بدأت الطفلة تبكي بكاءً شديدًا، فقد شعرت أن أمها ليست على ما يُرام. أحسّت الطفلة بألم أمها على الرغم من أن عاميها الاثنين ليسا كافيين لإعطائها معرفة كافية أو إدراكٍ منطقي لتقصّي الألم ورؤيته عند الآخرين ولكنه عالم الطفل الملئ بالعجائب، والذي ما زال عصيًا على الفهم والمعرفة الدقيقة؛ فقد كانت الطفلة وأمها ما زالتا مرتبطتين بحبل مشيمة لا مرئي يجعلهما تحس الواحدة بالأخرى.
نظرت الأم إلى الطفلة المذعورة الباكية ونادتها بصوت دافئ يقطر عذوبةً وحنانًا:
- ما بكِ يا بنيتي؟
تعالي إلى حضني وأريني موضع الألم.
هل أنتِ جائعة أم ماذا؟
هيا يا فتاتي الحبيبة تعالي إليّ.
بقيت الطفلة في مكانها تُحدّق في لا شيء وفي عينيها نظرات خوف لم ترها الأم من قبل.
تريدينني أن آتي إليك أنا! طيب.
كان هناك رعبٌ شديد يُخيّم على سماء الطفلة وهي تحدّق في بطن أمها المنتفخ.
مشت الأم بتثاقل متحاملة على الألم. وما أن رأت الطفلة أن أمها تتجه نحوها حتى عادت إلى بكائها الشديد.
- ما بكِ أيتها الطفلة الغالية؟
قالتها الأم بخوفٍ وهي تقترب من الطفلة التي جمدت في مكانها مشيرة إلى بطن أمها المنتفخ. بدأت الأم تبكي أيضًا من خوفها على ابنتها التي لا تدري ما حلّ بها فجأة ومن ألم لا يُطاق استبدّ بها وكاد أن يفقدها وعيها.
كانت وتيرة بكاء الطفلة ترتفع مع اقتراب أمها منها، وما إن وصلت إليها حتى أصبح بكاؤها لا يُطاق. حملت الأم طفلتها ثم ضمتها إلى صدرها وقبّلتها قُبلة حنون.
صرخت الطفلة عندما لامست صدر أمها صرخةً تنم عن ألم شديد ثم سكتت فجأة وكأنها غطّت في نومٍ عميق. ابتسمت الأم التي نسيت ألمها وقالت للطفلة النائمة: يا لكِ من طفلة شقية، كل هذا البكاء من أجل أن أحملك! أتغارين من أخيكِ ولم يولد بعد، أتخافين من الإهمال وتحاولين المحافظة على مكانتكِ! أنتِ مخطئة يا ابنتي. أنتِ ابنتي البكر، ابنتي الغالية، أنا أحبك وسأبقى ولو أنجبتُ مئة ولد غيركِ.
عاودة الأم نوبة ألم شديد وكادت أن تسقط أرضًا ولكنها تماسكت خوفًا على طفليها أكثر من خوفها على نفسها.
مدّت الأم يدها المرتجفة وربتت على رأس الطفلة النائمة. هل يحتاج الأمر إلى كل هذا الهياج والصراخ؟ ستصبحين فتاةً عنيدة جدًا. قالتها الأم واعتصرت ابتسامة من خلال الألم الشديد، ولكن ابتسامتها ما لبست أن جمدت تحوّلت إلى رعب، فما عادت الطفلة تُصدر أي حركة أو صوت وتوقفت تلك الحرارة التي كانت تحسُ بها الأم والتي تصدر من تنفّس الطفلة وقد تحوّلت إلى برودة أحست بها الأم عندما لامست شفتي الطفلة كتفها العاري. نظرت الأم خائفة وإذا بالفتاة شاحبة، فارقها لونها الوردي وفارقتها معه الحياة.
بدأت الأم تصرخ غير مصدقة ما تراه عيناها: استيقظي يا حبيبتي.. أرجوك.. أرجوك. وفي حالة هستيرية من الحزن والألم معًا مزّقت الأم ثيابها ونتفت خصلات شعرها الحريري الأشقر الجميل الذي كانت توليه كل عناية واهتمام.
كانت الأم تبكي بغصة ومرارة تعتملان في صدرها. تُنادي ابنتها وتندب حالتها ثم تهدأ فجأة وتُكلّم ابنتها وكأنها ما تزال على قيد الحياة.
امتلأت عينا الأم بالدموع ثم بدأت تجري على خديها كجداول تتحدر من جبلٍ شاهق الارتفاع وشديد الانحدار. وكانت الأم تضم ابنتها إلى حضنها ساهمة ما بين النوم واليقظة تهدهدها وتغني لها كما اعتادت أن تفعل كلما أرادت أن تجعل ابنتها تنام واضعة رأس الطفلة على صدرها في محاولة لامتصاص البرودة وإعادة الحياة إلى وجهها الملائكي..
أعاد صوت جرس الباب الذي كان يقرع بشدة الأم إلى الواقع. ومع ذلك بقيت مسمّرة في مكانها دون أي رغبة لفتح الباب ولكن الإصرار الشديد وصوت الجرس المزعج الذي لم تكن قد شعرت به مزعجًا هكذا من قبل أرغماها على النهوض والتوجه مترنحة باتجاه الباب وهي تشتم الطارق الثقيل الظل كائنًا من كان، ثم فتحت الباب بعصبية وعنف. ماذا تريد؟ سألت الأم حتى قبل أن ترى الطارق. وعند انفراج الباب ظهرت خلفه امرأة عجوز في عقدها السابع بوجه ممتلئ وردي اللون يفيض صحة وسكينة، وترتدي ملابس غجرية وتظهر خصلات من شعرها متسللة من تحت غطاء رأسها ما زالت محتفظة بلونها الأبنوسي الجميل. ولولا حالة الأم المزرية والوضع المأساوي الذي حلّ بها لكانت أبدت إعجابًا شديدًا بجمال هذه العجوز وجمال شعرها بشكلٍ خاص ولكانت سألتها عن سر وكيفية المحافظة عليه.
كانت العجوز تتكلم بصوتٍ مسموع إلى شخص لا مرئي يقف بجانبها وهذا ما جعل المرأة تشعر بخوفٍ إضافي.
ماذا تريدين؟ قالت الأم؟
ردّت المرأة العجوز بهدوءٍ شديد وصوتٍ ساحر: هوّني عليكِ يا ابنتي فليست هذه نهاية الحياة.
كانت طفلة جميلة يرحمها الله، ولكنكِ ستُرزقين بعشيرة غيرها. جمدت الأم في مكانها وكأنها تمثالها الحجري ولم يكن يتحرك فيها شيء سوى ذهنها الذي يضج بالأفكار.
ما الذي تقوله هذه العجوز الغريبة؟
قالت الأم في نفسها.. فلم تكن العجوز قد خطت داخل الباب بعد ومع ذلك ها هي تُكلمها عن ابنتها، حبيبتها، عن مصيبتها ولم تكن قد شاهدتها بعد، ولم تكن الأم قد قالت كلمة عن الحدث المريع. فكيف عرفت أن ابنتها ماتت؟
ربما من استقبالها لها. أو أنها من خلال شكل الأم البائس الحزين أدركت ببداهتها ما حدث. حيث أنه معروف عن هؤلاء الغجر بداهتهم ومقدرتهم على التكهّن بالأحداث.
ولكن ما أدراها بأنها بنت وليست ولدًا، وأنها ماتت وليست مريضة فقط؟
نظرت الأم إلى العجوز بخوفٍ وحزن.
- لا تنظري إليّ هكذا ولا تستغربي أنني عرفتُ بما حدث مع ابنتك. قالت العجوز وكأنها تحاول استرجاع صورة مألوفة: نعم لقد رأيته يحدث منذ زمنٍ بعيدٍ جدًا.
ازداد شحوب الأم مما سمعت، وبصوتٍ مرتجف وغير واضح سألتها: من أنتِ؟
أنا قارئة الحظ والقدر. وارتسمت شبه ابتسامة شفت عن صف من الأسنان البيضاء ما زال يحتفظ برونقه وسلامته. بل أنتِ جالبة النحس. ردت الأم وهي تبكي. أنتِ السبب في موت طفلتي أيتها الشيطانة الملعونة. حاولت الأم الاقتراب من العجوز ولكن قوة ما منعتها من الحِراك.
إنني قدرك. قالت العجوزبتفاؤل: وجئتُ كي أنصحكِ نصيحة ستُعيدكِ إلى الحياة وتُعيد إليك السعادة من جديد.
أية سعادة وأية حياة هذه التي تتكلمين عنهما! هل ستعيدين إليّ ابنتي من بين يدي الموت؟
قالت العجوز: لا، لا يقدر أحد على إعادة من يموت إلى الحياة ولكن نصيحتي لمنع تكرار ما حدث وموت أولادك الآخرين.
ألم أقل لك بأنك سترزقين العديد من الأولاد؟
إن هدوء وجمال تلك العجوز بالرغم من سنين عمرها وضعا بعض الهدوء والأمل في نفس الأم فكلمتها قائلة: طيب ما المطلوب مني عمله، وإذا كنتِ مخطئة فكيف أكفّر عن أخطائي؟
ـــ اسمعي يا ابنتي إن ما سأقوله لكِ سيكون صعبًا وقاسيًا جدًا ولكنه السبيل الوحيد لخلاصكِ من اللعنة وتطهيركِ من جديد.
ـــ سأفعل ما بوسعي ولكن قولي أولًا ما يجب عليّ فعله؟
ـــ أولًا والأهم هو أنه يجب عليكِ أن تتخلصي من الجنين. صدرت هذه الكلمات عن العجوزة ببرودة ولا مبالاة.
صعقت الأم من كلام العجوز الذي وصلها كسيوفٍ من لهبٍ ورصاص يخترق القلب فبدأت بالصراخ مانعة العجوز من إكمال كلامها.
ألا يكفيك ما فعلتِ؟
لقد قتلتِ ابنتي، وها أنتِ تريدين قتل طفلي حتى قبل أن يرى الحياة؟
أي حل شيطاني هذا، وأية شيطانة أنتِ؟
وضعت الأم يديها على بطنها في محاولة لحماية الجنين..
إنه طفلي الحبيب، هذا ما تبقى لي، بذرة خيرة وخلق جميل من خلق الله.
بل هو بذرة شر ومن خلق الشيطان.. ردت العجوز بصلابة وحسم: وهذا الشيطان الذي تحملين سيمتص قواكِ أولًا وستلدينه في ألمٍ عظيم لا مثيل له.
وستلدين أطفالًا آخرين وسوف تدفنينهم الواحد تلو الآخر وهو ينمو ويُصبح أكثر صحة في كل مرة تفقدين فيها طفلًا. سيمرعليكِ الزمن ثقيلًا وستجدين نفسك وحيدةً أمامه، ستشهرين أسلحتكِ لمقاومته ولكن سيكون قد فات الآوان، ولتنتقمي من نفسكِ سوف تقتلين نفسكِ.
صرخت المرأة وقد تحول شكلها إلى منظرٍ مرعب ومخيف ومثير للشفقة بنفس الوقت. لا، لا لن يحدث شيء مما تقولين، إنك عجوز خرفة شيطانية تهذي. ثم اقتربت منها في محاولة لصفعها، ولكن يدها صفعت الهواء فلقد اختفت العجوز نهائيًا دون أي أثر يُذكر إلا ما علق في ذاكرة الأم المنكوبة.
جلست المرأة في حالة ذهول كُلّي تُكلّم نفسها بصوتٍ معذّب مسموع. وقد مرّت لحظات ثِقال قبل أن يُفتح الباب ثانية. التفتت الأم بخوف ظانة أن العجوز قد عادت.
جمدت الابتسامة على وجه الرجل الداخل إلى البيت حاملًا لعبة صغيرة في يده، لقد أذهله رؤية زوجته في هذه الحالة المزرية. رمى اللعبة على الأرض وهرع إليها متسائلًا:
ـــ ما بك، ما الذي حصل؟ من فعل بك هكذا؟ هل أنتِ مريضة؟
نظرت إليه الزوجة بعينين ضائعتين لا يحملان أي معنى ولم تتكلم. أمسكها الرجل من كتفيها وهزّها بعنفٍ صارخًا: ما بك، لماذا لا تجيبي؟
وبحركة آلية مدّت الزوجة يدها مشيرة إلى الطفلة الميتة.
هرع الزوج إلى الطفلة دون أن يُدرك ما تعنيه هذه الإشارة ظانًا أن الفتاة مريضة أو نائمة ولكن في منظرها شيء أثار الريبة في نفسه، مدّ يده إليها ليجدها قد فارقت الحياة. فأطلق صرخة مليئة بالألم والحزن والحسرة.
دخل الجيران على صوت صراخ الأب وصاروا يحاولون تهدئته، والزوجة جالسة بذهول كُلّي لا ترى أو تسمع أي شيء.
وفجأة وبين الجموع ظهرت العجوز، نظرت إلى المرأة وأشارت إليها باشارة قد فهمتها الزوجة بأنها تعني التخلص من الجنين. صرخت الزوجة والنساء ملتفات حولها يسألنها كيف حدث ذلك؟
ـــ لقد أخذتها العجوز الشمطاء. أجابت المرأة وهي تنظر إلى العجوز الواقفة أمامها.
ـــ أي عجوز؟ سألت أحد النسوة.
ـــ هل كانت مريضة أم أن ما حدث حدث فجأة؟
ـــ لقد حاولت أن تأخذ ابني أيضًا. وبدأت تضع يديها على بطنها لتمنع عينا العجوز من رؤيته.
***********
دُفنت الطفلة ودفنت معها الأم المرأة العجوز وكلامها، ممنية النفس أن الله سيعوضها عما فقدت.
كانت الأيام تمر بطيئة على الزوجين الذين كانا يعزيان نفسيهما بأن الطفل القادم هو الذي سيزيح غمامة الحزن المخيّم فوق البيت جالبًا شمس الفرح والسرور إليه ثانية.
اقترب موعد ولادة الطفل، وكان قد مضى على وفاة الطفلة أربعة أشهر، لم تتفوه الزوجة فيها بكلمة عن العجوز حتى أنها ظنّت أن كل ما حدث كان ضربًا من الخيال المعذب والتهيؤات نتيجة ألم فقدان طفلتها كما قيل لها في ذلك اليوم المشؤوم.
كانت الزوجة وزوجها في المنزل عندما بدأ الألم يعتصر بطن الزوجة، وكأن سكينًا حادة تعمل فيه طعنًا وتمزيقًا. حاولت الزوجة في البداية كبت الأمر، ولكن الألم فاق حد الاحتمال وأجبرها على إطلاق صرخة ألمٍ مُبرح، ثم سقطت مغشيًا عليها.
هبّ الزوج مذعورًا، حملها بين ذراعيه القويتين وركض بها حافي القدمين إلى المستشفى القريب. أُدخلت الزوجة مباشرة إلى غرفة العمليات.
ـــ قال الطبيب غاضبًا ولائمًا الزوج: لماذا تأخرتم عليها؟ إن حالتها خطيرة وقد تموت هي وجنينها.
ـــ لقد تعرّضت المسكينة إلى كثير من الضغوط في الآونة الأخيرة. قال الزوج شاعرًا بالخجل وهاربًا من نظرات الطبيب اللائمة. ثم أردف بكلمات متوسلة..
ـــ حياتها أولًا.
ـــ الاتكال على الله. قالها الطبيب وهو يتجه إلى غرفة الولادة.
ولدت الزوجة في ألم عظيم فاق بأضعاف مضاعفة آلام ولادة طفلتها المرحومة بالرغم من أنها كانت ولادتها الأولى.
كانت مستلقية على السرير تنظر إلى المهد الصغير الذي وُضع فيه وليدها متمنية أن يأتي شخص ما ويُحضره لها لتراه وتُقبّله، لقد تحققت أمنيتها وفُتح الباب فتهيأت الأم لتقديم طلبها، ولكنها توقفت إذ ظهرت العجوز من وراء الباب.
ـــ هذه أنت! قالتها الأم بخوف.
ـــ نعم أنا. هل اعتقدتِ أنكِ لن ترينني ثانيةً وأن الأسوء قد انتهى! إذًا أنتِ مخطئة جدًا يا عزيزتي هذه هي البداية، ويجب العمل بسرعة. ثم غيّرت نبرة حديثها وقالت باهتمام يحمل شيئًا من التهكّم: كيف كانت الولادة؟
عسيرة ومؤلمة جدًا؟
ـــــ بل سهلة جدًا. أجابتها الأم.
ـــ إذًا أنتِ تكذبين، لقد رافقتكِ من المنزل وكنتُ بجواركِ وأنتِ تصارعين الموت من أجل هذا الشيطان.
ــــ إنه ليس شيطانًا، أنتِ الشيطانة المشؤومة. بدأت الأم تبكي وتصرخ بصوتٍ عالٍ طالبة النجدة. اقتربت العجوز من سرير الطفل في محاولة لخنقه. ولكنها لم تملك الوقت الكافي لفعل ذلك إذ دخل الزوج والممرضات على صوت صراخ الأم.
كان الزوج يُصلّي ويدعو الله أن تنتهي الأمور على خير ما يرام فهو لا يُريد فقد أي منهما.
نظر الجميع بالاتجاه الذي تُشير إليه المرأة..
ـــ إنها هنا.
ـــ عما تتكلمين؟ لا أحد هنا.
ـــ العجوز التي أخذت الطفلة، عادت ثانية لتأخذ الطفل أيضًا، أرجوكم لا تدعوها تفعل ذلك.
خرجت العجوز بهدوء من بين الجموع دون أن يراها أحد غير الأم وهي تقول:
ـــ إما أنتِ أو هو، يجب أن تختاري.
ـــ أنا، أنا، أنا كررت الأم بإلحاح ثم عادت إلى غيبوبتها ثانيةً.
إنها تهيؤات ورؤى ناتجة عن الألم والإرهاق.. أعطيها إبرة مهدئة. قال الطبيب للممرضة.
وقفت العجوز بباب الغرفة تنظر إلى المرأة ثم غادرت هازة رأسها ومؤدية حركة تدل على غباء المرأة .