هذا كتابٌ عن نابوليون يَروِي للقارئ شيئًا غيرَ حروبِه وفتوحاته.
فلقد قيل وأثبتَ الطبُّ أنَّ للصحة والمزاج تأثيرًا كبيرًا في حياة الإنسان وأعماله.
وهذا ما نُرِيد أنْ نُلِمَّ به في كلامنا عن الإمبراطور العظيم.
ولا يتوهَّم القارئ أنَّ هذا البحث خِلْوٌ من الفائدة العملية، فإنَّ رجلًا كنابوليون طبَّقتْ
شهرتُه الآفاق، وترك طابعَه على عصرِه والعصور التي تَلِيه، ليس من الحكمة أن يُغفَل
تاريخُه الصحي أو تُجهَل حالةُ سُلالته من هذه الوجهة، ولا سيَّما أنَّها تُعَدُّ للباحث مثالًا
واضحًا من الوراثة المرضية تتجاوز فائدته الطبية إلى المؤرِّخ، فقد ظهر اليومَ بما لم يَبْقَ
معه مجالٌ للشكِّ أنَّ هذا المزاج الذي يُسمُّونه: الأرتريتيكي (وسنعود إلى الكلام عنه) هو
من أهم عوامل التقهْقُر في الأسَُرالمالِكة.
وقد كان نابوليون مُقْتَنِعًا بتأثير الوراثة إلى حدِّ أنَّه وهو على سرير الموت كان شغلُه
الشاغلُ أنْ تُتَّخَذ الحيطةُ اللازمةُ لحمايةِ ابنِه من الدَّاء الذي هدَّ كيانَه.
ولذلك أوْصَىبتشريح جثتِه وفحْصِمعِدَتِه بوجْهٍ خاصٍّ؛ لاعتقاده أنَّ فيها مركز الداء،
ولم يُخْطِئْ ظنُّه، كما أثبت التشريح المرضيبعد ذلك، فقد وجدوا قُرحةًسرطانيةً في المعدة،
كما وجدوا أثرًا للسُّلال في رِئَتِه.
واجتماع العلَّتَيْن؛ أي السرطان والسُّلِّ، لم يكن معروفًا فيما مضى، أو بالأحرى لم
تكن الآراء متفقةً عليه، أمَّا اليوم فقد أصبح من الأمور المقرَّرة إمكانُ اجتماع الداءَيْن في
الجسم الواحد.
بقي علينا أن نعرِفَ إذا كان في أسلاف نابوليون مَن أصُِيبَ بإحدى هاتين العلَّتَيْن،
ولكن قبل الدخول في الموضوع يحقُّ لنا أن نتساءَلَ هل السرطان وراثيٌّ؟
على فراش الموت (نابوليون يُعطِي للمارشال برتران السيف المُعَدَّ لابنِه).
المعروف اليومَ أنَّ الإنسان يَرِثُ عن أبوَيْه الاستعدادَ أو التُّرْبَةَ، وقد كان الأقدمون
يُعلِّلون مصائب عظمائِهم بأنَّها من غضب الآلهة وحكم الأقدار، أمَّا اليوم فقد بدَّلْنا من هذا
.Artritisme كلِّه حقائقَ علميةً، من ضِمْنِها حقيقةُ الوراثة المرضية، ولا سيَّما الأرترتيسم
ما هو الأرترتيسم؟
كلمةٌ لم يتفقِ العلماء على تعريفها، فهي ليستْ علةً واضحةً كذات الرِّئَة مثلًا، بل يُراد
بها مزاج خاصٌّتَسُوء فيه التغذية فتَنتُج عنها أعراضٌمختلفةٌ، ولا يُعنَى بالتغذية الطعامُ
والشرابُ، بل الوظيفة الأولى التي تقوم بها المادة الحية، أي مجموع التفاعلات والمُبَادَلات
الحادِثة بين الكائن الحي والبيئة التي يعيش فيها ويتغذَّى منها.
شارل بونابرت، والد نابوليون.
أظنُّك أيُّها القارئ، لم تَزْدَدْ بيانًا بهذا التعريف، حسبُك أن تعرِفَ أنَّ كلمة الأرترتيسم
تشمل النِّقْرِس والبول السكري والروماتزم وحصوة الكبد والكلية والصُّدَاع والرَّبْو
والبواسير والطفح الجلدي وبعضأشكال سوء الهضْم والالتهاب الِمعَوي، كل هذه الأمراض
ترجع إلى نَسَبٍ واحدٍ وأسرةٍ واحدةٍ فينوب بعضُها عن بعض بالانتقال الوراثي؛ أي إنَّ
البول السكري قد يُورث الربو والنِّقْرِس والبواسير إلى آخِره.
والأرترتيسم على نوعين، فمنه ما يُصِيب المزاجَ العصبيَّ فيكون صاحبُه نحيلَ البدن
قليلَ شعر الرأسِ، ومنه ما يُصِيب اللمفاوي فيكون سمينًا محتَقِنَ الوَجْه.
وقد مثَّل نابوليون الدَّوْرَيْن ولبِسَ الحالتَيْن، فصار في الكهولة إلى عكس ما كان عليه
في شبيبته، فبعدَ أنْ كان نحيفًا نشيطًا أمْسَى بَدِينًا مُترَهِّلًا على تثاقُل في الهِمَّة وتردُّد في
العزيمة، كما سيمرُّ بك.
وهذه الوراثة المرضية تأتِي في الغالِب عن الأبِ دون الأمِّ حسبَمَا ظهرَ من إحصاءات
العارفين، وما كان نابوليون ليَشِذَّ عن القاعدة، فقد اشتُهِر عن أبيه وجدِّه أنَّهما ماتا
بالسرطان، وهو نبأ يٌحتاج إلى دليل بالنسبة إلى الجدِّ، أمَّا الأب فممَّا لا ريبَ فيه أنَّه مات
ليتسيا بونابرت، والدة نابوليون.
كذلك، كما ظهر من تقرير الأطباء الذينشرَّحوا جثتَه، وقد وُجدتْ نسخةٌ من هذا التقرير
عند البارون ديبوا مولِّد ماري لويز. والظاهر أنَّ الأطباء أرادوا في كتابة هذا التقرير خدمةَ
الأسرة اعتقادًا منهم بتأثير الوراثة؛ ولذلك تَجِدُ فيه بعدَ الوصف والشرح الكافي عن حالةِ
معدةِ شارل بونابرت والورم الذي فيها إسهابًا في ذكر العلاج والغذاء الملائِم لمَن يُصاب
بمثل هذا الداء. نعم، إنَّ كلمةسرطان لم تَرِدْ في هذا التقرير، ولكنْ كلُّ ما قيل فيه يَنطَبِق
عليه، وفضلًا عن ذلك فإنَّ شارل بونابرت مات في الأربعين، وعمه كان مُصابًا بالنِّقْرِس،
وكانتْ آلامه شديدةً إلى حدِّ أنَّها ألْهَمَتْ أحدَ أحفادِه وهو نابوليون أن يكتبَ إلى الدكتور
تيسو وهو طبيبٌ مشهورٌ في سويسرا ليَسْتَشِيرَه بشأنِه، ولا بأسَ من عرض صورة هذا
الكتاب التي تمثِّل صفحةً من حياة نابوليون ونفسه في زمن الفتوة:
سيدي،
قضيتَ أيامَك في خدمة الإنسانية، وطارَ اسمُك في العالَم حتى اخترقَ جبال
كورسيكا التي قلَّما يحتاج الإنسان فيها إلى طبيب. لم أتشرَّفْ بالتعرُّف إليكَ
إلَّا أنَّ ما أسمَعُه عن علمك وفضْلِك يُجَرِّئُني على مُكاتَبَتِك لأستشيرَك بشأنِ عمٍّ لي
مُصابٍ بالنِّقْرِس.
ولا يُوافِقُني في هذا الحديث أنْ أعتَرِفَ بعُمر عمِّي البالغِ السبعين، ولكنْ لا
تنسَ يا مولاي، أنَّ في إمكانِ الإنسانِ الوصولَ إلى المائة وما فوقَها، وبِنْيَةُ عمِّي
تسمح له أن يكون في عِداد هؤلاء الممتازين، وهو فضلًا عن ذلك يعيش باعتدالٍ
وحكمةٍ لا تَعصِف به أهواءُ النفْس ولا تُثِيره زوابعُ الحياة، كما أنَّه لم يُصَب أبدًا
بعلَّةٍ من العِلَل ولم يَشْكُ ألمًا من الآلام، وإذا كنتُ لا أجُاري فونتانل فأقول عنه:
إنَّه كان يَمْلِك الخَلَّتَيْن اللتين تضمنان العُمر الطويل: الجسم الصالح والقلب
الطالح، فأنا أعتقد أنَّه مع ميله للأنانية لم يُضطَرَّ إلى الإغراق فيها.
وقد تنبَّأَ أحدُهم له فيصِباه أنه سيُصاب بهذا الداء مستندًا في ذلك إلىصِغَر
يدَيْه وضخامة رأسه، ولكنَّك ترى مثلي — على ما أظنُّ — أنَّ ذلك من قَبِيل
الاتفاق.
الدكتور تيسو (من لوزان).
نابوليون بونابرت بلباس شرقي.
وبعد أنْ يَصِف نابوليون داءَ عمِّه وما يُقاسِيه من الأوجاع يختم كتابَه إلى الطبيب
بهذه العبارة:
الإنسانية يا مولاي، تجعلني على أملٍ من جوابك، أنا نفسي أتعذَّب منذ شهر
بالحُمَّى المتقطِّعة؛ ولهذا أشكُّ في أنَّك ستقرأ بسهولة أسطري هذه.
وأختم بتقديم الاحترام الذي يوحيه إلي فضلك السابق واللاحق.
بونابرت ضابط في المدفعية سنة ١٧٨٧
أمَّا تيسو الطبيب فلم يتنازلْ إلى الإجابة عن هذا الكتاب، ولم يُعلَم أكان ذلك منه
نسيانًا أم إهمالًا أم ظنٍّا أنَّ هذا الغريب المجهول يُحاوِل أن يَستَفِيد من عِلْمِه مجَّانًا بلا
أجرٍ، ولم يَدُرْ في خلده أنَّ سائلَه هذا سيملأ اسمُه الخافقين