ظلَّت الفكرة تتردَّد في ذهني وأنا في طريقي إلى المنزل، عائدًا من «؟ ماذا لو أنني متُّ تحته »
منزل هادون. لم يكن ذلك إلا سؤالًا شخصيٍّا تمامًا؛ إذ كنتُ قد عُوفيتُ مما يهمُّ الرجل من
هموم ومتاعب الزواج، وكنتُ أعلم أنه ليس لديَّ إلا عددٌ قليل من الأصدقاء المقرَّبين، لكنهم
سيُفجَعون لموتي، وسينبُع ذلك أساسًا من واجبهم في الشعور بالأسى. حين تأملتُ هذه
الفكرة، راودَني شعور بالدهشة شابَهُ شعور بالإهانة بعضالشيء؛ فأنَّى لهذا العدد القليل
أن يتجاوز المطلب التقليدي! في طريق عودتي من منزل هادون مرورًا بتلِّ بريمورس،
رأيتُ الأمور بوضوحٍ مجرَّدةً من بريقها، فتذكرتُ أصدقائي منذ أيام الصبا، وأدركتُ أنَّ ما
يُكِنُّه بعضنا لبعضٍمن مشاعر، ليس إلاضربًا منضروب العادة؛ إذ كنَّا نجاهد من أجل
أن يلتقي بعضنا ببعضٍ كي نحافظ عليها. ثم هناك منافسيَّ ومساعديَّ في عملي السابق،
وأظن أنني كنتُ غير مبالٍ أو مُتحفِّظ مع هؤلاء — أعتقد أنَّ إحدى الصفتين تنطوي على
الأخرى — فربما تكون قدرة المرء على الصداقة مرتبطةً بحالته الجسدية. في وقتٍ سابق
من حياتي، كنت أجزَع حزنًا لخسارة أحد أصدقائي، لكن في أثناء عودتي إلى المنزل، عصر
ذلك اليوم، كان الجانب العاطفيُّ من مُخيِّلتي خامدًا؛ لم أستطع أن أشعر بالشفقة على
نفسي ولا بالأسف لأصدقائي، ولم أستطع كذلك أن أتخيَّل أنهم سيَحزنون عليَّ.
رحتُ أفكر في حالة الموت العاطفيِّ التي انتابتْني؛ لا شكَّ أنها عَرَض مُصاحِب لهذا
العطَن الذي أصاب أعضاء جسدي، وهكذا شرَد ذهني في هذه الفكرة وما يتولَّد عنها من
أفكار. ذات مرةٍ في عُنفوان شبابي، نزفتُ الكثير من الدماء فجأةً وكنتُ على شفا الموت.
أتذكر أنَّ ذلك قد استنزف جُلَّ عواطفي وشغَفي، فلم أشعر بأيشيءٍ إلا سَكينة الاستسلام
ورمقٍ من رثاء الذات. مرَّتْ أسابيع قبل أن تعود لي الطموحات القديمة والرقَّة وجميع
تحت مِبضَع الجراح
ما يُخالِج المرء من تفاعلات أخلاقية مُعقَّدة؛ فخطر لي أنَّ المعنى الحقيقي لهذا الخدَر قد
يكون هو الانسحابَ التدريجيَّ من ثنائية اللذة والألم التي يَسترشِد بها الإنسان البدائي.
فقد ثبَت، بأكبر قدرٍ من الدِّقَّة قد يتوافر في إثبات أي أمرٍ آخر في هذا العالم، أنَّ العواطف
السامية والمشاعر النبيلة وحتى ما يَكمُن في الحبِّ من إيثارٍ لطيف، قد تطوَّرتْ من رغبات
الحيوان ومخاوِفه البدائية؛ فهي اللجام الذي يُمسك بالحرية الذهنية للإنسان. ويبدو لي
أنه حين يحلُّ الموت، وتتلاشى قدرتنا على التصرُّف، يخبو معها هذا النمو المعقَّد للدوافع
والمَيل والنفور المتوازنَين. فماذا يبقى بعد هذا؟
عدت إلى الواقع فجأة؛ إذ كنتُ على وشكِ الاصطدام بعربة صبيِّ الجزار، ووجدتُني
أعبُر الجسرالذي يعلو قناة ريجنت بارك، والتي تجري موازية نظيرتها في حديقة الحيوان.
كان الصبي الذي يرتدِي ثيابًا زرقاء ينظُر من فوق كَتِفه نحو زوْرَق نقلٍ أسود يتقدَّم ببطءٍ
ويجرُّه حصانٌ أبيضُ هزيلٌ. وفي حديقة الحيوان، رأيتُ مُربيةً تصحَب معها على الجسر
ثلاثة أطفالٍ سعداء. كانت الأشجار يانعة الخضرة، وكان تفاؤل الربيع الذي يعمُّ الأجواء
لا يزال خالصًا لم يَشُبْه غُبار الصيف بعدُ، فبَدت السماء في المياه مُشرقةً وصافية، لم
يشُقَّها سوى الأمواج الطويلة والخطوط السوداء المُرتعشة التي ظهرتْ بينما كان القارب
يشقُّ المياه. كان النسيم عليلًا، لكنه لم يُحرِّك مشاعري كعَهْدي بنسيم الربيع.
أكانت هذه الحالة من خمود المشاعر في حدِّ ذاتهاضربًا من الترقُّب؟ من الغريب أنني
كنتُ قادرًا على التفكير وتتبُّع شبكةٍ من الإيحاءات بوضوحٍ تامٍّ كما عهِدتُ نفسي دومًا، أو
هكذا بدا لي الأمر على الأقل؛ فتلك الحالة التي انتابتْني هي أشْبَه بالهدوء منها بالخمود.
هل ثَمَّةَ تبريرٌ لهذا الشعور بالارتياح لهاجس الموت الوشيك؟ أيبدأ المرء — غريزيٍّا، حين
يقترب من الموت — في الانسحاب من شِبَاك المادة والفكر، حتى قبل أن تمتدَّ يَدُ الموت لتنزِع
روحَه؟ انتابني شعورٌ غريب بالانعزال عن حياتي ووجودي، لكنني لم أكن آسِفًا لذلك.
الأطفال الذين يلعبون في الشمس ويستجمِعون القوة والخِبرة التي سيستَعِينون بها على
أمور الحياة، وحارس الحديقة الذي يُثرثِر مع إحدى المُربيات، والأم التي تُرضِع طفلها،
والعاشقان الشابَّان الهائِمان اللذان مرَّا بي، والأشجار القابعة على جانب الطريق وقد
نثَرَت أوراقها الجديدة مُتضرِّعةً إلى ضوء الشمس، والحفيف الذي يَسري بين غصونها؛
لقد كنتُ جزءًا من ذلك كله، لكنني كنتُ على وشك أن أنفُضه عنِّي الآن.
بينما كنتُ أسير على ممشى برود ووك، شعرتُ بأنني مُرهَق وبأنَّ قدميَّ ثقيلتان.
كان الجوُّ حارٍّا في عصر ذلك اليوم؛ فانتحيت جانبًا وجلستُ على أحد المقاعد الخضراء
التي تُغطي الطريق. وفي دقيقةٍ واحدة، غَفوتُ في حلم، وعلى تيار أفكاري طَفتْ رؤيةٌ
للبعث. كنتُ لا أزال جالسًا على المقعد، لكنني ظننتُ أنني قد متُّ بالفعل؛ كنتُ ذاويًا وباليًا
وفورًا، «! استيقِظوا » : ومتيبِّسًا، وقد اقتلعَتِ الطيور (كما رأيتُ) إحدى عينيَّ. نادى صوت
ثار الغبار والعفَن القابع تحت العشب. لم يحدُث من قبلُ أن تخيَّلتُ حديقة ريجنت بارك
كمقبرة، أما الآن، فمع الأشجار المُمتدَّة على مدى البصر، أرى سهلًا مُنبسطًا من قبورٍ
مُتعرجةٍ وشواهدَ مائلةٍ. بدا أنَّ ثمَّةَ خَطبًا ما؛ فقد بدَا الموتى الناهضون من الموت يختنقون
وهم يُصارعون في طريقهم إلى الأعلى، وقد نزفوا فيصراعهم هذا حتى تمزَّق اللحم الأحمر
لكنني صمَّمتُ على ألَّا أستيقظ على مثل «! استيقظ » عن العظام البيضاء. نادى صوت
كانت روحًا «. انهض » : لن يتركوني وشأني. نادى صوتٌ غاضب «! استيقظ » . هذه الفِظائع
تتحدَّث بلكْنة الكوكني! لقد كان بائع التذاكر يهزُّني مُطالبًا بثمن التذكرة.
دفعتُ النقود ووضعتُ التذكرة في جيبي، ثم تثاءبْتُ ومددتُ ساقيَّ، وشعرتُ حينها
بأنني أقلُّ خمولًا، فنهضتُ وسرتُ مُتوجهًا إلى لانجام بليس، وسرعان ما غبتُ مرةً أخرى
في متاهةٍ مُتغيرة من الأفكار المتعلِّقة بالموت. عند مروري بطريق ماريلبون إلى ذلك المُنحنى
الموجود في نهاية لانجام بليس، اصطدمتُ بإحدى سيارات الأجُرة، وبالكاد نجوتُ من
ذلك الحادث، فتابعتُ طريقي بقلبٍ مُرتجف وكَتِفٍ مُصابة برُضوض، وخطرَ لي أنه كان
سيُصبِح أمرًا غريبًا لو أنَّ تفكيري في موتي بالغد، تسبَّب في موتي ذلك اليوم.
غير أنني لن أضُْجِرك بالمزيد من تجاربي في ذلك اليوم والذي يلِيه. زاد يَقِيني بأنني
سأموت إثر هذه العملية الجراحية، وأعتقد أنني في بعض الأحيان، كنتُ أميل إلى طرح
هذه الفكرة على نفسي. كان الأطباء سيأتون في الحادية عشرة، لكنني لم أنهض؛ إذ لم أجد
أهميةً لأنْ أتكبَّد عناء الاغتسال وارتداء الملابس المناسبة. وكنتُ قد قرأتُ الجرائد والرسائل
التي وصلَت في البريد، لكنني لم أجدْها مُثيرةً للاهتمام؛ فكان من بينها رسالة ودِّية من
أديسون،صديقي القديم في الدراسة، يلفِتُ فيها انتباهي إلى وجود أمرَين مُتناقِضَين وخطأٍ
مطبعي في كتابي الجديد، ورسالةٌ أخرى من لانجريدج يُعبِّر فيها عن استِيائه من مينتون.
أما بقية الرسائل فكانت مُتعلِّقة بالعمل. تناولتُ فطوري في السرير، وبدا أنَّ الألم في جانبي
قد اشتدَّ عليَّ. كنتُ أدُرك أنه الألم، لكني لم أشعر بوَطْأته، إن كان من المُمكن أن تفهم هذا.
في الليل، كنتُ مستيقظًا وأشعر بالحرِّ والعطش، لكنني شعرتُ بالراحة في السرير صباحًا.
في الليل، رقدتُ أفُكِّر في أمورٍ من الماضي، وفي الصباح، غفوتُ وأنا أفُكِّر في مسألة الخلود.
حضرهادون في موعده تمامًا حاملًا حقيبةً سوداءَ أنيقة، وسرعان ما تَبِعه موبري. أثارني
حضورهما قليلًا؛ فقد زاد اهتمامي الشخصي بالأحداث. حرَّك هادون الطاولة الثُّمانيَّة
الشكل الموجودة بالقرب من جانب السرير وبدأ في إخراج الأغراضمن حقيبته، مُولِّيًا إياي
ظهره العريض. سمعتُ النقر الخفيف للأدوات المعدِنية إذ يتلامس بعضها مع بعض،
«؟ هل ستُؤلمني كثيرًا » : واكتشفتُ أنَّ مُخيِّلتي لم تكن راكِدة تمامًا. سألته بنبرةٍ باردة
كلَّا، على الإطلاق. سوف نُخدِّرك » : أجابني هادون مُستديرًا برأسه نصف استدارة
وبينما كان يتحدَّث إليَّ، استنشقتُ نفحةً من المخدِّر، «. بالكلوروفورم؛ فقلبك سليم تمامًا
وشممْتُ رائحته اللاذعة الحلوة.
مدَّدَا جسدي، بما يكشف لهما جانبي بشكلٍ مُلائم، وقبل أن أدُرك ما يحدُث، كان
الكلوروفورم يُحقَن في أورِدَتي. شعرتُ بلسعةٍ خانقة في الأنف واختناقٍ في البداية. كنتُ
أعلم أنني سأموت لا محالة، وأنَّ تلك هي نهاية عهدي بالوعْي. وفجأةً شعرتُ بأنني غير
مُستعدٍّ للموت؛ انتابني شعورٌ غامض بأنَّ عليَّ واجبات قد أغفلتُها، لكنني لم أعرف ما
هي. ما الذي لم أفعلْه؟ لم أستطع أن أفُكِّر في أي شيءٍ آخَرَ أفعله، لم يعُدْ في الحياة شيءٌ
أرغب فيه. وبالرغم من ذلك، خالجَني شعورٌ غريب للغاية بالنفور من الموت. شعرتُ في
جسدي بألمٍ شديد، لكنَّ الطبيبَين لم يكونا يعرفان بالطبع أنهما سيقتُلانِني. لقد قاومتُ
على الأرجح، ثمَّ سقطتُ ساكنًا بلا حراك، وخيَّم عليَّ صمتٌ رهيبٌ مُخيف، وغَشِيَني ظلامٌ
دامس.
لا بدَّ أنَّني فقدتُ الوعيَ تمامًا في فترةٍ ما، ربما لدقائقَ أو ثوانٍ، ثم حلَّ عليَّ وضوحٌ
بارد لا يمَسُّ المشاعر، وأدركتُ أنني لم أمُت بعدُ. كنتُ لا أزال في جسدي، لكنَّ ذلك القدْر
الهائل من الأحاسيس الذي يتدفَّق منه ليُشكِّل خلفية الوعي، كان قد اختفى، تاركًا إياي
حرٍّا منه تمامًا. كلا، لم أكن حرٍّا منه تمامًا؛ إذ كان ثمَّةَ شيء لا يزال يربطني بهذا الجسد
البائسالعاري الممدَّد على السرير، غير أنه لم يربطني به ربطًا مُحكمًا تمامًا، حتى إنني لم
أشعر بأنني خارجَهُ أو مُنفصل أو مُبتعِد عنه. لا أحسَب أنني قد رأيتُ أو سمعتُ، لكنني
كنتُ أدُرِك كل ما يجري، وكأنني رأيته وسمعته. كان هادون يقِف مُنحنيًا عليَّ، بينما وقف
موبري من خلفي؛ أما المبضع — وكان مبضعًا كبيرًا — فراح يشقُّ اللحم في جانبي تحت
الضلوع. كان من المُثير أن أرى نفسي وأنا أقُطَّع كالجبن، دون أن أشعر بأي ألمٍ أو حتى
وخْزَة. كان الأمر مُثيرًا كمشاهَدة مباراةٍ في الشطرنج بين غريبين. كان وجه هادون صارمًا
ويدُه ثابتة، غير أنني دُهشتُ حين أدركتُ (ولست أدري كيف) ما يعتَمِل في نفسه من
شكوكٍ عظيمة في حسن تصرُّفه في إجراء العملية.