(1)
دوي أنين المشاعر
انطبقت السماء على الأرض ليصدع منهما صوت مهول شخصت له العيون واهتزت به القلوب والأبدان، وكأن القيامة قامت فجأة لتبدأ أهوالها، تطاير البشر كأوراق الخريف من الهواء المنبثق إثر انفجار مدوي رج أركان المكان، اصطدم غيث بشخص آخر بقوة جعلته يسقط أرضًا، أتى لمسامعه أصوات تتحدث العربية، اقتربت مصطحبة من اصطدم به مهرولين بسرعة ذعرهم تاركين المكان، وبسبب كثرة الأتربة وضباب الهواء لم يرَ أو يميز ما يحيطه، تحرك بعيونه المتسعة من ذعره ليقف وهو يلتقط قلادة ذهبية علقت بإحدى أزرار جاكيته ناظرًا إليها وهو يقرأ بالإنجليزية "رفيف".
لم يتعدَ الأمر دقائق قليلة من الخوف والذعر حتى أتتهم سيارة فرق الحماية الخاصة لتأخذهم وباقي الوفد السياسي الدولي لتصل بهم لبر الأمان.
❈❈❈
وبعد مرور قرابة سنة في ظل تلك الأجواء المضطربة، كانت عائلة عمر النابلسي تعافر وتجاهد الظروف لتنعم بفرح وسعادة داخل منزلهم الذي علا فيه صوته وهو يُضحك ابنته:
"هيا ارفعي يديكِ وحلقي كالعصافير".
وبحركة هادئة كهدوء خصالها رفعت رفيف الصغيرة يديها وهي تحاول أن تطير كالعصافير التي أمامها بالفيلم الكرتوني، ظل مصطفى ذو السنتين يبكي بجانب أمه في المطبخ تارة ويخرج ليبكي بجانب والده تارة أخرى مطالبًا بالحلوى، أتتهم رفيف وهي تحمل صنية مملوءة بالفواكه المقطعة:
"يا عمري ألم تسمع بوم بوم؟ لا يوجد خروج اليوم، نأكل الفواكه وغدًا نشتري الحلوى".
جلست بجانب زوجها الذي حاوطها بذراعه وقبلها بوجنتها فور اقترابها منه، ابتسم وجهها بسعادتهم ناظرة لمن اقترب ببكائه منهم طالبًا طلبه الذي لم يصمت عنه منذ استيقاظه، أخذت رفيف قطعة من البرتقال وقربتها لفمه الأحمر من كثرة البكاء:
"همممم افتح افتح الطائرة قادمة".
بكى الصغير وألقى بنفسه أرضًا رافضًا أن يأكل من أمه التي غضبت على والده:
"أنت السبب بحالته، انظر إليه، لم نعد نستطيع السيطرة عليه من كثرة تدليلك له، قطعت أنفاسي وأنا أعارضك على كثرة شراء الحلويات لهما حتى أصبحا يرفضان الأطعمة الصحية".
ضحك عمر واقترب ليحمل ابنه ويقبله هامسًا له بأذنه، حذرته رفيف رافضة خروجهم، قبلها من وجنتها مجددًا طالبًا منها أن تسمح له كي لا يحزن صغيرهم متحججًا:
"البقال قريب منا سنذهب ونعود سريعًا".
ونظر نحو ابنته غامزًا: "أليس كذلك؟"
لم تستطع اقناعه بعدم الخروج ولكنها أصرت على تركه للأطفال والذهاب وحده على وجه السرعة ويعود.
رفض الصغير ترك والده، تمسك بهِ بقوة غير مسبوقة، وبصوته المحبوب إليها ترجاها أن يتركه معه ليذهبا ويعودا سريعًا.
أمنّته أن يتوخى الحذر بسيره واستودعتهم الله وقلبها غير راضٍ، وقفت على النافذة بقلبها المقبوض تراقب الطريق بخوف، عادت لتنظر لابنتها إذ بها قد نامت مكانها، تحركت لتضعها بفراشها ورفعت الغطاء عليها ممسكة الهاتف بعده متحدثة:
"عــمــــر أين أنت؟ لماذا ابتعدت؟"
أخبرها أن البقال القريب مغلق وذهب للآخر على الطريق العمومي لعله يجد غايته، حزنت منه وتحدثت بغضبها وضيقها الذي اعتلى صوتها:
"كيف تبتعد بهذه الأجواء؟ قل لي أين وصلت الآن، هل اقتربت أم لا زلت بالأسفل؟ ليكن بعلمك لن أسمح بخروجك أثناء القصف مجددًا مهما فعلت".
وبحبه الكبير قبل وجنة ابنه الصغير متحدثًا:
"أتعلمين كم أحبكِ!"
اعتلى وجهها الخوف، نظرت للخلف نحو طفلتها النائمة مستمعة لتكملة حديثه لمحبوبته:
"أضعكِ أنتِ وحبي أمانة لديكِ".
ردت وقلبها يرتجف:
"هل تفعلها عنوة كي تضغط عليّ؟ أنت تعلم أنني لا أحب سماع هذه الكلمات ومع ذلك تكررها دائمًا".
أجابها بقلبه الذي شعر بقرب نهايته:
"أشتاق إليكِ وأنتِ بجانبي فماذا إن فرقنا القدر؟"
حاولت السيطرة على دموعها:
"عمر بماذا تكلمنا آخر مرة! انزع من قلبك هذا الشعور، سنعيش سويًا حتى نُكبِّر أبناءنا، أرجوك لا تحزن نفسك بهذه التهيؤات التي تراودك بهذه الأجواء التي تشعرك…"
وقبل أن تكمل حديثها وصل لمسامعهم صوت انفجار كبير هز المنزل والمكان بشكل كامل، صرخت راكضة نحو ابنتها لتحتضنها مرددة:
"عمر، مـصـطـفى".
عادت لتأخذ الهاتف من أسفل النافذة مكررة الاتصال أكثر من مرة دون إجابة، وبعد عدة محاولات فُتح الاتصال ليتحدث شخص غريب بصوت شرخ فؤادها وهو يخبرها:
"صاحب الهاتف تم نقله للمشفى إثر تعرضه لإصابة قبل قليل".
صرخت باسم زوجها وابنها
"عـــمــــر، مـصـطـفـــــى".
❈❈❈
بجمهورية تركيا التي تنعم بحياة رغيدة بالسلام والهدوء الأمني، جلس غيث مع أمه يحدثها عن قرب عودة عمه كامل من رحلته خارج البلاد، سعدت فريدة ودعت لهم بالهناء والراحة فهو وزوجته يستحقان كل جميل، وبصوته المتعب أمن على حديث أمه وقال:
"سآخذ حمّامًا دافئًا لعله يريح ألم رأسي".
حزنت فريدة على ابنها الذي يعيش حياة غير مستقرة مع زوجته وابنة خالته الوحيدة في آن واحد، تحرك نحو غرفته وهو لا يعلم أن القدر يحضر له خدعة جديدة من تأليف بورجو التي اتفقت مع عشيقها على كسر زوجها بنقطة ضعفه كي يضغطا عليه لينفذ كل ما يريدانه دون تضييق.
دخل غرفته ليجدها جالسة على مقعدها تنظر للهاتف.رمقها بعين غير راضية وتحرك نحو الحمام بضيق صدره منها،
انتظرت دخوله حتى ترسل لعشيقها رسالة نصية محتواها:
"سيراه الآن، ادعُ أن تنجح الخطة وأستطيع مصالحته دون أن يلمسني".
كتب أرجون لها:
"إياكِ أن يقترب منكِ، أهدم القصر فوق رأسه، أنتِ لي وحدي".
ابتسمت لشعورها بغيرته:
"لا تخف أنا لم أسمح بهذا، لا أطيق سماع صوته فما بالك بقربه وتماديه! ولكني لم أقصر بدفعه عني بكل مرة لا تقلق".
كتب بخبثه:
"هيا أغلقي قبل خروجه، أريده أن يحترق وهو يرى حزنك على فقدانك لشعور الأمومة".
لم يلبث مكوث غيث بالداخل دقائق قليلة حتى عاد إليها مسرعًا رافعًا يده للأعلى شاهرًا بوجهها جهاز كشف الحمل ليسألها بتعابير وجهه المختلطة:
"هل هذا الجهاز عائد لكِ؟"
نظرت بورجو لتعابير وجهه القوية باستغراب، وقفت بخوف علا نبرتها وهي تجيب عليه:
"أعلم أنك ستغضب عليّ، ولكني لم أفقد الأمل، كلما شعرت بألم في رأسي وتقلبات بمعدتي أعود للتأمل لربما تحدث معجزتنا".
نظر للشريط بيده ثم نظر لها بقوة مكررًا سؤاله:
"هل أنتِ متأكدة أنه يخصك!"
زاد خوفها وقلقها وخاصة حين رأت على وجهه تعابير الفرحة المعاكسة لما كانت تنتظره، أتتها صدمتها واتسعت عيناها من المفاجأة، سحبت الجهاز من يده مدققة النظر به لتتأكد من حقيقة الخطوط الحمراء الدالة على وجود حمل حقيقي، حركت رأسها لتنظر نحو زوجها الذي سجد شاكرًا ربه على ما رزقهم به.
وبينما هي صامتة مصدومة مما يحدث أمامها وقف غيث من جديد ليحتضنها ويدور بها في أرجاء الغرفة هاتفًا بفرحته:
"الشكر لله، سأصبح أب، الشكر لله".
انقلب السحر على الساحر وها هي تحت تأثير الصدمة بعد معرفتها خبر الحمل، هرول غيث مسرعًا خارج الغرفة وهو يسحبها معه كي يخبرا أمه سويًا.
سمعت فريدة صوت نداء ابنها الذي أتاها بنبرة مرتفعة جعلت قلبها يقفز من مكانه خوفًا عليهما، أغلقت مصحفها بسرعة ووقفت تسألهما بخوف:
"ليكن خيرًا يا بني، ما هذه الحالة!"
نظر لزوجته ثم نظر لأمه متحدثًا بفرحة عارمة:
"سيأتيكِ حفيدكِ قريبًا".
لم تصدق ما سمعته، طارت من فرحتها، رفعت جناحيها لتحتضنهما وتبارك لهما، وبغير رضا تحركت بورجو لتبتعد عن حضن خالتها.
تحمس غيث وكأنه سيحتضن طفله بعد قليل مقترحًا أن يذهبا للطبيب شرط أن لا يكون أرجون فهو لا يفهم شيء عن الطب والأطباء، ووعدها أن يبحث عن أفضل مختص بمتابعة الحمل والولادة بالمدينة.
قاطعته رافضة الذهاب لطبيب آخر غير طبيبها المعتادة عليه وتحركت لتخرج من الغرفة بعد أن وجدت حجتها لتنهي هذا السخف كما تقول بداخلها.
صمت متعجبًا من ردة فعلها وعدم شعوره بفرحتها، ربتت أمه على كتفه متحدثة بصوتها الحنون:
"ما بك؟ وكأن غضبها جديد علينا! كما أنك بأول الطريق، عليك أن تتحلى بالصبر وتتحمل التغيرات الفسيولوجية والهرمونات المتغيرة للحامل، سترنا الله من نوبات غضبها، من غير شيء كانت تسير باحثة عما يغضبها".
فتحت ذراعيها وأخذته بحضنها مرة أخرى لتقبل وجنتيه بقبلات خالطتها الدموع المتبادلة والشكر لله على استجابته لدعائهم.
❈❈❈
بالبلد العربي كانت الأجواء ملتهبة في مستشفى العاصمة بعد أن تفاقم الوضع وأصبح الجميع يهرع ويهرول في جهته، منهم من يبحث عن ذويهم المفقودين ومنهم من يسرع لإنقاذ المصابين ومنهم من يتجرع ألم الفقد، وعند اقتراب دوي سيارات الإسعاف أخذ البروفيسور إسلام الشامي فريق من الأطباء وخرج لاستقبالها أمام المشفى، تقدم ليفتح بنفسه أبواب سيارات الإسعاف ويصنف الحالات على حسب درجة الإصابة، انتهى من أول سيارة مهرولًا بسرعته نحو الثانية ثم الثالثة حتى اتسعت عيناه من الصدمة وهو ينظر نحو مريض ناداه:
"عــمــر، عمر هل تسمعني؟"
أنزله بنفسه وهو يتحرك به للداخل وعيونه تدقق في إصاباته المختلفة محاولًا معرفة مدى خطورتها.
خيمت على المشفى غيمة سوداء مريرة تعلوها أصوات البكاء وتوسل أهالي المرضى للأطباء لإنقاذ ذويهم في مشهد تدمي القلوب من قسوته.
تنقل الطبيب إسلام بين الجرحى ليرى مدى إصابتهم وخطورتها على حياتهم، اندهش الفريق الطبي من سرعة تنقله بين المصابين وإدارة أكثر من حالة بنفس الوقت وهذا ما تدرب عليه وأتقنه في سنوات غربته حتى أصبح بروفيسورًا ناجحًا في هذا السن الصغير.
وصلت رفيف إلى المشفى وهي لا ترى أمامها، تجرف الدموع بيديها يمينًا ويسارًا محاولة التدقيق بأوجه المرضى باحثة عن زوجها وفلذة كبدها بينهم، أبى قلبها أن يجدهما مصدقًا أمنيته في نجاتهما من الانفجار، وبأقصى اليسار ارتفع صوت الطبيب وهو ينظر لدكتور إسلام:
"توقف القلب نحن نفقد المريض".
أسرع إسلام بإجراء الصدمات الكهربائية على قلبه عدة مرات مرددًا:
"هيا يا عمر هيا، أهلك ينتظرونك".
صادف كلامه اقتراب رفيف ورؤيتها لزوجها وهو ينازع الموت، وضعت يدها على فمها من الصدمة منادية:
"عمر، عمر".
صُدم إسلام بصوتها الذي أتاه من الخلف كصاعق كهربائي بقلبه، استدار ونظر نحوها لثوانٍ فصلته عمن حوله، حدثته الممرضة:
"لا داعي لعمل المزيد، عاد النبض".
تلفظ عمر باسم زوجته بعد أن سمع صوتها وشعر بوجودها، اقتربت منه لتطمئنه:
"ستكون بخير لا تقلق".
وبحسرة تحدث عمر ليخبرها ما لا يستطيع القلب عليه صبرًا. لم يكمل آخر كلماته حتى أُغشيَ عليه، سقطت رفيف أرضًا صارخة باسم فقيدها الصغير: "مصطفى!!"
❈❈❈
في قصر صبانجي الذي عمّت الفرحة سماءه، اتصل غيث بصديقه ظاهر يزف له البشارة بوجهه المبتهج.
بينما كانت بورجو في غرفتها تحدث نفسها:
"ما كل هذا الهراء؟"
فتحت هاتفها بغضب قائلة فور بدأ المكالمة:
"أنا حامل".
صُدم أرجون متسائلًا:
"كيف حامل؟ ألم تقولي أنهُ سلبي؟ ألم تأخذي المانع بانتظام؟"
ردت وهي تهتز من خوفها:
"أخذته ولكن لا أعرف كيف حدث هذه المرة".
أخفض صوته:
"بسيطة، ليس بجديد علينا، فعلناها سابقًا وسنفعلها مرة أخرى".
وبحزنها أجابته:
"الأمر مختلف، هل نسيت تركي لجهاز الكشف داخل الحمام؟ مع الأسف حدث عكس توقعنا عندما أخذ الخبر قبلنا".
جلست بغضب مكملة:
"سأموت من خوفي، كيف سأتصرف؟ تبقى القليل ليتم نشره بوسائل الإعلام".
رد أرجون بهدوء:
"حسنًا، اهدئي، لا يمكنكِ التصرف بهذه الحالة، سأعطيكِ اسم دواء تشترينه وتبدئين بأخذه لينتهي بشكل طبيعي دون أي تدخل".
نزلت من عينها دمعة صغيرة لم تصل أسفل وجنتها:
"ولكني لا أريد خسارته هذه المرة".
أسرع بحديثه:
"وأنا أيضًا مثلكِ، كم حلمت وتمنيت أن يكون لي طفل منكِ، ولكن كما تعرفين لا أستطيع بالوقت الحالي أن أأخذك ونرحل، لا يمكنني تحمل ظلمك معي".
ردت عليه بحزنها:
"لا يهمني كيف سنعيش، أتحمل العيش بجانبك تحت أي ظروف".
تحدث من جديد ليهدئها ويعدها بتحقيق حلمهم بالسفر بعيدًا والعيش سويًا وسط أولادهم، ابتسمت وهدأ قلبها لتتفاجأ بدخول غيث من باب النافذة، أغلقت الهاتف لتضعه بجانبها وهي تراقب وجهه بتخوف من سماعه لحديثها، لم يستمر وضعها الساكن كثيرًا حين تأكدت من عدم سماعه لشيء، أنبأها عن نجاحه بحجز موعد سريع لدى الطبيب، رفضت بورجو الذهاب متسائلة:
"ما الداعي للسرعة؟ لننتظر للغد".
وأمام إصراره على ذهابهم، تأنت متذكرة اتفاقها مع أرجون على مسايرته حتى يصلا لهدفهما بجمع أكبر مبلغ مالي يساعدهما ببدء حياة منعمة عند هروبهما بعيدًا.
استجابت لطلبه بشرط أن يشتري لها اللحم المشوي عند عودتهم، سعد غيث بمطلبها:
"احلمي وتمني أنا جاهز للتنفيذ".
ابتسمت بوجهه لتتمادى بطلباتها وتدللها وكأنه أب طفلها الحقيقي.
تم فحصها من قبل الطبيب فور وصولهما للعيادة لتقييم وضع الرحم والجنين، تحمس غيث وتحرك بمكانه من شدة الفرحة متسائلًا:
"هل سنسمع دقات قلبه اليوم؟"
ابتسم الطبيب مجيبًا:
"لا زال الحمل في أسابيعه الأولى، انتظر حتى أعود من سفري وأحقق لك أمنيتك".
اقترب غيث من شاشة السونار بفرح كي يرى طفله، ضحك الطبيب مشيرًا للجهاز: "انظر لتلك النقطة السوداء بالمنتصف، هذا هو طفلك".
نظرت بورجو للشاشة التي حركها الطبيب نحوها:
"ها أنا هنا يا أمي".
صدمت مما قاله لها لتمعن النظر مرة أخرى حتى رق قلبها واستشعرت بأمومتها.
❈❈❈
في المشفى خرج دكتور إسلام من غرفة العمليات ليبدأ حديثه لعائلة عمر:
"زال البأس، حاولنا السيطرة على الوضع بشكل مبدئي، لم نستطع إكمال العملية لأجل كثرة نزيفه قبل وصوله، سننتظر استقرار الوضع ونجري له عملية أخرى بعد يومين".
تحدث عثمان أخ عمر الوحيد مستفسرًا:
"أين مكان الإصابة؟"
وبأسف رد الطبيب وهو ينظر نحوها:
"أُصيبت بعض أعضائه الداخلية، وأكثرهم تضررًا القلب، لهذا الوضع حساس قليلًا".
لم تستطع رفيف تحمل ما سمعته لتسقط مغشيًا عليها.
وبعد مرور ساعات اقتربت ممرضة من العائلة تحدثهم:
"لا يمكنكم الجلوس بشكل جماعي أمام غرفة العناية، بالعادة يمنع وجود أي مرافق بهذه الأجواء المضطربة، ولأجل الطبيب إسلام يمكن لشخص واحد فقط البقاء".
أومأ عثمان رأسه بجدية:
"نحن نعلم ونرى الوضع جيدًا، لا عليكِ، سيذهب الجميع وأبقى أنا بجانب أخي".
رفضت رفيف الذهاب لأي مكان، حاول اقناعها هو ووالديه دون فائدة ليغضب على عنادها مُصرًا على بقائه، انهارت مجددًا متوسلة له أن يتركها بجانب زوجها.
اقترب والد عمر منه ليقنعه:
"بني، لتبقى هي كي يطمئن قلبها بجانبه".
رفض عثمان وأخذها على كرامته ورجولته متحدثًا:
"لن أعود عن كلمتي، عليها أن تحترمنا، فلتذهب معكم وتعود بالغد لتطمئن".
هزت رأسها بالنفي قائلة بصوتها الباكي:
"لن أذهب لأي مكان حتى آخذه معي".
وبخبث غير عثمان من تعابير وجهه مقتربًا منها ليحدثها بلين:
"أقسم أن قلوبنا متعبة لدرجة لا تستطيع رؤيتك بهذا الوضع، اذهبي لترتاحي وعودي بالغد".
تراجعت للخلف وهي تجيبه بحركة رأسها الرافضة. وصل إسلام للمكان وقد ظهر على وجهه بوادر التعب والإرهاق الشديد.
ألقى السلام مكملًا سيره لدخول غرفة العناية المركزة لمتابعة الحالات، أوقفته بسرعة وهي تقترب منه طالبة رؤية زوجها، نظر لقربها بجانبه بعين متعبة قائلًا:
"الداخل مزدحم والحالات حرجة بشكل يؤلم القلب، أخشى أن يستاء وضعك مما ستراه عيناكِ".
نفذ صبر عثمان، تحرك صوبها:
"إلى هنا وحسب، تكلمنا بهدوء ولم يأتِ بنتيجة معك".
نظر للطبيب واعتذر على إهدار وقته:
"تفضل أنت لإكمال عملك، أعدك لن ترى أحد سواي عند خروجك".
وبحدة تحرك وأخذ الطفلة من والده متحدثًا:
"هيا لأوصلكم للمنزل".
لم يتوقع أحد إمساكه لذراع رفيف كي يسحبها بقوة تجاه المخرج.
وبينما كانت تقاوم جره لها، تدخل والده ليحررها من يده دون أن يستمع له، لم يتحمل إسلام رؤيتها بهذا الوضع تحرك ليحررها من يد عثمان متحدثًا باستنكار:
"ماذا تفعل أنت؟ أفقدت عقلك؟ لا يمكنك سحبها بهذا الشكل؟"
رد عثمان دون النظر له:
"من فضلك هذه أمور عائلية لا دخل لك بها".
واقترب ليمسك ذراعها مرة أخرى، تراجعت مختبئة خلف إسلام الذي ازداد غضبًا:
"نعم أعلم أنها عائلية ولهذا أتدخل، أم نسيت من تكون بالنسبة لي؟"
رد عثمان معاتبًا على دفاعهم عنها:
"هذا نتيجة الدلال الزائد واعتيادها على فعل ما يجول برأسها دون اعتراض من أحد، سأشتكيها لعمر عند عودته بالسلامة".
تحدث إسلام بقوة مناهضة لصوته:
"فلتنتظر إذن سلامته حتى تتحدث معه، وإلى ذلك الوقت ستبقى هي بجانب زوجها".
نظر عثمان لأمه وأبيه ليشهدهم على وقوفها خلف الغريب ضدهم، أغمض إسلام عينيه لوهلة محاولًا إراحتهما، اقتربت أم عثمان لتحدثه بصوتها الحزين المتعب:
"برضاي عنك يا ابني اتركها لتبقى".
هز رأسه بغضب ناظرًا نحو رفيف نظرة حادة تحدث بعدها:
"سأصمت لأجل وضع أخي".
ترك المكان مبتعدًا، اقتربت الأم منها وهي تطمئنها على رعايتها لحفيدتها المريضة حتى عودتهم بالغد، ثم رفعت نظرها نحو إسلام لتضع ابنها أمانة لديه وأسرعت بعدها خلف ابنها الذي علا صوته بندائه عليها.
استدار إسلام ونظر نحوها قائلًا:
"يكفيكِ بكاء ستبقين بجواره، اهدئي".
جاءه طبيب يستعجله بالدخول لغرفة العناية. وعلى عجل حدثها:
"امسحي دموعك وتماسكي، إن هدأتِ سأدخلك ليلًا لتريه".
أشار نحو المقعد المجاور:
"هيا اجلسي هناك حتى أعود إليكِ".
وتحرك مسرعًا بصحبة الطبيب لمزاولة عمله، رفعت رفيف رأسها ونظرت للسماء مناجية ربها:
"احفظه يا الله فأنا لا أملك غيره بهذه الحياة".
❈❈❈
في منزل الخال أحمد تحدثت فوزية:
"لو رأيت وجهها وحالتها المنتهية لقلت أنها هي المصابة وليس زوجها".
رد أحمد بحزن:
"كيف يريدون منها أن تتركه وتعود لمنزله وحدها؟ ألا يعلمون قدره لديها!"
وبحزن نزلت دمعة جديدة من عينيه وقلبه الحنون:
"وما أشبه اليوم بالبارحة، أعلم ما هي به الآن وكأني عدت للوراء خمسة وعشرين عامًا حين توفيت أختي وزوجها وذهبت لأستلم صغيرتنا من المشفى، يومها تمنيت لو أنها ماتت معهم كي لا تشعر بهذا الحزن والأسى والذعر الذي كان بعيونها ووجهها، قلبي يراها من هنا وهي جالسة أمام غرفته تناجي ربها أن يعيده لها سالمًا معافى".
مسحت فوزية دموعها وهي تؤمن على دعاء زوجها بخوف تلفظت به:
"ماذا إن حدث العكس؟ كيف ستتحمل وحيدتنا هذا الألم؟"
❈❈❈
في قصر صبانجي تحججت بورجو فور عودتها بدوران رأسها كي تذهب لغرفتها وتغلق عليها متصلة بأرجون على الفور لتطمئنه على الوضع:
"تمنيت لو كنت أنت من معي ورأيت صغيرنا".
اغلق غيث باب الغرفة ودخل ليجلس بجوار أمه الفرحة بقرب مجيء صغيرها محمد، ضحك معارضًا:
"لا بل ستأتي شبيهة جدتها".
ابتسمت أمه:
"شبيهتي أم شبيهة أبيك لا فرق لدي، المهم الصحة والكمال، أتمنى إن كانت فتاة لتأخذ طباعي أو طباعك فلا يمكنني تحمل نسخة أخرى من زوجتك بهذا المنزل".
ضحك على ما سمعه متحدثًا:
"الآن زوجتي! وحين تدافعين عنها تصبح وحيدة أختك ومن تبقى من عائلتك".
صمتت ليكمل:
"سأسميها مريم".
ابتسمت له بحنين، أمسكت كف يده بيدها: "أما زلت تتذكر يا بني؟"
أومأ رأسه مبتسمًا:
"هل لي أن أنسى قصة مريم بنت عمران المفضلة لدى جدي!"
شعرت بالحنين لأبيها وهي تتذكره قائلة:
"كان كلما تعثر وضاقت به الدنيا تذكر وروى لنا قصة مريم بنت عمران -عليها السلام- كم تحملت وصبرت على العبء الثقيل منتظرة من الله وحده الفرج، لجأت ووثقت وتوكلت على من لا ينام حتى جاءتها البشرى والفرج، ليكن درسًا لك يا بني، مهما جار عليك الزمن ومهما كبرت الهموم وتكالبت عليك النفوس المُظلمة كن صابرً، اسعَ جاهدًا وأنت تلجأ إلى الله وتدعوه بوقت ضيقك واثقًا بقوله تعالى "وبشر الصابرين".
أخفض غيث رأسه ليقبل يد أمه بحب كبير.
وبعد مرور بعض الوقت اتصل به ظاهر قائلًا:
"اتضح أن شكوكك حيال الأيام التي كنت تنام بها غير صحيح، بل وتأكد أنه كان عطلًا في إعداداتك".
تحرك غيث ليخرج من غرفة أمه وهو يرد برضا كبير:
"لنقول قسمة هذا ما أراد الله، لا أصدق ما حدث حتى الآن، كان بحجم البذرة في الشاشة الصغيرة".
وبسبب حساسية الوضع بالمركز الطبي لم يطل حديثهم مجددًا، أغلقا على أمل اللقاء بالغد، تحرك غيث لجناحه دون أن يجد زوجته به، ذهب ليبحث عنها بأرجاء القصر متعجبًا من اختفائها بهذه الساعة المتأخرة، خرج من المطبخ ليسمع همس صوتها الخافت يصله من جهة غرفة تنظيف الملابس.
اقترب ببطء دون فتح الاضاءة يتحسس السمع..
"لنسميه إيهان، أنا أحب هذا الاسم".
لم يُفصح عن وجوده حين تفاجأ بتحدثها عن حلمها بالسفر والعيش على السواحل الهادئة.
لحسن حظها المتكرر شعورها بوجود أحدهم بقرب الباب لتغير مجرى حديثها الذي أصبح بصيغة المؤنث..
"سأتحدث مع غيث بهذه الأحلام التي تمنيت دومًا أن أعيشها معه".
فهم أرجون حالها وأنهى الاتصال.
فتح غيث الإضاءة متسائلًا عن سبب وجودها بهذا المكان، ليتفاجأ بردة فعلها القوية حين صرخت: "أفزعتني".
احتضنها معتذرًا منها لتعاتبه بغضب:
"كيف تدخل عليّ دون مقدمات! أرعبتني".
سألها عن سبب وجودها بهذه الغرفة، توترت لوهلة محاولة إخفاء توترها بردها:
"أعجبتني رائحة معطر الأسطح بالمرة السابقة وأصبحت آتي لاستمتع بها بين الحين والآخر، لا تضحك عليّ، ليس الأمر بيدي، ابنك من أراد هذا".
نظر للهاتف بيدها متسائلًا:
"مع مَن كنتِ تشاركين اختيار اسم طفلي؟"
ردت بضيقها متأففة:
"هل بدأ التحقيق مجددًا؟"
تركته متحججة بذهابها للحمام، تحرك خلفها ليجدها بجانب فراشهم، اقترب منها ليلامس وجهها:
"أشعر أنها فتاة، ستكون مريم"
ردت بورجو مندهشة: "مريم؟"
ثم ضحكت بازدراء مبتعدة عنه، لم يسمح بابتعادها محاولًا مشاركتها فرحته وحبه للاسم اقتداءً بمريم بنت عمران، لم تتحمل اقترابه ورائحة عطره القوية، تغيرت ملامح وجهها وتمنعت بالرد عليه.
أوقفها باقترابه متفاجئ بدفعها عنه بعيدًا صارخة بوجهه دون اعتبار للوقت، تحدث دون أن يكترث لما فعلته:
"سنقضي وقتًا جميلًا معًا"، سمعتِ بأذنك ليس لديكِ مانع صحي كما كان يدعي طبيبك الفاشل، أهدرنا وقتًا كبيرًا وراء هذه المهاترات".
صرخت من جديد رافضة اقترابه:
"ابتعد عني، لا أتحمل قربك مني كيف لا تفهم هذا، هل يسمع عقلك ما أقوله؟ لا أتحمل قربك مني، أتألم كلما اقتربت، لا يمكنك الضغط عليّ وأنا بهذه الحالة".
كانت تصدمه وتدفعه عنها لإبعاده وكأنه مغتصب، تحرك وخرج من الغرفة لينام على الأريكة بعد أن أبت عزة نفسه وكرامته أن ينام بجوار شخص لا يتحمله ولا يريده.
❈❈❈
في ساعة متأخرة من الليل اقترب إسلام من مقعد رفيف النائمة بجلستها، جاءه من الخلف طبيب شاب يتحدث إليه:
"أنهينا فحص كل المرضى، الحالات مستقرة بنسبة كبيرة".
رد إسلام بصوته المتعب:
"عظيم، استمروا بعملكم فكما أخبرتكم الجميع بالمناوبة اليوم".
رد الطبيب برضا كبير:
"أرسلك الله لنا اليوم لتصبح نجاة للمصابين".
اقترب ليربت على كتف الشاب بامتنان:
"لستُ وحدي من أُرسل لنجاتهم فلقد أثبثتم لي اليوم أن بلادنا رغم أزماتها إلا أنها ما زالت تُخرج من رحمها أبطالًا مثلكم".
ابتسم وشكره طالبًا منه أن يشاركهم طعامهم.
شكره إسلام معتذرًا منه لحاجته للراحة أكثر من الطعام.
استأذن الطبيب للانصراف، تحرك وجلس على المقعد المجاور لرفيف تاركًا مسافة بينهما مستندًا بظهره للوراء ليلقي من على عاتقيه ثقل يوم مرهق نفسيًا قبل الجسدي.
نظر لوجهها بجواره محدثًا نفسه بحزن:
"كيف لكِ أن تتحملي كل هذا العبء؟ بعد كل هذه السنوات لم أتوقع للحظة أن يأتي لقاؤنا الأول بهذا الشكل، كيف سأخبرك أن ما أسميته روحك طيلة هذه السنوات سيذهب ويترككِ وحيدة؟"
اغمض إسلام عيونه مكملًا:
"أعترف لكِ بغبطة قلبي وأنا أتابع أخباركما من الأصدقاء، ولكني لم أتمنى رؤيتكما بهذا الوضع".
نام من شدة إرهاق ليلة أصبحت بقدر ألف ليلة وليلة من شدة الآلام والأحزان.
وبعد مرور ساعة على الأكثر وفى إسلام بوعده وأخذها لترى زوجها، اقتضب وجهها حيال ما تراه حولها من مشهد مهيب، تقدمها بخطواته وهو يحدثها بصوت منخفض احترامًا للوضع ليحثها على الثبات وعدم رفع نظرها تجاه المرضى كي لا تزداد سوءًا، استجابت لحديثه وتحركت بجانبه حتى وقف ليفتح ساترًا أمامها كي تدخل قبله، انصدمت بحالة زوجها، وضعت يدها على فمها مقتربة منه وهي تردد اسمه.
حذرها هامسًا:
"اعطيتني وعدًا، لا يمكنكِ رفع صوتك نحن لسنا بمفردنا".
تقدمت ممسكة يد زوجها لتهمس بضعف صوتها:
"عمر أرجوك تمسك بالحياة من أجلنا فنحن لا نستطيع بدونك".
انحنت لتضع رأسها بجانب كتفه دون لمسه باكية، شعرت بيده تضغط على يدها، تحركت سريعًا لتنظر له وقد بدأ يستعيد وعيه مهمهمًا باسمها، ابتسمت بعيون تفيض من الدمع:
"لا تخف أنا بجانبك، ستصبح بخير".
اقترب إسلام ليفحص عينيه متحدثًا معه:
"عمر هل تسمعني؟ أنا إسلام هل تراني؟"
أدار عمر رأسه نحو رفيف وهو يحدثها بصوته المنهك:
"لم أستطع حمايته".
اهتز جسدها بردها على زوجها:
"تمسك بالحياة لأجلنا نحن بحاجة إليك".
وبصعوبة ما هو به رد عمر بآخر أمنياته:
"لا تنسيني، تذكريني دائمًا".
ردت دموعها قبل لسانها الذي حدثه:
"عمر لا تقل هذا، حارب لأجلنا".
طلب منها أن تسمعه دون مقاطعة متحدثًا بصوت ضعيف خرج منه ليوصيها على نفسها.
هزت رفيف رأسها رافضة سماع كلماته باكية بقولها:
"أنت من سيحافظ عليّ، أنت من ستحمينا".
أكمل حديثه بصعوبة:
"عديني أن لا تكوني لغيري".
بدأ نبضه ينخفض، أسرع إسلام بإرجاع رفيف للخلف قائلًا بقلق:
"اهدأ، لا تجهد نفسك بالكلام".
نظر نحوها بقوة حذرها بها كي تُهدئ من صوت بكائها الذي ارتفع.
طلب منهم التحدث مع أخيه عثمان، رفض إسلام طالبًا من رفيف أن يخرجا بسرعة كي لا يضغطا على قلبه أكثر من ذلك.
عاد عمر ليحدث صديقه بصوته الضعيف:
"أريد التحدث مع عثمان".
نظر إسلام لجهاز نبض القلب وهو أكثر من يعلم بوضعه ومطلبه الأخير.
سمح لرفيف بالاتصال ملبيًا طلبه وهو يقرب الهاتف منه ليتحدث على المكبر الصوتي، بدأ كلماته الأخيرة وهو يؤمن أخيه على زوجته وابنته:
"جميع مالي وأملاكي لرفيف، لا تظلمها ولا تضغط عليها، ستكون حرة بحياتها وابنتها، ساعدها على الصمود أمام صعوبات الحياة، كن بجانبها ولا تكن عليها".
كانت كلماته أكبر دليل على فهمه لسوء أخيه.
تدهورت حالته أكثر ليسرع إسلام بإغلاق الهاتف وهو يحثه على الصمت والهدوء لأجل عائلته.
زاد من تدفق الأكسجين وبدأ بتحضير أدوية لحقنه بها، ساءت حالة عمر أكثر ليبدأ جهاز قياس النبض بإصدار أصوات عالية معلنًا توقف القلب عن النبض مجددًا.
تجمع الأطباء مسرعين بإنعاش قلبه عن طريق الصدمات الكهربائية دون استجابة، صرخت زوجته باسمه صرخة اهتزت لها كل جوارحها، حاولوا إنقاذه بكل الطرق الممكنة دون فائدة حين اختار عمر لقاء ربه.
استقام إسلام وهو ينظر لصديقه بحزن كبير قائلًا بصوت مختنق بالدموع:
"ساعة الوفاة: الرابعة وخمسة وأربعين دقيقة، سبب الوفاة: إصابات جراء قصف".
بدأ الطبيب برفع الغطاء على وجه عــمــر بعد أن أسدل القدر ستاره على حكايتهم لينهيها بتلك النهاية القاسية التي لا نملك إلا الرضى بها.
تحرك إسلام بثقل خطواته مقتربًا من رفيف الواقعة بين يد الممرضات أرضًا جاثيًا على ركبتيه والدموع تنهمر من عينيه حزنًا على فقيدهم.
❈❈❈
أرسلت بورجو رسالة تحذيرية لأرجون مضمونها
"عليك أن تجد حلًا يبعده عني، أصبحت لا أستطيع تحمله أكثر من هذا، فقد السيطرة على نفسه، أحذرك باقتراب تمكنه مني".
ازداد الوضع احتقانًا بمقاطعة غيث لنومه حتى أصبح مستيقظًا أغلب الليل على أريكته، ينظر للأعلى شاردًا بوضع زواجه وما وصلت بورجو إليه من راحة وسعادة بتلك الأيام التي اعتزلها بها وكأنها كانت تنتظر تركه لفراشه لتنعم بالحرية.
ضغط عليه عقله وأصبح يؤنب نفسه:
"صدق ظاهر أنا من أخطأ حين صمتّ وتحملت وتقبلت كل شيء يصدر منها دون معارضة".
تذكر مكالمتها الخفية وصوتها المنخفض مع من تحدثه بالإضافة إلى وضع نومه المفاجئ والمتكرر بالليالي المعدودة التي أوهمته فيها أنه يحدث شيء بينهما، ليضيق صدره ويجعله مضطربًا أكثر دون تفسير واضح.كل هذه الذكريات جعلته يقاطع زوجته بشكل كامل، يأتي بأوقات متأخرة من الليل ويدخل غرفته لينام على الأريكة دون كلام.
❈❈❈
مضت عدة أيام عصيبة على عائلة عمر النابلسي، مكثت رفيف بمنزلهم لتستقبل واجب العزاء بزوجها وابنها هناك، وبمنتصف النهار اقتربت من ابنتها التي لا زالت نائمة منذ عصر أمس لتوقظها متفاجئة بعدم استجابتها لها، ذعرت حين شعرت ببرودة جسدها، تجمع الأهل حولها، اقترب عثمان وحمل الطفلة
ليذهبوا للمشفى بسرعة.
مرت الساعات وهي بجانب ابنتها تنظر نحوها بخوف، دخلت الممرضة للاطمئنان على الطفلة متفاجئة بارتفاع حرارتها مجددًا، ذعرت وأسرعت للخارج لتستدعي الطبيب.
راقب عثمان حالتها وهي تفتح هاتفها لتتصل بإسلام مستنجدة به.
تحدث الطبيب للممرضات:
"كيف لم تنتبهوا لها؟ إنها تحترق".
حقنها بالخافض وطلب وضع كمادات سريعة، لم تأتِ الأدوية بالنتيجة المطلوبة. أسرع الطبيب بأخذ الطفلة للحمام ووضعها أسفل الماء البارد متوقعًا سماع بكائها من برودة ليالي ديسمبر القارص ولكنها لم تعطِ سوى ردة فعل كادت أن لا تُلاحظ وهذا ما أثار قلقه أكثر.
وبعد تكرار الفحوصات تبين للأطباء ما لم يتبين لهم من شهور، اتضح أن الطفلة مصابة بمرض نادر في القلب، حاول إسلام تهوين واقع مرض الصغيرة على أمها التي أتتها ضربتها الجديدة لتكسرها وتزيد مما هي فيه.
قررت رفيف العودة لمنزلها وهي تحمل حزنها بقلبها المنهك تنظر لأرجاء المنزل بحسرة ما رحل، حرمت نفسها من الحزن والبكاء على طفلها وزوجها لأجل اهتمامها بابنتها واضحاكها وتغذيتها وتوفير وسط سعيد لها رغم تدهور حالتها يومًا بعد يوم حتى اكتمال أربعة شهور على وفاة زوجها، بهذا اليوم أتتها صدمتها الجديدة حين استدعاهم إسلام إلى مكتبه..
"ظهرت نتائج الفحوصات الأخيرة، مع الأسف الوضع يزداد سوءًا، لا يمكننا الصبر أكثر من هذا. عليكم البدء بالعلاج الصحيح، أي تأخير سيؤثر بنتيجة عكسية عليها، من حسن حظنا أننا استطعنا حجز موعد لدى الطبيب المختص والذي حدثتكم عنه من قبل، أتى من الخارج وسيبقى بالعاصمة لعدة أيام، علينا السفر بوقت مبكر حتى يكون لدينا وقت كافٍ لإجراء التحاليل والأشعة إن طلب هو هذا".
حزن إسلام على بكاء رفيف، تحدث ليواسيها:
"يكفيكِ حزنًا وبكاءً، ستكون بخير أنا أثق بهذا الطبيب، سيفيدنا بشكل موسع عن حالتها".
انزعج عثمان بتحدثهما سويًا، تحرك على مقعده ليبدأ حديثه:
"لا تقلق، سنفعل كل ما يلزم من أجل شفائها.. لنذهب غدًا ونرى ماذا سيقول لنا".
اقترح إسلام أن يذهب معهم للعاصمة ليتحدث مع الطبيب ويفهم بشكل أكبر، أسرع عثمان برفضه التام مبررًا موقفه:
"لا نريد إتعابك.أنا سأتولى الأمر، حتى يمكننا أن نتصل بك ونحن بعيادة الطبيب كي تتحدث معه".
أومأ إسلام رأسه بحزن:
"كما ترون، أتمنى أن أطمئن عليها قبل سفري الذي اقترب، كانت إجازتي لمدة شهر واحد، وبعد الحادث طلبت مدها شيء فشيء حتى تخطينا الأربع أشهر، كنت أود البقاء أكثر لأجل طفلتنا ولكن.."
قاطعه عثمان بنبرة مزاحه الثقيل:
"سهل الله عملك، نستطيع تدبر أمورنا بدونك، يكفينا أن نسمع أخبارك ونفتخر بك بدول الفرنجة".
❈❈❈
لا زال غيث يزداد ضيقًا واختناقًا بشكه الذي طغى عليه دون معطيات حقيقية ملموسة، صادف قدره حين رآها تتمايل بدلع وتخفّي وهي تتحدث لأحدهم في الهاتف بساعة متأخرة من الليل.
وقف يراقبها محاولًا استراق طرف حديثها الذي تفاجأ أنه لا يصلح لتبادله مع الأصدقاء، حالفها الحظ من جديد لينقذها من سقوطها بيده، نُزعت روحه وتحطم نفسيًا تحت وطأة هذا الشعور.. اختلفت طباعه وفقد السيطرة على انفعالاته وقراراته حتى وجد نفسه يمنعها الخروج من القصر، لتفاجئه هي برفضها للخضوع له منتظرة ذهابه للشركة كي تغلق هاتفها وتخرج بعده من الباب الخلفي دون أن يعلم بها، وعند اكتشاف أمرها تقف مدافعة عن حقها بكل قوة:
"أنا لست ضعيفة لتغلق عليّ أسوار سجنك دون أن أعترض وأحارب لتحرري".
تدخلت فريدة لإقناعها بالمسالمة لزوجها كي تكسب رضاه ويعود لطبيعته. ولكنها تمسكت بعنادها ورفضها حتى تفاقم الوضع بإيقاف غيث لحساباتها المصرفية وتجميد أرصدتها البنكية لإرغامها على الخضوع له.
❈❈❈
في تلك الليلة خرجت رفيف مع عثمان متوكلين على ربهم ليبدئا طريق سفر تعدى الأربع ساعات ونصف.
وصلا بعدها للفندق المجاور لعيادة الطبيب، صُدمت رفيف من تحرك عثمان واستلقائه على الفراش بجانب ابنة أخيه، وكأنه لم يكتفِ بحركاته وكلامه المنمق طوال الطريق حتى جاء ليكمل عليها بحجزه غرفة واحدة لهما.
صُدمت من تصرفه لتتساءل:
"هل ستنام معنا بنفس الغرفة؟!"
ابتسم برده الهادئ:
"لا تخافي أنا لستُ غريبًا، كما ترين أوضاع البلد غير مستقرة وأنتما أمانة لدي، لا يمكنني التفريط بكما في مكان غريب كهذا، لم أجد حجزًا لي لهذا اضطريت لأخذ غرفة تجمعنا، أم أنكِ لا تثقين بي؟"
ردت بضيقها وعدم تصديقها ما تسمعه:
"تعلم أن الموضوع ليس له علاقة بالثقة، أعتذر منك أنا لا أقبل هذا الوضع.."
لم يصغ لها، ظل يبرر ويتحجج بخوفه عليهم حتى أغمض عينه ونام على حالته، تفاجأت من مبرراته الغير مقنعة، فهناك أكثر من حل خلاف نومهم بنفس الغرفة، تحركت وفتحت الباب لتضع حقيبتها سندًا له كي لا يغلق وحده، ودخلت الحمام لتتوضأ وتصلي فرضها.
ابتسم من خلفها لنجاح خطته وسحب الغطاء ليدفئ الطفلة بحضنه وهو يقبلها.
وعلى موعدهم الذي تم حجزه تواجدت رفيف وعثمان في عيادة الطبيب.
جلسا أمامه لسماع تشخيصه بعد أن أخذت الممرضة الطفلة النائمة لتخرج بها قبل أن يبدأ الطبيب حديثه الثقيل على القلوب المكلومة:
"مع الأسف يحزنني إخباركما أنها مصابة بمرض نادر، تدهور القلب وتمكن المرض منها بسبب تلوث الهواء الناتج عن القصف".
تساءلت الأم عن العلاج ونسبة الشفاء ليرد عليها الطبيب:
"الأدوية لا تجدي نفعًا بحالتها، فهي بمثابة مهدئات لا أكثر، توجد عملية دقيقة تجرى بمثل هذه الحالات…"
وبسرعة قاطعته الأم المكلومة:
"لنقم بإجرائها في أقرب وقت".
وبأسف رد الطبيب عليها ليقسم فؤادها: "يا ليتها بهذه السهولة، هذا النوع من العمليات مكلف جدًا، كما أنني لا أشجع عليه داخل البلد نظرًا لوضع البلد الغير محفز لها، إضافة لضعف حالة القلب الذي لا يتحمل ساعات العملية الطويلة، فلهذا من الصعب إيجاد طبيب يخاطر بإجراء هذا النوع من الجراحات في هذه الظروف".
انطفأ نور عينيها وحُطم فتات قلبها المتبقي وهي تستمع لاسترسال الطبيب مبرر عدم اكتشاف الحالة بوقت مبكر بسبب ندرتها وصعوبة الوصول إلى تشخيص دقيق وصحيح للحالة إلا بعد تفاقمها ووضوحها..
تتبع عثمان حالة رفيف بتخوف بعد أن أصبحت بوجه أحمر وعيون جاحظة منتفخة تتجمع بها الدموع.
❈❈❈
خرج غيث مع زوجته ليجلسا على الساحل بعد أن ضغطت أمه عليه كي يأخذها لنزهة قصيرة.
تحدثت بورجو بلطف طوال نزهتهم محاولة تحسين العلاقة بينهما، ظل غيث صامتًا شاردًا ينظر لها دون الشعور بها وكأنه فقد حلقة الوصل بينهما، تعزز بإجابته على أسئلتها المتكررة منها، يحرك رأسه لتكون ردًا عليها وهو يعد الدقائق والثواني لإنهاء نزهتهم، جاءه الفرج بطلبها العودة، تحرك ملبيًا طلبها حتى تفاجأت بورجو بوقوف سيارتهم أمام مركز الرعاية الخاص، استاءت من وصولهم لهذا المكان الذي لا تكره بالعالم قدره.
تحدث غيث دون النظر لها:
"سأعطي ظاهر بعض الأوراق وأعود".
خرج من سيارته مغلقًا بابها بقوة ضيقه، انتظرت دخوله المبنى الكبير حتى فتحت هاتفها لتصرخ بوجه أرجون:
"يكفي إلى هذا الحد، لا أستطيع تحمله، جد لي حلًا لأتخلص منه، انتفخ داخلي طوال النهار وهو كالحجر".
حدثها ببرودة أعصابه ليسألها عن سبب غضبها وصراخها، لتجيبه:
"فعلت كل ما اتفقنا عليه دون جدوى، لقد تحول إلى حطب حقيقي، كدت أن أموت من برودته، أوشك صبري على النفاذ، لا أستطيع تحمله، علينا أن نسافر بأقرب وقت، سأطلب الطلاق وأنتظر لألد الطفل وتسجيله على نفوسه ومن بعدها نرحل سويًا لمكان بعيد، حتى أنني لن أترك ابني على اسمه كثيرًا، بمجرد وصولنا لقبلتنا سنقوم بإجراء نسب الأبوة ونحوله على نفوسك وبهذا نكون قد قطعنا صلتنا بهم دون أن يعلموا بأمرنا".
هدئها أرجون بوعوده:
"سأجعله يدفع ثمن كل ما يفعله بكِ، اصبري قليلًا كي نجمع المزيد من الأموال ونحقق ما حلمنا به، أنتِ تعلمين، بناء حياة جديدة في مكان بعيد ليس بأمر هين، ولهذا عليكِ أن تصلحي ما بينكما لنفوز بغرضنا".
زفرت بإجابتها القوية:
"ألا يكفيك ما أعطيته لك؟ أنا لست بحاجة إليه، لدي من الأملاك ما يكفينا".
عاد ليحدثها بخبثه:
"من الجيد أنكِ ذكرتني بأمرهم، علينا أن نسرع بأمر التوكيل العام حتى أستطيع بيع جميع أملاككِ قبل السفر، كما تعلمين بيعهم بسعر مناسب ليس بسهل".
تغيرت نظراتها فجأة وبدأ الشك يتسلل لقلبها من كثرة اهتمامه الزائد بالمال وتأكيده على سرعة إتمام التوكيل العام بكل مكالمة وردت بينهما في الآونة الاخيرة.
وفور رؤيتها لقدوم زوجها أغلقت هاتفها وأخفته بحقيبتها وهي تنظر لصمته الذي طال حتى عودتهم.