hindawiorg

Share to Social Media

زار البروفيسور دانيال دين مودي—ذلك الرجلُ الفاضلُ من إدنبرة، والمعروفُكعالِمِ نفسٍ
خبيرٍ وفي نفس الوقت دارسٍ أمينٍ ومتحمِّسٍ للظواهر التي تُوصف أحيانًا بالروحانية —
هذا البلدَ من فترة ليست بالطويلة، وقد استضافه في تلك الزيارة الدكتور توماسفولرتون
في منزله الفخم الواقع في شارع ماونت فيرنون. وفي مساء أحد الأيام، عندما كان موجودًا
في صالون منزل السيد فولرتون، إلى جانب السيد فولرتون وضيفه الاسكتلندي الدكتور
كيرتيس من كلية طب جامعة بوسطن، والقس الدكتور إيموس كاتلر من كنيسة شارع
ليندي، والسيد ماجنوس من بلدة ويست نيوتن، وثلاث سيدات والمؤلِّف، تطرَّق الحوار
لموضوعات ذات طابعٍ غريب.
كانت تعيش في السابق في مدينة أبردين وسيطةٌ روحانيةٌ » : قال البروفيسور مودي
تُدعى جيني ماجرو وكانت ذات عقلية محدودة، ولكنها كانت تمتلك قوة لافتة للنظر
كوسيطة روحانية. منذ مائتي عام، لو كانت جيني موجودة في بوسطن، فإن أهل بوسطن
الصالحين كانوا سيعتبرونها ساحرةً ويعدمونها. لقد رأيت في كوخِها تجسدًا للأرواح، وهو
أمرٌ لم أستطع حينها ولا أستطيع الآن تفسيره بأيِّ افتراضٍقائمٍ على الخداع أو الهلوسة.
لقد رأيت هناك أشكالًا تخرج، ليس من أحد الدواليب أو الخِزانات السحرية، وإنما تنبثق
أمام عينيَّ من جسد جيني نفسها، فتَعلَق على نحو ضبابي في الهواء للحظة، ثم تبدأ ببطء
في اتخاذ صورٍ مادية. وأنا على استعدادٍ للمُراهنة بسُمعتي العلمية على عدم وجود أيِّ
خدعة وضيعة في ذلك. في إحدى الليالي، خرج أفلاطون نفسه، أو شبح يدَّعي أنه أفلاطون،
زواج عجيب
من صدر جيني ماجرو وتكلَّم معي لمدة خمس عشرة دقيقةً كاملة حول ثنائية الفكرة،
«. بينما كانت الوسيطة الروحانية غائبةً عن الوعي تمامًا
تبادل الدكتور فولرتون نظرةً ذات مغزًى مع زوجته، قاطعها ضيفهما وقال:
«. أنتما لا تُصدقانني، أليس كذلك؟ لا عجب في ذلك »
ليس الأمر على هذا النحو. إن شهادتك باعتبارك راصدًا » : ردَّ الدكتور فولرتون قائلًا
«؟ علميٍّا تستحق كلَّ الاحترام الممكن. لكن ماذا حدث لجيني ماجرو
لقد كانت شابةً غبيةً وبليدة الإحساس، تُصنَّف بالكاد ضمن الكائنات العاقلة. إنها »
لم تكن مهتمة على الإطلاق بأمر تلك الأرواح المتجسدة الرائعة التي تخرج من خلالها، بل
كانت منزعجة بشدة منها، وأعتقد أنها تركت في النهاية اسكتلندا لتهرب من تلك الأرواح
المزعجة والناس الأكثر إزعاجًا الذين كانوا يتدفَّقون على كوخِها، ويقاطعون على نحوٍ
«. مُحزن ما تقوم به من أعمال غسيل وكَي وخَبز
إن أي فتاة أمريكية كانت ستستغل هذه القدرات وتُكوِّن ثروةً » : قال السيد ماجنوس
«. كبيرة
إن جيني ماجرو، التي أعتقد أنها الوسيطة الروحانية » : ردَّ البروفيسور مودي قائلًا
الوحيدة في العالم القادرة على استحضارِ أرواحٍ مُتجسدة على نحوٍ واضح ومستقل عن
محيطها، كانت مدبرة بالقدر الكافي، كما هو الحال بالنسبة لكلِّ النساء الاسكتلنديات،
لكنها لم يكن لديها الذكاء الكافي لإدراك تلك الفرصة. لقد نُصِحت أكثر من مرة بإظهار
قدراتها أمام الناس. لكن الاسكتلنديين لا يسمعون النصيحة. وأنا لا أعرفمكانها في الوقت
«. الحالي
نظر الدكتور فولرتون ثانيةً إلى زوجته، فقامت وضغطت برفقٍ على أحد الأجراس.
سرعان ما انفتح الباب، وظهرت خادمة بدينة ذات شعرٍ أحمر، وانحنت انحناءة
خرقاء لدى دخولها الغرفة.
«؟ هل ضغطتِ على الجرس يا سيدتي » : قالت
«. جيني، لدينا هنا صديق قديم لكِ من اسكتلندا » : ردت السيدة فولرتون
لم يبدُ على الفتاة أيُّ اندهاش. بالكاد ظهر بعض الإدراك على ملامح وجهها الغبي
وهي تتقدَّم بتجهُّم نحو البروفيسور، وتُمسك بيده الممدودة لها وتُسلِّم عليه بتجهُّم.
وأخذت تنظر حولها كما لو أنها ستكون «. لم أكن أعلم أنك قد أتيتَ إلى أمريكا » : قالت
سعيدة بترك هذه الرفقة المثقفة.
والآن، وبعد إذنك » : قال البروفيسور، ناظرًا فوق كتف جيني ماجرو باتجاه مضيفته
يا سيدة فولرتون، سنطلب من السيدة الشابة أن تتفضل وتساعدنا في تنفيذ تجربة نسعى
«. للقيام بها
نظرت جيني بارتياب وحوَّلت عينيها الصغيرتَين والغبيتَين من سيِّدها إلى سيدتها
ومن سيدتها إلى الباب.
أنا لستُ شغوفة بهذه التجربة، كما أنني سأشعر بألم فيصدري عندما » : قالت ببلادة
«. تخرج منه الأشباحُ القديمة، كما تتذكر جيدًا بلا شك يا سيد مودي
ظلت الفتاة لوقت طويل ترفض بعناد تجديد علاقاتها مع ذلك العالم الغامض.
ونَسيتُ الحجة أو الالتماس الذي جعلها في النهاية توافق على مضض. لكنني لم أنسَ ما
حدث بعد ذلك.
كانت الغرفة مُضاءة جيدًا بفضل الضوء القوي لخمسة مصابيح تعمل بالغاز.
أجُلست جيني — تحت هذا الضوء، وقد أحاطت بها الصحبة المستمتعة والمتشكِّكة في
الوقت نفسه — على كرسيمريح تركي الطراز. لم تكن ذات مظهرٍ جذاب؛ إذ كانت قصيرة
وبدينة وذات بشرة رملية اللون مليئة بالنمشوعينين حادتين. همستُ لشخصٍكان يجلس
يا إلهي! هل يمكن أن تختار الأرواح العظيمة وسيطًا كهذا عندما ترغب » : بجواري قائلًا
«؟ في العودة إلينا
«. رجاءً التزام الصمت! الفتاة تدخل في غشية » : قال البروفيسور مودي
أخذت عيناها القبيحتان تُفتحان وتُغلقان. وأصاب خديها المترهلين تشنُّج خفيف.
وأطلقت تنهيدة أو اثنتين، وأخذ كرسيها يهتز بعصبية وكانت تتنفس ببطء وبصوتٍ عالٍ.
هذا تمثيل فاشل لغيبوبة وليس حتى تمثيلًا بارعًا. » : همس الدكتور كيرتيس لي قائلًا
«. هذه مسرحية هزلية
جلسنا لخمس عشرة أو عشرين دقيقة في صبرٍ انتظارًا لما سيحدث، وقد كان الصمت
يكسره فقط التنفس المُضطرب للفتاة. ثم بدأ واحد أو اثنان من الحاضرين في التثاؤب،
وخشيَتْ مضيفتنا من تحوُّل التجربة لشيءٍ مُمل؛ فتحركت كما لو أنها قد أرادت بذلك كسر
الدائرة المحيطة بالفتاة. لكن البروفيسور مودي رفع يده معترضًا. وقبل أن يُنزلها، أومأ
إيماءةًسريعةً وجهت كلَّ أنظار الحاضرين باتجاه جيني ماجرو.
بدا أن رأسها وصدرها قد غُطيا بهالة رقيقة ومعتمة من البخار البرَّاق الذي يتدفَّق
بحُرية حولها، غير أنه كان مُركَّزًا من موضعٍ بعينه، وذلك كما تنبعث سحابة من الدخان
الأزرق من طرف سيجار من نوعٍ جيد. بدا أن موضع انبعاث البخار يوجد بالقرب من
قلب جيني. ثم توقفت جيني عن التنفس بصوتٍ عالٍ، وأصبحت شاحبة كالموتى، لكن
وجهها لم يكن أكثر شحوبًا من وجه الدكتور كيرتيس. شعرتُ بأن يده كانت تتلمس يدي
حتى وجدتها وقبضت عليها بقوة حتى نمَّلَت يدي.
وبينما كنا نُراقب ما يحدث، أخذ البخار الذي كان يخرج من صدر جيني يزداد
حجمه وأصبح معتمًا. لقد كان أشبه بسحابة قاتمة مُحدَّدة المعالم، تتحرك أمام أعيُننا،
وأخذت تنكمش وتتمدد مرات عديدة حتى أصبح الشكل في النهاية تامٍّا.
رأينا شيئًا صغيرًا لا معنى ولا ملامح واضحة له وقد أخذت ملامحه تتشكَّل تدريجيٍّا
حتى تحوَّل فجأة لكيان واضح محدد المعالم. أو، بالأحرى، رأينا في مشهد تمثيلي يقوم على
خيال الظل كأن ضبابًا غامضًا ليس له شكل محدد قد تكثَّف وتَشكَّل على هيئة شخص
يقترب من الشاشة حتى أصبح خيالَ شخصٍكاملًا. والآن، تخيل أن هذا الخيال قد ظهر
أمامك باعتباره حقيقة واقعة، وأن لديك فكرة عن عملية الانتقال العجيبة التي انتقل من
خلالها هذا الظل من عالم لا نعرف عنه شيئًا إلى نطاق صحبتنا الصغيرة.
نظرت عبر الغرفة إلى القس الدكتور كاتلر. كان يُمسك جبهته بكلتا يديه. لم أرَ من
قبلُ تعبيرًا بليغًا أكثر من هذا عن مزيج من الرعب والفزع والحيرة.
كان هذا الوافد الجديد رجلًا في الثامنة والعشرين أو في الثلاثين من عمره، وكان
حسن المظهر وذا هيئة وقورة. انحنى بأدبٍ للحضور، لكنه عندما رأى أن البروفيسور
مودي كان على وشك الحديث، وضع إصبعه على شفتيه ونظر بعدم ارتياح إلى الوسيطة
الروحانية. خُيل إليَّ أن شعورًا بالاشمئزاز قد سيطر على قسمات وجهه الوسيم عندما رأى
مدى قبح المَعْبَر الذي عاد من خلاله للعالم. ومع ذلك، فقد أبقى عينيه مثبتتين على وجه
جيني ماجرو الشاحب وطوى ذراعيه على صدره وكأنما كان ينتظر شيئًا.
لقد وقعنا الآن بالكامل تحت تأثير هذا الحدث الغامض. وبتوقع متحمس ولكن دون
اندهاش، رأينا مجددًا ظواهر السحابة والظل والتكثف والتجسد.
ظهرت ببطء من الضباب الأبيضوالظل الضبابي أجمل امرأة يمكن لإنسانٍ أن يراها.
كانت امرأة؛ امرأة حية تتنفس، وكان فمها العذب مفتوحًا قليلًا وصدرها يصعد ويهبط
وراء ثوبٍ من قماش مُطرز على نحوٍ رائع، وكانت عيناها السوداوان اللامعتان تتألَّقان
حتى سيطرتا على عقولنا وشغلتا تفكيرنا. كان إدراكسروجودها أسهل من وصف جمالها
الخلَّاب الذي أدهشنا وبهرنا.
فكَّ الرجل ذراعيه، وبرِقَّة مُحبٍّ وبإجلالٍ لا تستحقه سوى ملكة، أخذ اليد البيضاء
البضة للسيدة الرائعة الجمال وقادها إلى وسط الغرفة. لم تقل شيئًا، لكنها سمحت له
بأن يُرشدَها للمكان وهو ممسكٌ بيدها ووقفت كإمبراطورة تتفحص الوجوه وملابس
الحاضرين بفضول مُتحير، وكان من الممكن أن تجد فيه لمحة من الازدراء. تحدَّث في
النهاية بصوت خفيض.
أيها الأصدقاء، لقد قاد حبٌّ عظيم شخصًا كان حتى وقت قريب ميتًا إلى » : قال ببطء
حضرة امرأة رائعة الجمال. لقد صادفه حظٌّ سعيد أكبر مما يمكن لتضحياته الصغيرة
أن تقدم له. أنا لا أستطيع أن أكون أكثر وضوحًا من ذلك. استمعوا لرجائنا وحققوه
لنا دون مناقشة. يوجد هنا أحد خُدَّام الكنيسة، صاحب الاختصاص في التلفظ بالكلمات
الوحيدة التي يمكنها تتويج حب مثل حبي. إن هذا الحب الذي امتدَّ لقرون عاد ليحقق
مبتغاه وخلَّده موت طوعي. لقد جئنا من عالم آخر لنطلب الارتباط بالزواج وفقًا لتقاليد
«. هذا العالم
رغم الغرابة التي قد تبدو عليها تلك الكلمة العجيبة التي ألقاها الرجل، فقد سمعناها
دون أن نندهش؛ وذلك لأن الأحداث السابقة عليها جعلتنا معتادين على طبيعة ما يدور
حولنا. وعندما همس السيد ماجنوس — من بلدة ويست نيوتن، الذي كان سيحافظ على
يا إلهي، لقد » : أسلوبه الواقعي البارد حتى في صحبة الملائكة — بصوت مسموع قائلًا
كانت كلماته صادمة بالنسبة لنا. «! هربا من أرضالأرواح
بدا على القس الدكتور إيموس كاتلر على نحوٍ واضحٍ تأثيرُ السحر الذي ألُقي على
منطقنا السليم؛ منطق القرن التاسع عشر. فقام هذا الرجلُ التقيُّ من مقعده وقد ارتسم
على وجهه تعبيرٌ ينم عن الذهول وقلة الحيلة، وتقدَّم باتجاه العريس والعروس، مثل
شخصيسير وهو نائم.
رفع يده ليطلب من الحضور الصمت ثم طرح بجديةٍ وتأنٍّ الأسئلة الأساسية التي
تستخدمها الكنيسة في مراسم الزواج. ردَّ الرجل بنبرة واضحة ومبتهجة، في حين ردت
العروس فقط بإيماءة بسيطة من رأسها الجميل.
إذن، وفي حضور هؤلاء الشهود، أعُلنكما زوجًا » : استمرَّ الدكتور كاتلر في المراسم قائلًا
«. وزوجة. وليسامحني الرب لاتباعي خطوات الشيطان بتدنيسي لهذا التقليد
ذهبنا الواحد تلو الآخر لمصافحة العريس وتحية العروس. كانت يده تشبه يد تمثال
رخامي، لكن وجهه أضاءته ابتسامة متألقة. وبإيعاز هامس من جانبه، أحنت رأسها
الملكية وسمحت لكلٍّ منا بتقبيل خدها الذي كان ناعمًا ودافئًا.
عندما حيَّاها الدكتور كاتلر، ابتسمت للمرة الأولى، وفي حركةسريعة ورشيقة، نزعت
من شعرها الأسود لؤلؤة عظيمة ووضعتها في يده. فحدَّق فيها للحظة ثم قذف بها على
نحوٍ مفاجئ في المدفأة المفتوحة. وفي اللهب المتوهج، ابيضت اللؤلؤة التي حصل عليها
الدكتور كاتلر مقابل إتمامه مراسم الزواج ثم تكلَّست وتفتتت وتلاشت.
ثم قاد العريس زوجته مرة أخرى للكرسي الذي كانت لا تزال الوسيطة الروحانية
جالسة عليه وهي غائبة عن الوعي. ثم ضمَّها بقوة بين ذراعيه؛ فامتزج جسداهما
المُنصهران وتحوَّلا إلى بخار غائم، وقد وَجَدَ الزوجان المتزوجان حديثًا، وهما يتلاشيان
ببطء، مكانَ التقائهما الجسدي في صدر جيني ماجرو.
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.