كان نهارًا دافئًا من أيام الخريف الأخيرة عندما استيقظ الشيخ مسعود على صوت نزهة تنادي بإلحاح: استيقظ يا شيخ، استيقظ.
استوى الشيخ في جلسته بسرعة فقد كان يحلم حلمًا مزعجًا، مسح لحيته بيده..
ــــ ما بكِ يا امرأة؟
ـــ لديك ضيف ينتظرك.
ـــ من هو؟ هل أكرمتِه؟
إنه رجلٌ غريب وهو يُصر على عدم الدخول حتى تكون قد استقظت.
ــــ أدخليه إذًا لقد استيقظت.
ــــ حاضر. تحركت للخروج.
اذهبي أنتِ وهيئي الطعام، أنا سأدعوه للدخول.
خرج الشيخ مهللًا ومُرحّبًا بالضيف. اقترب الغريب فظهرت قامته المديدة وصدره العريض وعضلاته المفتولة ووجهه الجميل.
قال الشيخ محدثًا نفسه وهو ينظر إلى الضيف نظرة إعجاب: قالت الآلهة بأنها ستبعث إليّ أحد بنيها لأمرٍ هام، وأظنه قد وصل.
ـــ تفضّل. قالها الشيخ بودّ.
ــــ عذرًا يا شيخ.. ولكن حركة من الشيخ منعته من إكمال كلامه.
دعنا نجلس أولًا نتناول شيئًا من الطعام وبعدها نتكلم، يجب إكرام الضيف أولًا.
ــــ هذا كرم منك أيها الشيخ.
لقد كان الغريب في أمسّ الحاجة إلى الطعام فقد مرّت عليه أيام خمس لم يدخل فمه خلالها شيء سوى الماء وبعض الثمار البرية. لقد كان يرتجف من الجوع ولكن خجله كان ليمنعه من طلب الطعام. وحسنًا ما فعله الشيخ.
لقد أحس الشيخ بذلك الخجل، ولقد أوصته الآلهة أيضًا بأن يُكرم رسولها.
وضعت نزهة الطعام ولاحظت وهي تخرج حركة من يد الشيخ فهمتها على الفور..
ــــ تفضل فلا بد أنك جائع. قالها الشيخ وهو يمد يده إلى الطعام لتشجيع الغريب.
ـــ شكرًا لك، نعم فهذا يومي الخامس بدون طعام.
قال الشيخ في نفسه: صدقت الآلهة، لندعه يأكل الآن، ثم نستمع لقصته فلا بد أن في جعبته الكثيرمن الأحاديث المثيرة. أين أنتِ أيتها المرأة؟
طرقت نزهة الباب ثم فتحته قليلًا ونادت الشيخ.
ـــ ماذا هناك؟ قال الشيخ باستغراب.
مسألة مستعجلة تستدعي حضورك فورًا.
ــــ حسنًا ها أنا قادم.
التفت الشيخ إلى الغريب وقال له: اعتبر نفسك في منزلك، أتمنى أن تُكمل طعامك وإذا ما احتجت لشيء فلا تتردّد في طلبه.
رد الغريب بخجل: سأنتظرك، ويمكنك اعتباري وكأني غير موجود.
- لا لن أقبل بذلك بل إنك موجود واعتبر نفسك من أهل البيت وإلا فلن أذهب.
أرغمه خجله ولطف الشيخ على الانصياع للأمر. هذا هو الريف وسكانه يحترمون الضيف ويكرمونه حتى قبل أن يعرفوا من يكون أو ماذا يريد.
وخرجت من بين شفتيه كلمة لم يسمعها الشيخ ولكنه قد فهمها من حركة شفتيه: حسنًا.
لم يسأل الشيخ زوجته عن المسألة فلم يكن هناك من شيء سوى اتفاق ضمني بينهم إذا ما جاءهم غريب واستشعر فيه الشيخ خجلًا أو ترددًا فيقوم بتلك الإشارة تاركًا الغريب يتناول طعامه بحرية دون أي شعور بالمراقبة أو الخجل.
أنهى الغريب طعامه، ثم استند إلى الوسادة منتظرًا دخول الشيخ ولكن ما إن لامس جسمه الوسادة حتى غطّ في نومٍ عميق.
خمّن الشيخ أن الغريب نائم فهو لم يعد يسمع أي حركة، وهذا ما حصل بالفعل. وقد قرّر تركه نائمًا حتى يستيقظ لوحده.
تُرى ما وراءك أيها الغريب؟ قال الشيخ وهو ينظر باتجاه التل.
استيقظ الغريب في صباح اليوم التالي وكان يغمره الدفء من غطائه المصنوع من صوف الغنم الذي وضعه الشيخ عليه دون أن يحس به.
دخل الشيخ مبتسمًا وقال: يبدو أنك لم تنم منذ خمسة أيام أيضًا.
ـــ هذا صحيح، أنا من تل البلابل، أظنك سمعت بها.
ــ نعم سمعت بها، ولكن لما تركتها وعلى هذه الحال السيئة.
ــــ تركتها مكرها هاربًا.
ــــ مم؟ قال الشيخ.
ـــ من الموت.
ــــ قال الشيخ مندهشًا من الموت، هل هناك مفر من الموت؟! إني متلهف لسماع قصتك.
ــــ أنت تدري بأن عيد الحصاد قد حل، وقد حان تقديم الأضاحي، ولأن المحصول كان وفيرًا هذا العام، لم تقبل الآلهة بأضحية حيوانية كما هي العادة، بل طالبت بأضحية بشرية هذه المرة.
يجب أن تقدموا أضحية مميزة وكبيرة، أن تعطوا على قدر ما أعطيناكم. قالت الآلهة على لسان كهنتها، وإلا فالويل لكم من سخطنا وغضبنا وسترونها مجاعة وقحط وجفاف.
كان الناس مسرورة بالغلال الوفيرة التي جاوزت المعتاد وتوجسوا خوفًا من التهديدات التي أصدرتها الآلهة، وهكذا اجتمع أولي الأمر وأصحاب القرار وقرروا أن الأضحية يجب أن تكون أجمل شاب في القرية وأكثرهم كمالًا، ومن كان هذا الشاب؟
أنت بالطبع. قال الشيخ وهو يتمعّن في ملامحه الجميلة.
نعم أنا، أنا الذي يكره الآلهة ولا يُصدق ما يتفوّه به هؤلاء السفلة الذين يدعون خدمتها فينطقونها بما يريدون ويطلبون ما يشاؤون دون أي رفض من الناس أو تذمر.
كانت العادة أن تكون الأضحية بعض الغلال بالإضافة إلى حيوان ضخم يفي الآلهة حقها من حيث حبها للدماء، ويفي خدمتها من حيث حبهم لكروشهم التي ستبتلع الحيوان.
لقد عرف هؤلاء الأوغاد بما أُفكر به، ونيتي في توعية الناس ودعوتهم للتمرد على هذا الوضع المزري والمهين للإنسان وكرامته.
سأل الشيخ: كيف عرفوا بذلك؟ هل جهرت بهذا علنيًا؟
كان أعز أصدقاء الطفولة والشباب وهو ابن لا شرعي لأحد هؤلاء الكهنة، كانت أمه امرأة جميلة جدًا وقد قضت الآلهة بأن تخدم المرأة لديهم لمدة سنتين، رفضت المرأة، ولكن زوجها سحبها من شعرها ورماها تحت أقدامهم. قدّم الطاعة ثم عاد إلى منزله ليجدوه ميتًا في صباح اليوم التالي. عادت المرأة إلى بيتها بعد أقل من شهر، وبدأت تقص حكاية اغتصابها من قبل الكاهن الكبير، وكيف كان الآخرون يتلذذون بصوت صرخاتها واستغاثاتها. لم يستمع إليها أو يصدقها أحد من الناس، فلقد صدرت فتوى الآلهة بأنها امرأة ممسوسة ولهذا استغنت الآلهة عن خدمتها سريعًا وطردتها خارج المعبد.
وكان بطنها الذي يكبر ثم ولادة طفلها الذي يشبه ذلك الكاهن شاهدًا على صِدق حكايتها، ولكن الناس كانوا قد نسوا الحكاية أو تناسوها خوفًا واستسلامًا.
كبر هذا الولد معنا، وقد كنتُ أحس بعاطفة كبيرة اتجاه المرأة المسكينة، كنتُ أستمع لكلامها المشوب بالألم واليأس وهي تسرد حكايتها، وأنا متأكد جدًا من أنها تقول الحقيقة، وكان الولد العاق يضحك من كلامها ومن استماعي لها.
كان يقول مستهزئًا: ماذا تفعل؟ ألم تمل من هذه الحكاية المضحكة! إنها لا تعرف ماذا تقول.
كانت أمه تنظر إليه وعيناها مليئتان بالدموع، وكثيرًا ما قالت لي إنه بذرة شر فكيف سيصدر منه الخير لي أو لغيري! أنصحك يا ولدي بالابتعاد عنه والحذر منه.
لم أكن أستمع لها اعتقادًا مني أنه يذكرها بما حصل لها ولهذا فهي تكرهه. ولكم كنت مخطئًا في ذلك الاعتقاد.
كنت أطلعه على ما يجول في فكري من تساؤلات ونوايا في التخلص من تلك الآلهة الظالمة وأنا أُفتّش عن طريقة وزمن مناسبين، وكم كنتُ مخطئًا في الإفصاح عن ذلك له، فقد نقله إلى أبيه الذي كان يستدعيه بين حين وآخر للخدمة ظاهريًا ولكن السبب الأساسي هو نقل أحوال الناس وكلامهم والأهم من ذلك كله هو إعلامه عن حال الناس واحتمال وجود بوادر سخطٍ أو تمرد، وكان هذا يُقدّم تقاريره كاملة ويُحذّرهم مني.
كان الكهنة في البداية غير مبالين بما يصلهم من كلام عن أفكاري وسلوكي ونواياي، ولكنهم وقد أحسوا خطورة الحالة ووضعوا خططهم الخبيثة للتخلص مني.
وهكذا قرروا ومن ورائهم آلهتهم التي ينطقونها بما يريدون بأن الضحية ستكون بشرًا هذا الموسم، وليس أي بشر بل الأكفأ والأجمل وكانوا يقصدونني أنا مكين.
وكانوا قد بدؤوا يهيؤون لفكرتهم الماكرة بطريقة ذكية، فقد كانوا يشيدون بي في كل مناسبة، بجمالي وكفاءتي.
مكين أفضل شاب في القرية وأجملهم.. مكين.. مكين. كانوا يقولون بأن الآلهة كانت ستختارني لو أرادت أضحية بشرية ولكنها أي الآلهة ترفق بنا وتقبل الفدية التي نقدمها من نبات وحيوان.
ثم ماذا حدث بعد ذلك؟ قال الشيخ متشوقًا لمعرفة القصة.
جاءت إليّ المرأة بهيئة تدل على الرعب والأسى وقالت بهياج: حذرتك منه كثيرًا، إنهم يدبّرون مكيدة لك وفيها ستكون نهايتك، يجب أن تترك القرية بأسرع ما يُمكن. اهرب الآن. لقد سمعت هذا العاق يُكلّم أحد أصدقائه بأن الفرصة أتت والظروف مواتية الآن للخلاص منك. هيا اذهب الآن وبأقصى سرعة.
أجبتُ ضاحكًا: سأهئ أغراضي أولًا.
وبجدية وحزم قالت: أنت لا تُدرك خطورة الموضوع. إنه أخطر مما تتصور. سيضحون بك، سيقتلونك لأنك بدأت تُثير الإزعاجات والمخاوف، لقد بدأت تُهدد مراكزهم.
أجبتها دون أخذ كلامها على محمل الجد: سآخذك معي ما رأيك؟
ــــ كفاك تهريجًا أيها الفتى، هيا غادر المكان الآن، الآن. لماذا تضيع الوقت والفرصة الآن مناسبة؟ إنهم يعملون بكل جدية وسرعة، أظن أنهم في طريقهم إلى هنا الآن.
لم تُكمل المرأة كلامها حتى احتلّ المكان ضجة كبيرة، كانت أصوات حماسية تردد تراتيل وتلاوات. وكنتُ أسمع صوت صديقي واضحًا يعلو جميع الأصوات محمسًا ومحرّضًا. خرجت وإذا بالحشود تتواكب بوتيرة كبيرة. عندما رآني صديقي أشار لهم بالهدوء وبدل نبرة صوته قدر المستطاع مُخفيًا الهياج والحماس. وقال لي بودّ:
ـــ جئنا لنأخذك معنا، فاليوم كما تعرف هو يوم الأضاحي.
ـــ وتعرف أنني لا أحب هذه الطقوس ولستُ مقتنعًا بها ولا أشارك فيها.
ـــ ولكنها مختلفة كثيرًا هذه المرة. قال وقد لمعت عيناه وظهرت ابتسامة خبيثة على ثغره.
ـــ ما هو وجه الاختلاف؟ سألته بتهكّم.. دماء وذبح وأرواح تُزهق. هل هناك من متغير؟
ـــ ستعرف عندما تصل. كان يتعرق وهو يحاول السيطرة على صوته وسلوكه.
ـــ لن أذهب. قلتها وأنا أُراقب تغيرات سحنته التي انقلبت سوداء.
ـــ بل ستذهب كانت ردة فعل سريعة أدرك بعدها خطأه، فهدأ من حدته وقال: إني متحمس كثيرًا جدًا. تعرف أني أحبك، أنت صديقي ونتشارك الكثير من الأعمال والأسرار.
اقترب قليلًا فشاهد أمه وأدرك على الفور بأن الخطة قد فضحت. فانفجر في وجها قائلًا:
- ماذا تفعلين هنا أيتها العاهرة؟
ثم التفت إليّ وقال: كيف تدع هذه المجنونة تأتي إليك أو تستمع إليها؟
بدأت الأم تصرخ بأعلى صوتها غاضبة:هذه العاهرة هي أمك وأنت ابن فاحشة واغتصاب، ابن الخطيئة التي باركتها آلهتكم التافهة، إلى الجحيم أنت وآلهتك.
رفع ده ليضربها ولكني أمسكت يده فإذا بالآخرين يهجمون عليّ وهو يحرضهم ويصرخ بأعلى صوته: ألقوا القبض عليه، لا تدعوه يهرب، الآلهة تأمرنا.
قالت المرأة بصوتٍ مرتجف رقيق: هيا يا ولدي اذهب أرجوك.
قلتُ لها: لن أتركك هنا فلا بد أنهم سيؤذونكِ.
- لا تخف علي فلا يوجد أذية أكبر مما فعلوه في السابق، ثم إنهم يريدونك أنت. فأنت الخطر القادم، هيا قبل أن يأتي المزيد من الشياطين وعندها سيكون قد فات الأوان وزهقت روحك بلا مقابل.
تغيّرت نظرتها فجأة وصرخت محذرة: انتبه..
كان واحد منهم يقترب مني بهدوء ممسكًا حبلًا بيديه حتى وصل إلى مسافة قريبة ورائي في محاولة لوضع الحبل في عنقي، كانت الصرخة، وكان مني أن ألتفت إليه، أحس بالخوف والاضطراب فأمسكتُه ووضعتُ الحبل حول عنقه، طرحته أرضًا واضعًا رجلي فوق ظهره والحبل في يدي، كل هذا وما زلتُ ممسكًا بصديقي. كان المربوط يصيح من الألم، وكان صديقي يقول لي أن أتركه وشأنه.
لست في موضع يؤهلك لتطلب أو تأمر. أتريد التضحية بي يا صديقي؟
بحقدٍ أسود ولؤم قال: لستُ صديقك ولم أكن كذلك يومًا، أنت تشتم آلهتنا وقديسينا وتتجرأعلى كهنتنا، ستدفع ثمن كل هذا اليوم، سيكون موتك عاقبة جحودك وكفرك.
اقترب محاولًا الغدر بي ولكنني كنتُ الأسرع ثانيةً أمسكتُ يده وربطتها بالحبل وسحبتها بسرعة وقوة حتى سمعتُ صوت تحطم عظام ساعده ممزوجًا بصرخة ألم شديد منه. يرافقها صيحة أخرى صدرت من المربوط الذي قارب الاختناق فقد كان الحبل قد أطبق على عنقه محاولًا قتله.
بدأتُ أسمع أصوات قادمة والمرأة تبكي وتصرخ فيّ: اذهب يا ولدي أرجوك، لا أريد أن أفقدك. وكان كلامها مشوبًا ببكاء شديد.
قالت: إذا لم ترد الذهاب من أجلك أنت فاذهب من أجلي أنا، فأنا أشعر بك كأنك ولدي وكأنك خرجت من أحشائي، أنت الوحيد الذي بقي لي.
تركت الحبل من يدي وخرجتُ مسرعًا وكل منهم يحاول الغدر بي، ولكن أحدًا لم يجرؤ على مواجهتي لعلمهم اليقيني بأنه سيدحر، فالكل يعلم بأني قادر على التغلب على أربعة منهمم مجتمعين. وهذا ما ضمن لي الحياة.
كنتُ أركض بأقصى سرعة والحشود تتزايد من ورائي هائجة صارخة. فلقد أصبح لتلك الثعالب الماكرة شجاعة ضباع انتظمت في قطيع.
توغلتُ عميقًا في الغابة، واختبأتُ في شجيراتها الكثيفة منتظرًا حلول الظلام. وعندها لن يتجرأ أحد على دخولها.
ـــ ألم يتبعوك إلى الغابة؟ سأل الشيخ.
ـــ نعم تبعوني مجتمعين ولقد مر بعضهم بجانبي دون أن يروني، فقد سيطر عليهم رهاب الغابة وخوفهم مني ولقد سمعتهم يقولون وهم عائدون: سوف تغضب الآلهة والكهنة على ضياع أضحيتهم وقال آخرون: بما أن الآلهة قادرة على كل شيء فلتحضره هي.
هل تتجرأ على قول هذا الكلام علانية؟ قال آخر.
لا، لا أريد إغضاب الكهنة، إن وجودنا هنا خطأ كبير وخطر أكبر، إذ أن غضبه يثير في مخاوف أكبر من غضب الآلهة. نعم، نعم أكد الباقون، دعونا نعود قبل أن يقرر أن يختارنا أضحية له، دعونا نقول بأن الغابة افترسته.
إني أحبه وأحزن على فراقه، قالها شخص كان يتودد لي دائمًا.
ضحك الآخرون: حزين جدًا على فراقه أم على فراره! فلو بقي لكان الآن على أبواب العالم الآخر. وربما كان قد اجتازه.
ذلك شيء مختلف، عندها سيكون القربان المقدّس للآلهة المقدسة.
وهكذا بدأتُ أمشي في الغابة تلاحقني عيون بنيها الشرفاء إذا ما قورنوا بهؤلاء الناس الغادرين، وقد تركتُ قميصي هناك لكي يظنوا أني مت، لم أدخل أي من القرى المجاورة، بل كنت ألتف حولها فلا بد أنهم سيبحثون عني إذا ما عرفوا بنجاتي من الغابة، وهكذا حتى وصلتُ هنا، وسألت عن شيخ القرية، فدلّني الناس عليك بعدما ملؤوا أذني بالثناء والمديح لك.
ـــ وماذا أقدر على فعله من أجلك؟ سأل الشيخ باهتمام.
ـــ الحماية وأن تدعني أبقى وأعيش هنا.
ـــ لا أقدر، هذا فوق استطاعتي. قالها الشيخ بحزن وغم..
ـــ لمَ يا شيخ؟ قالها الغريب باندهاش يشوبه اليأس.
ـــ لأن سكان هذه القرية لا يختلفون كثيرًا عن أبناء قريتك، ويكفيهم أن يعرفوا بقصتك حتى يمسكوا بك ويجرونك إلى قريتك مقيدًا، هذا إذا لم يضحوا بك هنا ويبعثون البشارة إلى أعدائك الكهنة.
إذًا لا أمل لي هنا.. قال مكين بحزنٍ ويأس.
ـــ امكث في بيتي لبعض الوقت وسنفكر علنا نجد حلًا ما.
ـــ لا يا شيخ، لا أريد أن أُعرّضك لأية مساءلة أو ملامة.
ـــ لا تخف فلن يفكر أحد بالاقتراب مني أو إصابتي بأي سوء، خوفي عليك أنت.
ـــ إذًا سوف أرحل الآن فلا بد أن أجد مكانًا ما، وشكرًا على ما فعلته من أجلي.
ـــ قال الشيخ رافضًا: لن تذهب إلى أي مكان بل ستبقى هنا، ستفعل كما قلتُ لك، ولكن هناك شرط واحد.
ما هو هذا الشرط؟
ألا تُحدّث أحد بقصتك حتى إلى زوجتي، وقلل الكلام قدر المستطاع، وأما إذا سألت أنا فسأقول بأنك قريب بعيد لي، وأني أرسلت في طلبك لتساعدني في أعمال الزراعة ورعاية القطيع. اتفقنا؟
- أمرك يا شيخ.