أنا مش مصدقة إني خدت الإجازة دي وأخيرًا يا رامي!
حقيقي كنت محتاجاها جدًا، الشكر للأستاذة سامية إنها أقنعت المدير بالإجازة دي، قد إيه هي إنسانة جميلة بتحب تساعد الكل!
قوللي بقا هنقضي الإجازة دي فين يا رامي؟
رامي : أنا آسف والله يا حبيبتي، مش عارف أقولك إيه، بس مرات خالي اتصلت، وقالتلي إن خالي بيموت، وعايز يشوفني قبل ما يموت، وإن في سر لازم أعرفه، وإلا الدنيا هتتقلب على دماغي، فلازم أسافر سوهاج يا حبيبتي، أنا آسف بجد، مش عارف أقولك إيه بجد، حقك عليا يا قمر.
قمر : أنا عارفة يا حبيبي إنه مش ذنبك، وهحاول وقت تاني آخد إجازة، بس المهم حالًا تروح تشوف خالك، وأنا هجهز لك الشنط.
بدأ رامي في تهيئة نفسه، بينما كانت قمر تجهز له الحقائب، لينظر لها ضامًّا إياها إلى صدره، ثم قبلها مودعًا إياها قاصدًا سوهاج.
بعد أكثر من أربع ساعات تعطلت سيارة رامي في طريق صحراوي لا يوجد به سوى الرمال فقط، ينظرُ يمينًا ويسارًا ، وقد بدأت الشمس في الغروب ، وأوشك الظلام أن يسيطر على الأجواء.
ترجَّل رامي من السيارة ، ثم قام بفتح الغطاء الأمامي ؛ لعلَّه يستطيع إصلاحها ، لكن ما أن رفع الغطاء حتى صُعِق مما رآه!
وجد قطةً سوداء قد فارقت الحياة تحت غطاء سيارته، والدماء تغرق كل شيء من حولها ، حاول تجميع أشلاء القطة ، ثم إلقائها بعيدًا.
وقف قرابة الساعة على الطريق؛ على أمل أن تمر سيارة يطلب من سائقها المساعدة، أو أن يقله معه إلى سوهاج.
بدأ رامي في التحرك؛ فهو لن يبقَ مكتوف الأيدي، كان يتحرك في كل مكان، ويترك دومًا خلفه أثرًا؛ ليعود مرة أخرى لمكانه.
وجد خيالًا لبيتٍ من بعيد، كان دومًا يسمع عن ظاهرة السراب، لكنه الآن ليلًا، ذهب إلى هذا المنزل؛ علّه يأتي بمساعدة، أو يبيت ليلة على أمل أن يأتي أحد في اليوم التالي، ولكن كيف؟
حتى هاتفه لا يعمل؛ فلا يوجد إشارة، كيف يكون هذا بيتًا؟ فهذا شيء أشبه ببيتٍ صغير من القش من الخارج!
ما أن اقترب رامي من البيت أخذت الرمال تدور حول بعضها البعض، بدأت تتشكل كأنها حية مختبئة؛ لتفتك بفريستها، لكن لم ينتهِ هذا، بل أخرجت الرمال من جعبتها عقارب، لم يستطع رامي الحركة، بل وقع على الأرض مستسلمًا تمامًا لما يحدث، وقد بدأت الرمال في جذب رامي إليها كأنه عشائها لتلك الليلة إلى أن خرجت امرأة بملابس تبدو كخاصة البدو، وقفت أمام باب البيت، وقامت بالطرق على يديها حتى زال كل شيء كأن كل هذا لم يحدث، وتحدثت بكل هدوء:
أنت على الأرض كدا ليه؟
تحدث رامي : أنتِ ماشوفتيش؟ كنت هموت لولاكِ!
تحدثت تلك المرأة ذات الوشاح الأسود، حيث كانت امرأة في العقد الرابع من عمرها، ذات قوامًا مثاليًا، حين تنظر إليها تظنها فتاة في الخامسة والعشرين، بشرتها بيضاء مثل الثلج كأن الروح سُلِبت منها للتو، تحدثت إلى رامي مجددًا:
ماشوفتش حاجة، ممكن تكون فقدت اتزانك عشان كدا وقعت يا رامي.
نظر لها رامي :
_ممكن أكون توهمت كل اللي حصل، لكن أنتِ عرفتي اسمي ازاي؟
نظرت له تلك المرأة بقوة :
_أنا أعرف اللي أعرفه، قول عني حكيمة، عرافة، قول اللي عايز تقوله.
تجاهل رامي ما حدث :
_كنت محتاج مساعدة، عربيتي اتعطلت على الطريق ومحتاج حد يصلحها.
_قالت : متقلقش، اتفضل ادخل، وهنحاول نحل المشكلة، عندك فرصة مش هتيجي مرة تانية.
_رامي : فرصة؟ مش فاهم حضرتك ممكن تفهميني، أو ممكن بس أقضي الليلة هنا.
_قالت : عايز تبات هنا، وأنا بقولك عندك فرصة حلوة؟
_أنت نفسك في إيه من الدنيا يا رامي؟
نظر رامي إلى داخله، كما مزق هذا السؤال قلبه، مثله كمثل أي شاب حلم بالراحة، ولم يجدها في الحياة!
تخرج من كلية الهندسة بأعلى الدرجات، كما كان الأول على دفعته، حلم بأن يكون معيدًا، ولم يتحقق حلمه؛ لأن من تعين كان ابن الدكتور، والذي كان معه في نفس العام، حلم بفتاة، فمزق العشق قلبه، ليحلم باليوم الذي يكون بجانبها فيه، وكما وكأن القدر واقفًا له كحائط صد؛ ليمنعه، وتزوج ابنة صاحب والده، لم يذق حنان الأم؛ فهو لا يعلم عنها شيء سوى أنها تركته منذ صغره، حتى حين اقترب زواجه، وبعد كتب كتابه بأسبوع تعرضت زوجته لحادث أثر على منطقة حساسة بها أدت إلى العقم، ولكنه لم يتركها؛ فهذا قدر الله له، فبقي معها.
هنا نزلت من عيني رامي دمعة قهر، ثم تطلع إلى تلك المرأة مرة أخرى، تركها وغادر قاصدًا سيارته، لا يريد شيئًا منها؛ فقد فتحت ألمًا بقلبه كان يتمنى محيه، ولكنها لحقته قائلةً:
أنت دخلت هنا بإرادتك، بس مش هتخرج غير بإرادتي!
جهزت له مكانًا للنوم، ثم ذهبت قليلًا، وعادت تحمل له طبقًا بلاستيكيًا يحوي مشروبًا بمادة خضراء ذات رائحة جميلة، أعطته إياه قائلةً :
_دا هيساعدك تنام.
بعد أن شربه رامي، وضع رأسه على الوسادة، وهنا اهتز كامل جسده، وأخذ ينتفض بشدة.
قطعت تلك المرأة ملابسه، وقد برزت كامل عروقه، وأحضرت آلة حادة، وكوبًا بلاستيكيًا، ثم قامت بجرحه بجانب عرق، ورسمت على يده نجمة خماسية نزلت منها الدماء، لتملأ الكوب البلاستيكي، ثم نظرت له قائلةً :
_هتشكرني بعدين!
تركته، وفتحت بابًا ملتصقًا بالأرض، كان مغطًّ بكومة من القش، ونزلت على أدراج السلم إلى تحت الأرض، هنا نظرت إلى غرفة أمامها أشبه بغرف السجن، فتحتها، وإذ بفتاة أمامها مقيدة بسلاسل ملتصقة بالأرض، خلعت المرأة الوشاح، وأخذت كومة من الرماد الأحمر، ثم أمسكت بإصبع من الطباشير؛ لتبدأ بالكتابة على تلك الرمال على الأرض بلغةٍ غريبة، أحاطت تلك الكلمات بالفتاة من كل مكان، ثم قامت بتقطيع ملابس الفتاة الأفقية، ورسمت نجمةً خماسيةً على جسد الفتاة، ثم تمتمت ببعض الكلمات بصوتٍ خافت، ووضعت كأس الدماء بين ساقي الفتاة، ثم أغلقت الغرفة خلفها تاركةً إياها يدوي صوتها في الأرجاء.
أغلقت المرأة باب الغرفة منتظرةً ما سيحدث..
وفي لمح البصر خرج دخان من كل مكان بالغرفة كأنها تحترق من الداخل، لا تعلم ما حدث بداخلها، ولكن جلّ ما تريده أن تنهي ما بدأته، تُحدِّثُ نفسها بأن ما حدث لها في الماضي لا بد وأن يكتمل، ولا طريق للعودة الآن.
لم تسمع صوت صراخ، أو ما شابه، ففتحت الغرفة لتجد أن الفتاة اختفت، لا يوجد سوى بقايا هيكل عظمي فقط، وحتى الكأس قد اختفى أيضًا.
نظرت إلى سقف الغرفة، فوجدت كلمات بلغة هي تفهمها جيدًا
"كل شيء انتهى؛ القربان، وكذلك الدماء، انتظري فقط."
أغلقت الغرفة، ثم صعدت إلى الأعلى فوجدت رامي في نوم شبه ميت، ابتسمت، ثم غادرت.
***
**وفي اليوم التالي..
وجد رامي نفسه نائمًا على الرمال، ولا أثر للبيت، ولا أي شيء آخر، وأخذ وقتًا؛ ليفكر بما حدث، لا يفهم شيئًا، تحرك يمينًا ويسارًا كأنه على وشك الجنون، نظر إلى ذراعه فوجد علامة الجرح، أخذ يحفر؛ لعلّه يجد شيء أو أثر إلى البيت، ولكنه وجد مدخل إلى أدراج السلم المؤدية إلى الغرفة التي دخلتها تلك المرأة، ولكن لا أثر إلى السلالم، فنزل رامي بحذر إلى الأسفل، وما أن نزل حتى أحس بشيءٍ غريب كأنه قادرٌ على رؤية ظلال تتهامس حوله، أشياء تمر من أمام عينيه بسهولة، بدأت قشعريرة تسري في جسده حتى وجد غرفةً صخريةً أمامه مفتوحة، خطى بقدمه اليمنى داخلها، ثم خطى بالثانية، ولكنه فقد السيطرة على قدميه، ونزل على ركبتيه بوهن، تحولت الغرفة فجأة إلى تلك الغرفة التي دخلتها تلك المرأة، بدا وكأنه صار مُشاهِدًا إلى الحدث الذي تم هنا، سمع صوتًا جعل قلبه يخفق بشدة :
_انظر إلى قربانك.
وجد امرأة أمامه بين ساقيها كأسٌ من الدماء، وقد تلونت جدران الغرفة باللون الأسود، وبدأت الجدران بالتشقق، حتى خرجت من كل شق مجموعة من الديدان الملتهبة من النار تركض سريعًا على جسد الفتاة.
حاول رامي الوقوف، كما حاول إغلاق عينيه، ولكن بلا فائدة، حاولت الفتاة الصراخ، ولكن ما أن فتحت فمها كانت الديدان تتسابق؛ لدخوله، صارت تنتفض من داخلها، وبدأ جلدها في الذوبان بفعل حرارة الديدان، وما أن تنتفض الفتاة حتى يقل الدم تدريجيًا من الكأس.
لاحظ رامي أن الجزء العلوي من الفتاة هو المقصود فقط، أما الجزء السفلي انشقت الأرض ليسقط منها إلى الأرض، ثم انغلقت الأرض.
لا يعلم ما يحدث، عجز حتى عن البكاء!
بعد لحظات، وبعد أن تحولت الفتاة إلى هيكلٍ عظمي من الأعلى تفتحت الأرض، ليرتفع الجزء السفلي أيضًا؛ ليُكمل الهيكل، كأن الشياطين كانت تتغذى في الأسفل.
بعد هذا المشهد الذي لن يُنسى أبدًا أظلمت الغرفة بأكملها، ولم يستطع رامي أن يرى من حوله، ولكنه أحس بأن أحدهم معه في الغرفة، أحس بأن يدًا تتحسسه، سمع صوتًا يقول له :
_ستأخذ هديتك.
بدأ رامي في الركض كأن شياطين الكون تجري خلفه، وما أن خرج من الفتحة ركض إلى سيارته، حتى وصل إليها، فأغلق نوافذها، وظل يتلفت حوله مثل اللص الذي يخشى أن يراه أحد، لا يعلم شيئًا، جسده يرتعش، خائفٌ يندب حظه كل ثانية إلى أن أتت سيارة من العدم لتقف إلى جوار سيارته، وقد خرج منها رجل ليطرق على زجاج سيارة رامي الذي فزع من أثر الطرق، ولكن ما أن رآه ابتسم تلقائيًا.
_تحدث سمير : حضرتك عندك مشكلة في العربية؟
أجاب رامي بتوهان كأنه يتعلم الكلام لأول مرة :
_سو سو هاج عرب عربيتي عط عط عطلت
أحس سمير بأن رامي به خطبٌ ما، فأخذه معه في سيارته قاصدًا سوهاج.
الساعة الواحدة بعد منتصف الليل.
الوقت الحاضر
(قمر)
استيقظت قمر، فأحست بشيء تحت الغطاء، فأزالته بسرعة عن جسدها، لتجد كأس دم به قطة سوداء صغيرة.
صرخت قمر صرخةً اهتزت على إثرها العمارة التي تسكن بها، فحضر من حضر من النساء والرجال من كل مكان، وكسر أحدهم الباب ليدخل الجميع الذين وجدوا قمر فاقدةً للوعي، حتى قال أحدهم :
_لا حول ولا قوة إلا بالله، فوقوها يا جماعة بسرعة!
ذهب آخر؛ ليرى ما إن كان سارق دخل المنزل، وأخذ الجميع يتمتم ويتحدث باستغراب، وظلت تلك المرأة بالوشاح الأسود تقف بينهم لا تتحدث، ولكنها غاضبةٌ أشد الغضب.
قالت أمل ( طالبة في كلية الطب) :
_أنا هبات معاها يا ماما؛ عشان شكل الضغط عندها عالي قوي، ممكن تتعب.
_لترد عليها والدتها : ماشي يا بنتي لما تفوق عرفيني أنا مش هنام.
_فتحدثت المرأة ذات الوشاح الأسود وأخيرًا : أنا كمان هبات معاها.
فنظر الجميع إلى تلك المرأة باستغراب، حتى قالت أمل :
_حضرتك مين أصلًا؟
_أنتِ مش من العمارة، ولا نعرفك، أنتِ دخلتِ هنا ازاي؟
_لتقول : أنا قريبة جوزها رامي من سوهاج، بعتني انهاردة؛ عشان أقعد مع مراته؛ عشان عندها السكر، الحق عليا إني جيت الطريق دا كله؛ عشان مراته، وأنتِ تقابليني بالكلام دا؟
ثم بدأت بالتظاهر بالبكاء، ولكن كما يقال أنها دموع التماسيح، فأحست أمل بشدة كلامها، ثم رجعت عن كلامها :
_صدقيني أنا آسفة قوي، مكانش قصدي، متزعليش مني، اتفضلي البيت بيتك.
جهزت أمل غرفة الأطفال لتلك المرأة على أن تبيت أمل مع قمر بحكم أنها طبيبة، ثم نام الجميع.
دقت الساعه الرابعه صباحا..
فتحت أمل عينيها فوجدت نفسها على أرض صحراوية من رمال حمراء حارقة، بدأت قدماها بالاحتراق، ولكنها بدأت في الركض، وهي تصرخ، بدأت كذلك تشتم رائحة لحم يحترق، وهي تعلم أن قدميها تحترقان، وجدت بيتًا أشبه ما يكون بكومة من القش، دخلت إلى البيت، وما إن دخلت حتى بدأت أنفاسها تنتظم، وجدت نفسها كما ولو أنها في حفرة من نار، أمام عينيها رأت الآلاف من العظام حولها، وجدت قمر على الأرض أمامها، وجدت شيئًا يأكل في جسدها له ذيلٌ طويل بدون ملامح، وجهٌ أبيض كامل ليس له عيون، فقط فم، تراجعت أمل إلى الخلف، فأحس هذا الشيء بوجودها، فوقف لترى طوله أكثر من ثلاثة أمتار، يصدر صوت مثل التكتكة، نظرت أمل إلى الباب الذي دخلت منه، لتراه قد اختفى، وتحول المكان بأكمله إلى جحيم من النار، وهي تقف على جسر هي وهذا الشيء، وقمر ملقاة أمامها على الأرض بدون أمعاء، حاولت أمل الركض، ولكن هذا الشيء كان قد قفز عليها، فبدأت في الصراخ.
أخرج هذا الشيء لسانه، وبدأ بتحسس وجهها، فتح فمه وبدأت أسنانه في الظهور من صفوف خلفية إلى وسطى إلى أمامية؛ كان له ثلاثة صفوف من الأسنان المدببة خلف بعضهم البعض، ولكن قبل أن يبدأ بالتهام وليمته لمحت أمل قمر تنهض بجسدها ولكن رأسها نائم للخلف كأن رقبتها قد كُسِرَت، وقفت قمر لتنقض على هذا الوحش، فوقع كلاهما في الجحيم إلى أن أفاقت أمل من النوم فزعة، لتجد تلك المرأة ذات الوشاح تقف أمامها بابتسامة.