في زمان ما...حشدٌ كبير من الناس قد وصل عددهم إلى المائة، تنوعت فئاتهم بين الرجال والنساء والأطفال، وجدوا أنفسهم في هذه الجزيرة، بمجرد أن أتوا إلى هذا المكان، تلاشت ذاكرتهم ونسوا ماضيهم، من هم؟ ومن جلبهم إلى هنا؟ لا أحد منهم يعرف، في هذه اللحظة وقفوا جميعهم بالقرب من الشاطئ المطل على الجزيرة، واكتست وجوههم بالتجمد الذي ترافق مع عدم الإحساس والتبلد، الأمر يبدو وكأنهم قد أصبحوا روبوتات، وأن هناك يدًا مجهولة صممتهم، وبرمجت برنامجهم الألي؛ لكي يكونوا بهذه الهيئة الغريبة، أو أن هناك من امتلك عقلهم، وسيطر عليها، وأخذ يبث إليهم العديد من الأفكار العجيبة عن حقيقتهم وأنفسهم، وعن هذا الكون الذين يحيون فيه، منذ أن أتوا إلى هذا المكان شعروا بأن هناك شيئًا قد تغير في طبيعتهم البشرية؛ فهم لا يشعرون أبدًا بالجوع والعطش، ومع ذلك يشعرون بنشاط غريب، وطاقة هائلة تتدفق في أجسامهم .
كل ما كانوا يعلموه أنهم جزء من تجربة غريبة، وهذا ما أخبروهم به العلماء حين تم إحضارهم إلى هنا، والأغرب ما عرفوه من هؤلاء العلماء أنهم مثلهم تم إحضارهم إلى هذه الجزيرة من قبل شخص غامض أجبرهم على مشاركته في تجربته، وطلب منهم أن يمسحوا ذاكرة السجناء، وكل شيء متعلق بماضيهم، طوال تلك الليالي التي قضوها في هذه القلعة كانوا يحاولون الهرب من هذا المكان، ولكن لم يكن هذا بالشيء السهل، كانت القلعة محاطة بمئات الحراس الذي يصعب تجاوزهم، وكانت الجزيرة مليئة بكاميرات مراقبة تصور كل شيء، حتى أنهم زرعوا شرائح تتبع في أجسادهم، كانوا في اللحظة الحالية يشعرون بثقل غريب في أدمغتهم، وكأن هناك شيء غريب بداخلها يتحكم في أفكارهم، ويقرأ ما هو مختزن داخل عقولهم لابد أن هذه نتائج التجربة التي كان يتم إجراؤها عليهم طوال تلك المدة، كانوا كفئران التجارب في هذه القلعة، يتم تخديرهم ويقوم العلماء بإجراء التجارب على دماغهم، وبعد أن انتهت التجربة أتى الوقت المناسب الآن؛ لرؤية نتائجها، فأخرجوا جميع السجناء إلى الشاطئ.
نظروا في حركة مفاجئة جميعهم إلى السماء، كانت هناك طائرة تقترب منهم، ظلت أنظارهم متعلقة بالطائرة؛ حتى هبطت أمامهم، ومنها خرج شاب أعور غمر السواد ملابسه من بدلته إلى سرواله، امتد ذلك السواد إلى نظرة عينيه التي كانت تنطق بالشر، وتبصر به .
رؤيتهم له هكذا، وبهذه الهيئة المخيفة، لم تحرك مشاعر الخوف بداخلهم، إن المثير للدهشة حقًا عندما ركضوا نحوه، وجثموا منحنين أمامه، وأخذوا يركعون، ويسجدون مرددين يحيا المنقذ، يحيا المنقذ، وكان الشاب ينظر إليهم، وعلى وجهه ترتسم ابتسامة خبيثة، فهذا ما أراده دومًا، إنه يرى نفسه كإله وُلد؛ ليحكم هذه الأرض، ويكون سيد البشر، فلا مالك عليهم سواه، لقد نجحت تجربته عليهم، وأثبتت شريحة البقاء فعاليتها في استعباد البشر، والتحكم في عقولهم .
******
في بقعة أخرى من الجزيرة برزت قلعة شديدة الفخامة، والاتساع كانت أشبه بقلاع الملوك والسلاطين، كانت هذه القلعة هي القاعدة العلمية التي يجرى فيها تجاربه مستعينًا بالعديد من العلماء اللذين أغراهم بأمواله الطائلة، وجعلهم ينضمون إليه في مشروع استعباد البشر .
أمام القلعة مباشرة، وقف عشرة من العلماء تباينت ملامحهم وأعمارهم، كان أكبرهم الدكتور إبراهيم الطوخي، وزوجته سلوى شعير اللذان كانا يترأسان هذا الفريق، إنه الفريق الذي جمعاه؛ فقد سعيا بكل جهودهم على استقطاب أمهر العقول العلمية من تلاميذهم، وأصدقائهم لمشاركتهم في صنع هذه الشريحة .
في هذه اللحظة تعالت الأصوات والهمهمات من حولهما، بينما ظلا هما واقفين محتفظان بنفس صمتهما، و وقارهما الذي لم يفارقهما، كانا يبدوان في وقفتهما كالملك وملكته، في عينيهما تظهر نظرات الغرور والكبرياء، إنهما أشبه بفرجينيا وريتشارد، لقد امتلكا جميع ملامحهما تمامًا.
نقل إبراهيم بصره فجأة إليها؛ ليقطع حبل الصمت السائد بينهما فأردف: لابد أن المنقذ قد رأى نتائج الشريحة، فجميع سجناء الجزيرة الذي تم اختطافهم قد صاروا عبيدًا له، يعتقدون إنه خالقهم.
هزت رأسها إيجابًا: هذا سوف يسعده بالتأكيد، لقد كان دائمًا يحلم بأن تكون له السلطة، والسيطرة على بني البشر.
ارتسمت ابتسامة انتصار على وجهه وهو يقول: لقد أنجزنا تطور علمي جديد، إن الشريحة سيطرت على عقلهم تمامًا، وغيرت الكثير في خواصهم الإنسانية! فبإمكانهم الآن الامتناع عن الأكل لأيام عديدة دون أن يموتون، ويستطيعون العمل بدون أن يلازمهم التعب والإرهاق تمامًا كالآلات، وقد فقدوا مشاعرهم، وأحاسيسهم الإنسانية، لقد صاروا أنصاف بشر كما أراد تمامًا أن يكون جنوده المخلصين، أتمنى أن يكون منقذنا سعيدًا بما حققناه؛ فسعادته تعني سعادتنا .
ابتلع ريقه ثم تابع قائلًا: لقد مارسنا الألعاب الذهنية، وأخبرناهم أننا لا نعرف شيء عن المنقذ، وأننا مجبرين مثلهم على المشاركة في هذه التجربة كصانعين، أنا مشفق على سذاجتهم التي جعلتهم لا يشكون فينا بأننا نعرف كل شيء .
لم تنبس سلوى بحرف على كلماته، كانت رافعة رأسها إلى الأعلى تنظر بذهول إلى السماء، حالها كحال باقي أفراد الفريق اللذين راح الذهول يتسلل إلى نظرات أعينهم، وهم يرون الشيء الغريب الذى يحدث أمامهم، لاحظ إبراهيم حالة الدهشة التي سادت على جميع الحاضرين في المكان، فرفع رأسه إلى السماء بدوره هو الآخر، ولم تقل دهشته عنهم، وجد المنقذ يمشي فوق السحاب، كيف فعل هذا؟ معجزة جديدة فعلها رجل المعجزات كما يطلقون عليه، كانت نظرات الخبث تظهر في عيني المنقذ، وهو يطالعهم من أعلى؛ فهو يرى أن هذا هو مكانه المثالي، وأن مكان عبيده هو الأرض، في حركة مفاجئة هبط أمامهم على الأرض في سرعة شديدة فاقت سرعة الطائرات .
تلى هذا ركوعهم وسجودهم إليه هاتفين يحيا المنقذ، يحيا المنقذ، أشار إليهم بيده؛ كي ينتصبوا واقفين أمامه، ثم خطب فيهم بصوت مرتفع: كان من العظيم منكم أن تشاركوني في تجربة استعباد البشر، لقد أسعدتني نتائج الشريحة .
عقد ابراهيم حاجبيه قائلًا: تسرنا سعادتك يا سيدي، لقد صار هؤلاء المائة من أتباعك كما أردت.
قال له، وهو يرفع حاجبيه في تكبر شديد: أنا لا أريد فقط مائة فرد؛ كي يكونوا من أتباعي، أنا أريد الجميع، أريد جميع من في الأرض أن يعبدوني، ويروني إلهًا لهم .
صمت للحظة؛ ليرى القلق والتوتر الذي غمر وجوههم، ثم استطرد: يجب أن يعبدني الجميع بما فيهم أنتم.
تفاجأوا من كلامه، فقال ابراهيم مترددًا: نحن نعبدك بالفعل يا سيدي، ونؤمن بك كإله لنا .
علق على كلامه بقوله: إذن يجب أن تزرعوا الشريحة في أدمغتكم؛ لكي أرى تأثيرها عليكم، هكذا سوف تصبحون أتباعي تمامًا كهؤلاء الناس الذي اختطفتهم، وجلبتهم إلى هنا، وجعلتهم فئران تجارب .
صمت جميعهم وراحوا يتبادلون النظر إلى بعضهم في دهشة مختلطة بالخوف والرعب من تجربة الشيء الذي صنعوه بأيديهم، وقد زاد من خوفهم نظرة الشر الخبيثة التي انطلقت من عينيه نحوهم .
******
الثالث عشر من أغسطس 2013 / كافيه الشروق / الساعة العاشرة مساءً
التفتت أنظار جميع الزبائن في الكافيه حول المنضدة التي كان يجلس عليها هذا الشاب الوسيم، الذي كان يرتدى بدلة بيضاء زادت من وسامته، وشكلت مع بريق بشرته البيضاء صورة مستحبة للنظر تسر عين كل من يراه، لم تكن وسامته فقط هي الدافع الذي يجعل جميع من في الكافيه من عمال وزبائن يسلطون اهتمامهم عليه ،إنه حكيم موسى رئيس شركات المستعمرة، والمستعمرة هي بمثابة إمبراطورية علمية تفرعت منها شركات تختص بالتكنولوجيا، وأخرى اختصاصها في الأدوية؛ لذلك كانت المستعمرة مبتغى ومراد جميع المهندسين، والصيادلة الذين يحلمون بالعمل في هذا المكان الذى ينبض بالعلم، مرت لحظات قليلة حتى أتى النادل محملًا بصينية عليها كوب القهوة الذي طلبه حكيم .
وضع الشاب كوب القهوة أمامه على المنضدة وهو يقول: نتمنى أن تكرر زيارتك إلى هنا مرة أخرى.
طالعه حكيم باهتمام، ولاذ الصمت على وجهه، وهو يتأمل هذا الشاب الواقف أمامه، كان الشاب وسيم الهيئة، جميل الملامح أبيض البشرة، وتنقطت بشرته ببعض النمش الخفيف، وكان ذو شعر أشقر طويل، وكانت خصلاته الناعمة تنسدل على جبينه في شكله جميل جعله كالملوك، وبريق عينيه الخضراء كان يلفت نظر كل من يراه، فتجعله يدقق النظر إلى عينيه ومدى جمالهما، لم تكن ملامحه تدل على أنه عربي أبدًا.
ترك حكيم صمته وحاول التودد إليه عندما سأله عن اسمه قائلًا: ما اسمك أيها الشاب؟
نبرة الود في حديثه أعجبت الشاب الذي ابتسم ابتسامة هادئة، وهو يقدم نفسه له قائلًا : اسمى نبيل عبد الرحمن.
سأله، وهو يهز رأسه قائلًا: منذ متى وأنت تعمل هنا؟
ببعض من اليأس قال نبيل : منذ فترة طويلة، لقد أتممت ثلاث سنوات الآن، صمت للحظة ثم استطرد محبطًا: لم أجد عمل في مجال دراستي، فاضطررت إلى العمل بهذه الوظيفة، وتقبلت وضعي كنادل مهمته فقط أن يحضر المشروبات للزبائن، قال جملته الأخيرة وهو يشعر بألم دفين يعتمر داخل قلبه منذ سنوات، وقد انعكس ذلك الألم في نبرة صوته التي كانت ضعيفة يائسة من الوضع الذى يعيشه .
رفع حكيم حاجبيه في دهشة قائلًا: ثلاث سنوات، وأنت على هذا الوضع منذ أن تخرجت من الجامعة! كيف استطعت تحمل كل هذا؟
أطرق رأسه إلى الأرض في أسى ثم نظر إليه قائلًا: الكثير هنا مثلي لم تعطيهم شهادتهم الدراسية القيمة التي كانوا يبحثوا عنها، وسلبت الواسطة، والمحسوبية منهم كل الفرص.
تأثر حكيم بكلامه، وحاول أن يخفف عنه بقوله: لا تقلق سيتحسن الوضع يومًا ما، وستحصل على ما تبغاه.
قال له في اعتزاز شديد: ثقتي في الله كبيرة، ثم انصرف بعيدًا عنه؛ ليتابع طلبات الزبائن الأخرين، أما حكيم فقد تصوبت عينيه طوال جلسته بالكافيه عليه، كان يبدو وكأنه يراقبه، ولم تكن نظرات حكيم إليه مريحة بالمرة .