استطعتُ أن أرى أفكار موبري كذلك. كان يُفكِّر في أنَّ تصرُّفات هادون تعكِس
مهارة المُختَص. راحت الاقتراحات الجديدة تنبثِق كالفقاقيع من تيَّار فِكره المتدفِّق، ثم
تَنفجِر واحدةً تلو الأخرى في البقعة الصغيرة المضيئة في وعيه. لم يستطع موبري أن
يُقاوِم ملاحظته لبراعة هادون وسرعته في إجراء العملية؛ ومن ثمَّ إعجابه بهما، بالرغم من
ميله إلى الحسد والانتِقاص من شأن الآخرين. رأيت كبِدي مكشوفة وحِرتُ في حالتي؛ لم
أشعر بأنني ميِّت، لكنني كنتُ مختلفًا على نحوٍ ما عمَّا كنتُ عليه وأنا حي. كان الاكتئاب
الرمادي الذي أثقَلَني لقُرابة عامٍ أو أكثر، وصبَغَ جميع أفكاري بلَونه قد اختفى؛ فكنتُ
أرى الأمور وأفكر فيها دونما أي مسحةٍ عاطفية على الإطلاق. تساءلتُ عمَّا إذا كان الجميع
يرَون الأمور بهذه الطريقة تحت تأثير الكلوروفورم، ثم ينسَون ذلك ثانيةً حين يزول أثره.
فسوف يكون من المُزعج أن تنظر في رءوس بعضهم ولا تنسَى ما رأيتَه.
بالرغم من أنني كنتُ أدُرك أنني لستُ ميتًا، كنتُ لا أزال أرى بوضوحٍ تام أنني على
شفا الموت، وقد أعادني ذلك مرةً أخرى إلى التفكير في هادون وما يقوم به. نظرتُ في عقله
ورأيتُ خوفه من قطعِ أحد فروع الوريد البابي، فانصرَفَ انتباهي عن التفاصيل وتحوَّل
إلى ما يدور في عقله من تغيُّرات مُثيرة. كان وعيُه يُشبِه بقعة الضوء المُرتعشة الصغيرة التي
تُلقيها مرآة جهاز الجلفانومتر. مرَّت أفكاره تحتها كتيَّار، بعضها مرَّ من البؤرة واضحًا
ومميزًا، ومرَّ بعضها الآخر من الجزء النصفيِّ الإضاءة على الحافة فكان مُظلَّلًا مُبهمًا. الآن
فقط، صار الوَهَج الخافت ثابتًا، لكن مع أقلِّ حركةٍ من موبري، أو أقلِّ صوتٍ من الخارج،
أو حتى أقلِّ اختلافٍ في الحركة البطيئة للَّحم الحي الذي كان يشقُّه، كانت بقعة الضوء
ترتعِش وتدور. اندفع في تيَّار الأفكار انطباعٌ حِسيٌّ جديد، وفجأةً سبَحَت بقعة الضوء
إليه بأسرعَ مما تسبح سمكةٌ مُرتعِبة. كان من المُدهش أن أرى أنَّ هذا الشيء المُتشنِّج غير
المستقر، هو الذي تتوقَّف عليه جميع الحركات المعقَّدة التي يقوم بها الإنسان؛ ومن ثمَّ
كانت حياتي تتوقَّف على حركاته خلال الدقائق الخمس التالية. ظلَّ توتُّر هادون في العمل
يزداد ويزداد؛ كأنَّ ثمَّةَ صورةً صغيرة لوريدٍ مقطوع تزداد وضوحًا، وهي تُحاول جاهدةً
أن تُزيح من مُخِّه صورةً أخُرى لوريدٍ قطَعَه أقصرَمما يجب؛ كان خائفًا: راح خوفه من
أن يَقطَع جزءًا أقصرَمن اللازم يتصارَع مع خوفه من أن يَقطع جزءًا أطولَ من اللازم.
وفجأة، وكما تندفِع المياه من أسفلِ بوَّابة هويس، اندفع إدراكٌ رهيب أدَّى بأفكاره إلى
الدوران، وفي الوقت ذاته، أدركتُ أنَّ الوريد قد قُطع. تراجَع في اندهاشٍمكتوم، ورأيتُ الدم
البُنِّي القُرمزي يتجمَّع بسرعةٍ في عُقَد ثم يَتخثَّر. لقد كان مُرتعِبًا، فرَمَى المبضع الملطَّخ
بالأحمر على الطاولة الثُّمانيَّة، وبدأ الطبيبان فورًا في عمل مُحاولاتٍ مُتعجِّلة وغير مدروسةٍ
قالها موبري وهو يلهث، لكنني كنتُ أعرف أنني قُتلتُ، غير أنَّ «! ثلج » . لمعالجة الكارثة
جسدي ما زال مُتعلقًا بِي.
لن أصِف محاولاتهما المُتأخِّرة لإنقاذي، بالرغم من أنني كنتُ واعيًا بجميع التفاصيل؛
فقد كانتْ حواسِّيأكثر حدَّةً وأسرعَ مما كانتْ عليه في حياتي على الإطلاق. اندفعَتِ الأفكار
إلى عقلي بسرعةٍ غير معقولةٍ وبدقَّةٍ مثالية في ذات الوقت. لا يمكنني تشبيه هذه الحالة،
من اندفاعها بهذا الوضوح، إلا بمن تَناوَل جرعةً مُناسبة من الأفيون. في لحظةٍ واحدة،
سينتهي كلُّ هذا وأصُبِح حُرٍّا. كنتُ أعلم أنني خالدٌ لن أَفنى، لكني لم أكن أعرف ما
سيحدُث. هل سأتلاشى الآن كنفْثَة دخانٍ من بندقية، في جسدٍ نصفِ ماديٍّ وصورةٍ واهِنة
من ذاتي المادية؟ هل سأجد نفسيفجأةً بين هذه الجموع الغفيرة من الموتى، وأدُرك حقيقة
عالمي مُجرَّدةً من الخيالات المُتتابِعة التي طالما كان يبدو عليها؟ هل سأتحوَّل إلى استحضار
الأرواح، وأقوم بمحاولاتٍ حمقاءَ ومُبهمة للتأثير في وسيط مُتبلِّد الذهن؟ انتابتني حالةٌ من
الفضول المُجرَّد من العاطفة والتوقُّعات الكئيبة الباهتة، ثم شعرتُ بضغطٍ مُتزايد قد حلَّ
بي، وكأنَّ مغناطيسًا بشريٍّا ضخمًا يجذِبني إلى الأعلى خارج جسدي. ظلَّ هذا الضغط
يزداد ويزداد؛ كنتُ كذَرَّةٍ تتصارَع عليها قوًىشريرة. وللحظةٍ واحدةٍ رهيبة على قِصَرها،
عاد لي الإحساس مرةً أخرى؛ ذلك الإحساس الذي يُراوِدنا في الكوابيس بالسقوط بالرأس
مُندفِعًا. شعرتُ بهذا الإحساس مُكثَّفًا ألف مرَّة، صاحَبَه وابلٌ من الرعب الأسود اجتاح
أفكاري. وكما تتلاشى فقاقيع الزَّبَد من دوَّامات الأمواج، شعرتُ بأنَّ الطبيبين وجسدي
العاري بجانِبِه المشقوق والغرفة الصغيرة، كل ذلك يَتسرَّب من تحتي ثم يتلاشى.
كنتُ عالقًا في الهواء، ومن تحتي بمسافةٍ بعيدة ينحسِر الطرف الغربي من لندن
بسرعة — إذ كان يبدو أنني أطير بسرعة إلى أعلى — وبينما كان ينحسِر، كنتُ أجتاز
الطريق غربًا وكأنني أراه في منظرٍ بانورامي. استطعتُ الرؤية من خلال غِشاوة الدخان
الخفيفة؛ فرأيتُ تلك المداخن التي لا تُحصىعلى الأسقُف، والطرق الضيقة المُرقَّطة بالبشر
ووسائل المواصلات، والبقع الضئيلة من الميادين، وأبراج الكنائسكأشواكٍ بارزة في النسيج.
ابتعَد كل ذلك بسرعة مع دوران الأرضحول محورها، وفي ثوانٍ معدودة (كما كان يبدو
لي) كنتُ أحُلِّق فوق الأجَمات المتناثرة في بلدةٍ بالقُرب من إيلنج، وبدا نهر التايمز الذي يمتدُّ
كخيطٍ أزرقَ نحو الجنوب، وتلال تشيلترن ونورث داونز المنتصبة كحافة حوض، بعيدَين
جدٍّا وخافِتَين من الضباب. اندفعتُ إلى أعلى، لكنني لم أفهم في البداية ما قد يعنيه اندفاع
رأسيبهذه الطريقة إلى الأعلى.
مع كل لحظة، كانت دائرة المنظر من تحتي تتَّسع أكثر فأكثر، وازدادت تفاصيل
المدينة والحقل والتلِّ والوادي شحوبًا وخفوتًا حتى غدَا من الصعب تمييزها، وزاد امتزاج
اللون الرمادي اللامع مع زُرقة التِّلال وخضرة المُروج المفتوحة، والْتَمعتْ رقعةٌ صغيرة من
الغَيم تسير مُنخفضةً في اتجاه الغرب، ببياضٍأكثر بريقًا. ومع ارتفاعي إلى الأعلى، زادت
رِقَّة غشاء الغلاف الجوي الذي يفصِل بيني وبين الفضاء الخارجي؛ فأصبحتِ السماء التي
كانت في زُرقة الربيع الفاتحة في البداية، تزداد قتامةً وغِنًى في اللون وهي تمرُّ بثباتٍ عبر
الظِّلال المُتداخلة، حتى أصبحتْ في زرقة مُنتصف الليل، ثم صارت في سواد سماء الصقِيع
المضاءة بالنجوم، إلى أن اكتسَتْ في النهاية بسوادٍ لم أرَ مثله قط. في البداية، لم أرَ إلا نجمةً
واحدة، ثم العديد من النجوم، ثم انشقَّت السماء عن عددٍ لا نهائي من النجوم لم يرَه بشَر
من الأرضقط. فلما كانضوء الشمسوالنجوم يتخلَّل زُرقة السماء ويُشتِّتها في كل اتجاهٍ
على غير هدًي، فإننا نجد الضوء مُنتشرًا في السماء حتى في أحلَك ليالي الشتاء، وكذلك لا
نرى النجوم نهارًا لِما للشمس من إشعاعٍ شديد السطوع. أما الآن، فقد تمكنتُ من رؤية
الأشياء — لستُ أدري كيف، لكنَّ المؤكد أنني لم أرَها بعينيَّ الفانيتين — ولم تَعُد مَثْلَبة
الانبهار تُعمِيني. كانت الشمس غريبةً ورائعةً على نحوٍ لا يُصدَّق. كان جسمها قُرصًا من
الضوء الأبيضالشديد السطوع، لا مُصفرٍّا كما يبدو لمن يعيشون على الأرض، وإنما أبيضُ
شاحب، مُعرَّق بخطوطٍ قرمزية ومُؤطَّر بحافةٍ من ألسنةٍ مُتعرِّجة من الأحمر الناري. ومن
جانبيه، ينبثِق جناحان يمتدَّان عبر منتصف السماء ويتلألآن بالأبيض الفضِّيفيُصبِحان
أكثر سطوعًا من مجرَّة الطريق اللبَني، ما جعله أشبه بأقراصالشمسالمُجنَّحة التي تظهر
في النقوش المصرية، أكثر من أي شيءٍ مما أتذكره من الأرض، وهو ما كنتُ أعرِفه باسم
الهالة الشمسية، بالرغم من أنني لم أرَ منها غير صورةٍ في بداية أيامي في حياتي الأرضية.
عندما انصرف انتباهي إلى الأرض مرةً أخرى، رأيتُ أنها قد سقطتْ بعيدًا عني
للغاية؛ فصارت البلدة والحقول غير واضِحَتَين على الإطلاق، وراحتْ جميع الألوان المختلفة
للبلد يمتزِج بعضها مع بعض حتى تحوَّلت جميعًا إلى لونٍ رمادي زاهٍ مُتناسِقٍ، لا يَكسر
تناسقَهشيءٌ إلا البياضاللامع للغيوم التي تتناثَر في شكل كُتَلٍ مُتلبِّدة فوق أيرلندا وغرب
إنجلترا. في تلك اللحظةصار بإمكاني أن أرى الملامح العامة لشمال فرنسا وأيرلندا وجزيرة
بريطانيا بأكملها فيما عدا اسكتلندا وهي تتخطَّى الأفق إلى الشمال، أو حيث تمحو الغيوم
الساحل أو تغْشَاه. كان البحر بلَونٍ رمادي باهتٍ وأكثر قتامةً من الأرض، وكان المشهد
بأكمله يدور ببطءٍ نحو الشرق.
كان كل ذلك يحدُث بسرعةٍ بالغة، حتى إنني كنتُ على بُعد ألف ميلٍ من الأرض أو
ما يزيد عن ذلك ولم أنتبِه إلى نفسي على الإطلاق، لكنني في تلك اللحظة أدركتُ أنه لم يَعُد
لديَّ يدان ولا قدمان ولا أي أجزاء أو أعضاء أخرى، وكذلك لم أعُدْ أشعر بأي انزعاجٍ أو
ألم. كل ما كنتُ أدُرِكه أنَّ الفراغ (إذ كنتُ قد تركتُ الهواء من خلفي بالفعل) كان أبردَ مما
يمكن لأي إنسانٍ أن يتخيَّل، لكنَّ ذلك لم يُزعجني. كانت أشعة الشمس تندفع في الفراغ
دون إطلاق ضوءٍ أو حرارةٍ إلى أن تَسقط على شيء في مسارها. كنتُ أرى الأشياء بشعورٍ
من السكينة نبَعَ من نسيان الذات، كما لو كنتُ إلهًا. وفي القاع السحيق الذي يبعُد عني
مسافة عددٍ لا يُحصىمن الأميال، تُوجَد بقعةٌ صغيرةٌ داكنة في الجزء الرمادي الذي يُشير
إلى موضع لندن، وفيها يجاهد طبيبان لإعادة الحياة إلى تلك القِشرة البائسة البالية التي
خلعتُها عني. حينئذٍ شعرت بالانعِتاق والسَّكِينة اللذين لا يُمكنني تشبيههما قطُّ بأي مُتعةٍ
فانية عرفتُها.
لم أكن قد بدأتُ في فهم معنى ذلك الشعور باندفاع الرأس إلا بعد أن اختبرتُ جميع
هذه الأمور. لكنَّ الأمر كان بسيطًا وواضحًا للغاية، حتى إنني كنتُ مُندهشًا من أنني لم
أتوقَّع على الإطلاق ما كان يحدُث لي؛ فكأنني انفصلتُ فجأةً عن المادة؛ كل ما كان ماديٍّا فيَّ
ظلَّ هناك على الأرض، يدور بسرعةٍ في الفضاء وتُبقيه الجاذبية عليها، مُساهِمًا في قصورها
الذاتي، وهو يدور معها في مَدارها حول الشمس، ومع الشمس والكواكب في مَسيرتها
العظيمة عبر الفضاء. أما ما هو غير مادي، فليس له قصورٌ ذاتي، ولا يشعر بجذب المادة
للمادة؛ فحيثما ينفصِل عن حُلته الجسدية، يبقى هناك راسخًا في الفضاء. لم أكن أغُادر
الأرض، بل هي التي كانت تُغادِرني، وليسالأرضفحسب، بل كان النظام الشمسيبأكمله
ينحَسِر عني. وعلى مقرَبة منِّي في الفضاء، وأنا غير مرئيٍّ لي، منثور في أعقاب الأرضبعد
رحلتها، لا بدَّ أنَّ ثمَّةَ عددًا لا نهائيٍّا من الأرواح، مُجرَّدًا مثلي من المادة، مُجرَّدًا مثلي من
المشاعر الفردية، من سخاء عواطف البهيمية الجماعية؛ عقول مجردة، أشياء من الدهشة
والأفكار الوليدة، يتعجَّبون من هذا الانعِتاق الغريب الذي حلَّ بهم فجأة!
وبينما كنتُ أبتعد أسرع فأسرع عن الشمس البيضاء الغريبة في السماوات السوداء،
وكذلك عن الأرضالواسعة اللامعة التي بدأ منها وجودي، بدا أنني أصبحتُ ضخمًا بشكلٍ
غير معقول بالنسبة إلى هذا العالم الذي غادرتُه،ضخمًا بالنسبة إلى لحظات الحياة البشرية
وحِقَبها. وسرعان ما رأيتُ دائرة الأرض بأكملها، مُحدَودِبةً قليلًا كالقمر عندما يُشارِف
على الاكتمال، لكنها كانت كبيرةً للغاية، وأصبح الشكل الفِضيُّلأمريكا يقع في وَهَج الظهيرة
الذي كانت تتشمَّس فيه إنجلترا الصغيرة (كما بدا حين ذاك) قبل لحظاتٍ فقط. في البداية،
كانت الأرضكبيرةً للغاية والْتَمعتْ في السماء تملأ جزءًا كبيرًا منها، لكنها ظلَّتْ تتضاءل
وتبتَعِد مع كل لحظة. وبينما كانت تَتضاءَل، زحف القمر في رُبعه الثالث إلى المشهد واستقرَّ
على حافَة قُرصها. رحتُ أبحث عن كوكبات النجوم؛ لم يحتجِبْ منها إلا ذلك الجزء من
الحمَل؛ إذ كان يقع مباشرةً وراء الشمس والأسد اللذين غطَّتْهما الأرض. رأيت حزام
الطريق اللبنيِّ المُتعرج البالي، ونجم النسر الواقع بين الشمس والأرض شديد السطوع،
وكذلك الشِّعرى والجبار اللذان كان لمَعَانهما رائعًا في هذا السواد الحالك في الجهة المقابلة
من السماء. كان النجم القطبي في الأعلى، بينما يحلِّق الدبُّ الأكبر فوق دائرة الأرض. وبعيدًا
في الأسفل تحت الهالة المضيئة للشمس، رأيت كوكباتٍ غريبة من النجوم لم أرها قطُّ في
حياتي، لا سيما تلك الكوكبة على شكل الخنجر والتي كنت أعرفها باسم كوكبة الصليب
الجنوبي، وكلها لم تكن أكبر حجمًا مما كانت تبدو عليه من على الأرض، لكنَّ تلك النجوم
الصغيرة التي لم يكن المرء يراها إلا بالكاد، كانت تلمع الآن في هذا الفضاء الأسود كأشدِّ
النجوم سطوعًا، بينما بدت العوالم الأكبر نقاطًا يصعُب وصف روْنقها ولونها. بدا الدَّبَران
كبقعةٍ حمراءَ مُتوهِّجة، وتركز ضوء الشِّعرى في نقطةٍ واحدة وكأنه يزخَر بعددٍ لا نهائي
من حبَّات الياقوت. وكانت كل هذه النجوم تلمع باستمرار؛ لم تكن تُومِض، بل كانت تتألَّق
بجلالٍ في هدوء. كنتُ أرى الأشياء بحدَّةٍ ووضوح؛ فلم يشُبْ رؤيتي لِين الغِشاوة؛ فما من
غلافٍ جويٍّ، ولا شيءٍ إلا تلك الظُّلمة اللانهائية المُبرقشة بآلافٍ من النقاط اللامعة الثاقبة
وبُقَع الضوء. حين نظرتُ مرةً أخرى الآن، لم تكن الأرض الصغيرة أكبر من الشمس،
وراحتْ تتضاءل بينما كنتُ أنظر إليها، وفي ثانيةٍ واحدة من ثواني الفضاء (كما بدا لي)،
تضاءلت إلى النصف، وهكذا ظلَّت تتضاءل سريعًا. وبعيدًا في الاتجاه المقابل، كان كوكب
المريخ يُضيء بثباتٍ كرأس دبُّوس من الضوء يميل لونه إلى الوردِي. سبحتُ بلا حراكٍ في
الفراغ، وبلا أثرٍ من الرُّعب أو الاندهاش، شاهدتُ ذرَّة الغبار الكوني التي ندعوها بالعالم،
وهي تتضاءل وتبتعِد عني