ظهَر من تشريح الجثة أنَّ نابوليون كان مُصابًا بالسُّلِّ الرِّئوي وقرحةٍ سرطانية في
المعدة، أمَّا احتقان الكبد فقد أنْكَرَه البعض من الإنكليز كي لا يُقال إنَّ مناخ الجزيرة
قضى عليه، وإذا كان اتفق الأطباء في حياته على تشخيص الْتهاب الكبد؛ فلأنَّ الداء كان
متفشِّيًا في تلك البقعة، فلم تنصرف أفكارُهم إلى سواه، ونتج عن خطأ التشخيص خطأُ
العلاج، فأكثروا من العقاقير المهيِّجة كالزئبق وغيره، على الرغم من تألُّمه ومُمانعته.
مسكين! كم تناول من المسهِّلات والمعرِّقات والمقيِّئات والحبوب والحقن والأشربة المختلفة
والمغاطس المالحة! معالجة قاسية عقيمة خالية من الرحمة! هيهات أن يَقْوَى على
احتمالها أشدُّ الأجسام صلابةً! قيل إنَّه قال يومًا لِمَن قدَّم له الدواء: دَعْني، وليكن مَوْتي
من الداء لا الدواء، وقال لمونتومارشي: خلِّ أدويتَك جانبًا أيُّها الطبيب؛ فإني لا أرُيد أن
أصُاب بعلَّتين: مرضيوالمرض الذي تعطيني إياه.
ولا ريب أنَّه لو وُجد نابوليون لعهْدنا هذا لكان نصيبه من المعالجة أحسنَ وأرقى؛
فإنَّ تشخيص الداء في حينه يُساعِد على محاربته وتخفيف أعراضه، وإنْ لم يَصِلْ إلى
قتْل جرثومته أو تغيير الوراثة.
ما يقول العلم عن وراثة السرطان؟
اتفق أكثر الأطباء على أنَّ السرطان ليس وراثيٍّا، وأهم مَن يؤيِّد هذه الفكرة
الأستاذان دلبه وكنير من باريس، ولا يَخفَى أهمية ذلك من الوجهة الاجتماعية، ولا سيَّما
في مسائل الزواج، ومن الأدلة على صحة هذا الرأْي أنَّك قلَّما تَجِد بين المرضى بالسرطان
مَن ورث ذلك عن أبيه، وبالعكس، فإنَّ غير واحد من المصابين بأمراض مختلفة كان
السرطان عند آبائهم ولم ينتقل إليهم.
إنَّ آفة أسرة بونابرت هي الأرترتيسم لا السرطان، وقد حاوَلْنا تفسيرَ هذه الكلمة في
صدر الكتاب، فلا نعود إليها خوفًا من أن نَزِيدَها غموضًا، كانتْ والدة نابوليون مُصابةً
بالأوجاع العصبية، وأبوه بالسرطان، فجاء حاملًا هذا المزاج المرضي؛ أي الأرترتيسم
الذي مِن أعراضه البواسير والإمساك وسوء الهضم والإكزيما، والسِّمَن والإحساس الزائد
بالبرد وضعف الكبد والصداع ومرض الكلية، وكلُّ هذه الأعراض اجتمعتْ فيه على نِسَبٍ
مختلفةٍ، وقد وجدوا لدى تشريحه حصًى كثيرًا في المثانة.
وعلى الجملة، فإنَّ نابوليون بونابرت إمبراطور فرنسا ومدوِّخ العالم وسجين
هدسون لو كان صورةً من صُوَر ذلك المزاج الأرتريتيكي الذي يقتُل صاحبَه، وتاريخُه
هذا درسٌ من دروس الطب العام يجد كلُّ واحدٍ منَّا فائدةً فيه، كما قال أوغست كونت:
«. الأمواتُ يُدِيرون الأحياءَ