محمود محمد عبد المنعم السيد
وقعت أحداث تلك القصة في عام 1995 بإحدى قرى محافظة المنوفية.
على العكس من كل منازل القرية، كان منزل الحشايشة يطل على المقابر ولا يفصله عنها سوى قطعة أرض لا أتذكر إلا أنها كانت مزروعة برسيم، وعلى الرغم من ذلك، فإنني لا أتذكر أن المنزل كان مقبضاً، بل على العكس من ذلك كان المنزل يمثل لنا مصدراً للسعادة كلما سافرنا للبلد.
كنا قد دُعينا لحضور حفلة زفاف ابنة خال أمي بالبلد، كنا في شهر ديسمبر وكان الجو بارداً، خاصة وأن تلك المنطقة مليئة بالزراعات، كان المنزل محاطاً بالزراعات من كل ناحية، فمن واجهته يمكنك رؤية المقابر، ومن الباب الخلفي كانت هناك ترعة صغيرة تبتعد عن المنزل قرابة ال 200 متر، ومن جهة المنزل الشرقية كانت الأراضي الزراعية ممتدة على مرمى البصر، أما على الجانب الغربي له فكان هناك الطريق الرئيسي أو الزراعية كما يسمونها.
كان المنزل مكوناً من طابق واحد، وعلى السطح كانت هناك عشة لتربية الطيور، فرندة المنزل كانت واسعة جداً وبها تعريشة عنب رائعة، ومن تلك الفرندة يمكنك أن ترى حقل البرسيم الصغير الذي تتبعه المقابر.
وصلنا البلد صباح يوم الخميس، فلقد استأجر جدي أبو أمي ميكروباص سافرنا به، بداخل الميكروباص كان هناك أبي وأمي وأختي وأنا وخالي وأسرته وجدتي أم أمي، كان الميكروباص يقطع الزراعية ببطء حيث كان الطريق غير معبد، ولقد كان المشهد من نافذة الميكروباص رائعاً بشكل يصعب معه الوصف، كان وكأنه لوحة فنية حقيقية.
كانت الزراعات تمتد على يسار الطريق، وبمحاذاة تلك الزراعات كان المزارعون يسيرون بجانب دوابهم أو يركبون الحمير والسعادة تملأ وجوههم، إنها البساطة في أبهى صورها، ولكن الطقس كان بارداً، ولم يكن اليوم مشمساً بل كانت الغيوم تملأ السماء بما ينذر بهطول الأمطار، إلا أن تلك الغيوم مع امتداد الزراعات كانت لها تأثيراً ساحراً على قلبي ووقع جميل علينا.
أخبرنا السائق أنه لم تتبقَ سوى بضعة أمتار على المنزل، ولكن الغيوم ازدادت في السماء أكثر فأكثر ثم بدأت قطرات المطر الخفيفة تتساقط، وكلما تقدمت السيارة كلما ازدادت حدة الأمطار، أخيراً ظهر المنزل واستطعت أن أراه واضحاً، لقد كان هو المنزل الوحيد بين كل تلك الزراعات، على يمين الزراعية دخلت السيارة بطريق صغير داخل الزراعات وهو الطريق الذي يوصل للمنزل مباشرة.
عندما توقفت السيارة أمام المنزل كان خال أمي واقفاً وقد رفع عباءته فوق رأسه للاحتماء من الأمطار، لقد كان المنظر رائعاً، خاصة عندما ابتلت الزراعات والتمعت خضرتها بفعل المياه، دخلت السيدات للمنزل بسرعة ومعهن الأطفال، بينما بقي الرجال في الخارج مع السائق كي ينزلون الحقائب، استأذن السائق في البقاء الليلة حتى تتوقف الأمطار وتجف الطرق، وهو ما رحب به خال أمي بشدة.
جلسنا في الفرندة تحت الجزء المسقوف منها، فاستطعت أن أرى المقابر، لقد غسلتها الأمطار، فأصبح منظرها المبتل مع كل ذلك الخضار حولها باعثاً للطمأنينة لا للقلق، وكان المنزل محاطاً بسور خشبي قصير من الأربع جهات، وبين باب المنزل الرئيسي وبوابة ذلك السور كانت هناك حديقة صغيرة مزروعة بالزهور، كان هناك باب آخر جانبي بإحدى جوانب المنزل ولكنه كان مرتفعاً عن الأرض بمقدار ثلاث درجات من السلالم، كان ذلك هو باب غرفة الضيوف.
كانت الحركة تدب في كل أنحاء المنزل، الطباخ ومساعديه يدخلون ويخرجون، والذبائح قد ذبحت، فالتقاليد تُوجب أن يتم إطعام أهل القرية كلها ساعة الغذاء، ثم يغادرون المنزل ليعودوا مساءً ليحضروا الفرح، ثم تنتهي الليلة بعد ذلك ويغلق باب غرفة نوم العروسين عليهم بعد زفة تلف القرية، لم تتوقف الأمطار، بل اشتدت حدة حتى استحالت كل الطرق بداخل القرية لمستنقعات من الوحل وعلى الرغم من ذلك، فلم يمنع ذلك الطقس السيء الناس وأهالي القرية من الحضور لتقديم التهاني.
إلا أن شدة الأمطار أدت إلى إلغاء الزفة وإنهاء جلسة السمر التي تجمع كل رجال القرية في حلقات حول الجوزة، فانتهت مراسم الفرح سريعاً وغادر الضيوف، وذهب العروسين لمنزل العريس وأهله الموجود بنفس القرية، لتبدأ أحداث تلك الليلة الرهيبة التي لن أنساها أبداً.
كنا جالسين في الفرندة، فلقد أصر خالي أشرف على الجلوس في الفرندة لنشوي الذرة، فجلس الرجال في الفرندة بينما النساء آثرن البقاء داخل المنزل، وبينما نحن هكذا رأينا شاباً داخلاً من باب المنزل فأخبرنا رامي ابن خالي أن هذا هو قطب صديقه ولقد جاء ليقضي معنا الليلة فرحب به خال أمي ودعاه للجلوس، مرت ساعتان ونحن على هذا الحال، حتى ظهرت فجأة امرأة عجوز تملأ التجاعيد وجهها ولا أعلم كيف ظهرت فجأة وكيف جاءت تحت هذه الأمطار الشديدة!، كان شكلها مخيفاً حتى أن جدي قال "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم".
انتابني خوف شديد في أول الأمر حتى خال أمي بدت على وجهه ملامح القلق، إلا أنه استجمع رباطة جأشه وسألها:
- خير يا حاجة؟
نظرت المرأة له بتمعن ثم قالت:
- أريدك على انفراد يا حاج.
شرد قليلاً ثم غادر مكانه وانفرد بها أسفل تعريشة العنب، هل تخونني عيناي أم أن ما أراه صحيح؟! إن المرأة غير مبتلة ولا تبتل بالرغم من أن قطرات المياه تتساقط عليها!، بعد كلمات قليلة خرجت من بوابة المنزل واتجهت ناحية المقابر نظرنا جميعاً لخال أمي، كان مذعوراً وعندما نظرت للمرأة مرة أخرى لم أجدها، لو أنها كانت تعدو لما اختفت بتلك السرعة!، كيف اختفت في تلك اللحظة التي نظرت فيها ناحية خال أمي.
تحرك خال أمي مشيراً لنا كي نتبعه متخلياً عن وقاره المعهود، اتجه مسرعاً ناحية أحد جوانب المنزل غير آبه بذلك المطر الشديد. أمر قطب أن يحضر له معولاً، فاختفى قطب لدقيقة ثم عاد بفأس من الفناء الخلفي للمنزل، تناوله خال أمي ثم خلع الدرجة الأولى من السلالم التي تؤدي إلى المندرة وما أن خلعها حتى وجدنا أسفلها بطة منتوفة الريش ميتة، مرسوم عليها علامات وطلاسم، وقد تم غرز العديد من المسامير بها، استعاذ الجميع من الشيطان الرجيم بمجرد رؤية المنظر ولكن سرعان ما حملها قطب وجرى بها ناحية الترعة، نادى عليه الجميع وحاول رامي اللحاق به إلا أن أبوه منعه من اللحاق بصديقه.
جلسنا بالفرندة منتظرين عودة قطب وقد ابتلت ملابسنا وعزمنا أن ندخل المنزل بمجرد عودة قطب ولكنه لم يعد!، ساد القلق والذعر، ولأول مرة أصبحت المقابر مخيفة، انتظرنا نصف ساعة أخرى ولكن قطب لم يعد، لذلك عزم خالي صلاح أن يذهب بنفسه لكي يبحث عنه ولكن خالي الأصغر أصر أن يصطحبه فذهب معه وأخذا معهما السائق، فذهبوا جميعاً وبعد لحظات غابوا عن أنظارنا.
فجأة سمعنا صراخاً قادماً من الداخل، فهرعنا جميعاً لدخول المنزل لنجد طنط نجاة زوجة خال أمي تتكلم بصوت رجل، أو كأن رجل يتكلم بحنجرتها، وعلى فمها آثار دماء، وعندما نظرنا لبقية النساء، وجدنا أن ابنتها تمسك بكتفها الذي بدا عليه آثار دماء عنيفة، وتخيلت ما حدث لقد قامت بعضها حتى انتزعت قطعة من لحمها بأسنانها!، لم يستطع أحد أن يتحرك أو أن يمسك بها ولكن صوت الرجل خرج من فمها قوياً قائلاً "غادروا المنزل حالاً".
خرجت النساء من المنزل، حين انطلق خال أمي ناحية زوجته محاولاً الإمساك بها، ولكنها ضربته بقوة في صدره ضربة أسقطته أرضاً، ثم قالت له بصوت الرجل مرة أخرى "غادرونا المنزل حالاً!"
كنا نجلس في الفرندة بينما القلق والرعب يسيطرون علينا، لم يعد منظر المقابر يحتمل، الرعب في كل مكان وصوت الرجل من داخل المنزل يتعالى، خرج أبي من داخل المنزل بصحبه جدي رشاد وأمرونا أن نتوجه ناحية الميكروباص، ركبنا الميكروباص بسرعة، ثم أدار أبي المحرك بينما أخذ صوت الرجل الصادر من داخل المنزل يتعالى أكثر فأكثر، سألت جدتي عن أخيها فأخبرها جدي أنه طلب معونة من أحد الشيوخ في الهاتف وأخبره الشيخ أنه سيصل خلال دقائق ثم أخبرها أنهم سيوصلوننا لبيت عائلته ثم سيعودون مجدداً.
كان الطريق مظلماً تماماً إلا من نور السيارة، والأمطار لم تخف حدتها بل ازدادت، وكانت حركة الميكروباص بطيئة جداً بعد أن استحالت الزراعية لمستنقعات، أمر جدي أبي أن ينطلق ناحية الترعة حتى يقل أخوالي والسائق وهو ما فعله أبي بالفعل، ولكن فجأة ظهر رجل على جانب الزراعية، شكله مخيف، لم تكن هيئته غريبة بل بالعكس كان يبدو كمزارع، كان واقفاً بثبات ممسكاً بيده كشافاً وعلى وجهه تلك الابتسامة البلهاء، قال جدي صائحاً لا تنظرون ناحيته ولا تنظر ناحيته يا محمد، لأول مرة أسمع صوته يتخلله ذلك الخوف، دفنت أمي وجهي في صدرها بينما كان الفضول يقتلني، بعد عدة أمتار وبعد أن هدأت الأمور قليلاً، ظهر نفس الرجل مرة أخرى بنفس الهيئة، فقال جدي "سلام قولاً من رب رحيم"، وتحاشينا النظر له مجدداً.
أخيراً، وصلنا عند الترعة فوجدنا أخوالي والسائق واقفين في حالة ذهول، نادى أبي عليهم، فلم يستجيبوا فهم بالنزول ليحضرهم إلا أن جدي أمره أن يبقى وسينزل هو وطلب منه ألا يوقف المحرك أبداً، نزل جدي من السيارة وجذبهم من أكمامهم والغريب أنهم استجابوا له وتحركوا معه حركه ديناميكية وكأنهم مسلوبين الإرادة، ثم ركبوا السيارة وانطلق أبي بها مجدداً.
بدأ جدي يصف لأبي الطريق لمنزل عائلته، وبينما هم كذلك فوجئنا بامرأة تقفز على مقدمة الميكروباص، خفف أبي من سرعة السيارة إلا أن جدي قال صارخاً "لا تقف لها ولا تنظر لعينيها أبداً يا محمد" كانت تضحك بهستيريا وهي متشبثة بالشبكة التي تعتلي الميكروباص، تبينت وجهها للحظة خاطفة قبل أن تدفن أمي رأسي في صدرها مرة أخرى، تعالت صرخات النساء، فازداد التوتر، بينما كانت السيارة تتأرجح بفعل حركة تلك السيدة التي كانت تقفز فوق السيارة الآن وبدا وكأنها تستمتع بخوفنا، سمعنا صوت ضحكاتها، ثم سمعناها تقول بصوت كالفحيح "توقف يا محمد"، فقال له جدي صارخاً لا تستمع لها يا محمد!، ثم فجأة اختفى كل شيء ووصلنا المنزل الآخر.
في صباح اليوم التالي عُدنا للقاهرة، عرفنا بعد ذلك من أخوالي أنهم لم يعثروا على قطب، وأنهم رأوا أشياء مخيفة أصابتهم بالصدمة، وعرفت بعد ذلك أن شيخاً استطاع إخراج الجن من طنط نجاة، وقال الشيخ أن المنزل الذي كان به عمل، أما قطب فلم يعد حتى الآن، لم أزر المنزل مرة أخرى بعد تلك الحادثة إلا بعد سنوات ولم نبيت فيه أبداً.
* * *