مالون أصرَّعلى أن نتجاهل كل
ذلك وننزل بأنفسنا إلى أدنى مستوى. وفي سبيل ذلك ولجنا إلى المصعد، المصنوع من الفولاذ
المشبك، وبصحبة كبير المهندسين انطلقنا داخل أحشاء الأرض. كان هناك مجموعة من
المصاعد الأتوماتيكية، حفرت محطة التشغيل الخاصة بكل واحد منها في جانب الحفرة،
كانت تهبط بسرعة هائلة، وكانت التجربة أقرب إلى رحلة بقطار رأسي منها إلى الهبوط
المتمهل الذي نربطه بالمصعد الإنجليزي.
ولأن المصعدَ شبكةٌ من الفولاذ ومضاء بضوء ساطع، كان لدينا مشهد واضح لطبقات
الأرضالتي نمر بها، فكنت مدركًا لكل واحدة منها أثناء مرورنا السريع بها. كانت توجد
طبقة الجير الدنيا الشاحبة اللون، وطبقات الهاستينجز التي تتخذ لون القهوة، وطبقات
أشبرنهام الأخف، وطبقات الطين المحتوية على الفحم الكربوني، ثم نطاق تلو الآخر من
الفحم الأسود اللامع، لمع في الضوء الكهربائي، بالتبادل مع الطبقات الطينية. أقحمت
أبنية قرميدية هنا وهناك، إلا أن النفق، بوجه عام، كان مدعومًا ذاتيٍّا، ولا يملك المرء أمام
هذا الجهد الضخم والبراعة الميكانيكية الجلية سوى الذهول والتعجب. استشعرت أسفل
طبقات الفحم طبقاتٍ مختلطة ذات شكل أشبه بالخرسانة، ثم هبطنا إلى طبقات أخرى
من الجرانيت الخام؛ حيث كانت بلورات الكوارتز تتلألأ وتومض وكأن الجدران الداكنة
قد تناثر عليها غبار الألماس. أخذنا نهبط إلى أسفل وأسفل، إلى أدنى مما سبق لبشرالنفاذ
إليه من قبل. كانت الصخور العتيقة متنوعة الألوان على نحو رائع، ولا يمكن قط أن أنسى
أحد أحزمة الفلسبار ذات اللون الوردي، والتي تلألأت بجمال خارق أمام ضوء مصابيحنا
القوية. منصة بعد منصة، ومصعد بعد مصعد، والهواء يزداد ثقلًا وسخونة إلى أن صارت
حتى الثياب الحريرية الخفيفة لا تُطاق، وصار العَرَق ينهمر داخل تلك الخِفاف ذات
النِّعال المطاطية. في النهاية، وبينما كنت أفكر أنني لم أعد أحتمل أكثر من ذلك، توقَّف
المصعد الأخير، وخرجنا منه على منصة دائرية محفورة في الصخر. لاحظت أن مالون يرمق
الجدران بنظرات خاطفة يملؤها الشك على نحو غريب، ولولا أنني أعرف أنه من أشجع
الرجال، لقلتُ إن التوتر يقتله.
وأخذ «. مادة غريبة » : قال كبير المهندسين وهو يمرر يده على أقرب جزء من الصخور
كان يوجد اهتزازات هنا في القاع، لا » . يقرِّب منها الضوء، وتبيَّن أنها تتلألأ بزَبَدٍ لزجٍ غريب
أعلم ما الذي نتعامل معه. يبدو البروفيسور سعيدًا بهذا، ولكن الأمر بِرُمَّته جديد بالنسبة
«. لي
ينبغي أن أقول إنني رأيت هذا الجدار يهتز نوعًا ما، في آخر مرة كنت » : قال مالون
هنا بالقاع ثبَّتنا هاتين العارضتين المتقاطعتين من أجل مثقابك، وحين شرعنا في اختراقه
من أجل تركيب الدعامات، كان يرتج مع كل طرقة. لقد بدت نظرية العجوز منافية للعقل
في مدينة لندن العتيقة المتماسكة، ولكن هنا، على بُعد ثمانية أميال من سطح الأرض، لست
«. واثقًا تمامًا بشأن ذلك
لو شاهدت ما هو قابع أسفل ذلك الغطاء من المشمع، لازددت ارتيابًا. » : قال المهندس
كل هذه الصخور السفلية تُقطع بسهولة مثل الجبن، وحين اخترقناها عثرنا على تكوين
لذلك «! غطِّه! لا أحد يلمسه » : جديد لا يشبه شيئًا على الأرض. وحينها قال البروفيسور
«. غطيناه حسب تعليماته، وها هو يرقد هناك
«؟ ألا يمكننا أن نلقي ولو نظرةً »
ارتسم تعبيرٌ مذعورٌ على قَسَمات المهندس الكئيبة.
إن عصيان تعليمات البروفيسور ليسبالأمر الهين، كما أنه شديد المكر والدهاء، » : قال
حتى إنه لا سبيل قط لأن تعرف نوع الرقابة التي يفرضها عليك، ومع ذلك سوف نلقي
«. نظرةسريعة ونغامر
أدار مصباحنا العاكس لأسفل بحيث يلقي الضوء على المشمع الأسود، ثم انحنى
وأمسك بحبلٍ متصل بركن الغطاء، وكشف عن ست ياردات مربعة من السطح القابع
أسفله.
كان مشهدًا مهيبًا لا يضاهيهشيء في روعته، كانت الأرضية مؤلَّفة من مادةضاربة إلى
الرمادي، مصقولة ولامعة، ترتفع وتنخفض في خفقان بطيء. لم تكن الخفقات مباشرة،
ولكنها تعطي إيحاء موجة أو إيقاعًا هادئًا، يسري عبْر السطح، حتى هذا السطح نفسه لم
يكن متجانسًا كليٍّا، ولكن كان في أسفله، والذي بدا كزجاج مصنفر، رقع أو تجاويف باهتة
ضاربة إلى البياض، تتنوع في الشكل والحجم. وقفنا نحن الثلاثة نحدِّق في هذا المشهد
الاستثنائي كمن سُلِبت ألبابهم.
إن الأرضتبدو كحيوان سُلخ عنه جلده. ربما » : قال مالون في همسامتزج بنبرة هلع
«. لم يذهب العجوز بعيدًا حين شبهها بقنفذه البحري الميمون
«! يا إلهي! وأنا مَن سيغرس رمحًا في أحشاء ذلك الوحش » : صحتُ
هذا شرف لك يا بُني، ويؤسفني أن أقول إنني لو لم أخفق، فسأكون » : قال مالون
«. بجانبك حين تفعلها
«. حسنًا، أنا لن أفعل » : قال كبير المهندسين في حسم
لم أكن من قبلُ واضحًا في شيء كوضوحي في ذلك الأمر. إذا ظل هذا العجوز على »
«! إصراره، فأنا مستقيل من منصبي. يا إلهي، انظرا إلى ذلك
كان السطح الرمادي يرتفع إلى أعلى، متجهًا نحونا كالموج حين تنظر من أعلى من
وراء الحاجز، لينحسربعد ذلك، بينما استمرت الخفقات والنبضات الخافتة كما كانت من
قبل. فأنزل بارفورث الحبل وأعاد الغطاء إلى موضعه.
«. يبدو كما لو كان يعرف أننا هنا » : قال
. لماذا ارتفع السطح نحونا هكذا؟ أظن أن الضوء كان له تأثير من نوعٍ ما عليه »
أشار السيد بارفورث إلى عارضتين «؟ ما الذي يفترض أن أفعله الآن » : تساءلت
موضوعتين عبْر الحفرة أسفل موقع توقُّف المصعد مباشرة، وكان بينهما مسافة فاصلة
بلغت حوالي تسع بوصات.
كانت فكرة العجوز. أظن أنه كان بإمكاني تثبيتها على نحو أفضل، ولكن » : قال
يمكنك أن تحاول الجدال مع ثور هائج عن أن تجادل معه؛ فالأسهل والأسلم أن تفعل ما
يقوله بحذافيره مهما كان. إن فكرته تتلخص في أن تستخدم المثقاب ذا الست بوصات،
«. وتثبِّته بين هاتين الدعامتين
«. حسنًا، لا أرى صعوبة كبيرة في ذلك. سوف أتولَّى المهمة بدءًا من اليوم » : أجبت
كانت تلك التجربة، كما قد تتخيل، هي الأغرب وسط تجارب حياتي المتنوعة التي
شملت حفر آبار في كل قارة على وجه الأرض. ولما كان إصرارُ البروفيسور تشالنجر على
ضرورة بدء العملية عن بُعد شديدًا، ولما كنت أرى الكثير من المنطق في قناعته تلك، كان
عليَّ الإعداد لوسيلة للتحكم الكهربي، وهو ما كان أمرًا يسيرًا بالقدْر الكافي؛ إذ كانت الحفرة
مزودة بأسلاك من القاع إلى القمة، وبدقةٍ متناهية قمتُ أنا ورئيس عمالي، بيترز، بإنزال
الأنابيب وتركيبها على الحافة الصخرية، ثم رفعنا منصة المصعد الأدنى، حتى نمنح أنفسنا
مساحة، وعندما اعتزمنا استخدام جهاز الحفر بالدق؛ إذ لم يكن ملائمًا أن تأمن الجاذبية
الأرضية تمامًا، علَّقنا ثقلنا الذي يزن مائة رطل على بكرة أسفل المصعد، وأنزلنا الأنابيب
وأخيرًا ثُبِّت الحبل الذي يحمل الثقل .V أسفله بواسطة وحدة طرفية على شكل حرف
في النفق على نحو يجعل شحنة كهربية كفيلة بتحريره. كان عملًا دقيقًا وصعبًا يُنفذ في
حرارة أشد من حرارة المناطق الاستوائية، وبشعور مستمر بأن زلة قدم أو سقوط أداة
من الأدوات على التربولين من أسفلنا قد يجلب كارثة يصعب تصوُّرها. كنا منبهرين أيضًا
بالأجواء المحيطة بنا؛ فقد رأيت مرارًا رجفةً غريبةً تسري عبْر الجدران، حتى إنني كنت
أشعر بخفقة فاترة في يديَّ عند ملامستها. لم يراودني أنا أو بيترز أيُّ ندم حين أعطينا
إشارة لآخر مرة بأننا جاهزان للصعود إلى السطح، واستطعنا إبلاغ السيد بارفورث بأن
البروفيسور تشالنجر يمكنه إجراء تجربته في أقرب وقت شاء.
ولم يكن علينا الانتظار طويلًا؛ فبعد ثلاثة أيام من التاريخ المحدَّد لإنهاء مهمتي وصل
الإخطار الخاصبي.
كان بطاقةَ دعوةٍ عادية كتلك التي نستخدمها للتجمعات والحفلات المنزلية، وكان
فحواها:
البروفيسور جي. إي تشالنجر
زميل الجمعية الملكية، دكتوراه في الطب، دكتوراه في العلوم … إلخ
(رئيس معهد علم الحيوان سابقًا، وحاصل على العديد من الدرجات العلمية
والمناصب الفخرية تفوق سَعَة هذه البطاقة.)
يطلب حضور:
السيد جونز (ممنوع اصطحاب السيدات).
في تمام الساعة ١١:٣٠ صباحًا، يوم الثلاثاء، الموافق ٢١ يونيو، لمشاهدة
الانتصار الرائع للعقل على المادة.
في هينجست داون، ساسكس.
قطار فيكتوريا الخاصالساعة ١٠:٠٥ . على المسافرين دفع ثمن التذكرة.
غداء بعد التجربة أو لا، وفقًا للظروف. محطة ستورينجتون.
برجاء إرسال الرد (وفي الحال، مرفقًا بالاسم بالأحرف منفصلة) على ١٤
(مكرر)، إنمور جاردنز، الجنوب الغربي.
واكتشفت أن مالون قد تلقَّى لتوه رسالة خطية مشابهة ضحك لها مقهقهًا.
إرسال هذه الرسالة ما هو إلا محضغطرسة، لا بد أن نكون هناك مهما حدث، » : قال
مثلما قال الجلاد للقاتل. ولكن أؤكد لك أن الأمر قد انتشرعبْر أرجاء لندن كافة. إن العجوز
«. حيث يحب أن يكون، محط أنظار الجميع
وأخيرًا جاء اليوم الموعود. وبالنسبة إليَّ كنت مصيبًا حين فكَّرت أن أهبط داخل النفق
في الليلة السابقة للتأكُّد من أن كل شيء على ما يُرام. كان المثقاب مثبتًا في موضعه،
والثقل مضبوطًا، والمماسات الكهربية يمكن تشغيلها بسهولة. غمرني شعور بالرضا من
كون الجزء الخاص بي في هذه التجربة الغريبة قد نُفِّذ دون عُقَد. كانت لوحات التحكُّم
الكهربائية تُشغل عند نقطة على بُعد خمسمائة ياردة من فتحة النفق للحد من أي خطر
شخصي. وفي صباح اليوم الموعود، وكان يومًا صيفيٍّا إنجليزيٍّا مثاليٍّا، توجَّهت نحو السطح
مطمئن البال، وتسلقتُ حتى منتصف منحدر داون لإلقاء نظرة عامة على مجريات العمل.
بدا العالَم بأكمله مقبلًا على هينجست داون؛ فقد كانت الطرق تعُج بالبشرعلى مرمى
البصر، وجاءت السيارات عبْر الحارات المرورية تتمايل وترتطم بالمطبات، وتُنزل ركابَها
عند بوابة الأرض المُسيَّجة التي كانت، في معظم الأحيان، محطةَ النهاية في رحلتهم؛ فقد
كانت ثمة زمرةٌ من الحراس الأشداء ينتظرون عند المدخل، ولم تستطِع أي تعهدات أو
رشاوى، اللهم إلا إظهار التذاكر الصفراء التي يرومها الجميع، أن تزحزحهم بعيدًا عنها
قيد أنُملة؛ لذلك تفرَّقوا وانضموا إلى الحشد الضخم الذي كان متجمعًا بالفعل على جانب
التل، ويغطون القمة بحشد كثيف من المتفرجين. كان المكان مزدحمًا كميدان إبسوم داونز
في يوم الديربي؛ كان بداخل الأرضالمُسيَّجة مناطقُ معينة محاطة بالأسلاك الشائكة، وكان
الأشخاصمن علية القوم وأصحاب الحظوة الكُثر يُرشَدون إلى المكان المخصصلهم؛ فثمة
مكانٌ للنبلاء، وآخَر لأعضاء مجلس العموم، وآخَر لرؤساء الجمعيات العلمية والمشاهير
في عالم العلوم، من بينهم لو بيلييه بجامعة السوربون، ود. دريسينجر بأكاديمية برلين،
وخُصص مكان معزول محاط بأكياس الرمل وله سقف حديدي مضلَّع لثلاثة من أفراد
العائلة الملكية.
في الحادية عشرة والربع وصلت مجموعة متعاقبة من العربات قادمة من المحطة
تُقِلُّ على متنها ضيوفًا وُجهت إليهم دعوة خاصة للحضور، وهو ما دعاني إلى النزول إلى
الأرض المُسيَّجة للمساعدة في مراسم الاستقبال. وقف البروفيسور تشالنجر بجوار المكان
المخصَّص للنخبة، متألقًا في معطف طويل أنيق، وصدرية بيضاء، وقبعة عالية سوداء
لامعة، وكان التعبير المرتسم على وجهه مزيجًا من اللطف الطاغي شبه العدواني، اختلط
بشعور استثنائي بالاعتداد بالنفس.
على حدِّ وصف أحد منتقديه، كان ،« من الواضح أنه ضحية نمطية لعقدة يهوه »
يساعد في إرشادضيوفه، مستحثٍّا إياهم في بعضالأحيان، إلى الأماكن المخصصة لهم، وبعد
تجمُّع صفوة الحضور حوله، اتخذ موضعه على قمة ربوة مريحة وراح ينظر حوله كزعيم
في انتظار بعضالتصفيق ترحيبًا به، ولما لم يُقدِم أحدٌ على ذلك، دخل من فوره في صلب
موضوعه، بصوت مدوٍّ وصل مداه إلى أقصىأطراف المكان.
أيها السادة، لم أجد، في هذه المناسبة، داعيًا لدعوة النساء، وإذا » : صاح بصوت هادر
كنت لم أدعهن للتواجد معنا هذا الصباح، فإنني أؤكد لكم أن ذلك ليس لانعدام التقدير
لهن؛ إذ يمكنني القول — وكان في نبرته حينئذٍ دعابةٌ خرقاء وتواضع زائف — إن العلاقات
فيما بيننا على كلا الجانبين طالما كانت ممتازة، بل وثيقة. إن السبب الحقيقي وراء ذلك
هو أن تجربتنا يتخللها عنصرُخطورةٍ محدود، وإن كان غير كافٍ لتبرير القلق الذي أراه
على وجوه الكثير من حضورنا. سوف يندهش العاملون في الصحافة حين يعلمون أنني
قد خصصت لهم مقاعدَ خاصة للغاية على تلال الأنقاض التي تطل مباشرة على مسرح
العملية. لقد سبق أن أبدوا أحيانًا اهتمامًا بشئوني يصل إلى حد الصفاقة؛ لذا فهم لا
يستطيعون في هذه المناسبة الشكوى من تقاعسي عن التفكير في راحتهم. فإذا لم يحدث
شيء، وهو الأمر الوارد دائمًا، أكون قد بذلت أقصى ما لدي من أجلهم على الأقل. أما إذا
حدثشيء، فسوفيكونون في موقع ممتاز لمعايشته وتسجيله، حال شعروا في النهاية أنهم
على قدْر المهمة.
من المستحيل، كما ستدركون حالًا، على رجلِ علمٍ أن يشرح لمن قد أصفهم، مع
احترامي، بالقطيع العادي من الناس، الأسبابَ المتنوعة لما يتوصل إليه من نتائج أو
لتصرفاته. أسمع بعض المقاطعات غير اللائقة، وسوف أطالب السيدَ ذا النظارة ذات
إن وصفك » : الإطار المصنوع من القرون بالتوقُّف عن التلويح بمظلته. (جاء صوت يقول
هي ما أثارت « قطيع عادي » ربما كانت كلمة («. لضيوفك، يا سيدي، مهينٌ إلى أقصىحدٍّ
غضب السيد. دعونا نقول إذًا إن جمهوري قطيع غير عادي. لن نخوض في جدال عقيم
بشأن العبارات. كنت على وشْك أن أقول، قبل مقاطعتي بهذه الملحوظة غير اللائقة، إن الأمر
بِرُمَّته قد نُوقش على نحو وافٍ وواضح في كتابي القادم عن الأرض، والذي يمكن أن أصفه
بكل تواضع بأنه واحدٌ من الكتب التي ستغيِّر مجرى التاريخ في تاريخ العالم. (مقاطعة
هل هذه دعابة » «؟ لماذا نحن هنا » «. تطرَّق إلى الحقائق » : عامة لحديثه وصيحات تتعالى
كنت بصدد إيضاح الأمر، وإذا اعترضتني مقاطعات أخرى فسوف أضطر لاتخاذ («؟ ثقيلة
إجراءات لحفظ النظام والأدب الغائبَيْن غيابًا مزعجًا للغاية. الموضوع هو أنني قد حفرت
نفقًا عبْر القشرة الأرضية، وأنني بصدد تجربة تأثير التحفيز القوي لقشرتها الحسية، وهي
عملية دقيقة سوف يتولَّى تنفيذها مرءوساي، السيد بيرلس جونز، وهو خبير في الحفر
الارتوازي حسب زعمه، والسيد إدوارد مالون الذي يمثلني شخصيٍّا في هذا الحدث. سوف
تُثقب المادة المكشوفة والحساسة، أما عن رد فعلها، فذاك أمر متروك للتخمين. إذا تفضلتم
الآن، فلْيلزم كلٌّ منكم مقعده، وسوف يهبط السيدان الفاضلان إلى الحفرة لوضع الرتوش
الأخيرة. بعدها سوف أضغط على الزر الكهربائي الموجود على هذه المنضدة، وحينها سوف
«. تكتمل التجربة
عادة ما يشعر الجمهور بعد واحدة من خطب تشالنجر العصماء وكأن بشرته الواقية
قد ثُقبت، مثلما حدث للأرض، وصارت أعصابه مكشوفة دون واقٍ. ولم يكن هذا الجمع
استثناءً؛ فكانت ثمة همهماتٌ خافتة تنطق بالنقد والاستياء بينما كانوا في طريق العودة
إلى أماكنهم.
جلس تشالنجر وحده على قمة الربوة، بجواره منضدة صغيرة، وكان شعر رأسه
ولحيته الأسودُ الكثُّ منتصبًا من فرط الإثارة؛ كان بحق شخصيةً استثنائية وعجيبة. ومع
ذلك لم يستطِع مالون ولا أنا إبداء أي إعجاب بالمشهد؛ إذ هرعنا لإتمام رحلتنا الاستثنائية.
بعد مرور عشرين دقيقة كنا في قاع النفق، وجذبنا الغطاء من فوق السطح الأجرد.
كان المشهد البادي أمامنا مذهلًا؛ فبواسطة نوع من التخاطر الكوني الغريب، بدا أن
الكوكب العجوز يعلم أنه بصدد مشاهدة محاولة جريئة لم يُسمع بها من قبلُ. كان السطح
الأجرد مثل قِدر فائرة؛ فقد رأينا فقاعات رمادية هائلة ترتفع وتنفجر محدثةً فرقعة،
وكانت الفراغات والتجاويف الهوائية تحت البشرة تنفصل وتلتحم في حركة مستعِرة. كان
إيقاع الموجات المستعرضة أقوى وأسرع من ذي قبل؛ فبدا أن سائلًا بنفسجي اللون ينبض
في شبكة القنوات المتصلة القابعة أسفل السطح، وكان نبض الحياة ظاهرًا في كل شيء،
وفاحت رائحة قوية جعلت الهواء لا يكاد يصلح لرئات البشر.
كان نظري مركزًا على هذا المشهد الغريب عندما أصدر مالون — وكان يقف قريبًا
«! يا إلهي، جونز! انظر هناك » : مني — شهقةَ انزعاجٍ مباغتة، ثم صاح قائلًا
ألقيت نظرة خاطفة، وفي اللحظة التالية تركت الوصلة الكهربائية وقفزت داخل
«! هلم! علينا الفرار بحياتنا » : المصعد. صحت قائلًا
كان المشهد منذرًا بالخطر حقٍّا؛ فقد انضم الجزء السفلي من النفق، كما بدا، في النشاط
المتزايد الذي لاحظناه بالأسفل، وكانت الجدران تخفق وتنبضهي الأخرى، وانعكست هذه
الحركة على الفتحات التي ترتكز عليها العارضتان، وكان واضحًا أن أي جذب إضافي ولو
ضئيلًا — لبوصات قليلة — سيتسبب في سقوط العارضتين، ولو حدث هذا، كان الطرف
الحاد للثاقب، بالطبع، سيخترق الأرضبصرف النظر عن الإطلاق الكهربائي، وقبل حدوث
هذا كان من الضروري أن يكون مالون وأنا خارج النفق؛ فقد كان الوجودُ على عمق ثمانية
أميال تحت الأرض في ظل احتمال حدوث اضطراب غير عادي فكرةً شنيعة، وفررنا إلى
السطح بأقصىسرعة.
هل يمكن لأي منَّا أن ينسىتلك الرحلة المروعة الأشبه بالكابوس؟ كانت المصاعد تنطلق
سريعًا، ومع ذلك بدت الدقائق ساعاتٍ، وعندما كنا نبلغ أي منصة كنا نقفز من المصعد،
ونقفز في المصعد الذي يليه، ونضغط على زر الانطلاق، وننطلق إلى أعلى. كان بمقدورنا أن
نرى من بعيد، عبْر السقف المصنوع من الصلب المشبك، دائرةَ الضوء الصغيرة التي تميز
فتحة النفق، كانت هذه الدائرة تزداد اتساعًا، إلى أن صارت دائرة كاملة وارتكزت أعيننا

التي تشع سعادة على البِنى القرميدية الكائنة حول فتحة النفق، وظللنا نرتفع ونرتفع،
وأخيرًا وفي لحظة من الحبور والامتنان قفزنا من سجننا، ولامست أقدامنا المرج الأخضر
مرة أخرى. ولكن الوضع لم يكن مؤكدًا؛ فلم نكن قد ابتعدنا عن النفق مسافة ثلاثين
خطوة حين حدثشيء في الأعماق السحيقة؛ فقد رشق سهمي الحديدي في الكتلة العصبية
للأرضالأم العجوز، وجاءت اللحظة الكبرى.
ما الذي حدث؟ لم أكن أنا ومالون في وضع يتيح لنا الرد؛ إذ ارتفع كلانا عن الأرض
بفعل شيء أشبه بإعصار حلزوني، ثم سقطنا وجعلنا ندور مرارًا في حركة دائرية عبْر
الحشائش، كأحجار الكيرلنج حين تُدفَع على ساحة الجليد. في الوقت نفسه، تناهى إلى
مسامعنا أبشعُ صيحة سُمعت من قبل. مَنْ مِنَ المئات الذين وُجدوا هناك وحاول وصفها
استطاع أن يصف تلك الصيحة الشنيعة على نحو كافٍ بعدُ؟ كانت صيحةً كالعواء امتزج
فيها الألم والغضب والوعيد وثورة الطبيعة فيصرخة واحدة شنيعة، استمرت دقيقةً كاملة،
آلافُ الأبواق اجتمعت في بوق واحدة، شلت ذلك الحشد العظيم بإصرارها الشرس، وسرت
عبْر هواء الصيفالساكن حتى دوَّىصداها عبْر الساحل الجنوبي بأكمله، حتى إنها وصلت
إلى جيراننا الفرنسيين عبْر القناة، لا صوت في التاريخ ضاهى صيحة الأرضالجريحة.
كنت أنا ومالون واعيَيْن بالصدمة وبالصوت، برغم ما أصابنا من دوار وصمم، إلا أننا
لم نعرف التفاصيل الأخرى لذلك المشهد الاستثنائي إلا من روايات الآخرين.
كان أول ما خرج من أحشاء الأرض هو أقفاص المصاعد، أما الآلات الأخرى فقد
نجت من الانفجار؛ لكونها مستندةً إلى الجدران، ولكن أرضيات أقفاص المصاعد الصلبة
اكتسبت كل قوة التيار الصاعد؛ فحين يُوضَع العديد من القذائف الصغيرة المنفصلة في
أنبوب نفخ، فإنها تنطلق منه بترتيبها وعلى نحو منفصل واحدة تلو الأخرى؛ لذا ظهرت
أقفاصالمصاعد الأربعة عشرواحدًا تلو الآخر في الهواء، محلِّقةً الواحد بعد الآخر، وراسمةً
قِطَعَ مكافِئ هندسي رائع جعل أحدها يهبط في البحر بالقرب من مرفأ ورثينج، وآخر في
حقل لا يبعد كثيرًا عن تشيتشستر. وأكد المتفرجون أنه لا يمكن لأيٍّ من كل المشاهد الغريبة
التي رأوها طوال حياتهم أن يتفوق على مشهد أقفاصالمصاعد وهي تبحر في هدوء عبْر
السماوات الزرقاء.
ثم جاءت الحمة، كانت دفقًا هائلًا من مادة لزجة كريهة في كثافة القطران، اندفعت في
الهواء إلى ارتفاع قُدِّر بألفي قدم. كان هناك طائرة استطلاعية، تحلِّق فوق المشهد، فأصُيبت
كأنما قُصفت بمدفع مضاد للطائرات، وأجُبرت على الهبوطالاضطراري، ودُفن الطيار والآلة

في قلب هذه المادة القذرة. ربما كانت هذه المادة المريعة، التي لها رائحة كريهة نفَّاذة للغاية
ومثيرة للغثيان، تمثيلًا لدم الكوكب، أو لعلها — كما يدعي البروفيسور دريسينجر وكلية
برلين — إفرازٌ واقٍ، مشابهٌ لإفراز حيوان الظربان الذي وفَّرته الطبيعة من أجل الدفاع
عن الأرضالأم أمام المتطفلين أمثال تشالنجر. على ذلك، أفلت المتهم الرئيس، الجالس على
عرشه على الربوة، دون أن يلوِّثه أي دنس، بينما غرق الصحافيون البائسون حتى التشبُّع،
لكونهم على خط النار المباشر، حتى إن أيٍّا منهم لم يحضر أي تجمُّع راقٍ عدة أسابيع.
وانتشرت هذه الدفقة من العفن جنوبًا بفعل الهواء، وهبطت على الحشد البائس الذي
ظلَّ ينتظر طويلًا وبجَلَد شديد على قمة تلال داونز لمشاهَدة ما سوف يحدث. لم يكن
ثمة خسائرُ، لم يُهجَر منزل واحد، ولكن الكثير من المنازل عَلِقت بها تلك الرائحة النَّتِنة،
ولا تزال تحمل بين جدرانها أثرًا يذكِّر أهلها بذلك الحدث العظيم.
ثم حان وقتُ إغلاق الثقب، وكما تُغلِق الطبيعةُ جُرحًا ما ألمَّ بها ببطء من أسفل إلى
أعلى، كذلك تَرأَب الأرضبأقصىسرعة أيَّ شق في مادتها الحيوية. كان هناك ارتطام ممتدٌّ
صاحبَه صوتٌ مرتفع، مع التحام جوانب النفق معًا، وكان الصوت يدوي من الأعماق، ثم
ظلَّ يتعالى ويتعالى حتى استوت الحلقة القرميدية المحيطة بالحُفرة بالأرضوالْتحَما معًا
بدويٍّ يصمُّ الآذان، بينما رجَّت هزة كأنها زلزال محدود أكوامَ الأنقاض، وراكمت هَرمًا
من الحطام والحديد المهشَّم ارتفع خمسين قدمًا فوق الحُفرة. لم تَنتهِ تجربة البروفيسور
تشالنجر فحسب، بل اختفت عن نظر البشر إلى الأبد، ولولا النُّصُب الذي شيَّدته آنذاك
الجمعية الملَكية، لكان هناك شكٌّ إن كان أحفادنا سيعرفون من الأساسموقعَ ذلك الحدث
الاستثنائي بالتحديد، أم لا.
ثم جاء مشهد الختام العظيم. بعد فترةٍ طويلة من وقوع هذه الظواهر المُتعاقِبة،
ساد صمت وسكون متوتِّر؛ إذ كان الجميع يحاولون لمَّ شتات عقولهم واكتشاف ما حدث
بالضبط وكيف حدث. وعلى حين غرَّة أدركَت عقولهم ذلك الإنجاز الضخم، والنَّصرالساحق
للفكر والمعرفة، وعبقرية التنفيذ وإعجازه، وفجأةًصار تشالنجر محطَّ أنظار الجميع. دوَّت
صيحات الإعجاب من كل حدب وصوب. ومن فوق ربوته المرتفعة كان يرى بُحيرة الوجوه
المضطربة في مشهد لم يَقطعه إلا الأوشحة الملوِّحة له وهي تَرتفِع وتَنخفِض. حين تعود
بي الذكريات أراه في مخيَّلتي كما رأيته حينذاك؛ أراه حين نهضمن مقعده، وعيناه نصف
مغلقتَين، وعلى وجهه ابتسامة استحقاق نابعة من ثقته الشديدة بنفسه، وقد وضع يده
اليسرى على ساقه، بينما وضع اليمنى في صدر معطفه الأسود. لا ريب أن هذه الصورة

سوف تظلُّ راسخة إلى الأبد؛ إذ كان صوت الكاميرات حولي وهي مُنهمِكة في الْتقاط الصور
له مثل صوتصراصير الليل في الحقل.
ألقت شمس يونيو أشعتها الذهبية على وجه تشالنجر حين التفتَ في وقار ليَنحني
تحيةً لكل جانب من المكان؛ إنه تشالنجر العالِم الخارق، تشالنجر رائد الرواد، تشالنجر
أول إنسان أجُبِرَت الأرضالأمُّ على الشعور بوجوده.
تبقى كلمة على سبيل الختام؛ من المعروف تمامًا بالطبع أن أثر التجربة كان عالَميٍّا.
صحيح أن الكوكب الجريح لم يُصدِر مثل هذه الصرخة في أي مكان إلا في نقطة الاختراق
الفعلية، إلا أنه أثبت أنه بالفعل كِيانٌ واحد بسلوكه في مواقع أخرى؛ لقد أبدى سخطه
عبْر كل شقٍّ وكل بركان؛ فقد دوَّى بركان هِيكلا حتى صار الأيسلنديون يَخشون حدوث
طوفان، وثار بركان فيزوف، ولفظَ بركان إتنا قدْرًا من الحِمَم، وأقُيمت دعوى تعويض
بنصف مليون ليرة ضد تشالنجر في المحاكم الإيطالية تعويضًا عن تدمير حقول العنب.
حتى في المكسيك ونطاق أمريكا الوسطى كانت ثمة دلالاتٌ على سخطٍ جوفي، وملأت
صرخات بركان سترومبولي أرجاء شرق البحر المتوسط كافة. لقد كان طموح البشرية
المعتاد هو جعل العالم بأكمله يتكلم، أما أن تجعل الأرض بأكملها تصرخ، فهو امتياز
حصري لتشالنجر وحده.
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.