اختلف المؤرِّخون في تاريخ اليوم الذي غادَرَ فيه الضابط الشاب فالانس إلى ليون، فزعم
بعضُهم أنَّه أصُِيب في هذه المدينة بحُمَّى ألْزَمَتْه الفراشَ أيامًا، وكانتْ سببًا في تعرُّفه
بآنِسةٍ من جنيف اسمُها أوجيه، وهي التي اهتمَّتْ به وأحاطَتْه بعنايتها وعطْفِها حتى
الشفاء، ولكن مُفَكِّرات نابوليون لا تَذكُر شيئًا من هذا، بل فيها أنَّه ترك فالانس قاصِدًا
أجاكسيو في سبتمبر سنة ١٧٨٦ وعُمرُه يومئذٍ ١٧ سنة.
ولدَى وصولِه ألْفَى عمَّه الأرشيدياك تُضْنِيه آلامُ النِّقْرِس، وتُبرِّح به، وقد أعيا داؤُه
أطباء الجزيرة، فرأى أن يكتب إلى الدكتور تيسو كما مرَّ بك، والدكتور تيسو واسع
الشهرة، وهو عضوٌ في الجمعية الملكية وجمعية بال الطبية وجمعية برن الاقتصادية،
فليس غريبًا أن يتَّجِهَ نابوليون بأفكاره إليه ويعلِّق آمالَه عليه، ولا نعلَم أيَّ تأثير تَرَكَ في
نفس نابوليون إغفالُ هذا العالِم الردَّ عليه على الرغم ممَّا أَوْلَاه من ثناء وتمجيد.
ولشدةِ الدَّاءِ امتَنَع عمُّه عن العمل بتاتًا، فاضطُرَّ نابوليون أن يتسلَّم زمامَ الإدارة
في البيت لأنَّ شقيقَه الأكبر كان على سفرٍ إلى بيز، فلم يَبْقَ لنابوليون من سبيلٍ إلى ترك
أجاكسيو حينئذٍ، فكتب إلى وزير الحرب يسألُهُ إجازةً خمسةَ أشهر مع حفظ معاشِه
فأجابَه إلى طلَبِه.
وقد يتعجَّبُ القارئ لهذا الغياب المتكرِّر من المدرسة، ولكنَّها عادةٌ جرى عليها
الجميع من الكولونيل إلى الماجور إلى الليوتنان، وهكذا كان نابوليون يروح ويجيء بين
فرنسا وكورسيكا، محتجٍّا بضَعْفِه حينًا واعتلال أمِّه حينًا آخَر.
وقد كانتْ أمُّه استفادتْ فيما مضى من حمَّامات جوانيو الواقِعة في كورسيكا على
مسافة ثلاثين كيلومترًا من أجاكسيو، فرافَقَها ابنُها إليها هذه المرةَ، وكانتْ جوانيو أو
كوانيو عظيمةَ الشهرة لذلك العهد، يَؤُمُّها الناسُ من كل صَوْبٍ، فيَجْتَمِع فيها زُهاءُ
مائدةٌ وكرسيَّان وُجدتْ في الغرفة التي كان يشغلها بونابرت في أوكسون حينما كان ليوتنان
المدفعية.
ثلاثمائة بين مريض يرجو الشفاء ومُتْعَبٌ يطلُبَ الراحةَ من هموم الأعمال أو عراك
السياسة، وفائدتها الكبرى هي تسكينُ الأوجاع العصبية، تلك الأوجاع التي مُنِيَتْ أمُّه بها،
وانتقل إليه شيءٌ منها بالوراثة كما ورثَ عن أبيه استعدادَه المرضي، وقد كان يَعْلَم أنَّه
رأس رجلٍ » : مَدِينٌ بما فيه من الحالة العصبية لأمِّه خصوصًا؛ ولهذا كان يقول عن نفسه
«. على جسمِ امرأةٍ
ولم يُغادِر نابوليون كورسيكا إلَّا في شهر أكتوبر سنة ١٧٨٧ ، فوصل باريس في
التاسع من نوفمبر، ونزل في أوتل شربورغ بشارع سنت أونوره.
يَجِد هذه العبارة: « أدْوَار حياتي » ومَن راجَعَ مُفَكِّرات نابوليون وقرأ ما كتب بعنوان
وصلتُ إلى أجاكسيو سنة ١٧٨٦ في سبتمبر وتركتُها سنة ١٧٨٧ في سبتمبر، ثم عدتُ »
«. إليها في يناير وتركتُها في يونيو إلى أوكسون
أمَّا حياتُه في أوكسون فلم نعْرِفها إلَّا على وجْه التقريب بعد البحث في مختلِف ما
كُتب عنه، والظاهر أنَّه كان يسكن فيها مع أخيه الصغير لويس في الطابق الثالث من
جناح الثكنة، وكانتْ غرفتُه مُظْلِمةً يدخُلُها الهواء من نافذةٍ صغيرةٍ، وهناك وجَّه كلَّ
همِّه إلى الرسم والرياضيات وعلم الفِراسة، وكان له صديقٌ اسمُه دي مازيس يختلف في
الأخلاق عنه كلَّ الاختلاف، ومع ذلك فقدْ تمكَّنَتْ بينَهما أوَاصِرُ الودِّ فكانا يأكلان معًا،
ولضيق ذات اليد أراد نابوليون أن يَعِيش باللَّبَن وحدَه مُدَّعِيًا المرضَ، ففعَلَ صديقُه مثلَه
وشارَكَهما في هذا النوع من الإضراب عن الطعام رفيقٌ ثالثٌ.
وكان من شروط هذا الاتفاق الثلاثي أن يؤلِّف كلٌّ بدَوْرِه قصةً نثريةً يقرَؤُها بعدَ
الغداء، فعاشَتِ القراءةُ بقدْر ما عاش الاتفاقُ؛ لأنَّ معدة نابوليون قصرتْ عن احتمال
اللَّبَن، بل إنَّ هذا الحرمان أثَّر في صحته فاعتلَّتْ واضطُرَّ إلى مُلازَمة الفراشِ، ولم يدخُلْ
إلى المستشفى حينئذٍ؛ لأنَّ النظام كان لا يسمح بالدخول إليه إلَّا لِمَن كان في خطر، وفضلًا
عن ذلك فإنَّه كان يَعَافُ الأدويةَ ويأنَفُ الخضوعَ لنظامِ المستشفى.
وكان طبيبُه في تلك المدة الدكتور بيانفلو، فلمَّاصار نابوليون قُنْصُلًا أول سنة ١٨٠٢
واستعرضالجيش في ساحة مارس، كان بيانفلو لا يَزَالُ في وظيفته فعَرَفه نابوليون حالًا
ليس بالمقدار الذي أنت » : وصاحَ به: أي بيانفلو، ألَا تزالُ غريبَ الأطوار؟! فأجابَه هذا
والظاهِر أنَّ ،« فيه من الغَرابة أيَّها القنصل، الذي لا يعمل مثلَ سواه ولا يَجِد مَن يقلِّده
الجواب لم يُغْضِبْ نابوليون فسمَّى الطبيبَ عضوًا في جوقة الشَّرَف وبقِيَ في وظيفته إلى
. سنة ١٨١٥
ما هو ذلك المرض الذي أصابَه في أوكسون، وكم كانتْ مدتُه؟ ربَّما كان الحمَّى
الراجعة الكثيرة الانتشار في تلك البلاد، والتي كان نابوليون مُعَرَّضًا لها، ولا يجهلها، كما
صحتي الآن أحسَنُ فأستَطِيع أن أحرِّر لك، إنَّ المناخ هنا » : نرى من كتابه لأمِّه إذ يقول
سيِّئٌ لوُجود المُسْتَنْقَعات وفيضان النهر المتواصِل الذي يملأ الحُفَر بماءٍ آسِنٍ، وقد تعِبْتُ
كثيرًا لتعدُّد نوبات الحُمَّى المنهِكة، وأمَّا الآن بعدَ أنْ صحا الجوُّ وذاب الثلجُ وتبدَّد الضبابُ
«. فإنِّي أشعُر بتحسُّنٍ سريع
ولم تَمْنَعْه آلامُه من مُتابَعة دُرُوسه، فكان يستيقظ الساعة الرابعةَ ويبدأ بالعمل، ولا
يأكل إلَّا مرةً واحدة في النهار نحو الساعة الثالثة، وبعد شهرٍ من مرضه طلَبَ أن يستريح
فلم يُرفَضْطلبُه هذه المرةَ أيضًا، فذهب إلى أجاكسيو وقصد إلى الاستشفاء بمياه أوريزيا
الحديدية، ثم عاد إلى أوكسون مصطحبًا معه أخاه الصغير لويس يُرشِده ويُدرِّبه ويُعلِّمه
الرياضيات والتاريخ.
وفي أبريل سنة ١٧٩١ رُقِّيَ إلى رتبة ليوتنان أول في فرقة كرنوبل، فذهب إلى فالانس
وأقام فيها زمنًا، ومنها سافَر إلى كورسيكا، ثم عاد إلى باريس والثورة في غليانها.
يُقال: إنَّ أخاه لويس دخل عليه يومًا متأخِّرًا عن عادتِه فلامَه أخوه على كَسَلِه، فقال
أنتَ » : له معتذرًا لقد كنتُ أحلُمُ حلمًا جميلًا وهو أنِّيصرْتُ مَلِكًا، فقَهْقَهَ نابوليون وقال
ولم يَدُرْ في خلده أنَّ تلك النبوَّة ستَصْدُق. ،« مَلِكٌ؟! هذا يكون يوم أصيرُ إمبراطورًا
ويُقال أيضًا: إنَّه مرَّ في ساحة التويلري في يونيو سنة ١٧٩٢ بين الهرج والمرج
وازدحام الشعب المسلَّح الهاجِم على القَصْر، وكان الراوي وهو أحدُ المحامِين يُحادِث
صديقًا له عن الأحوال الحاضِرة، فقاطَعَهما شابٌّ مجهولٌ أصفرُ اللَّوْن حادُّ النظر قويُّ
وعَرَفا فيما بعدُ أنَّ هذا « لو كنتُ أنا الملكَ لَمَا صارَ شيءٌ من هذا أبدًا » : الصوت وقال لهما
الشاب هو بونابرت.
وفي سنة ١٧٩٣ أصابَه في أفنيون مرضٌ فامْتَنَع عن العمل، ولكنَّه لم يَمْتَنِع عن
بإنشاءٍ سهْلٍ مقبولٍ يَظهَر من خلالِه Souper de Baucaire الكتابة فألَّف عشاء بوكير
محبتُه للعلمِ والمُطالَعة وميلُه إلى التدقيق.
وبعد حين وطئَتْ أقدامُ نابوليون أرضَنيس وكانتِ الساعة تقترب، تلك الساعة التي
سيمثِّل فيها على مسرح السياسة دَوْرَه العظيم.
ففي ليلةٍ من ليالي أكتوبر سنة ١٧٩٣ انتَشَرَ نبأ اُلخيانة وتسليم طولون للإنكليز،
وكان نابوليون قائمًا بوظيفةٍ في المدفعية قيامًا لا مَأْخَذَ فيه لطاعِنٍ، فأعُجِب به قائد
الفرقة أيَّما إعجاب، وقد ذكر المؤرِّخون كيف دُعِيَ نابوليون بونابرت لقيادة الجنود التي
عُهِدَ إليها استرجاع طولون.
من ذلك اليوم أخذَ نجْمُه يلمَعُ في الأفُُق! من ذلك اليوم تسلَّمَه التاريخ تسلُّمًا أبديٍّا!
من ذلك اليوم ارتَدَى ثوبَ الخلود