عندما يجتاحني شعور الشوق لك أغلق الجفون والأهداب وأستحضرك في أعماقي، أطارد خيالك في حلمي وأسلم عليك، أبحث عنك، وأغمرك في أحضاني؛ وعندها يسيطر على أنفاسي عطرك ويتلعثم لساني بكل الحروف فلا أنطق إلا اسمك فارقد قرير العين على ذكرك ويأخذني الحنين إلى الحلم بك، فأراقصك طيفًا وشبحًا وروحًا، وأنطق في فضاء الكون باسمك، وكلما همست به يدق قلبي لاحتضانكم وإيوائك في صدري.
فيا أيها الملاك الغريب الذي يغدو فوق كل الكلمات حرفًا حرفًا؛ كالحمام المهاجر إلى أرض السلام، اهبط فقد هيأت لك في قلبي مدائن الحب وطن ومستقر اهبط إليَّ لأحادثك بصدق وأمان؛ فجميع الكلمات وحروفها تعجز عن حمل ما في قلبي أو تصويره أو وصفه، اهبط إليَّ فإني أشتاق لكِ كثيرا فإن طيفك يراودني في كل صباح ومساء، يأتيني محملا بأنفاسك العطرة المبلل بدموع رحيل الذكريات والأمنيات.
تعالى إليَّ فقد بنيت لك مدينه الذكريات لأراقص بها أهداب عينيك بكلمات، واخط بها كلمات الشعر لجميع السيدات ارسمهن طيفا وأَنت ملاك.
أنتِ عاصمة مدينتي وأنتِ الذكريات، فيا أيها الملاك الغريب الذي يغدو فوق الكلمات سطرًا سطرًا؛ لا تمشين على سطور ظلي فإني لم أعد ملك السطور ومالكها، فمنذ أن اجتازني طيفك ما عدت إلا على هامش الذكريات سوى كسرة قلب ما عاد الضَمُ والفتح والسكون يعنيني، ولم أعد أقلب في حروف الأبجدية عني.
فإني أبغي أن أحدثك بقلبي؛ فمخارج الحروف باتت عاجزة واهنة عن حمل ما في جوفي من أشواق فقد حصل ما خشيت منه منذ الأزل.
فقد فاضت بك نفسي وغمرني طوفانك فأغرق فيَّ ابتهاجات الحروف والكلمات
وضاقت أوردتي عن رسم الأحرف والغزل فدعيني أحدثك في هذه الليلة وكل الليالي بحروف لم تعد حروفي، بكلمات لم تعد ككلماتي، بلغه لم تعد لغتي؛ ولم أعد أعرفها باتت تنكرني وبت أبحث عن لغة لي أعرفها وتعرفني؛ لأحدثك عن أشواقي ولهفاتي عندما يجتاحني شعور الشوق لك واللهفة، وعندما أبحث عنكِ فلا أجدك لأغلق عيوني وأستحضرك في الغياب على هيئة إله على هيئة ملاك.
أطارد خيالك وطيفك فأراقصك طيفا وأراقصك شبحا، أراقصك روحًا وملاك، أراقصك ملاكًا على هيئة بشر.
دخلت إلى ذلك المقهى الذي أعتدت الذهاب إليه منذ ما يقارب الخمس سنوات وجلست بجانب النافورة أمام الشارع في حارات دمشق القديمة وبعد قليل جاء إليَّ النادل ليسألني عن طلبي وكعادتي أجيبه بأني أحتاج إلى فنجان من القهوة بمذاق هذه الأيام فنجان من القهوة المرة ومنفضة سجائر.
ذهب وبعد قليل عاد إليَّ حاملا صينيه عليها فنجان من القهوة ومنفضة سجائر وكوبًا من الماء وقام بوضعهن أمامي على الطاولة...
أثناء شربي للقهوة تقترب مني فتاة أنيقة رائعة الجمال والمظهر تتقدم بعطرها الفواح مني بكل خطى ثابتة وتوجه إليَّ الكلام..
ما زلت تدخن نفس السجائر، مازالت رائحتك تفوح بعطر ينم عن ذوق رائع في انتقاء الأشياء وكأنك من صنع هذه العطور من أجل نفسك، مازال معطفك الشتوي الأسود يوحي بحزنك الباذخ ذلك الحزن المعلن عنه للجميع دون تردد أو خوف، وللوهلة الأولى لم أعرفك لكن ذلك الصوت الذي به الكثير من الحزن القابع في داخل القلب أعرفه جيدًا، نظرت إليك بلهفة وكأن شيئا قد أيقظ حلم غريب كان في سبات عميق في قلبي وكأن أحدهم طرق ذكرياتي الجميلة.
رفعت بصري إليك بتحدٍ لامع في عيناي وضحكت تلك الضحكة التي خرجت من صميم قلبي المجروح؛ ضحكة بها الكثير من الحزن لكني ما زلت أصر على إخفاء حزني وألمي خلف ضحكتي المنشودة والتي أصبحت هي كل ما أملك في زمن الخراب الجميل وفي مواجهة هذا العالم البائس الذي تحداني على كسر كبريائي ورجولتي الشرقية التي ما زلت أفاخر بها في زمن خسر المجتمع الكثير من الرجال وأصبح هناك الكثير من الذكور الذين يعيثون الفساد أينما حلوا وأينما ارتحلوا.
-أهذه أنتِ؟
_: نعم هذه أنا.
جلست وأنتِ تقولين لي اتسمح لي بأن أشاركك هذه الطاولة وأتبادل معك أطراف الحديث لوقت قصير؟
_طبعا تستطيعين الجلوس دون طلب الأذن تفضلي واجلسي
ماذا تشربين؟ وأنا أعرف جيدًا ومسبقا ماذا تفضلين أن تشربي لكن مع مرور الأيام وتغير الأحوال لربما كنت قد نسيت أني أعرف جيدا ماذا ستطلبِن.
وهل نسيت ما كنت أطلبه بالعادة أيعقل أن يكون مرور الزمن قد أنساك من أنا وماذا أكون وماذا كنت أشرب وفي أي وقت!
قطعا لا لم أنسى ولكن قد يحدث أي تغيير في حياتك كما حدث منذ ما يقارب الأربع أعوام عندما قررت الابتعاد والرحيل.
وبإشارة من يدي أتى النادل قادما من بعيد
تفضل سيدي ماذا تريد....
_أحضر لي فنجانا من القهوة الحلوة
_طيف لماذا عدتِ بعد هذا الغياب أعدت لكسري مجددًا؟
_لقد عدت من أجل أن أرى ابتسامة على وجهك وكأنها ابتسامة المنتصر.
أنا رجل صعب أن أكسر بسهولة اخفي ألمي وحزني الباذخ ولو كانا أكبر من الجبال، والأرض تحت ابتسامة ساحرة يصعب تمييزها إن كانت تخفي حزنا أم لأسحر بها قلوب الإناث كما فعلت معك من قبل.
وكم عدد قلوب الإناث اللواتي سحرتهن بابتسامتك بعد تلك المدة التي قد غبتها عنك؟
بعد رحيلك لم يعد لدي ثقة بأي أنثى أو بالأصح لم يعد عندي ثقة بجنس حواء أجمعهن فالغدر ميزتكن والخبث هو شعوركن.
ألهذا الحد أثرت فيك لدرجه أني انسيتك النساء من بعدي!
لم تؤثري فيني بل على العكس أعطيتني درسا بليغا بعدم الثقة بهذا الجنس مرة أخرى وعدم التورط بقصة حب لأن الحب فاشل.
لقد ازددت جمالا وسحرا فوق جمالك أيعقل أنه ليس هناك امرأه في حياتك وليس هناك من هي تهواك؟
وأنتِ ازددتِ بعدًا، وهجرانًا، وغدرًا بعد الكثير من الوعود.
سحبت على سيجارتي الرابعة التي كنت قد سحبتها من علبتي وأنا أنظر إليها نظرة الواثق من نفسه وقلت لها:
_لم التزمت الصمت تكلمي بوحي بما يوجد في قلبك أم أنك اكتفيت بالغدر والخيانة اللذان جبلا بقلوب الكثير من النساء!
_عمر لقد اشتقتك كثيرا.
ضحكة طويلة خرجت من ثغري...
_لقد ألمني غدرك وخيانتك!
_هي الظروف التي أجبرتني على الابتعاد عن قلبي الذي ينبض في جوفي الظروف التي قتلت فيَّ السعادة و الهناء قتلت الأمل الذي كنته أنت بالنسبة لي وجعلت مني جسدا بلا روح أحن إليك في كل ثانية أشتاق لكِ وجعًا وحبًا، في كل دقيقة افتقدتك مع مرور الأيام تألمت لغيابي عنك وغيابك عني على مدى هذه الأعوام.
_طيف هو مجرد كلام معسول لا صدق ولا صحة فيه لتوقعي قلبي به وترغميني على العودة إليك مجددا لكن يا سيدتي الجميلة ما عدت ذلك الأبله والمجنون لقد تعلمت منك الرس الجميل والبليغ في فهم معنى الحب الحقيقي وفي إدراك ما يريده الشخص الآخر مني أصبحت الآن أكثر علما بما تخفيه القلوب من نفاق وإظهار الحب والإخلاص والشيء الجميل.
_عمر أتشك في صدق حبي لك وإخلاصي واشتياقي اتشك في كل هذا؟
_لا أشك بل أنا متيقن وواثق كامل الثقة بأنك لا تحبيني.
_أني أقسم لك بكل ما تعنيه كلمة قسم من معنى أنك سكنت فؤادي ولم يسكنه أحد من قبلك ولن يسكنه أحد من بعدك
_ألم تكتفي بعد من آهاتِ التي سببها كانت أنت أم أنك ترغبين بمزيد من الغدر بمزيد من الخيانة؟
_صدقني لم يكن للخيانة في قلبي أي وجود لكن ما آلت إليه أوضاعي أجبرتني أن أتخلى عنك وابتعد لأكثر من عامين ونصف أو ما يزيد عليهما....
_أتعلمين في هذه المدة التي أعلنت بها الغياب اشتعلت النيران في ثنايا قلبي لقد تألمت بقدر ما وجد رحمة من الله بعباده المسلمين لقد قتلتي في داخلي إنسانا محبا للغير ويحب عمل الخير!
_إني أعلم كل هذا لكن هل تقبل أن أقص عليك ما حدث معي بالتفصيل؟
_لا أعتقد أنه يجب أن تقصي عليّ قصتك لقد اكتفيت منك ومن أحاديثك.
_إني أحبك حبًا لو وجد في هذا الكون لعاش الناس بصفاء ومحبة مدى الحياة!
_هذا لا يعنيني بشيء لقد كنت ذكرى مؤلمة اجتاحت الماضي من حياتي ولم أعد أذكر سوى ذلك.
_ألهذه الدرجة جعلك بعدي قاسي القلب يسكن اللؤم في ثنايا فؤادك
_نعم إن البعد يقتل ما في القلب من حب وحنان
_لقد قلت لك يا عمر أن ظروفي أجبرتني على هذا الشيء وهذا الذنب الذي وإلى الآن لم تغفره لي.
_وما هذا الظرف الذي أجبرك على فعل مثل هذا الشيء؟
_عمر لقد أجبرني أهلي على السفر معهم من أجل علاج والدتي التي كانت مريضه وليس من المنطق والأخلاق أن تبقى فتاة عزباء لوحدها في بلد تفتك بها الحرب وأهلها في بلد أخر لقد عانيت غيابك كثيرا لدرجة أني كتمت ألمي في جوفي ولم أبح بحزني وألمي لأي مخلوق سوى خالقي لا يعرف ماذا في قلبي.
_إن غفرت لي زلتي هذه وأعلنت أنك سامحتني أعدك بأني لن أريك وجهي مرة أخرى ولكن حتما سأبقى أجري خلفك إن لم تسامحني وتغفر لي إني أرجوك ثم أرجوك.
_لم يعد لدي متسع من الوقت للحديث أكثر، عندي موعد عمل بعد ربع ساعه أراك في وقت آخر.
لكن قبل ذهابي ما زال رقمي كما هو تستطيعين الاتصال بي في أي وقت تشائين ولنا لقاء أخر بأقرب وقت أمكن.
نطقت هذه الكلمات ودفعت ثمن القهوة لكلينا وغادرت المقهى متجها إلى الخارج.
***