ظل مشهد قتل والديه يتردد في ذهنه، ويسيطر على كل تخيلاته؛ فكان هذا آخر ما رأته عيناه قبل أن يسقط سجينا لغيبوبته، ويظل جليسًا لفراشه.
وكعادتها كل يوم في الصباح، دلفت ممرضته رضوى إلى الغرفة، وقامت بفتح النوافذ حتى يتدفق الاكسجين الى الغرفة، وتنتعش أنفاس طارق به.
ثم اقتربت من السرير وظلت تحدق بعينيها إلى هذا الصبي الصغير شاردة تفكر في ما أصابه، ولحق بوالديه، وكان بداخلها شعورًا بالشفقة على حاله كونه ما زال لم يتجاوز الثالثة عشر من عمره، وفقد والديه في مثل هذا السن الصغير.
لا زالت تتذكر ذلك اليوم الذي أتى فيه إلى المستشفى فاقدا للوعي، وتزاحم الجميع حول غرفته من الصحفيين، وضباط الشرطة؛ للحصول على معلومة مهمة بشأن حادث مقتل والديه، تلك الحادثة التي هزت أرجاء مصر وأثارت جدلًا واسعًا، في صباح يوم 14 أغسطس، وعلى طريق مصر الفيوم، عثرت قوات الشرطة على الدكتور حسين مصطفى، وزوجته الدكتورة هدى الناصر مقتولان بجانب سيارتهم، والدم يخرج من جثمانهما معلنًا خروجهما عن هذا العالم؛ ليتركا ابنهما الوحيد طارق بمفرده في هذه الدنيا، وعلى أمتار قليلة منهما كان يرقد طارق على الأرض فاقدًا للوعي .
حسين مصطفى، اسمًا جعل المصريين يزدادون فخرًا، وتباهيًا بما قام به هذا العالم الشاب، فقد استطاع حسين إيجاد علاج للشيخوخة التي تصيب البشر من خلال صناعته لعقار مثبت العمر البيولوجي للإنسان ذلك العقار الذي أبهر به العالم، وحاز من خلاله على جائزة نوبل في الكيمياء.
وقد تم عمل العديد من الأفلام الوثائقية حول مثبت العمر، وكيف اخترعه حسين من بداية صناعته حتى نهايته، بالطبع خلف كل اختراع قصة مثيرة، كان إصرار حسين هو كلمة السر في إنجاز هذا الشيء المستحيل، حيث كان يطمح في إيجاد علاج يعمل على تجديد خلايا الإنسان؛ ليحتفظ بشبابه الدائم، وبسبب هذا كان يمضى العديد من الليالي منعزلًا في مختبره العلمي، يجرى التجارب؛ ليقيس فعالية هذا الدواء، وقد كانت هناك العديد من التجارب الفاشلة، ولكنه لم ييأس فمثله لم ييأسوا من قبل، فصديقه في العلم أديسون استنزفته الكثير من التجارب الفاشلة، وهو يصنع مصباحه الكهربائي، ولكن كل هذا تبخر في الهواء عندما نجحت تجربته، وأنار المصباح، ومعه أنار العالم بأكمله جالبًا الضياء لكافة الناس، كان حسين دائمًا يتساءل: هل سوف ينجح مثل أديسون، ويجد علاج للشيخوخة جالبًا الشباب لكافة البشر؟!
في تلك الليلة كان قد وصل إلى تجربته الألف، هذه المرة بدأ بتجربة الدواء فشرب قطرة منه، تلى هذا حدوث المعجزة، شعر فجاءة بغثيان غريب فسقط أرضًا، وبعد خمسة دقائق بالضبط عاد إليه وعيه، فانتفض واقفًا في سرعة، ونشاط لم يشعر بهما من قبل، وذهب ليتطلع إلى المرأة، وعندما نظر لنفسه رأى ما أدهشه، وأسعده في ذات اللحظة، لقد ذهب الشيب الأبيض الخفيف عن شعر رأسه، وتلاشت خطوط الجبهة المزعجة التي كانت تظهر على وجهه، لقد تغيرت ملامح وجهه عن السابق، وكأنه قد عاد عشرة سنوات إلى الوراء، فقد تحول من رجل في منتصف الثلاثينات إلى شاب في العشرينات من عمره، وبعد رحلة طويلة استمرت سبع سنوات قضاها في الدراسات والأبحاث والتجارب، اخترع مثبت العمر، الذي مثّل طفرة في حياة البشرية، فقد اندهش الجميع من النتائج الفعالة لهذا الدواء، وكيف بإمكانه إيقاف العمر البيولوجي للإنسان؟ فقطرة واحدة منه يمكنها أن تصغر الإنسان بيولوجيًا عشرة سنوات وأكثر! .
وبينما كانت رضوى غارقة في النظر اليه بدا طارق بفتح عينيه ببطيء مما جعلها تفتح فمها في دهشة وسعادة غامرة، وسرت لسماع صوته العذب يحادثها لأول مرة فقال لها: من أنت؟
هنا داعب الخجل وجهها، وأطرقت رأسها إلى الأرض لجزء من الثانية ثم رفعت بصرها إليه مرة أخرى؛ لتقدم له نفسها: أنا ممرضتك رضوى.
صمتت للحظة ثم دنت منه، وهي تقول في ارتياح شديد: الحمدلله أنك بخير، لقد كانت غيبوبة طويلة، لم نكن نعلم متى ستفيق منها؟
_سألها طارق بتعجب: منذ متى وأنا في هذه الحالة؟
_أجابته باقتضاب: لقد مضت ستة أشهر الآن.
مرة أخرى استحضر مشهد قتل والديه أمامه في تلك الليلة المشؤومة، ولم يستطع كتم حزنه أمام رضوى، وراحت الدموع تتساقط على وجنتيه بغزارة.
شعرت رضوى بالحزن الكبير الذي يعج به قلبه على فراق والديه، فقالت له بنبرة عطف: جدك مصطفى سوف يفرح كثيرًا عندما يعلم أنك استيقظت من الغيبوبة، إنه يحبك كثيرًا، فقد اعتاد كل ليلة على الجلوس معك، والتحدث إليك على أمل أن تفيق من غيبوبتك، وتبادله الحديث.
تزينت ملامح وجهه بابتسامة هادئة، أزالت القليل من الحزن الذي يعتمر قلبه، وبلهجة رقيقة أردف: كلامك أسعدني كثيرًا، أنا أقدر أنك تحاولين التخفيف من حزني أشكرك.
_بنبرة ودودة، قالت له: لا تقلق أنت لست وحيدًا نحن جميعًا بجانبك.
لم تمضِ سوى دقائق قليلة، حتى انصرفت رضوى عنه تاركة بكلماتها أثرًا إيجابيًا في نفسيته، جعله يطمئن ويرتاح، فقد أيقن أنه ليس وحيدًا في هذا العالم، وأن هناك شخص سوف يمسك بيده، ويرشده في طريق الحياة.
أنه يرى جده كأنه مصباح منير سوف ينقذه من ظلام الوحدة ووحشتها، خلال تلك اللحظات بدأ يستجمع ذكرياته مع جده مصطفى، وكيف كان معجبًا بشخصيته، وذكائه العقلي، ليس ذلك فقط فقد كان شديد الفخر، والتباهي به؛ فهو دكتور بكلية العلوم قسم الفيزياء نابغًا جدًا في مجاله، لديه سيرة حسنة بين طلابه، فلا يمقته أو يكرهه شخص منهم .
بالإضافة إلى أنه مخترع مبتكر، لا يشغل وقته سوى بقراءة الكتب، والأبحاث العلمية، والتفكير في أمور بعيدة تغيب عن باقي البشر .
بعد عدة ساعات دلف مصطفى إلى الغرفة وبصحبته شابين، بالطبع لم يكونا من أحد أفراد عائلتهما، راح طارق ينظر إليهما بفحص وإمعان لجزء من الثانية لم يتعرف عليهما، ولم يعرف سبب مجيئهما لزيارته مع جده ولكنه سرعان ما أدرك ذلك من هيئتهما التي أظهرت الكثير من شخصياتهم، ومن يكونا فأحدهم كان شابًا طويلًا قوي البنيان وجهه أبيض تشوبه سمرة خفيفة، يعلو وجهه حاجبين كثيفين ويتوسطهما أنفًا طويلًا بارز كأنف بينوكيو وارتسم فوق شفتيه شارب رفيع يشبه كثيرًا شارب رشدي أباظة، ولكنه كان مفتقدًا لوسامة رشدي أباظة بشدة فكانت ملامح وجهه حادة صارمة.
نعم، نعم لقد استوعب طارق أن هذا ضابط شرطة، وقد أتى؛ ليحقق معه بشأن ما رآه ليلة الحادث، أما الآخر فكان شابًا أبيض البشرة، سيطرة الدهون على جسده السمين مشكلة ما يعرف بالكرش الذي لم يستطع إخفاءه أكثر لدرجة أنه يخرج من القميص الذى يرتديه، ولم يكن يجد حرجًا في ذلك فهو أحد هؤلاء الرجال الذين تعجبهم مقولة: الراجل اللي مالوش كرش ما يسواش قرش، وكان شعره منفوشًا ومن الواضح أنه شاهد أحمد مكي في فيلم اتش دبور، وقرر أن يقلده ليكون شعره بهذا الشكل الفوضوي، ولفت نظره اسكتش الرسم الذي كان يحمله في يده اليمنى، كل هذا جعله يعتقد بأنه أحد الرسامين الجنائيين الذي أتى؛ ليعرف منه مواصفات القاتل فيرسمها في ورقته، ويكشف صورته الحقيقية، وكان وليد أحد أمهر الرسامين الجنائيين التي تستعين بهم الشرطة في مثل هذه الجرائم، وذلك لما أثبته من براعة كبيرة في الكشف عن القتلة المجهولين، فور أن رأى طارق جده قادمًا نحوه لاحت ابتسامة خفيفة على وجهه تعبر عن شعور بالسعادة، والارتياح للقاء مصطفى مرة أخرى، وحينها كانت نظرات مصطفى إليه تفيض بالحنان والعطف، ويشوبها الحزن في ذات الوقت على فراق والديه وتركهم له، ثم احتضنه بدفء، وقبله على وجنتيه قائلًا: أحمد الله أنك بخير يا حفيدي.
ثم التفت مشيرًا بيده نحوهما، وهو يقول: أقدم لك المقدم توفيق زهران، إنه الضابط المكلف بالتحقيق في قضية مقتل والديك، بمجرد علمه أنك استيقظت من الغيبوبة أتى؛ ليعرف منك بعض المعلومات باعتبارك الشاهد الوحيد، قطع مصطفى حديثه هنيه ثم تابع، وهو ينظر إلى وليد: وهذا الأستاذ وليد أتى؛ ليستدل منك على مواصفات القاتل الذي رأيته ليلة الجريمة.
نظر إليه وليد بابتسامة خفيفة محييًا إياه بينما اقترب توفيق منه وصافحه قائلًا: حمدًا لله أنك بخير.
اكتسى وجه طارق بحمرة الخجل، وبصوت خافت أردف: شكرًا لك.
سأله توفيق: أريد أن أعرف منك ماذا جرى بالتحديد في موقع الحادث؟ هل ما زلت تتذكر ملامح القاتل؟ وكيف كانت هيئته؟
ساد الصمت عليه لبرهة ثم أكمل: أن والدك شخصية مشهورة ، فقضية مقتل الصيدلي حسين مصطفى وزوجته أثارت الشكوك والتساؤلات في الإعلام، ومؤسسات الدولة، لذا أرجو منك أن تحكي كل شيء شهدته بعينيك في تلك الليلة حتى نصل إلى الجاني، وتتحقق العدالة.
بنبرة هادئة أجابه طارق: سوف أحكي لك كل شيء، وبدا طارق يسترجع ذكريات المشهد الشنيع أمامه من جديد، وكأنه قد عاد بالزمن، وبدأ يحكى له…
كعادتنا في كل يوم خميس كنا نسافر إلى الفيوم؛ لكي نزور خالتي نادية التي تقطن هناك، وكنا نقضي معظم اليوم معها حتى المساء، وفي هذه المرة تأخرنا قليلًا، بسبب غيبوبة السكر المفاجئة التي أصابت خالتي نادية أثناء زيارتنا لها.
في طريق عودتنا إلى القاهرة وصل الليل إلى نصفه وتأخر الوقت كثيرًا، فقد كانت الواحدة صباحًا، في البداية كان كل شيء يسير بشكل طبيعي كعادتي كنت أجلس في الخلف منهمكًا في اللعب على الهاتف بينما يجلس والدي في الأمام يقود السيارة وبجانبه والدتي.
كانا يتهامسان الأحاديث، ولم أكن شديد الانتباه للحديث الذي يجرى بينهما إلا أنني تمكنت من سماع بعض المقتطفات مما يقولاه كلام، لم أستطع أن أفهمه لم أكن أعرف عن ماذا يتحدثان؟ ولماذا ابى يتكلم بكل هذا الحنق؟
سمعته يقول لوالدتي: سأكشف أمرهم، يجب أن أنقذ الناس منهم، لن أسمح لهم بتنفيذ ما يسعون إليه، إنهم يخططون لكارثة.
ولاحظت الخوف، وهو يتدفق في صوت والدتي عندما قالت :
لن يتركوك سيشكلون خطرًا كبيرًا علينا، ولن نتمكن من عيش حياة هادئة بعد الآن.
كان ذلك آخر ما نطقت به والدتي، وآخر ما سمعته من الحديث الذي دار بينهما، حينها كان الطريق هادئا تمامًا، فلم نرى أي سيارة على الطريق سوى سيارتنا، ولم نسمع سوى أصواتنا، وفجأة ظهرت سيارة حمراء على الطريق يقف بجانبها شابًا في الثلاثينات من عمره، كان يبدو أن سيارته تعطلت في الطريق، ويحتاج منا بعض المساعدة، وهذا ما أدركناه حين أشار لنا بيده في صمت طالبًا المساعدة .
في البداية أراد أبي أن يوقف السيارة؛ لمساعدة ذلك الشاب، ولكنه تدارك الامر سريعًا، وأكمل في طريقه، فكل إنسان بداخله غريزة تجعله يشعر بالخطر المقترب منه، وبغتة دوى صوت الرصاص ناشرًا الرعب في قلوبنا .
فجاءة تعطلت السيارة بمجرد أن اخترق الرصاص عجلات القيادة، وانتبه والداي إلى الشاب صاحب السيارة الحمراء يقف أمامنا بسيارته قاطعًا الطريق، وفي يده سلاحًا أشهره نحونا، وصرخت مذعورًا مما حدث وآلمت صرختي والداي اللذان التفتا لي على الفور، ورأيت في أعينهم نظرات امتلأت بالخوف، والهلع قلقًا من أن يصيبني مكروه.
اقترب الشاب الغامض من باب السيارة وأشار بسلاحه نحو والداي طالبًا منهم أن يخرجا، فخرجا في الحال بعد أن تحكم فيهما الخوف، ولم أكن استطيع التقاط أنفاسي من الرعب، أنها أبشع جريمة يمكن أن يراها أي شخص اخترقت رصاصاته رأس أبي وأمي؛ ليسقطا جثتين هامدتين تتناثر الدماء منهما، ولم يكتفي بذلك، استمر بإطلاق الرصاص على جثمانهما كالمجنون، هكذا أشبع شهوته الإجرامية فرؤيته لفيضان الدماء الذب كان يسيل أمامه رفع الدوبامين لديه، وكأن الدماء بالنسبة له إكسير يمده بالحياة، أو ترياق معالج يشفيه من الأمراض، ويبدو أنه كان مستمتعًا برائحة الدماء التي صارت تفوح في المكان تلك الرائحة التي يعشقها أكثر من رائحة أي عطر، خرجت من السيارة في خوف وهلع، وأغرقت عيناي بفيضان من الدموع .
وغلبت الحسرة على ملامح وجهي، وأنا أحدق بهم لآخر مرة سآراهم فيها في هذا العالم: بعدئذ أخذت أمسح دموعي، وحولت بصرى إلى ذلك القاتل الذي وقف أمامي ينظف سلاحه ببرود، وكأنه لم يقتل اثنان من لحم ودم، فأدركت أنها ليست المرة الأولى له، لقد قتل من قبل، ونظرت اليه نظرة طويلة مفعمة بالغضب أحفظ شكله جيدًا، وأحفظ ملامحه .
أنا لن أنسى هذا الوجه الذي حرمني من والداي، وسلبني سعادتي، وانتزع منى جنتي: كان يمتلك عيون خضراء تصدر منها بريقًا، يجعلها تشع رعبًا في الظلام كعيون القطط، وشعره طويل شديد الصفرة ووجهه أبيض .
لم تكن ملامحه تدل على أنه شخص عربي، أزحت نظري عن وجهه ثم لكمته بكل قوتي في بطنه، ولكن ما حدث بعدها هو ما أدهشني تألمت يداي كثيرًا، شعرت بأن يدى ارتطمت بالمعدن، وأخذت أنظر إليه في دهشة كبيرة فاتحًا فمي من هول الصدمة لا أصدق الشيء الذي أواجهه، هل هو بشر مثلي أم شيء آخر؟
وإذا بالغضب يجتاح ملامح وجهه إزاء لكمتي له فأشهر مسدسه في وجهي؛ لكي يتخلص مني، ولكنه فوجئ بأن ذخيرته قد نفذت، وهذا ما جعله يصل إلى قمة الغضب، فرمى مسدسه في عصبية شديدة، ثم ضربني بكامل قوته مستخدمًا يده اليمنى التي بدت، وكأنها يد حديدية، تملكني شعور بأن هناك شخصًا قد ضربني بآلة حادة على وجهي، وسيطر على الألم ثم سقطت أرضًا فاقدًا للوعي .
بدا توفيق ومصطفى ووليد متأثرين مما رواه طارق عليهم، فلم يستطع مصطفى كتمان حزنه على ما حدث لابنه وزوجته، وما حل بحفيده الوحيد فاحمرت عيناه وسالت بالدموع، كانت دموعه يملأها الحزن، ومن ناحية أخرى تتخللها مشاعر الكراهية، والانتقام ممن تسببوا بمقتل ابنه .
بعد أن قص عليهم ما حدث، تقدم وليد نحوه، وأراه الورقة التي رسم فيها القاتل، وهو يسأله: هل هذا الشخص الذى رأيته ليلة الحادث، فتفاجئ طارق مما وجدته عيناه إنه نفس الشاب الذي رآه ليلة الحادث لقد استطاع وليد رسمه بكل دقة، وكان يشعر بالدهشة من البراعة والسرعة العالية التي امتلكها وليد في كشف المجرمين، ورسم صورتهم الحقيقية بقلمه .
فصاح طارق في سرعة: نعم إنه هو نفس الشخص.
أردف توفيق بصوت دب فيه الحزن: أنا اسف؛ لأنني قد ذكرتك بكل ما حدث، ولكن هذا كان يجب أن يتم، ثم صمت هنية وأكمل بقوله، وهو ينظر إلى صورة الجاني: تأكد جيدًا أنني لن أترك القاتل يهرب بجريمته، ويفر من العدالة.
توجه توفيق إلى طارق ثم قبله من جبينه، وقال له: حمدًا لله أنك بخير.
هز طارق رأسه قائلًا: الحمد لله على كل شيء.
التفت توفيق محدقًا إلى مصطفى وبدا بمصافحته قائلًا: سوف ابذل كل جهدي حتى أجد هذا المجرم، وأقدمه للعدالة.
قال له مصطفى بنبرة حزينة: أنا ممتن لجهودك، أتمنى حدوث هذا.
انصرف توفيق خارج الغرفة وبصحبته وليد، وكان على وجه توفيق العديد من علامات الاستفهام، وآلاف الاسئلة تدور في رأسه عن ما عرفه من طارق، ظل يسأل نفسه العديد من الأسئلة، ما سر هذا القاتل؟ ما سر قصة اليد الحديدية التي قصها طارق عليه؟
هذا القاتل خلفه يدا مجهولة ولكن من؟ ومن هؤلاء الذى كان يتحدث عنهم حسين؟ ترى ما الكارثة التي يخططون لها؟
في مكتب توفيق، الساعة السادسة مساءً
جلس توفيق خلف مكتبه ممسكًا بصورة الجاني التي رسمها وليد، وكان يحدق إلى الصورة، وفي عينيه نظرة التحدي لهذا الشخص فما حكاه له طارق أثار اهتمامه وحيرته في نفس الوقت، وكان بداخله تساؤلات عن سر هذا القاتل الغريب، كانت القضية الأكثر تعقيدّا في ملفه الوظيفي، فهو لم يصادف طيلة سيرته المهنية كضابط شرطة جريمة كهذه، بالطبع إن مقتل عالم مصري حاز على جائزة نوبل في الكيمياء، وفي هذا التوقيت بالذات يثبت أن هناك شيء كان يحاكى ضد هذا الشخص من قبل عدة جهات كانت تريد التخلص منه بسبب اختراعه، كان هذا هو الاحتمال الأقرب في ذهن توفيق .
ترك صورة الجاني، ثم أطبق بكلتا يديه على صورتان أخريات، كان يضعهما على المكتب، وسرعان ما بدأ يمعن النظر إلى أصحاب الصور، ففي يده اليمنى كان يحمل صورة لشاب أبيض البشرة، وسيم الملامح تفيض ملامح وجهه بالبراءة والطيبة الناطقة، للوهلة الأولى لو رآه شخص قد يعتقد أنه أحد نجوم السينما أو عارضين الأزياء الذين تملأ صورهم صفحات المجلات، لكنه لم يكن بعارض أزياء، ولا حتى ممثل، إنه الدكتور عامر المصري، كان أحد الأصدقاء المقربين لحسين مصطفى، حتى أنهما درسا معًا في نفس الجامعة.
يوم 30 أغسطس، لقى عامر مصرعه هو الآخر ومعه زوجته في حادث حريق اندلع بشقتهما .
كانت الصورة الثانية لعجوز كهل في الستينات من عمره يمكن ملاحظة ذلك في التجاعيد التي كانت تشوب وجهه، وكان أصلع الرأس، ويرتدي نظارة طبية وبدلة سوداء أنيقة أعطته هيبة ووقار.
كان الدكتور زكريا صدقي، واحد من الأشخاص اللذين تربطهم علاقة مقربة بحسين، فقد كان أستاذه في الجامعة، وهو من أشرف على رسالة الماجستير والدكتوراه اللتان أعدهما .
لقى زكريا مصرعه هو الآخر في يوم 30 أغسطس فقد عثرت قوات الشرطة عليه منتحرًا بالشنق في شقته، ووجدوا في مسرح الجريمة ورقة على الكمود مكتوب فيها بخط يده، لم أعد أطيق هذه الحياة، أنا راحل منها .
كان توفيق يؤمن بأن هناك سرًا كبير، ولغز يصعب حله يجمع بين جرائم القتل الثلاث التي حدثت في فترة متقاربة جدًا، فبالنسبة له زكريا لم ينتحر، فهناك من قتلوه، وخططوا لكي تبدو جريمتهم على أنها حادثة انتحار، كذلك الأمر ينطبق على عامر المصري وزوجته، لقد تم كل شيء بفعل فاعل، وهاتان الجريمتان تكونا من جريمة قتل حسين مصطفى الجريمة الرئيسية في هذه المذبحة، هؤلاء الأطباء تم قتلهم من أجل هدف محدد.