انتابه شعور بأن عيونًا كثيرة تترصده، وبأن مجموعة كبيرة من أجسام جاثمة ومن
أطراف طويلة متعددة المفاصل تجذب حبالًا تتصل بجسم غامضيرغب في الهبوط فوقه.
حملق لأعلى برهةً كابحًا زِمام فرسه الهائج بغريزة فطرية اكتسبها من سنوات طويلة
في ممارسة الفروسية؛ حينئذٍ اصطدم جانبُ سيفٍ بظهره، ولمع نصلٌ فوق رأسه، ومزَّق
بالونًا هائمًا من خيوط شبكة العنكبوت؛ فارتفعت الكتلة بأكملها بخفة، واندفعت بعيدًا
بسرعة.
«! عناكب! الكتل تمتلئ بعناكب ضخمة! انظرْ يا سيدي » : صاح النحيف قائلًا
تابَعَ صاحب اللجام المرصَّع بالفضة الكتلَ المندفعةسريعًا.
«! انظرْ يا سيدي » –
وجد السيد نفسه يحدِّق في كتلةٍ مسحوقةٍ حمراء اللون على الأرض، لا تزال قادرةً
— بالرغم من تمزُّقها — على تحريك أرجلٍ لا نفع منها الآن. وعندما أشار الرجل النحيف
نحو كتلة أخرى تندفع ناحيتهم، استلَّ سيفَه بسرعة، في الوقت الذي تجمَّعَ فيه أعلى الوادي
ستارٌ ضبابيٌّ وكأنه أقمشة بالية ممزَّقة. حاوَلَ أن يستوعب الموقف.
«! هَلُمَّا إلى هناك! هَلُمَّا إلى هناك عبر الوادي » : بينما أخذ القصير يصيح قائلًا
ما حدث بعد ذلك كان أشبه بمعركة فوضوية؛ رأى صاحبُ اللجام الفِضي الرجلَ
القصير وهو يمر من جانبه يمزِّق بشراسة نسيجَ عنكبوت وهمي، ورآه وهو يصطدم
بحصان النحيف، ويطرحه هو وراكبه أرضًا. وركض حصانه هو نفسه عدة خطوات
قبل أن يتمكَّن من كبح جماحه. نظَرَ لأعلى ليتفادى مخاطر متصوَّرة لا وجودَ لها حقٍّا،
ثم عاد مرةً أخرى ليرى الحصان يتقلَّب على الأرض، والرجل النحيف يقف ويمزِّق من
فوق الحصان بضربةٍ من سيفه كتلةً رَمادية طائرة تتدفق وتلتفُّ حولهما معًا. كانت كتلُ
النسيج العنكبوتي تندفع مثل زَغَب كثيف وسريع من النباتات الشائكة فوق أرضمُقفِرة
في يوم عاصف من شهر يوليو.
نزل القصير عن حصانه، لكنه لم يجرؤ على إطلاقسراحه. كان يحاول جاهدًا سحب
الحصان — الذي يتقدَّم بصعوبة — مستخدِمًا ذراعًا واحدة، وبالذراع الأخرى يضرب
بقوة بالسيف عشوائيٍّا. اشتبك في معركة مع مجاسِّالكتلة الرمادية الثانية، حتى تقهقرت
عائدة.
جزَّ السيد على أسنانه، وجذب اللجام، وخفض رأسه، ونَخس حصانه ليتقدَّم إلى
الأمام. وتقلَّبَ الحصان الساقط على الأرض؛ حيث توجد دماء وأشكال متحركة على جانبَيِ
التلال، وفجأةً تركه النحيف، وركض نحوَ سيده. ربما قطع عشر خطوات، لكن الخيوط
الرمادية التفَّتْ حول ساقيه وعرقلَتْه؛ فأخذ يلوِّح بسيفه بحركات لم تكن لها جدوى.
تموَّجت أشرطة رمادية اللون من حوله، وغطَّى وجهَه ستارٌ رقيق رمادي، وبيده اليسرى
أخذ يضرب شيئًا على جسده، وفجأةً تعثَّر وسقط. جاهَدَ ليقف على قدمَيْه فسقط مرةً
أخرى، وفجأةً بدأ يصرخصراخًا مروِّعًا.
كان بوُسع السيد رؤية عناكب ضخمة فوق الرجل، وعناكب أخرى على الأرضأيضًا.
وبينما كان يجاهد ليُرغِم جواده على الاقتراب أكثر من هذا الجسم الرمادي الذي يتلوَّى
ويصرخ وينازع في حركةصاعدة وهابطة، سمعصوت قعقعة الحوافر، ولمح القصيرَ بينما
كان يحاول امتطاء صهوة جواده الأبيضمُمسِكًا بمَعْرَفته، وقد فقد سيفه، ثم لاذ بالفرار
بسرعه خاطفة. ومرةً أخرى، التفَّ خيط لَزِج رمادي اللون من شِباك العنكبوت على وجه
السيد. ومن حوله، ومن فوقه، بَدَا أن هذه الشبَكة من نسيج العنكبوت الهائمة والصامتة
تلتفُّ حوله وتقترب منه …
لم يعرف مطلقًا إلى يوم وفاته كيف حدثت تلك الواقعة، وما حدث في هذه اللحظة
تحديدًا؛ هل غيَّرَ اتجاه جواده، أم أن الجواد اندفع خلف رفيقه من تلقاء نفسه؟ يكفي
القول بأنه في اللحظة التالية أخذ يَعْدو بالجواد بكامل طاقته عبر الوادي، ملوِّحًا بسيفه في
الهواء بشراسة. ومن حوله في كل مكان، وبفعل النسائم المتسارعة، بَدَا له أن شِباك نسيج
العنكبوت الشبيهة بالمناطيد، وشرائطها المتطايرة، وشراشفها الهائمة في الهواء، تسرع في
مطاردة واعية ومدروسة.
تردَّدت أصواتٌ ما بين قعقعةٍ ودوِيٍّ مكتوم بينما كانصاحب اللجام المُرصَّع بالفِضة
يمتطي جواده، وينطلق على غير هدًى، وقد بدَت على وجهه علاماتُ الخوف، مستطلعًا
الأجواءَ ناحيةَ اليمين ثم ناحيةَ اليسار، ونصلُ سيفه في وضعِ استعدادٍ للطعن. وعلى بُعْد
بضع مئات من الياردات أمامَه، كان القصير يمتطي الجواد الأبيض، دون أن يستقر تمامًا
على السَّرْج، وفي أعقابه يتدلى ذيلٌ من نسيج العنكبوت الممزَّق. كانت أعواد الخيزُران تنثني
أمامَهما، والرياح تهبُّ بانتعاش وقوة، ومن فوق كتفه كان بإمكان السيد أن يرى شِباك
العنكبوت تُسرِع لتدركه …
انصبَّ بالغُ تركيزه على الفرار من شِباك العناكب، فلم يلحظ الوَهْد الضيق القابع
أمامه إلا حين تأهَّب جواده للقفز؛ حينئذٍ أدرك أنه أساء الفهم والتقدير، وأساء التدخُّل.
كان مائلًا إلى الأمام متشبِّثًا برقبة حصانه، ثم استقام في جلسته وعاد إلى الوراء، ولكن بعد
فوات الأوان.
لكنْ لو فاته أن يقفز في خِضَم حماسه، فإنه لم يَنْسَ بأي حال من الأحوال كيف
يسقط بلا أضرار؛ وهكذا استعان بمهاراته في الفروسية بينما كان يندفع في الهواء، وبالفعل
سقط بلا إصابةٍ سوى كدمة في كتفه، في حين تدحرج فرسه على الأرضليرفس في الهواء
بسيقان متشنجة، ثم رقد في سكون تام. إلا أن طرَف نصل سيف السيد شقَّ طريقه عبرَ
التربة الصُّلبة وتكسَّرَعبرَها، كما لو أن القَدَر يرفضأن يحتفظ بلقب فارس لوقت أطول،
وأفلَتَ وجهه من الاصطدام بطرَف السيف المتطاير بمقدار بوصة أو نحو ذلك.
في اللحظة التالية، هبَّ واقفًا على قدميه، متفحِّصًا بأنفاس متقطعة شِباكَ العنكبوت
المندفعة نحوه. فكَّرَ لدقيقة أن يركض، ثم تذكَّرَ الوهد الضيق أمامه، واستدار عائدًا ليتفادى
على الفور إحدى شِباك العنكبوت المندفعة نحوه، ثم انحدر بسرعة خاطفة أسفل الجوانب
الحادة للوادي مبتعدًا عن براثن العاصفة.
وخلف ساترٍ قوامُه ضفاف متحدرة لجدول جاف، جثم متربِّصًا رحيلَ هذه الكتل
الرَّمادية الغريبة، ومنتظرًا سكون الريح حيث يصير الفرار ممكنًا. ظلَّ قابعًا هناك لوقت
طويل يراقب الكتل الرَّمادية الممزَّقة الغريبة تجرُّ خيوطَها عبر أفق المشاهدة الضيق المتاح
له.
وفي أثناء جلوسه المترقب، سقط عنكبوت شارد في الوهد الضيق بالقرب منه — يبلغ
طوله من الساق إلى الساق قدمًا كاملةً، ويبلغ حجم جسده نصف قبضة يد الإنسان —
وبعد أن لاحظ لبعض الوقت سرعتَه وخفةَ حركته المذهلة في البحث والمراوغة، واستفزَّه
لمهاجمة سيفه المكسور، رفع حذاءه ذا الكعب الحديدي وسحقه بشراسة. كان يسبُّ ويلعن
أثناء قيامه بذلك، ولوهلة من الزمن بحث ذهابًا وإيابًا عن عنكبوت آخَر.
وحين تأكَّد تمامًا من أن أسراب العناكب هذه لا يمكنها الانزلاق إلى الوادي الضيق،
عثر على مكانٍ مناسب للجلوس، وجلس مستغرقًا في تفكير عميق، وشرع في قضم أظافره
وعضأطراف بَنانه، كما هي عادته. ولم يستَفِق منشروده إلا مع قدوم صاحب الحصان
الأبيض.
سمع وقع خطواته قبل أن يراه بوقت طويل؛ فقد سمع قعقعة حوافر، وتعثُّر خطوات،
وصوتًا مُطَمْئنًا، ثم ظهر الرجل القصير في حالة رثَّة، ولا يزال يتبعه ذيلٌ من خيوط نسيج
العنكبوت في أعقابه. اقترب كلٌّ منهما من الآخَر دون أن يتبادلا الكلام أو التحية. كان
القصير قد بلغ به التعب والخزي قاعَ اليأس والقنوط، وأخيرًا توقَّف وجهًا لوجه أمام
سيده الجالس. جَفَل الأخير قليلًا تحت ناظرَيْ تابعه، وأخيرًا قال بنبرةٍ تخلو من أي لمحةِ
«؟ ماذا » : تسلُّط
«؟ لقد تخلَّيتَ عنه » –
«. لقد فرَّ حصاني » –
«. أعلم، وكذلك فر حصاني أيضًا » –
ضحِك على سيده في وجوم.
«. قلتُ فرَّ حصاني » : قال الذي كان صاحب اللجام المرصَّع بالفِضة
«. كلانا جبان » : ردَّ القصير
قضم الآخَر أظافره، واستغرق في التأمل بضع لحظات وهو يثبت ناظرَيْه على تابعه.
«! لا تَنعتْني بالجبان » : ثم قال بعد فترة صمت طويلة
«. أنت جبان، مثلي تمامًا » –
ربما كنت جبانًا؛ لكنْ ثَمة حدودٌ على المرء أن يخاف تعدِّيها. هذا ما تعلَّمته في » –
«. النهاية. ولكني لستُ مثلك، هناك فارق بيني وبينك
لم أتصوَّر قطُّ، ولو في الأحلام، أن تتخلَّى عنه؛ لقد أنقذ حياتك قبلها بدقيقتين … » –
«!؟ لماذا أنت سيدنا
قضم السيد أظافره مرةً أخرى، واكتست ملامحه بالكآبة.
لا أحد ينعتني بالجبان. كلا … فارس بسيف مكسور أفضل من فارس » : ثم قال
أعزل … لا يمكنك أن تتوقَّع من حصان أبيضمصاب أن يحمل رَجُلين، في رحلة تستغرق
أربعة أيام. أنا أكره الخيول البيضاء، ولكنْ لا حيلةَ في الأمر. هل بدأتَ تفهمني؟ ألاحظ أنك
تعتزم — بسبب ما رأيتَه وتخيَّلتَه — تلويثَ سمعتي؛ فأمثالُك هم مَن يقضون على الملوك.
«. وفوق ذلك، أنت لم تَرُق لي قط
«! سيدي » : قال القصير
«! كلا » : وردَّدها ثانيةً «! كلا » : قال السيد
نهض بحزم، بينما تحرَّك القصير. ولمدة دقيقة تقريبًا، أخذ كلٌّ منهما يحدِّق في
الآخر. كانت كرات العناكب تتطاير فوق رأسَيْهما، ثم كانت حركةٌ سريعة بين الحصى
وأقدام تركضوصرخة يأس ولهاث، ثمضربة قاضية …
قُرْب حلول الليل، سكنت الريح، ثم غربت الشمس في هدوء وسكينة، وأخيرًا وصل
الرجل الذي كان يمتلك فيما مضىالزمام المرصَّع بالفِضة، بحذر شديد، بالقرب من منحدر
بسيط خارج الوهد الضيق مرةً أخرى، ولكنه كان يقود الجواد الأبيض الذي كان مِلكًا
للقصير من قبل. لقد فكَّر في العودة إلى جواده ليستعيد لجامه المُرصَّع بالفِضة مرةً أخرى،
لولا أنه خشي الليل، وخشي أن يلاحقَه هبوب الريح داخل الوادي. بالإضافة إلى ذلك، كان
يكره كثيرًا فكرةَ أن يرى حصانه مُغطٍّى بخيوط شبكة العنكبوت، أو ربما يراه وقد افترسته
العناكب على نحوٍ بغيض.
وبينما كان يفكِّر في شِباك خيوط العنكبوت، وكلِّ المخاطر التي اجتازها، والطريقةِ
التي حافَظَ بها على حياته في ذلك اليوم؛ تحسَّسَت يدُه حِرْزًا معلَّقًا حول رقبته، وربَّتَ عليه
لدقيقة بامتنانٍ صادق. وبينما كان يفعل ذلك، جابت عيناه الوادي.
لقد أفقدتني العاطفة صوابي. والآن، لقد لاقَتْ ما تستحقه. هم أيضًا بلا » : قال
«… ريب
وفجأةً، بعيدًا عن المنحدراتالمغطاة بالأشجار الكثيفة عبر الوادي، وفي الأجواء الصافية
التي تصاحب غروب الشمس، رأى بوضوحٍ لا لبسَ فيه سحابةً صغيرة من الدخَان.
عند تلك اللحظة، تحوَّلَ تعبيره عن التسليم المستكين إلى غضب ذاهل. دخَان؟! أدار
رأس الحصان الأبيضفي الاتجاه المعاكس، وتردَّد. وبينما كان يفعل ذلك، تحرَّكت نسائم
الهواء عبر الحشائش من حوله مُصدِرة صوتًا خفيفًا، وعلى بُعْد بضعة أعواد من الخيزُران
تأرجحشرشف ممزَّق من الخيوط الرَّمادية. نظر إلى شِباك العنكبوت، ثم نظر إلى الدخَان.
«. ربما ليسوا هم أصحاب الدخَان، على أي حال » : قال في النهاية
لكنْ في قرارة نفسه، لم يكن هو نفسه يصدِّق ما يقول.
وبعد أن حدَّق في الدخَان لبعضالوقت، امتطى الجواد الأبيض.
وبينما كان يقود الجواد، شقَّ طريقَه وسط كتل متشابكة من نسيج العنكبوت.
ولسببٍ ما كان يوجد الكثير من العناكب النافقة على الأرض، وما بقيَ منها على قَيد الحياة
كان يتغذَّى على رفاقه بشراهة. وعلى وقع صوت حوافر جواده، فرَّت العناكب هاربة.
لقد انتهى زمن خطورتها؛ فبالرغم من سُمِّيَّتها، فإن هذه العناكب لا يمكنها أن تؤذيَه
— ولو بالقدر القليل — مع وجودها على سطح الأرض، وغياب الريح التي تحملها، أو
الشراشف الهائمة التي تنقلها.
أخذ يضرب بحزامه العناكب التي ظنَّ أنها تقترب أكثر من اللازم، وما إنْ فرَّ عددٌ
منها نحوَ مكان مقفر، حتى عزم على الترجُّل عن حصانه وسَحْقها بحذائه؛ إلا أنه تغلَّبَ
على هذه النزوة. وبين الفَيْنة والأخرى، كان يستدير علىسَرْجه وينظر من خلفه إلى الدخَان.
عناكب! حسنًا، حسنًا … في المرة القادمة، لا بد أن أنسج » : ثم أخذ يتمتم مِرارًا وتَكرارًا
«. شبكةً لأظفر بصيدي