استمر على هذه الحالة حتى وصل إلى البيت الجديد، والذي لم يكن جديداً في حقيقة الأمر، بل كان قديما ومتهالكا، في أحد الأحياء الشعبية في القاهرة، بيت بسيط صغير، ثلاث غرف صغيرة وبه أثاث قديم أكل منه الدهر وشرب
ليبدأ "مصطفى" في تذكر القصر اللي كان يسكن فيه، ويتذكر تلك الحديقة التي كانت تحاوطه من كل جانب
تذكر هذه الحديقة حينما خرجت عيناه لتَطُل من النافذة على ذلك الحي القديم المزدحم، وصوت السيارات التي تعزف ضوضاء طيلة النهار
ثم وقعت عيناه على تلك المحلات الصغيرة المُبعثرة في تلك الحارة، ووِرَش الحدادة والنجارة وسمكرة السيارات، وتلك القهوة التي تتوسط الحي، التي يجتمع عليها الناس بلا سبب
تنتبه أُذنه لكلمات جديدة تُخرجها الأفواه، ولغة لم تكن مألوفة بالنسبة له، ونبرةٍ للصوت لا يعرف إن كانت طبيعية أم مصطنعة
وقف يراقب هذا الحي الجديد، ورأسه مُعبأ بالأفكار والتساؤلات
مكث "مصطفى" طويلاً يتأمل هذا المشهد البديع في هذا الحي المزدحم حتى أتى إليه "محمود" ليقطع عليه عملية التأمل هذه.
فنظر له "مصطفى" وقال له ساخراً : عرفت بقى إن أبوك كان بيكذب علينا ؟
ردَّ عليه بكلمات حادة، ووجهٍ غاضب وقال له منفعلاُ: اتلم يلا.. عيب تقول كده على أبوك.
اندهش "مصطفى" من انفعاله ..
فقال له: يعني هو مش عيب يكذب علينا، ولكن عيب إني أقول إنه بيكذب ..!
يعني من حقه إنه يكذب عادي عشان هو كبير ومفيش حد هايحاسبه ..!
ولكن عيب إني أقول رأيي في اللي هو بيعمله ..!
محمود غير مؤهل للمناقشة بمنطق ولا يملك آلية لمقارعة الحجة بالحجة، فهو يلا يتقن إلا ترديد ما تم حشو رأسه به وفقط
لا يجيد إلا إتباع أحمق لقوانين ظالمة يفرضها المجتمع على الأبناء بِسَوْط من سياط العبودية وكسر الإرادة
ولذلك ترك كل ما قاله مصطفى وقال له: انت عَيِّل قليل الأدب، وما بتعملش احترام للكبير.
كلام مكرر اعتاد أن يَسمَعه من أبيه في مثل هذه المواقف، فأخذ يُردده دون أن يفكر فيه، ولم يبذل أي مجهود لمحاولة فهم ماذا يقصد شقيقه.
فأراد "مصطفى" أن يُعلِّمه كيف يناقش الفكرة بشكل صحيح دون اللجوء للهروب والمراوغة، وتكرار هذا الكلام الأحمق
فقال له: تعرف ترد على كلامي من غير ما تفضل تقولي انت عَيِّل قليل الأدب ؟ مش هو قال بيتنا في القاهرة أحسن من بيتنا اللي في المنصورة، قال كده ولا ماقالش، قال كده ولا أنا اللي بتبلى عليه ؟
وبعدين يا عم هافترض إن أنا عَيِّل قليل الأدب، قولي انت بقى يا محترم يا مؤدب، اللي أبوك عمله ده اسمه ايه، هاتلي له اسم وأنا موافق ؟
فيسقط "محمود" في يده وتفترسه أضراسه، ولا يعلم كيف يخرج من هذا الخندق الضيق، الذي وضعه فيه هذا الفتى العجيب
محمود لم يكن يدرك أنه أمام عملاق في جسد طفل صغير، كان يتوقع أن الأمر سَيَمُر كما كان يمر في السابق، عندما كان يقول لمصطفى مثل هذه الكلمات
ولكنه لم يكن يعلم أن هناك أمور حدثت قلبت الموازين، وأيقظت المارد بداخل هذا الطفل، فمصطفى تغير بشكل كامل، وبصورة مفاجئة
وللك وقف بينه يديه رافعاً راية الصمت، وتسكنه الحيرة، ولا يعرف بماذا يَرُد، فكيف له أن ياتي باسم أخر لما فعله والده ..!
فأشفق عليه مصطفى، وقال له: أنا عارف إنك مش هاتعرف تِرُد، عشان في حقايق ما بينفعش تتزيف
ثم قال له ناصحاً: شوف يا محمود في عندك حلين ملهمش تالت، الأول إنك تشغل مخك وتمتلك قرارك، واختيارك
التاني إنك تفضل زي الحمار اللي بيتسحب، وهو عنيه مِتغَمِّيه ومش عارف هو رايح فين ولا ليه، وخليك عارف إنك مش بتتسحب كده زي الحمار عشان انت لسه عَيِّل صغير، لأ.. انت هتفضل تتسحب كده على طول.
في هذه اللحظة قرر "محمود" أن يهرب من هذا النقاش المنطقي، فذهب لمناقشة فكرة مغلوطة، في محاولة منه للدفاع عن نفسه، فأراد أن يأخذ النقاش لمساحة يجيد فيها المراوغة
فقال له في تهكم: هو أنا عشان بحترمهم أبقى مسحوب زي الحمار ..!
ابتسم "مصطفى" من هذه الحيلة الدفاعية التي لجأ لها هذا المسكين، ليستر بها عورته، حيلة ساذجة قائمة على المراوغة
فاقترب منه مصطفى وقال له: لأ يا محمود مش عشان بتحترمهم تبقى حمار، اللي هيخليك حمار، إنك ما بتعرفش تشوف الحقيقة، ولا بتعرف تعبَّر عن رأيك، ولا بتعرف تدافع عن حقك
اللي هيخليك حمار، إنك بالطريقة دي عمرك ما هيكون ليك قرار ولا اختيار في أي حاجه في حياتك.
وقف "محمود" بين يديه بنظراته الحائرة، ظل يلتفَّت يميناً ويساراً، فهو لم يعد يستطيع مجارة هذا الطفل العجيب في حجته، ولذلك قرر الهروب من هذا الحوار الغير عادل
فقال له في توتر: ماشي يا عم، أنا حمار ومسحوب ومابفهمش، عايز حاجه تانية؟
ضحك "مصطفى" ونظر له بنظرات تحمل كثيراً من الشفقة
وقال له: لأ مش عايز حاجه.
ثم تركه وذهب إلى النافذة مرة أخرى، محاولاً ترتيب أفكاره من جديد، وقف يتأمل ويراقب هذه الحياة الجديدة، كان يرصد ويُحلل أدق التفاصيل، لعله يتنبؤ بما تُخبؤه له في قادم الأيام.
بيما جلس "محمود" يراقبه في صمت وقد شغل رأسه سؤال واحد، مَن يكون هذا الطفل ومِن أين له بهذا الكلام، أهذا شقيقي الذي رافقته الفِراش لمدة ثلاثة عشر عاماً، أم تلبَّس به شخص أخر ..!