– مرحبًا يا حبيبي (قالتها برقة فتاة مراهقة في بداية العشرينات، فقد كان صوتها عذب يشبه سمفونية أوركسترا تُعزف في دار الأوبرا)
– ماذا تفعل؟! هل تنظر في أعين الجالسين حولك كعادتك، سألته وكأن عيونها تلتصق بالمقعد الأمامي لمقعده، ثم ضحكت ضحكة استنكارية لطيفة وكأنها على يقين من الإجابة.
– أجل يا عزيزتي، أتفحص عيونهم وحركات أجسادهم بنظرات خاطفة من حين لآخر فأنت تعلمين أني مولع بذلك.
– لن أُقاطع هوايتك أكثر من ذلك، أردت فقط الاطمئنان عليك، حاول أن تنال قسطًا من النوم ولا تستغرق في القراءة، سأُعاود الاتصال بك في وقتٍ لاحق مرةً أخرى.
لاحظت تلك الهواية أثناء سفرهم إلى الأردن لقضاء عطلة العام الماضي، ومنذ تلك اللحظة وهي تعلم أنه يُمارس تلك الهواية في كل مرة أثناء سفره حتى وإن كان بمفرده.
إنها سها، زوجة يونس التي خطفت قلبه منذ المرة الأولى وفي كل مرة زارته في عيادته، صعقته في قلبه منذ سمع كلماتها الأولى، أحس نفسه أمام امرأة لا تُشبه أحدًا ممن مروا في حياة يونس. امرأة تحمل روح طفلة في السابعة من عمرها لم تُلوثها الحياة برغم ما عانته، إلا إنها استطاعت إبقاء تلك الروح البريئة متوهجة بداخلها. الأمر بدأ عندما أخبرته السكرتيرة أن فتاة في منتصف العشرينات حجزت موعدًا لجلسة وستأتي في الخامسة اليوم. دخلت سها الغرفة وهي تبتسم ابتسامة بسيطة لم تكشف عن أسنانها، فتاة تبدو حيوية ونشيطة كما يُفترض أن يكون المرء في منتصف عشريناته وهو في مقتبل العمر ومرحلة الشباب التي تضج بالحياة، بشرتها بيضاء صافية، عيناها تلونت بموج البحر عندما يصفو، رموشها الطويلة الكثيفة سماء تطل على موج البحر، حاجباها العريضان قاتما السواد سحابة مرسومة تبرز فوق الموج، أنفها طويل ورفيع يعلو شفتيها الممتلئة قليًلا.
بدأت حديثها بأنها ليست من هؤلاء الضعفاء الذين أجبرتهم صفعات الحياة على الذهاب إلى عيادة الأطباء النفسيين، كانت كلماتها صادقة وقوية وشعر بقوة شخصيتها من حرارة كلماتها، استكملت حديثها بأنها جاءت كي تحاول تطوير وتحسين بعض العيوب في شخصيتها كما ظنتها عيوبًا رغم أن يونس كان له وجهة نظر أخرى في ذلك. بدأت تصف متلازمة التفكير الزائد لديها، التفاصيل الصغيرة تلك العلة التي كانت أشد ما يُفسد عليها حياتها، فهي مريضة تفاصيل يُمكن لكلمة أن تُفسد مزاجها طيلة اليوم وكلمة مختلفة تجعلها تشعر بالسعادة أيام. تتراقص الكلمات بمزاجها كأصابع عازف البيانو الماهر الذي يتلاعب باللحن صعودًا وهبوطًا، تدقق في أشياء لا يلتفت إليها أحد ولا يهتم بها، ربما تنظر كيف تسير النملة تجاه حبات السكر في الصيف، الكلمة التي قالها أحدهم لا تمر على قلبها مرور الكرام بل تترك أثرًا عميقًا قبل أن ينساها عقلها لذا ربما تبالغ في الشعور بعض الأحيان في حين أن الأمر لم يكن يتطلب أكثر من مرورٌ عابرٌ دون الالتفات إلى تفاصيل، هذا أول ما تحدثت عنه في جلستها الأولى في عيادة يونس.
أحس يونس أن تلك المزاجية والعيوب التي كرهتها سها في شخصيتها تُخفي مزايا عظيمة لم يكتشفها أحد بعد، سها مثل البئر العميق والغرفة التي تحتوى على آثار يجب أن تحفر أيام لتُنقب عنها. لن يستطيع اكتشاف سها من الجلسة الأولى الأمر استغرق يونس ثمانية أشهر ليُشكل قطع الأحجية المفقودة وتكتمل الصورة بشكل واضح. في إحدى المرات تحدثت سها عن مزاجيتها التي يُمكن أن ترى الفصول الأربعة مجتمعة فيها في آن واحد، مزاجيتي المجنونة قالتها سها وهى تضحك ضحكة بائسة، أتعبتني وأعتقد أنها أتعبت المقربين مِنيّ، أكره نفسي كثيرًا بسبب تلك الصفة الحمقاء غير المبررة، تجدني أضحك ثم بعد خمس دقائق تتساقط دموع من عيني، هذا جنون يا دكتور أليس كذلك؟! لم تكن تُناديه باسمه بل بلقبه فهي فتاة متحفظة في حديثها وطريقة تعبيرها ونمط حياتها، أرغب في احتضان العالم بأسره تارة وأحيانًا لا تسعني كلماتي ولا غرفتي، ألم أخبرك جنون! هذا عبث!
في كل جلسة كانت سها تصف ليونس ما لم تستطع وصفه والتعبير عنه حتى لأقرب الناس إليها، مع يونس تقول ما تريد دون مبالاة تُفرغ الكلمات من فمها كوابل الرصاص حين ينطلق من المسدس الرصاصة تلو الأخرى، تتحدث عن الجانب السيء الذي تخشى كشفه لأحد حتى وإن ظهر في بعض المواقف، الكلام هنا لن يُكلفها شيء لا تكترث لما يظنه يونس عنها وكيف يراها، سها المريضة ويونس الطبيب المعالج الذي يُمارس عمله، فتلك هي العلاقة التي تجمعهم، وأهم قاعدة في العلاج النفسي ألا يتعاطف الدكتور مع المريض وأن يُعامله كشخصية مُجردة مستقلة لا يعرفها حتى يتمكن من ممارسة عمله فقط بسلاسة.
لم يلتزم يونس بالقاعدة، فقد اخترقها كما يفعل في بعض الأوقات، اخترق يونس العديد من القواعد من قبل، تلك الكلمة لم يُحبها يونس كثيرًا، فقد كان يخلق قواعد خاصة به فقط ويُطبقها في عالمه الخاص. كانت سها تستحق أن يكسر يونس القاعدة من أجلها، استحقت ذلك بجدارة، كان يونس يستمع لها في كل مرة ويظل طوال العودة إلى منزله يتذكر كلماتها ويُحاول استنتاج ما وراء الباب الذي أغلقته سها بعنف في وجه الكثيرين خشية ألا يتحملها أحد وأن يتركها تُعاني كما فعل خطيبها السابق من قبل، وذات مرة ويونس مُستلقٍ على سريره بعد عناء يوم طويل في العمل أخذ يُجمع كل أحاديث سها طيلة الثمانية أشهر ببعضها ويستنتج ما وراء الأحاديث تلك ويحاول أن يرى الجزء الخفي الذي لم يستكشفه الكثيرون من قبل، وفي لحظة تجلي الحقيقة وانفتاح الباب أخذ يصرخ وجدتها! وجدتها! الآن فهمت، استطعت حل لغزك يا سها، سأتزوجك، أرغب في قضاء باقي عمري معك، سأكون طبيبك إلى الأبد.
أدرك يونس أنه وقع في عشق تلك المزاجية، وأن المزاجية التي أحبها لن يجِد مثلها وإن طالَت به الأيام وتعاقبت عليه الليالي، مثلها لا يُكرَّر ولا يُعاد، فما كانت سها تحكى أنه تقلُّب، جنون وعبث هو في الحقيقة صفة فريدة إذ أنها تُغير من لونها كحرباء تُريد أن تختفي عن أعين أعدائها وتتكيف مع البيئة المحيطة مهما كانت. رأى فيها الحبيبة الحنونة التي من الممكن أن تعقد مع قلبك معاهدة سلام بينما قلبها لا زالت حروق المعارك السابقة تترك ندوبًا فيه لم تلتئم بعد. وجدها صديقة وفيَّة رغم خذلان الجميع لها، شعر فيها بصفات الأم التي ستُرضع أطفالها حنانًا ورحمة، سيرثون تلك الصفة منها وستسرى في عروقهم كما يسرى الدم الازم لإبقائهم على قيد الحياة. الرحمة التي تمتلكها سها لا تُقدر بثمن، كان يكفي يونس أن يعيش مع امرأة تمتلك تلك الصفة فقط؛ لأنه أدرك أنها ستتعامل معه بها في كل موقف سيمران به معًا، ستكون حنونة حتى وهى تتشاجر معه. من يمتلك رحمة في قلبه لا تخشى على نفسك وأنت معه استسلم له فقط، فأنت حقًا بين أيدٍ أمينة، هؤلاء أشخاص اختصهم الله بهذه الصفة الكريمة التي لا يمنحها للكثير من عباده.
فهم يونس أن تلك المزاجية ومتلازمة التفكير الزائد وكل العيوب التي كرهتها سها وأرادت التخلص منها بشدة ودفعتها إلى القدوم لعيادته؛ كي تنتزعها من روحها كمريض يتنزع عضو مُصاب في جسده هي ما تجعل سها صاحبة بصمة خاصة بها فقط تُميزها عن غيرها من النساء. هي من شكلت ذلك المزيج العجيب كامتزاج الأبيض بالأسود رغم أنهما أكثر الألوان تناقضًا. جمعت سها الجنة والنار في عينيها يمكنها أن تكون بردًا وسلامًا عليك، ويمكنها أن تحرقك وحتى إن أحرقتك ستكون الطبيب الذي يُداوي جرحك. لوحة فنية تحمل كل تناقضات الحياة لكنها تستفزك وتخطف نظرك إليها منذ الوهلة الأولى. مزاجية تنطوي على فضيلة جعلتها تهب الخير للناس وتُفكر فيهم أولًا وتبذل كل ما تستطيع في سبيل غيرها حتى وإن نست ذاتَها أحيانًا، مجنونة كالأطفال براءتها فضَّاحة ومُستغلَّة. أبسط الأشياء تُدخل السرور على قلبها وأبسط الأشياء تُحزنها، تراكمت عليها أمورًا وأشياءً أكبر من طاقتها وظنت أنها لن تتخطاها أبدًا، ولكنها صمدت شامخة كجبل راسٍ لا ينهدم بسهولة، عنيدة تلعب مع الحياة مباراة مُصارعة كل يوم. الأفكار التي تزورها ليلًا طاحونة لا تهدأ ولا تتوقف عن الدوران ولا تتركها للنوم، قلة الثقة في الأشخاص خلفتها المواقف الملعونة التي عانت منها كثيرًا ولم تترك لها سوى الذكريات البغيضة التي تُهاجمها من وقتٍ لآخر لتُعكِّر عليها صفوها وتذكرها بالماضي وتنتزع منها لحظاتها الجميلة النادرة. أراد يونس أن يصنع معها ذكريات جديدة يانعة تمنحها العودة إلى الحياة من جديد، أراد أن يمحو القلق الدائم في عينها، وألا يُفلت يدها التي ترتعش عندما تنتابها نوبات التوتر العاجزة عن السيطرة عليها. تحمل جسدها الكثير من المرض إثر هذه الحروب التي خاضتها، المزاجية تلك تحملت فوق طاقتها الكثير والكثير مما لم يعلم عنه أحد.
يُذكر يونس سها كل مرة في عيد زواجهما باليوم الذي عرض عليها الزواج منها، كيف اتسعت عيناها من الصدمة ولم تتحدث لدقائق، فهذا الطلب وقع عليها كالصاعقة؛ فهي لم تتوقع أبدًا أن يقع الطبيب في حب مريضه، لم تتخيل هذا المشهد قط، الحياة مليئة بالمفاجآت وكانت تلك واحدة كبيرة بالنسبة لسها في هذه الفترة من حياتها. أخذت سها تنظر إلى يونس وعلامات الدهشة تعلو وجهها بوضوح. بدأت تهز قدميها من التوتر وتفرك يدها دون أن تشعر بذلك، أخبرت يونس بأنه يعرف خفايا ومكنون روحها، يعرف عيوبها أشد المعرفة، وأنه من المؤكد أنه سيمل منها يومًا ما، فكرة رغبته في البقاء معها إلى الأبد بدت لها فكرة متهورة من جانب يونس، ونصحته بالتفكير في الأمر مليًا ولكن يونس متأكد من حبه لها مثل يقينه بأن الشمس تشرق من المشرق. ليس تعاطفًا أو فضولًا تجاه امرأة، الأمر أكبر من ذلك، فلقد عثر على كنز لا يرغب في تركه فسيكون مجنونًا لو فعل ذلك، أخذ يُطمئنها بأنه واثق من قراره أشد الوثوق ويرغب في معانقة تلك الروح في أسرع وقت ممكن.
أخبر يونس سها بأنه تقبلَّها بكل ما تحمله من تقلبات وأشياء تُزعجها، فهو على أهبة الاستعداد ليأخُذ بيدها نحو دربٍ جديد يسلكاه سويًا، ظل يُطمئنُها بأنه لن يُفلت يدها مهما حدث، لقد رضي بما هي عليه وسيُربت على كتفها المُثقل بالهموم كلما سنحت له الفرصة لفعل ذلك، لن ينظر إليها من نفس الزاوية التي نظر إليها الجميع عدا القليل منها، سيُشاهدها من زاوية يونس الذي عثرت على الكنز المفقود التي بحثت عنه كثيرًا ولم تجده سوى في قلب سها، سيضع في عين الاعتبار الأحداث التي عانت منها كالوحدة والاضطراب والخذلان وعناء الطريق والمُر الخام التي تجرعت منه كرهًا.
منحها وقتًا وأخذت سها تُفكر قرابة ستة أشهر حاولت فيها التقرب من يونس والتعرف عليه، ثم قررت الخطبة منه وسترى كيف ستكون العلاقة بينهما، ومن ثم ستُقرر الزواج منه أم لا، وبالفعل منحته أجمل هدية تمناها يونس يوم ميلاده حين أخبرته بأنها ترغب في الزواج منه كما يرغب هو أيضًا، أخذ يصرخ يونس حينها في المطعم كمراهق في العشرين وصوت فرحته قد وصل للطاهي في المطبخ، لم يُصدق ما سمع وطلب منها أن تُعيد الكلمات مرارًا وتكرارًا حتى يتأكد أن أُذنيه لا زالت تسمع جيدًا.
تزوجها وعاشا معًا حياة أسسها ما هو أقوى من الحب بكثير، فالحب يمكن أن يزيد وينقص، يمكن أن يتحول إلى كراهية، أما يونس فقد شيد أساسًا لا يجعل الحياة الزوجية تنهدم فوق رءوس مؤسسيها بسهولة بل كان أساسًا متينًا يسمح للبيت بالصمود أمام الزلازل وأحداث الزمن وتقلباته التي لابد أن تحدث شئت أم أبيت. احتوى يونس سها، احتوى مزاجيتها واللوحة المتناقضة أمامه، احتوى حزنها قبل فرحها، فهم مفاتيحها ولم يمل من محاولة الفتح حتى في المرات التي أحكمت غلق الباب في وجهه فيها. جعلها تنصهر بداخله أو بالأحرى هو من انصهر فيها، ذاب في تفاصيلها ونسج منها أجمل الثياب التي زينتها، صاحب مزاجيتها وفهم كيف يتعامل معها، متي يتحدث، ومتي يحتضنها فقط دون كلمة واحدة، لم يكن الأمر في غاية الصعوبة كما أعتقد في البداية، كان يحتاج أن يفك الشفرة أولًا ثم سيحفظ كلمة السر ويفتح الخزينة كل مرة طالما أنها لم تتغير، وهذا ما نجح في تحقيقه. الاحتواء كلمة السر في الزواج الناجح الذي جمع بين يونس الذي كسر القاعدة وسها التي سمحت لنفسها أن تُعطى أحدًا الفرصة ليكتشف ما وراء الأبواب المغلقة بعد محاولات شاقة من يونس العنيد الذي لم يستسلم وظل يُنقب عن الكنز حتى وجده.
كتب يونس لها في عيد ميلادها الشهر الماضي رسالة أرفقها على نوع الحلوى المُفضل لها تحمل فيما معناه بأن الحب يُعاش جُملة وليس ما نرضى منه فحسب، ولو كُلٌّ منَّا أحبَّ كما يجب وتقبَل العيوب قبل المُميزات، واقتنعَ بالنقص قبل الکمال، لمَا ظل أحد يشتكي من عيوب شريكه فقط وجعل المقارنة تُفسد عليه حياته مع من يُحب، لم يُحبها فحسب بل تقبلها ذلك التقبُل الذي جعله يحتويها بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وسيظل يحتويها إلى الأبد، وعدها بأنه لن يخذلها كما لم يفعل في كل موقف وضعته مزاجيتها تحت الاختبار الشديد، في الأيام التي أصابها الاكتئاب الشديد ولم ترغب في النهوض من سريرها حتى، كان بجوارها دائمًا عندما نزلت بهم مصائب الحياة، سيفعل كما فعل في كل مرة وسيبذل جهده إذا تطلب الأمر أكثر من المعتاد، لكن يونس لم يتخيل أن وعوده ربما سيخطفها الموت منه ولن يستطيع الوفاء بها، وربما تلك الرسالة ستكون الأخيرة التي كتبها لها.