hindawiorg

Share to Social Media

في هذه اللحظة، خَطَر في ذهني أنَّ إحساسي بالزمن قد تغيَّر؛ فلم يكن ذهني يتحرك
بسرعة، بل ببطءٍ لا مُتناهٍ، كأن أيامًا عديدةً تنقضيبين كل انطباعٍ والذي يلِيه. دار القمر
حول الأرضمرةً واحدةً كما أشرتُ من قبل، ورأيت أيضًا حركة المريخ في مَداره بوضوح.
وليس ذلك فحسب، بل كان يبدو أنَّ الفترة الزمنية التي تفصِل بين كل فكرةٍ والأخرى
كانت في ازدياد مُطَّرد، حتى أصبحتِ الألف عامٍ تمرُّ كلحظةٍ واحدة في إدراكي.
في البداية، سطَعت الكوكبات ساكنةً على الخلفية السوداء للفضاء اللانهائي. أما
الآن، فقد بدا أنَّ النجوم في كوكبتَي الجاثي والعقرب، يقترِب بعضها من بعض، بينما
تتباعَد نجوم الجبار والدَّبَران. وفجأة، انبثق من الظلام ومِيضٌلفَوجٍ طائرٍ من الجُزيئات
الصخرية، تلتمِع كذَرَّات الغبار في أشعة الشمس، وتجتمِع معًا في غَيمةٍ خافتة الضوء.
أخذَت تدور من حولي، ثم تلاشت مُجددًا في طرفة عين بعيدًا عني. وبعدها رأيت بقعةً
ساطعةً من الضوء تلمع قليلًا على أحد جانبَي طريقي، يزداد حجمها بسرعةٍ كبيرة،
وأدركتُ أنه كوكب زُحل يندفع نحوي. وظلَّ ينمو وينمو مُبتلِعًا السماء من خَلفه، مُواريًا
في كل لحظةٍ فوجًا جديدًا من النجوم. رأيت جسمه المُسطَّح الدوَّار وحزامه الشَّبِيه بالقُرص،
وسبعة من أقماره الصغيرة. وظلَّ ينمو وينمو حتى صار ضخمًا وشاهقًا؛ اندفعتُ بعدها
وسط تيارٍ هائل من الأحجار المُتدافعة وجُزيئات الغبار المُتراقصة ودوَّامات الغاز، وللحظةٍ
رأيتُ هذا الحزام الثلاثي العظيم كثلاثة أقواسٍ من ضوء القمر مُتَّحدة المركز تدور من
فوق، وينعكِس ظلها الأسود على ذلك الثَّوَران المُحتدِم من تحتها. حدث كل ذلك في مِعشار
الوقت الذي يستغرِقهسَرْده. صار الكوكب كومِيضٍمن البرق، حتى إنه طغى على الشمس
لبضع ثوانٍ، وفي لمح البصر أصبح مجرَّد رقعةٍ سوداء مُجنَّحة تتضاءل شيئًا فشيئًا أمام
الضوء. أما الأرض، الذرَّة الأم لكَيْنونتي، فلم أَعُد أراها.
وبسرعةٍ رهيبة، وفي صمتٍ مُطْبِق، سقط مني النظام الشمسيكما لو كان رِداءً، حتى
صارت الشمس محضَ نجم بين هذا الكم الهائل من النجوم، بدوَّامتها التي تتألَّف من
شذَرَاتالكواكب التائهة في هذا اللمعَان المُضطربفي الضوء الأبعد. لم أعُد من قاطني النظام
الشمسي؛ فقد وصلتُ إلى الكون الخارجي، وبدا أنني أفهم عالم المادة تمامًا. راحت النجوم
تقترِب بسرعةٍ أكبر من البُقعة التي اختفى فيها قلبا نجمَي العقرب والنسر الواقعين في
ضبابٍ فسفوري، حتى أصبح هذا الجزء من السماء أشبَهَ بكتلةٍ دوَّارة من السُّدُم، وانفتحت
أمامي تمامًا فجَوَاتٌ شاسعة من العتْمة الخاوية، وراح ضياء النجوم يخفُت شيئًا فشيئًا.
بدا وكأنني تحركتُ نحو نقطةٍ فيما بين حزام الجبار وسيفه، وقد راح الفراغ المحيط
يزداد اتساعًا في كل ثانية، وانفتح خليجٌ واسع من العدَم سقطتُ فيه. راح الكون يندفع
بسرعةٍ لا نهائية، كدوَّامةٍ من الغبار تُسرع أخيرًا نحو الفراغ بصمت. وراحت النجوم تزداد
سطوعًا وتوهُّجًا، وبينما كنتُ أقترب منها، كانت الكواكب التي تدور حولها تَلتقِط الضوء
بطريقةٍ خاطفة، فإذا بها تلمع ثم تختفي ثانيةً في العدم. المُذنَّبات الباهتة، ومجموعات
النيازك، وتلك الشَّذَرات الوامِضة من المادة ونقاط الضوء التي تتحرك في دوَّامات، كل ذلك
مرَّ بي في لمح البصر، حتى إنَّ بعضها قد ابتعد عني مسافة مائة مليون ميل، وبعضها كان
أقرب قليلًا، كل ذلك كان يتنقَّل بسرعةٍ تفوق كلَّ خيال، فتلمع كوكبات النجوم، كسِهامٍ
ناريَّةٍ خاطفة في هذا الليل الحالك الرهيب، في صورةٍ هي أشبَه ما تكون بتيارٍ هوائيٍّ مُغبَّر
يتخلَّله ضوء الشمس. وازدادت مساحة الفضاء الخالية من النجوم اتساعًا وعمقًا، ذلك
الفراغ الآخَر الذي كنت أدُفَع إليه. وأخيرًا، صار رُبع السماء أسوَدَ وفارغًا، وانتهى كل ذلك
التَّسارُع والتدافُع في عالم النجوم وانسَدَل من خَلْفي كحجابٍ من الضوء تضافَر وتشابَك،
وقد ابتعدَ عني كيَقْطينةٍ مُضيئةٍ مُرعبة تقُودها الريح. كنتُ قد وصلتُ إلى براري الفضاء،
وصار هذا السواد السرْمَديُّ الخواء، يتَّسع أكثر فأكثر، حتى لم تبدُ النجوم إلا كلفيفٍ من
هباءٍ مُتوهِّج يُسارع للابتعاد عني، حتى صارت بعيدةً أشدَّ البُعد، وكان الظلام والعدم
والفراغ يُحيط بي من كل جانب. وسُرعان ما أخذ كون المادة الصغير، هذه الشبكة من
النقاط التي كنتُ قد بدأتُ بالدخول فيها؛ في التضاؤل، فأصبح قُرصًا دوَّارًا من الضوء
المتلألئ، ثم صار قُرصًا صغيرًا للغاية من الضوء الخافت، وبعد ذلك بقليل، تضاءل إلى
نقطةٍ واحدة ثم تلاشىتمامًا في النهاية.
وفجأةً عاد الشعور إليَّ مرةً أخرى؛ كان شعورًا في شكل رعبٍ غامر؛ ذلك الهَلَع بثِقَله
الأسود الذي لا يمكن لأي كلمات أن تَصِفه، انبعاث مُتوقد للتعاطف والرغبة الاجتماعية.
أكانت ثمَّةَ أرواحٌ أخرى لا أراها ولا تراني، تُحيط بي في السواد؟ أم أنني كنتُ وحيدًا
بالفعل بالرغم مما كنتُ أشعر به؟ هل غادرتُ الوجود إلى شيءٍ آخر لا هو بالوجود ولا
بالعدم؟ تمزَّق عني غطاء الجسد وغطاء المادة، وكذلك هلاوس الرفقة والأمان. كل شيء
كان أسود وصامتًا. توقفتُ عن الوجود، صرتُ لا شيء، لم يكن ثمةَ أي شيء خلا نقطة
الضوء المتناهية الصِّغَر التي تضاءلت في الخليج. أضنيتُ نفسي كي أسمع وأرى، ولبُرهةٍ
لم يكن هناك إلا الصمت اللانهائي، والظُّلمة غير المُحتَملة، والرعب واليأس.
ثم رأيت أنَّه بالقرب من بقعة الضوء التي يتضاءل فيها عالم المادة بأكمله، كان
يُوجَد وَهَج شاحِب، وفي شريط على جانبَي تلك النقطة، لم تكن الظلمة مُطْلقة. ظللتُ
أشاهدها لدهرٍ طويل كما بدا لي، وفي خِضمِّ هذا الانتظار الطويل، بدأ هذا الضوء الخافت
يزداد وضوحًا بالتدريج. وبالقرب من الشريط، ظهرت غَيمة غير منتظمة بلونٍ بُنيٍّ بالغ
الشحوب لم أره من قبلُ. شعرتُ بتبرُّمٍ شديد، لكنَّ الأشياء راحت تزداد سطوعًا ببطءٍ
شديد حتى إنها لم يبدُ أنها تتغير إلا قليلًا. ما الذي كان يكشِف عن نفسه؟ وما هذا الفَجر
الغريب المائل إلى الحمرة في ليل الفضاء اللامُتناهي؟
كان شكل الغَيمة غريبًا؛ فقد بدا أنها مُلتفَّة بطول جانبها السفلِي في أربع كُتَلٍ بارزة،
وانتهت في أعلاها بخطٍّ مستقيم. فأي طيفٍ هذا؟ شعرتُ بيقينٍ أني رأيتُ هذا الشكل من
قبلُ، لكنني لم أستطع أن أتذكَّر ما هو ولا أين رأيته. ثم داهمني الإدراك مرةً واحدة؛ لقد
كانت قبضة يَد. كنتُ وحيدًا في الفضاء، وحيدًا مع طيفِ هذه اليد الكبيرة، التي استقرَّ
عليها كون المادة بأكمله كذرَّة غبارٍ مُهمَلَة. بدا كأنني ظللتُ أشاهِدها لفترةٍ طويلة من
الوقت. على إصبع السبَّابة، كان ثمةَ خاتَمٌ يلمع، ولم يكن الكون الذي أتيتُ منه إلا بقعةً
من الضوء على مُنحنى هذا الخاتم. وأما الشيء الذي كانت تقبِض عليه اليد، فكان أشبه
بقضيبٍ أسود. بدا لي أنني كنتُ أراقب هذه اليد والخاتم والقضيب منذ الأبد، وظللتُ أنتظر
بلا حِيلة في ذهولٍ وخوف ما يُمكن أن يحدُث بعد ذلك. بدا لي أنه لا يمكن أن يحدُثشيء
بعد ذلك. سأظل أرُاقِب اليد إلى الأبد ولا أرى سواها والشيء الذي تُمسِك به، دون أن أفهم
أيشيءٍ عن دلالتها. هل كان الكون بأكمله إلا بقعةً مُنكسرةً تقبَع على كينونةٍ أكبر منها؟
هل كانت عوالمنا إلا ذرات كونٍ آخر، وهي بدورها ذراتٌ في كونٍ آخر، وهكذا على مدار
سلسلة لا نهائية من التعاقب؟ وماذا كنت أنا؟ أكنتُ بالفعل أنتمي إلى العالم غير المادي؟
وللدهشة، حلَّت عليَّ قناعةٌ غامضة بأن جسدًا ما يتكوَّن وينمو من حولي. وامتلأ الظلام
السحيق المحيط باليد بإشارات وإيماءاتٍ غير ملموسة وأشكالٍ لا يَقينيَّةٍ مُتغيرة.
بعد ذلك، وعلى حين غِرَّة، إذا بي أسمع صوتًا يشبِه قرْع الجرس، خافتًا كأنه في
غاية البُعد، مكتومًا كأنما يُسمَع عبر لفائفَ سميكةٍ من الظلام؛ صدًى عميقًا مُهتزٍّا، مع
فجواتٍ شاسعة من الصمت بين كل خفقة وأخرى. وبدت اليد تُحكِم قبضتها على القضيب،
وفوقها بمسافةٍ كبيرة باتِّجاه قمة الظلام، رأيتُ دائرة من إضاءةٍ فسفوريةٍ خافتة، طيْف
دائرة تأتي منها هذه الأصوات خافقةً؛ وعند الخفقة الأخيرة، اختفت اليد؛ فقد حان الأجل،
وسمعتُ خرير مياهٍ كثيرة. لكنَّ القضيب الأسود ظلَّ كشريطٍ هائل عبر السماء، وبعدها
لن يكون هناك المزيد من » : جاء صوتٌ بدا أنه بلغ أقصى أجزاء الفضاء، وتحدَّث قائلًا
«. الألم
وعندهاسرى بداخليسرورٌ وإشراق بالغَان، ورأيتُ الدائرة تُشِعُّ بياضًا وبريقًا، ورأيتُ
القضيب الأسود لامعًا كذلك، ورأيت العديد من الأشياء الأخرى مميَّزة وواضحة. أما الدائرة
فقد كانت وجه الساعة، وأما القضيب فكان سياج سريري. كان هادون واقفًا على قدميه
في مقابل السياج وبين أصابعه مِقصٌّصغير، وفوق كتفيه كانت عقارب ساعتي الموجودة
على الرفِّ تتشابَك معًا عند الساعة الثانيةَ عشرةَ. كان موبري يغسِل شيئًا في حوضٍعند
الطاولة الثُّمانيَّة، وفي جانبي شعرت بإحساسٍ خَفيف لا يمكنني تَسميته بالألم.
لم تَقتلْني العملية الجراحية، وأدركتُ فجأةً أنَّ تلك الكآبة القاتمة التي سكنتْ عقلي
لما يَزيد على نصف عام، قد زالت عنه.
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.