Darebhar

Share to Social Media

محاسن علي عبد الرحيم

من داخل سقيفة البيت سمعنا جلبة بالخارج وأصوات عالية مع بزوغ أول ضوء للفجر وقد كنا نتحلق حول جمرات النار المضرمة في جذع نخلة عجوز، عند خروجنا كنتُ متشبثاً بذيل جلباب جدتي تتبعنا زوجة عمي، والتي في لحظات سبقتنا إلى الحلقة المتجمهرة من الناس وجدنا جسد مسجى مضجر في دمائه ومغطى بفروع صغيرة من شجرة الصفصاف والسيسبان تظهر منه بعض ملابسه الميري التي تنبئ عن كونه عسكري في الجيش والوجه مغطى بجريدة، ارتفع صوت زوجة عمي وهي تصرخ أخويا حسن، إنه هو بلباس الجهادية، أرادت أن تكشف وجهه لكن الوقوف منعوها وتحت إصرارها، كشفوا لها وجهه وكنت أنا وجدتي قد وصلنا إليه رأيت وجهه ممزق أشلاء تغطي ملامحه دماء غزيرة مع ضياع لتلك الملامح، لقد كان وجهه مسوى بالأرض من تحته، المنظر كان مخيفًا فظيعًا؛ لقد دهسه قطار، وبالرغم من ضياع الملامح إلا أن زوجة عمي قالت الحمد لله ليس حسن؛ بعد أن قلبت في أصابع يديه لأن أخوها حسن كان مقطوع الخنصر الأيمن، بدأ الناس يتساءلون هل سقط من القطار؟ أم أنه عابر للسكة الحديد؟، لا لا يمكن أن يكون عابراً؛ لأن هذه المنطقة ليس بها منازل غير بيتنا ويفصل بيننا وبين الخط الحديدي سد من جذوع النخل أقمناه فوق مياه ترعة عميقة ولا يمر عليه إلا نحن و أهلنا إذا هو غريب سقط من القطار كلّ شيء من حولي بدأ بالتسارع، وصار الناس يهرعون إلى مكان الحادث، أصبت بالذهول مدة من الزمن لا أدري كم مر عليّ من الزمن لقد حسبته دهراً!، وقفتُ مكاني لم أستطع التحرك أو النطق بشيء، لقد كنتُ متجمّد!، كلوح ثلج في ليلة شديدة البرودة جف حلقي و أصابني الخرس لقد فقدت القدرة على النطق والحركة، تخيلت أنني أشاهد لقطة من فيلم سينمائيّ أجنبي، عندما رأيت أحد الرجال يمسك جزء من ساق العسكري كانت قد بترت وابتعدت عنه، مشهد لا يمكن تصديقه؛ أنني أول مرة أشاهد حادثة لقطار من قرب، سامح الله زوجة عمي التي أصرت على كشف الوجه!
لا أدري من أبلغ رجال الشرطة والإسعاف، شاهدتهم يطلبون من الناس الابتعاد عن مكان الحادث؛ حتى يتسنى لهم القيام بعملهم، شرع المسعفون بنقل الجسد والساق إلى سيارة الإسعاف بينما البعض منهم يجمعون بقايا العسكري من بين الأحجار بمهارة شديدة وأدوات دقيقة، خرجتُ من حالة الشعور وصرت في حال من اللاوعي واللا إدراك بما يدور حولي، بعد أيّام من الحادث صرت كلّما مررتُ فوق شريط السكة الحديد، ينتابني خوف وهلع شديد وكلما تعثرت في فرع شجرة أو قطعة خشب انتفض قلبي وتعالت دقاته وأصابت جسدي قشعريرة ورعشة؛ لأني أحسبها ساق العسكري المبتورة، وحتى في الليل صرتُ أشاهد الحادث في منامي، وأشاهد الجسد المسجى والساق تسرع إليه وتلتحم به، فيقف الجندي ثم يأتي القطار مسرعاً ويدهسه!.
في إحدى الليالي المعتمة، سمعنا صوت ارتطام قوي في مياه الترعة، مما جعل بعض نسوة المنزل يفتحن النافذة بحذر، خرج والدي يتدرع بندقيته وصوته يعلو مين هناك، هدأ الصوت، ثم قالت جدتي للنسوة ألم أقل لكم اطبخوا العدس حتى يتم سكبه مكان الحادث؟!، قبل أن تمر ثلاثة أيام، نطقت إحداهن بتلعثم، لقد سكبناه يوم الرابع عندما تذكرنا!
الجدة: بعد اليوم الرابع لا طائل منه سوف تشاهدن أيام سوداء؛ لأنه يبدو أنه مارد قوي وليس عفريت، انكمشتُ في حجر جدتي وخبأت رأسي في صدرها شعرت بخوف شديد، رغم أنني أحب أن أستمع إلى حكايات جدتي وزوجة عمي عن العفاريت في أيامنا هذه أو في أيام الأجداد القدامى قصص شاهدت بعضها بالفعل فدائماً كنت أنا وأبناء عمي ننصت بشغف لمثل هذه الحكايات ثم نبكي من الخوف قبل أن ننام، رغم أني قد صرتُ عجوزاً في الستين من عمري إلا أنني أتذكر هذه الحادثة والتي عاصرتها ورأيت بأم عيني عفريت هذا الشاب عندما يتحول لحوت كبير يشق عنان المياه مسرعاً ثم يعلوها ويهبط محدثاً ضجة عالية وغيرها من الحكايات، كانت جدتي تحكي لنا عن الأرانب الكثيرة التي تنتشر قبل صلاة الفجر وتشاهدها بعض نسوة العائلة عند ذهابهن لزيارة المقابر، وأكثر الحكايات رعباً حكاية أبو حنطور والذي كان يسمعه كل مستيقظ بعد الساعة الواحدة ليلاً، يسمعون صوت عربة الحنطور والذي يجرها حصان قوي كان صوت جري الحصان بالعربة يزلزل الجسر الترابي، لقد قتله اللصوص أثناء عمله بالليل وسرقوا أمواله وحنطوره، ثم هربوا ولم يتم القبض عليهم لذلك روحه لا تهدأ ولا تسكن يريد القصاص منهم حكت لنا مرة عن قريبة لنا أنا أعرفها ستي (فوز) أخذها حمار الليل أي أنها رأت ضوء ما بعد منتصف الليل وحسبته ضوء الفجر فقامت من بيتها لبيت والدها والذي يبعد ثمانية كيلو مترات وأثناء مشيها لمحت خلفها ولدها البكري عبد المجيد فسعدت به وشعرت بالأنس وأخذت تحدثه وهو يرد عليها حتى قاربت على وصول بيت والدها دعت له بطول العمر وهنا قال لها من أين طولة العمر والعمر قد انتهى؟! لقد قتلني الخونة وهنا اختفى!
وأنا أكتب لكم الآن انتابت جسدي قشعريرة، عندما سمعت طرقاً على باب غرفتي، والذي وجدته مفتوحاً عند تفقدي له، ها أنا ذا أشاهد خيال أسود على أرضية الغرفة، قمت مسرعاً أضأت نور الغرفة والغرف المجاورة، ورغم الإضاءة التي غمرت كل الأرجاء حولي إلا إنني أشاهد بعض الخيالات التي تمر سريعة وألمحها بطرف عيني، كما يصل إلى سمعي أصوات مفاجئة عبارة عن ارتطام ووقوع أشياء كبيرة مثلما تسمع صوت وقوع سيارة أو صاروخ مما يشعرني بالفزع والهلع ويجعلني أتسمر مكاني، إننا الآن في العام الثاني والعشرين بعد الألف الثانية فلا وجود للعفاريت والمردة في حياتنا وكما يقولون ما عفريت إلا بني آدم لقد شعرت بحكة غريبة في أصابع يدي وكفهما، وأريد أن أقوم بغسلهما؛ حتى أعاود الكتابة مرة أخرى ولكني لا أستطيع مغادرة المقعد الذي تجبست فوقه خلف مكتبي الصغير تزداد الحكة والتنميل في يدي لذلك سوف أتوقف عن الكتابة الآن.
لماذا يحدث ذلك الآن هل العسكري لا يريدني أن أكتب قصته؟!
ها أنا ذا أعود بعد أيام لأكتب لكم عن العسكري بعد أن هدأ تنميل أصابعي قليلاً مما حباني أن أمسك القلم مرة أخرى ولكن مازال ذراعي يؤلمني وأضعه في حامل الذراع، لقد نغص علينا شبح العسكري حياتنا وحوّل ليالي السمر والضحك إلى ليالي حالكة الظلمة، بعد أن نسمع صوت المياه المتناثرة في كل ليلة نسمع وقع أقدامه وصوت أنفاسه اللاهثة ثم صراخه وعويله ثم بكائه بحسره ويعاود مرة أخرى وفي الصباح نجد المياه قد غطت الحديقة وكأننا أمسينا في ليلة مطيرة.
في أحد الليالي كنا نقيم وليمة كبيرة لأقاربنا والجميع في داخل المندرة، عندما سمعت صوت قريب لنا يقف على حافة السد الشرقية ويريد من يعديه السد، ومع وصول صوت الأهل والأقارب الموجودين في الوليمة شعرت بالأنس، واستقبلت قريبنا سلمت عليه ورحبت به ومررنا فوق السد وفي المنتصف سقط من فوق السد لأسفل المياه وهو ممسك بيدي يجذبني معه ولا أدري إلا الآن كيف نجوت!، ثم شاهدت الجسم الضخم الذي يرتفع من المياه وكان يسموه جاموسة العسكري ولأول مرة أشاهده من قرب وجدته حوت ضخم يعلو ثم يهبط محدثاً ضجة عالية، ثم يشق عنان المياه بزعنفة عالية هي زعنفة قرش ضخم.
فتحت عيناي وأنا أشعر بالإرهاق والتعب وسمعت والدتي تقول الحمد لله لقد أفاق أغمضت عيناي مرة أخرى بعد أن شاهدت جمع من الناس يحملقون بي وبينهم قريبي الذي سقط في الترعة العميقة!، شممت رائحة بصل يشق خياشيم أنفي ومياه تغطي وجهي وجسدي مما جعلني أنتفض وأفتح عيناي وهنا سمعت جدتي تشكر قريبنا لأنه وجدني ملقى وسط السد ولولاه لسقطت في المياه.
بعد هذه الحادثة لم أكن أستطيع النوم في سريري بعيداً عن جدتي فدائماً أنام في حجرها.
في نهار أحد أيام الشتاء كان الجميع في السهراية أمام المنزل عندما عبرت سيدة السد تغطي وجهها بردة، بان وجهها الذي غطى جماله على ضوء الشمس، رحبت بها جدتي وقامت النسوة معها بكرم الضيافة، ثم سألتها جدتي عن اسمها وسبب قدومها إلينا ذكرت أن اسمها جميلة وهي اسم على مسمى، باغتتنا بالبكاء الشديد والذي تحول لعويل وصراخ ثم لعديد على الأحباب الذين فارقونا شرع النسوة في تهدئتها ولكن جدتي نهرتهم، اتركوها تخرج أحزانها المكبوتة، ثم هدأت من البكاء ولكن جسدها كان يرتعش، قدّمنا لها كوب من الزنجبيل شربته وشعرت بالدفء بدأت بالحديث، كان (علي) يعمل في حقل والدي شاهدني عند توصيلي للغداء يومياً أصبحت عادة محببة أن أشاهده وأتحدث معه كان رقيق القلب، اتخذه والدي ابناً له يحمي أرضه وعرضه لبناته الخمس أراد أن يزوجني له فرحت وبكت والدتي من الفرح أن منّ الله عليها بالولد الذي حرمت منه، يوم الزفاف وأثناء كتب الكتاب دخل ابن عمي دارنا وصوته عالي أنا أحق ببنت عمي لن تكشف على رجل غيري!
قال له والدي سوف أزوجها لك بعد أن تنهي فترة الجهادية، وفي ذلك الوقت سافر (علي) للجهادية أيضا، وانقطعت أخباره عنا ولكن كان قد أخذ قلبي معه وصورة صغيرة لي، تزوجت ابن عمي، ولكنه شعر أن قلبي لن يملكه يوماً ما ازدادت المشادات بيننا يومياً وفي يوم من الأيام قال لي حتى لو انتظرت (علي) باقي العمر فلن يأتي، لقد قابلته وهو مسافر إلى الجهادية في القطار وطعنته بسكين في قلبه وألقيته من القطار!
تحسست خبره وجئت أسألكم هل وجد أحد منكم سلسلة فضية بها قلب صغير هي ما تبقى لي من علي؟
كانت زوجة عمي قد وجدت سلسلة على شكل قلب مغلق بها صورة رجل وصورة فتاة، أسرعت وأحضرت لها السلسلة وهي تقول ألم أقل لكنّ أنا إحداهن سوف تأتي من أجلها وأنتن تطلبن مني أن أسلمها للعمدة كي يسلمها للمركز.
خذي يا بنيتي أمانتك، ودعتنا وفي عيونها دموع لا تنتهي وغصة في حلقها تمنعها من وداعنا بالكلام.
بعد عدة أعوام اختفى شبح العسكري بدون تدخل من أحد ولا أحد يعلم سبب اختفائه هل لأن روحه صعدت من برزخها بعد اكتشاف قاتله الذي رماه من القطار، أم لأن السلسلة وصلت لمن يحب واطمئن أنه مازال في قلبها رغم فناء جسده، أم بسبب دخول الكهرباء لكل الناحية؟

* * *
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.