بدا الرجُل الغريب، عند رؤيته من خلال زُجاجات البارون التي نيَّفتْ على العشرين، رجُلًا
طاعِنًا في السِّن، يُناهِز عمرُه الثمانين على أقلِّ تقدير. كان يرتدي مِعطفًا رماديٍّا رثٍّا ويحمِل
عصا حُجَّاج معقوفة، وكانت هيئته هيئةَ شيخٍ مُسنٍّ غيرِ مُؤذ. يبدو بمظهرٍ مُبتذلٍ جدٍّا
بحيث يصعُب أن يُثيرَ اهتمامَ أحد، ولو بِضعَ دقائق. ندِم البارونُ على استدعائه، ولكن
لكونه إنسانًا وافرَ الأدب، عندما لا يكون في ثورَة غضَبه، فقد أمرَ ضيفَه بالجلوس وملأ له
كأسًا من خمرِ سَنةِ المُذَنَّب.
بعد انحناءةٍ كاملةٍ، لم تتخلَّلها ذرَّةُ خنوع، تناولَ الحاجُّ الكأس وتذوَّق الخمر وكأنه
يُقيِّمها. ورفع الكأس عالِيًا في مُواجهة الضَّوء بيدٍ مُرتعشةٍ، ثم تذوَّقَها ثانيةً. ويبدو أن
التجرِبة منحتْه إحساسًا عظيمًا بالرِّضا؛ فراحَ يمسَح بيَدِه على لِحيته البيضاء الطويلة.
قال البارون، وهو يَغمِز بعينه ناحيةَ اللوحة المرسومة بالحجم الطبيعي لأحد أجداده:
«؟ يبدو أنك خبيرٌ بالخمور. لقد أرضَتْ هذه ذوقَك. أليس كذلك »
إلى أبعد الحدود، بيْدَ أن قِوامَها مُتغيِّرٌ قليلًا من طول مُدَّة التَّخزين. » : فأجاب الحاجُّ
، ومن عَبَقِها ودرجةِ لونِها، أستطيع القولَ إنها مصنوعةٌ من محصولِ عِنب سنة ١٣٠٤
الذي نما على المُنحدَر الوَعر في جنوب الجنوب الشرقي للقلعة، في مُفترَق الطريقَيْن المؤدِّيَيْن
إلى أسفل التل. إن أشعَّة الشمسالمُنعكسةَ من البُرج تُعطي مَيزةً خاصَّةً لنموِّ النبات في هذه
البُقعة بالتحديد، لكنَّ خدَمَك الأوغادَ خزَّنوا الزجاجات في الجانب غير المُناسِب من القَبْو.
كان ينبغي أن تُوضع في الجانب الجافِّ منه، قُرب المكان الذي احتَجزَ فيه جدُّك الجَسورُ
سيجيسموند نبيلُ واينستاين، الملقَّبُ بأشعرِ اليدين، زوجتَه الثالثةَ استعدادًا للزَّواج من
«. الرابعة
يا للعجب! لكن … يبدو أنك على دِرايةٍ » : رمقَ البارون ضيفَه بنظرة ذُهول، وقال
«. بمَداخِل هذا المكان ومَخارِجه
لئن كنتُ كذلك، فما تجاوزَ هذا » : ردَّ الرجُلُ الغريبُ، وهو يَرتشِفُشرابَه بهدوء قائلًا
حُدودَ الأمور الطبيعية؛ فلقد عِشتُ أكثر من ستِّين عامًا تحت سقف هذا المكان، وأعرِفُ
«. كلَّ ثُقبٍ فيه؛ فقد كنتُ أنا نفسي — يومًا ما — أحدَ نُبَلاء واينستاين
فأشار البارون إلى صدره بإشارةِ الصليب، وسحبَ كُرسيَّه بعيدًا عن الزجاجات
والغريب قليلًا.
أوه، يا إلهي! هدِّئ رَوعَك؛ فأنا أعرِفُ أن كلَّ قلعةٍ جيدةِ » : فقال الحاجُّ، ضاحكًا
التنظيمِ بها شبَحٌ من الأسلاف، ولكني إنسانٌ من لحمٍ ودمٍ حقيقيَّين. لقد ظللتُ لوردَ
واينستاين حتى سافرتُ منذ اثنتي عشرة سنة لدراسةِ علومِ ما وراء الطبيعة في الجامعات
العربية، فأقصاني كَتَبةُ العدلِ المَلاعينُ عن التَّرِكة. كيف لهم أن يفعلوا هذا؟! إنني أعرف
هذه القاعةَ منذ الطفولة؛ ففي تلك الجِهة هنالك تُوجَدُ الِمدْفأة التي اعتدتُ أن أدُفئ عندها
أصابعَ قدَمي وأنا طفل. وها هي هناك الدِّرعُ ذاتها التي كنتُ أزحف داخِلَها وأنا صبيٌّ في
السادسة وأختبئ حتى كادت والدتي الراحِلة — نيَّحَها الرَّب — تكاد تموت مِن الخوف
عليَّ. يبدو لي الأمرُ قريبًا وكأنما حدثَ أمسفقط. وها هو ذا مُعلَّقٌ على الحائط ذلك السَّيفُ
الصارمُ المُزدوَجُ الِمقْبض، سيفُ جَدِّنا فرانز، المُلقَّب بذي الأذُُن الواحدة، والذي جزَزْتُ به
شارِبَ والدي الثَّمِل وهو جالسٌ مُشوَّشَ الذِّهن بينما يتجرَّع زجاجتَه العشرين. وها هي
ذي الخوذةُ نفسُها … لكنْ لعلَّ هذه الذكريات قد أشعرتْك بالضَّجر. أرجو أن تَغفِر ثرثرةَ
«. رجُلٍ عجوزٍ عاد لزيارةِ مَرتعِ طفولتهِ وشبابه
إنَّني شخصيٍّا أعيشفي هذه القلعة منذ نِصفِ » : ضغط البارونُ بِيَده على جبهته وقال
قرنٍ من الزمان، ولديَّ معرفةٌ بالقدْرِ المقبولِ بتاريخِ أسلافي القريبين. لكنني لا أستطيعُ
القولَ إنَّني حظيتُ بشرَفِ مَعرفتِك من قبلُ مُطلقًا. ومع ذلك، اسمح لي أن أصُبَّ لك
«. كأسًا
إنها خمرٌ جيِّدة، إلَّا أنها قد تكون خمرَ سنة » : قال الحاجُّ، وهو يمدُّ يدَه بالكأس
«… ١٣٩٢ ، عندما كان العِنب
إن عِنب سنة ١٣٩٢ يحتاج إلى أربعين سنةً » : فحملَقَ البارونُ في ضيفه، وقال هازئًا
«. قبلَ أن يَنضَج. إنك هَرِمٌ، يا صديقي، وأفكارُك مُشوَّشة
معذِرةً سيِّدي الكريم، إن خمر سنة ١٣٩٢ مُخزَّنة منذ أربعين » : فردَّ الحاجُّ بهدوء
«. سنة. إنك لا تُجيد تذكُّر التواريخ
«؟ في أي سنةٍ نحن » : سأله البارون
بحسب التقويم، وحساب النجوم، وما سلفَ من الزمن، وبحسب إجماع الناس، إنها »
«. سنةُ ١٤٣٣ الميلادية
قَسمًا برُوحي وأمَلي في الخلاص إنها لسنة ١٣٥٢ بعد ميلاد » : صاح البارون بقوَّة
«. المسيح
من الواضِح أن ثَمَّة سوءَ فهْمٍ في مَوضعٍ ما. لقد وُلدتُ » : عقَّبَ الضيفُ المَهيبُ قائلًا
«. هنا سنةَ ١٣٥٢ ، سنة الغزوِ التُركيِّ لأوروبا
حمدًا للرب، ما من أتراكٍ » : ردَّ شيخُ العشرين قِنِّينة، وقد استعادَ سيطرَته على نفسه
غزَوا أوروبا. فإما أنك ساحرٌ أو دعِيٌّ. وعلى كلِّ حالٍ سآمرُ بسَحبِك وتمزيقك إرْبًا إرْبًا
«. حالَما نُنهي هذه الزجاجة. من فضلك أكملْ ذكرياتك المُثيرة، ولا تستَبْقِ شيئًا مِن الخمر
أنا لا أمُارِسُ السِّحرَ مُطلقًا. وبالنِّسبة لكوني دَعِيٍّا، فلْتفحصْ » : ردَّ الحاجُّ بروِيَّة
وجهي جيدًا. ألا تُميِّزُ فيه أنفَ العائلةِ الغليظَ القصيرَ الشديدَ الحُمرة؟ وماذا تقول في
التَّجاعيد الثلاث الجانِبيَّة والاثنتين القُطْريَّتَين على جبيني؟ إنَّني أراها فوقَه منذ سنين. ألا
«. تُشبِه خُدودي خُدودَ عائلة واينستاين؟ دقِّقِ النَّظر. إنَّني ألتمِسُ منك التدقيق
«. إنك حقٍّا تُشْبِهنا إلى حدٍّ مُريع » : فأقرَّ له البارون قائلًا
لقد كنتُ الصبيَّ الأصغر بين أربعة توائم. وكان إخوتي الثلاثةُ » : تابَعَ الضيفُ قائلًا
ضُعَفاءَ مرضى؛ فلم يعيشوا طويلًا بعدَ ولادتهم. وكنتُ — وأنا طفلٌ — محبوبَ والدي
الِمسكين، الذي كان لديه بعضُ الخِصال التي تستحقُّ أن يُشاد بذِكرِها، رغم كونه شيخًا
«. سِكِّيرًا مُسرِفًا في الشراب ولِصٍّا عديمَ الضمير
أجفلَ البارونُ وتكدَّرتْ ملامِحه.
كان الناس قد دأبوا على تَسميتِه شيخ العشرين قِنِّينة. وفي رأيي غير المُتحيِّز، بناءً »
«. على ما أذكره، أن لقبَ شيخ الأربَعين قِنِّينة كان سيُصبِح أقربَ إلى الحقيقة
«. هذا كذِبٌ! إنني نادِرًا ما أتجاوز العِشرين زجاجة » : فصرخ البارون
وأمَّا عن سُمعتِه في المجتمع، فلا بدَّ » : واصلَ الحاجُّ، دون أن يُلقي بالًا لمُقاطعة البارون
من الاعتراف بأنه لمْ يكن هناك ما هو أسوأ منها؛ لقد كان مصدرَ رُعبٍ للبُسَطاء من الناس
لأميالٍ حولنا. كانتْ حقوق الِملكيَّة مُعرَّضةً للخطر إلى أبعد الحدود في هذا الجوار؛ إذ لمْ
يَعرفْ جشعُ والدي المأسوفِ عليه حدودًا، ولكن لمْ يجرؤ أحدٌ على الجهر بالشكوى، فما
كانت الأرواح في مأمنٍ أكثر من قُطعان الخِراف أو الأموال. كم كرِهَ الناسُ طَيفَه، وكم
اشتدُّوا في لَعنهِ من وراء ظهره! أذكرُ جيدًا، وأنا في الرابعة عشرة تقريبًا — لا بدَّ أنها كانت
سنة ١٣٦٦ ، سنةَ احتلال الأتراك مدينةَ أدَرْنة — أن هوجو العملاق، عامل الطاحونة،
إنه » : فقلتُ، وأنا أنتصِب في وقفتي «. أيها الصبي، إنَّ أنفك جميلٌ جدٍّا » : استدعاني وقال
أعتقِد أنه » : فأجبته «؟ وهل هو ثابتٌ وقوي » : فسألني هوجو مُتهكِّمًا «. أنفٌ جميلٌ يا هوجو
فقال هوجو وهو ينصرف «؟ ثابتٌ وقويٌّ بما فيه الكفاية، لكن لِمَ تسألُ أسئلةَ الحمقى هذه
حسنٌ، حسنٌ أيها الصبي، لكن راقبْ أنفك بكِلتا عينيك جيدًا عندما لا يكون والدُك » : عنِّي
مشغولًا بعملٍ ما؛ فإن ضميره ليَسمَح له بِسرقة أنف ابنِه من وجهه إذا لمْ تتوافر له غنيمةٌ
«.« أفضل لنَهبِها
أقُسم بالقدِّيس كريستوفر أن هوجو العِملاق، عامل » : صاح البارون بصوتٍ هادِر
الطاحونة، سوف يدفع ثمن هذا! لطالَما شككتُ فيه. وحقِّ القديس كريستوفر لأحطِّمنَّ
«. كلَّ عظْمةٍ في جسَدِه الحقير
سيكون هذا انتقامًا دنيئًا؛ فهوجو العِملاق يتوسَّد قبرَه منذُ ستِّين » : فردَّ الحاجُّ بهدوء
«. سنةً الآن
قال البارون، وهو يضعُ كِلتا يديه على رأسه، ويرمُق ضيفَه بنظرةٍ عاجِزةٍ تمامًا:
هذا صحيح، لقد نسيتُ أنَّنا الآن في القرن المُقبِل من الزمان — ذلك إذا لم تكن أنتَ مُجرَّد »
«. شبح
أستَميحُك عُذرًا والِدي المُحترم، إذا فنَّدتُ فَرْضيَّتَك بالمنطق؛ لأنها » : ردَّ الحاجُّ بحسم
تنال منِّي في موضعٍ حسَّاسٍ للغاية، وتطعَن، بطبيعة الحال، في حقيقتي الماديَّة ووضعي
بِوَصفي ذاتًا حقيقية مُستقلَّة. والآن، ما موقفُ كلٍّ منَّا؟ إنك تقرُّ بأن تاريخ ميلادي كان في
سنة ١٣٥٢ ميلادية. وهذا أمر قد لا يُمكِن لَومُ ذاكِرتِك عليه. ومن ناحيةٍ أخرى، وبتناقُضٍ
غريب، فأنتَ تؤكِّد، برغم التقويم والتاريخ وتَسلسُل الأحداث، أنَّنا لا نزال في عام ١٣٥٢
ميلادية. لو كنتَ واحِدًا من أصحاب الكهف، فإنَّ هلوستَك — حتى لا أستخدِم لفظًا أكثر
حدَّةً — قد تُغتفر، ولكنك لستَ أحدَ أصحابِ الكهفِ ولا أنتَ قدِّيسٌ كذلك. إن كلَّ سنةٍ
من السنوات الثمانين المُخزَّنةِ في حقيبةِ خِبراتي تَعترِضعلى خطئك الفادِح. أنا مَن له حقٌّ
مشروعٌ وأصيلٌ في مُناقشة قضية وجودك المادي، وليسَ أنت. هل سمِعتَ قطُّ بشبح، أو
طيف، أو خيال، أو روح، أو وَهْمٍ يأتي من المُستقبل ليُلازِم، أو يُزعِج، أو يُفزِع أفرادَ جيلٍ
«؟ سابقٍ عليه
اضطُرَّ البارون للاعتِراف بأنه لمْ يَسمع مُطلقًا بمثل هذا.
لكنك سبَقَ أن سمِعتَ بحالاتٍ لأطياف، أو أرواح، أو أشباح، سَمِّهم بما شئتَ، غزَوا »
«؟ الحاضرَمن غياهبِ سجونِ الماضي. أليس كذلك
أشار البارون إلى صدره مرةً أخرى بإشارة الصليب، وراحَ يُحدِّق في اضطرابٍ إلى
إن كنتَ حقٍّا أحد نُبَلاء واينستاين، فلا بدَّ أنك تعلَمُ » : أركان المبنى المُظلِمة، وهمَسَ قائلًا
أن الأشباح من ذلك النوع تجتاحُ هذه القلعة. إنَّ من العسير أن تتجوَّل في أرجائها بعد
«. الغسقِ دون أن تتعثَّر في نصف دزينة منهم
إنك بهذا تتنازَل عن دعواك؛ فأنت تقعُ فيما » : قال الحاجُّ الرابِط الجأش ذو المنطق
يُسمِّيه مُعلمُ أصولِ المنطقِ المبجَّلُ؛ معلِّمي، العلَّامةُ العربي ابنُ داستي، بالانتحار الأسُلوبيِّ
القِياسي؛ ففي حين تُنكِر وجودَ أشباحٍ من المُستقبَل، تُجِيزُ ألَّا يكون من النادِر مُلاقاة أشباح
الماضي. وأنا الآن، وبوصفي إنسانًا، أؤكد لك هذه الفرضية: إنَّ احتمالَ أن تكون أنت طيفًا
«! أرجحُ بكثيرٍ من أن أكون أنا كذلك
«؟ أمِنْ آداب البُنوَّة أن تُنكِرَ بشريَّةَ والِدك » : امتُقِع لونُ البارون حُمرةً، وسأل الضيفَ
وهل من الأبُوَّة أن تُعرِّضبزيفِ » : ردَّ الحاجُّ حُجَّةَ البارون دون أن يفقِد هدوءه وقال
«؟ وجودِ ابنِك الذي من صُلبك
أقُسِم بجميع القِدِّيسين أن هذه القضية » : صاح البارون، ولونه ما زال يشتدُّ حُمرةً
وراح البارون يُنادي مرَّاتٍ «! سوف تُسوَّى، وقريبًا جدٍّا! أيُّها القهرمان، أنت أيُّها القهرمان
ومرَّات، لكن دون جدوى.
أرِح رِئتيك، فلن يتحرَّك الخادِمُ الأمهرُ في العالم من » : فأشار عليه الحاجُّ بهدوءٍ قائلًا
«. قبرِه لأجلِصُراخِك هذا
تقهقرَ شيخُ العِشرين قِنِّينة إلى الوَراء وانهار في كُرسيِّه في يأس. حاوَل أن يتكلَّم،
لكنَّ لسانه وحَلقه امتَنَعا عن أداء وظيفتِهما، ولم يزيدا على إصدارِ أصوات خرخرةٍ غير
مفهومة.
هذا أفضل. تصرَّفْ كطيفٍ مَهيبٍ جليلٍ من القرن » : قال ضيفه بنبْرة استحِسان
الماضي، شبحٍ حسنِ السلوكِ ليس بصخَّابٍ ولا عنيف. ولديك الآن مُتَّسعٌ من الوقت كي
«. تُصبِح مُسالِمًا في تصرُّفاتك؛ فقد كنتَ عنيفًا بما يكفي قبلَ موتِك
«؟ موتي » : قال البارون لاهِثًا
«. اغفر لي ذِكرَ هذه الواقعة البغيضة » : اعتذر الحاجُّ قائلًا
«. موتي! أَودُّ أن أسمع تفاصيل هذا » : تمتم البارون، وشَعْرُه مُنتصِبٌ فوق رأسه
كان عُمري بالكاد يربو على الخامسة عشرة » : قال الحاجُّ، وقد بدا مُستغرِقًا في التفكير
في هذا الوقت، لكنِّي لن أنسى أبدًا تلك الأحداث الأكثر سُخريةً على الإطلاق التي صاحَبَت
الانتفاضةَ الشهيرة الكُبرى التي وضَعَت حدٍّا لمسيرة والدي الفاضل. لقد بلغ غضبُ الناس
حدٍّا تجاوَزَ احتمالَهم بِسبب فظاعَةِ جرائمك؛ فهبُّوا أخيرًا هبَّةَ رجُلٍ واحدٍ من كلِّ حدَبٍ
وصوبٍحولنا، واندفعوا أفواجًا—يقودُهمصديقي القديم، هوجو العملاق، عامل الطاحونة
— إلى شوينكينفيلس، واستنجدوا بابن عمِّك، الكونت كونراد، ليحمِيَهم منك؛ أنت الذي
يُفترَضبك أن تحمِيَهم. فاستمع نبيلُ شوينكينفيلس إلى شكاواهم بروعٍ جم. وأجاب بأنه
لَطالما راقَبَ أفعالك المَقيتةَ بتألُّمٍ وارتياع؛ وأنه كثيرًا ما عارَضَك بسببها، لكن دون جدوى؛
وأنه كان يَعدُّك بَليَّة الحي؛ وأن قلعتَك كانتْ مُتخمَةً بالكنوز المُلطَّخة بالدِّماء والأسلاب
المُكتسَبة بطريقةٍ مُشينة، وأنه صارَ الآن يرى أنَّ من واجِبه الشخصي— بوصفه قيِّمًا على
النظام القانوني والأخلاق القويمة — أن يَزحَف بجيْشه على واينستاين، وأن يقضيعليك
«. من أجْلِ الصَّالح العام
«! يا للقُرصان المُنافِق » : صرخ شيخُ العشرين قِنِّينة
الأمر الذي شرَع في تنفيذه، مدعومًا في ذلك بخَدَمِك أنفسهم وليس » : أردف الحاجُّ
خدَمِه وحسب. وعليَّ أنْ أعترِف بأنك قد أقمتَ دفاعاتٍ حصينة. ولولا أنَّ قهرمانك الشرِّير
باعَكَ لشوينكينفيلسوأنزلَ جِسرالقلعة المُتحرِّك في إحدى الليالي وأنتَ تُذهِب عقلكَ كالمُعتاد
بزجاجاتك العشرين، لما تمكَّن كونراد قطُّ — فيما أرى — من أيِّ مَدخلٍ من مداخل القلعة،
ولكانت عيناي الصغيرتان رُحِمَتا من فظاعةِ ما غُلبَتا عليه من النظرِ إلى جُثةِ والدي المُبجَّل
«. وهي تتدلَّى في نهايةِ حبلٍ مُعلَّقٍ بأعلى أبراج الحِصن الشمالي الغربي
أشَنَقوني؟ » : دَفن البارون وجهَه في يديه وراح يبكي مِثل الأطفال، ثم قال مُتلعثِمًا
«؟ أفَعلوا ذلك
يؤسِفُني أنه ما من تفسيرٍ آخر لِما حدَث. لقد كانت هذه هي النتيجة » : قال الحاجُّ
الحَتميَّة لِمثل ما كنتَ تقوم به. لقد علَّقوك من رقَبَتك. أعدموك. خنقوك بحبلٍ حتى الموت؛
أوَتبكي يا أبي؟! انظُر إليَّ إذَن .« قتلٌ مُبرَّر » وكان الحُكمُ الذي اتَّفق عليه المُجتمَع أن موتك
«. يا أبَتِ. إنني أبكي كذلك للعارِ الذي لَحِق بعائلةِ نبيل واينستاين! تعالَ هنا بين ذراعي
تعانَقَ الوالدُ وابنُه عِناقًا طويلًا حنونًا تمازجتْ فيه دُموعُهما التي ذَرَفاها على نَكْبةِ
واينستاين. وعندما استفاقَ البارون من انفعِاله وجدَ نفسَه وحيدًا لا يُرافِقه إلا صحوةُ
ضميره وأربعٌ وعشرون زجاجةً فارغة. وقد اختفى الحاجُّ.