hindawiorg

Share to Social Media

تُمثِّل مجموعة المُخترَعات التي ابتكرها الإنسان وغيَّرت وجه الحياة في عالم التنقُّل والسفر؛
إنجازاتٍ بارزةً إن لم تكن ذات أهمية عظمى في تاريخ البشر. بدأت تلك المُخترَعات بالسكك
الحديدية وانتهت بعد قرن أو أكثر بالطرق السريعة والطرق المُعبَّدة. هذه المخترعات،
بالإضافة إلى ابتكار الشركات المُساهِمة ذات المسئولية المحدودة وإحلال عمال مهَرة وآلات
مُبتكَرة محل المُزارِعين، أدَّت لتركُّز البشر في مدن بمساحات هائلة غير مسبوقة وأحدثت
ثورة مُتكامِلة في حياتهم، وأصبح مُستغرَبًا، بعد تحقُّق كل هذا، أن أحدًا لم يتنبأ بحدوثه
على نحو أكثر وضوحًا. لكن يبدو أنه لم يتم حتى اقتراح أي خطوات لتوقُّع ما ستجلبه
هذه الثورة من شقاء وألم، كما يبدو أن فكرة المُحرَّمات الأخلاقية، والعقوبات، والامتيازات،
والحقوق، ومفهوم التملُّك، والمسئولية، والراحة، والجمال، التي جعلت دول الماضيالزراعية
بالأساس سعيدة ومُزدهِرة؛ ستفشل في مُواجَهة السيل الجديد من الفرصوعوامل الجذب
التي لم تكن تطرأ على ذهن من عاشوا في القرن التاسع عشر. لم يطرأ على ذهن أحد أنه
من الممكن أن يُصبِح أي مُواطِن، كان يعيش حياة تقليدية بعدل وكرم، جشِعًا غادرًا إذا
ما أصبح أحد حملة الأسهم في الشركات؛ أو أن تُصبِح أساليب التجارة التي كانت تتسم
بالشرف والعقلانية في الريف القديم مُميتة وساحقة على نطاق واسع؛ أو أن الإحسان
والصدقة أصبحا طُرقًا حديثة لإفقار الناس وأن التوظيف أصبح استعبادًا للناس في
ظروف غير صحية وبأجور زهيدة — وهو ما أدَّى إلى جعل مُراجَعة وتوسيع نطاق حقوق
وواجبات البشر أمرًا حتميٍّا. هذه الأمور لم يمكن لعقلية القرن التاسع عشر الرجعية أن
تتخيلها أو تقوى على تطبيقها؛ إذ نشأت وترعرعت على نظام تعليم بالٍ تحكُمه القواعد
السائدة في كل مناحي التفكير. كان معلومًا أن تكدُّسالبشرفي المدن يُؤدِّي إلى ظهور أوبئة
جديدة لم يسبق ظهور مثلها. كان ثَمة تطوُّر سريع في الصحة العامة، لكن أمراضًا مثل
المُقامَرة، والربا، والتبذير، والاستبداد، تفشَّت ونجم عنها تبعات مُروِّعة تفوق استيعاب
عقلية القرن التاسع عشر؛ لذا فإن نمو المدن المُزدحِمة التعيسة التي ميَّزت القرن الحادي
والعشرين قد حدث كما لو كان عملية جامدة تمَّت بدون أن تُعيقها إرادة البشر الإبداعية.
كان المجتمع الحديث مُقسَّمًا إلى ثلاث طبقات رئيسية. كان على القمة يقبع أصحاب
الأملاك الفاحشو الثراء، لكن بالصدفة وليس عن تخطيط؛ كما كانوا يمتلكون السلطة
ولكن كان ينقصهم الهدف والإرادة، وكانوا يبدون كأحدث تجسيد لهاملت في العالم. أما
في القاع فكان يقبع حشد ضخم من العمال الذين يعملون لدىشركات عملاقة احتكارية.
وبين هؤلاء وأولئك كانت توجد طبقة مُتوسِّطة آخِذة في التآكُل تضم موظفين من جميع
المجالات مثل رؤساء العمال، والمُديرين، والأطباء، والمُحامين، والفنانين، والباحثين؛ كما كان
بينهم كذلك طبقة الأغنياء ذوي الثروة المحدودة وهم من أبناء الطبقة المُتوسِّطة الذين
يعيشون حالة غير آمنة من الترف وتكهُّنات مضطربة في خِضَم قرارات وتحرُّكات كبار
المُديرين.
روَينا بالفعل قصة حب وزواج شخصَينمن الطبقة المُتوسِّطة؛ وكيفاستطاعا تجاوُز
العقبات فيما بينهما وكيف حاوَلا عيش الحياة على الطراز القديم البسيط في الريف ثم
عادا بسرعة إلى مدينة لندن. لم يكن دينتون يمتلك ما يُساعِدهما على الحياة؛ لذا اقترضت
إليزابيث المال بضمان السندات المالية التي كان والدها، مورس، يحتفظ بها وديعة حتى
تتم الحادية والعشرين من عمرها.
كان مُعدَّل الفائدة الذي دفعته إليزابيث مرتفعًا بالطبع، بسبب غموض موقف
السندات، كما أن حسابات العشاق غالبًا ما تكون سطحية ومُتفائلة، لكن العاشقَين
مرَّا بأوقات رائعة بعد عودتهما. كانا مُصمِّمَين على ألَّا يدخلا لأماكن المتع واللهو أو يُضيِّعا
أيامهما في رحلات الطيران من مكان لآخر حول العالم؛ إذ على الرغم من خيبة أملهما
مما اكتشفاه، كانا لا يزالان يمتلكان ذوقًا تقليديٍّا قديمًا. اقتنيا أثاثًا قديمًا يرجع للعصر
الفيكتوري لغرفة صغيرة كانا يُقيمان فيها، كما وجدا مَتجرًا في الدور الثاني والأربعين في
حيث كانت الكتب القديمة لا تزال تُباع هناك. كان دينتون « سيفنث واي » مبنًى بشارع
وإليزابيث شغوفَين بقراءة المطبوعات بدلًا من سماع الأخبار عبر الفونوغراف. وعندما رُزِقا
بطفلة جميلة صغيرة، لتجمع بين قلبَيهما أكثر، رفضت إليزابيث إرسالها إلى دار حضانة
كما جرت العادة آنذاك، بل أصرَّت على تربيتها في المنزل. كان إيجار الشقق قد ارتفع بسبب
هذا الإجراء لكنهما لم يهتمَّا بهذا، فقد كان يعني اقتراضالمزيد من المال فحسب.
بلغت إليزابيث سن الرشد، والتقى دينتون والدها من أجل مُقابَلة عمل لم تمر على
النحو المرجُو، تلاها مُقابَلة أسوأ مع من يقرضهما المال والتي عاد منها للمنزل شاحب
الوجه. وفور عودته، أخبرتْه إليزابيث بتنغيم جديد ورائع ابتكرتْه ابنتهما عند نطق بعض
كلمات اللغة الإنجليزية، لكنه كان شارد الذهن. قاطَعها بينما كانت في ذروة حكايتها
«؟ هل يمكنكِ تخمين ما تبقَّى لنا من المال بعد أن سدَّدنا كلشيء » : قائلًا
توقَّفت عنسرد عبقرية ابنتها في النطق بالكلام والحركة التي صاحَبت كلامها قائلة:
«؟… تعني أن »
نعم. ليسالكثير، فقد أسرفنا في إنفاق المال. إنها الفائدة. كما أن الأسهم التي » : أجاب
تمتلكينها هبطت قيمتها. لم يهتم والدكِ بهذا وقال إن هذا ليس شأنه، كما أنه سيتزوج
«! ثانية. حسنًا، تبقَّى لنا ألف جنيه بالكاد
«؟ ألف فقط »
«. ألف فقط »
جلست إليزابيث رامقة إياه للحظات بوجه شاحب ثم جالت عيناها في أرجاء الغرفة
القديمة المليئة بالأثاث من العصر الفيكتوري الأوسط واللوحات الزيتية الأصلية التي
تملؤها، واستقرَّت في النهاية على الطفلة التي تتوسد ذراعَيها.
نظر دينتون إليها وظل واقفًا مُكتئبًا. ثم دار على كعبَيه وسار ذَهابًا وعودة بخطًى
سريعة.
يجب أن أفعل شيئًا. أنا أعيشكالوغد الخامل. كان يجب أن أفُكِّر في هذا » : قال بعدها
«! من قبل. لقد كنتُ أنانيٍّا أحمق. أردت أن أكون بصحبتك ليلَ نهار
ثم توقَّف عن الكلام ناظرًا لوجهها الشاحب؛ ثم قبَّلها وقبَّل وجه طفلتهما الصغيرة
التي سكنت حضن زوجته.
لا تقلقي يا عزيزتي. لن تكوني بمفردك بعد » : قال دينتون وهو يقف بالقرب منها
الآن. ها قد بدأت دينجز في التحدُّث معكِ. ويمكنني الحصول عما قريب على وظيفة بسهولة
كما تعرفين. الأمر صادم في البداية، لكن كل شيء سيُصبِح على ما يُرام. لا بد أن يُصبِح
على ما يُرام. سأخرج مُجدَّدًا بعد الحصول على قسط من الراحة وسأفُكِّر فيما يجب فعله.
«. أما الآن فمن الصعب التفكير في أيشيء
«… سيكون من الصعب مُغادَرة هذا المسكن، لكن » : ردَّت إليزابيث
«. لن نضطر لهذا. ثقي بي »
«. الشقق باهظة الإيجارات »
لكن دينتون تجاهَل هذا وبدأ في الحديث عن العمل الذي يمكنه أن يُؤدِّيه. لم يكن
حديثه واضحًا بشأن هذا، لكنه كان مُتأكِّدًا بدرجة كبيرة أن ثَمة أمرًا سيُبقيهما على العيش
في سعادة ضمن الطبقة الوسطى التي كانت طريقتها في الحياة هي الأسلوب الوحيد الذي
يعرفانه.
يوجد ثلاثة وثلاثون مليون شخصفي لندن. لا بد أن هناك من يحتاج » : قال دينتون
«. لأن أعمل لديه
«. لا بد »
المشكلة في بيندون؛ ذلك العجوز الضئيل الجسم ذي البشرة البُنية الذي أراد والدك »
أن تتزوجي منه. إنه شخصمُهِم. لا يمكنني العودة للعمل في منصة الطائرات لأنه أصبح
«. المسئول عن مُوظَّفِي المنصة
«. لم أكن أعلم هذا » : قالت إليزابيث
لقد تولَّى هذا المنصب في الأسابيع الماضية. لولا ذلك، لكانت الأمور أصبحت أكثر »
سهولة بالنسبة لي إذ كنت أروق لهم كثيرًا في المنصة، لكن توجد العشرات من الوظائف
الأخرى التي يمكن القيام بها. لا تقلقلي يا عزيزتي. سآخذ قسطًا من الراحة وأتناول
«. العشاء، ثم أبدأ في البحث عن عمل. لديَّ معارف كُثُر
نال دينتون وإليزابيث قسطًا من الراحة ثم ذهبا لتناوُل العشاء في قاعة الطعام
المشتركة، ليبدأ بعدها دينتون في البحث عن العمل. لم يمر وقت طويل قبل أن يُدرِكا أن
العالم ما زال سيئًا كما كان فيما يتعلق بالحصول على وظيفة مُناسِبة، وآمِنة، وشريفة،
ومُجزية، تترك مساحة كبيرة للاستمتاع بالحياة الخاصة ولا تتطلب مهارة خاصة أو
تنطوي على مُخاطَرة أو جهد شديد أو تضحية من أي نوع في الحصول عليها. فكَّر دينتون
في عدد من المشروعات الرائعة، وقضىالعديد من الأيام ينتقل من مكان إلى مكان في المدينة
العملاقة بحثًا عن أصدقاء ذوي نفوذ حيث كانوا جميعًا سعداء لرؤيته وكانوا وَدودِين
معه حتى أتى الحديث عن الوظائف بالتحديد ليتبدَّل حالهم ويُصبِحوا حذِرِين وغامضِين.
كان يُودِّعهم في فتور ويُفكِّر في سلوكهم أثناء عودته إلى المنزل ليُصاب بالضيق مما يدفعه
للتوقُّف عند مكتب الهاتف وإنفاق بعض المال في جدل عبر الهاتف لا طائل من ورائه.
وبمرور الأيام، أصُيبَ بالقلق والحنق حتى إنه كان يُجاهِد ليبدو أمام إليزابيث حنونًا
ورائق البال وهو ما لاحَظته بوضوحٍ كونها امرأة تُحِب رجلها.
وفي أحد الأيام وبعد تمهيد مُعقَّد للغاية، اقترحت إليزابيث على دينتون اقتراحًا مُوجِعًا.
كان يتوقع دينتون أن تبكي إليزابيث وتُصاب باليأس إذا ما اقترح عليها بيع الكنوز
الفيكتورية القديمة التي يمتلكانها والتي اشترياها ببهجة وسرور والتي تتضمن الأعمال
الفنية العتيقة، وأغطية ظهور المقاعد، والحُصر المصنوعة من الخرز، والستائر المُضلَّعة،
والأثاث المُزخرَف، واللوحات المنقوشة من الصلب المُؤطَّرة بالذهب، والرسومات المُبتكَرة
بالقلم الرصاص، وزهور الشمع المحمية من ضوء الشمس المباشر، والطيور المُحنَّطة،
وغير ذلك من الممتلكات الأثرية القديمة. لكن إليزابيث كانت هي من اقترحت الأمر. بدَت
التضحية بهذه الممتلكات كما لو كانت تملؤها بالسعادة وكذلك فكرة الانتقال إلى شقة
أخرى تقع تحت مستوى الشقة التي يسكنانها حاليٍّا بعشرة أو اثنَي عشر طابقًا في فندق
قبَّلها «. ما دامت دينجز معنا، فلا شيء آخر يهُم. لنخُض التجربة » : آخر. قالت إليزابيث
دينتون وأخبرها بأنها أكثر شجاعة من الوقت الذي واجهت فيه الكلاب المُتوحِّشة في الريف
وامتنع عن تذكيرها بأنهما يجب عليهما دفع إيجار أعلى بسبب ،« بوديكا » وأطلق عليها لقب
قدوم ابنتهما للعالم.
كان دينتون يُريد أن يصرف نظر إليزابيث عن مسألة بيع الأثاث القديم الذي نما
حوله حبهما وعواطفهما وتعلَّقا به؛ لكن فيما يتعلق بالبيع، كانت إليزابيث هي من يُساوِم
التاجر بينما كان دينتون يذرع طرقات المدينة شاحب الوجه يملؤه الأسىوالخوف مما هو
قادم. وعندما انتقلا للمسكن الجديد المُؤثَّث المُجهَّز بالقليل من قِطع الأثاث ضمن الشقق
المُلوَّنة باللونَين الأبيض والوردي في أحد الفنادق الرخيصة؛ أصُيبَ بنوبة من النشاط
الممزوج بالغضب الشديد تلاها أسبوع من الخمول قضاه في المنزل عابسًا؛ وذلك على عكس
إليزابيث التي مرَّت بها تلك الأيام وهي مُشرِقة كالنجم المُتألِّق، وفي النهاية لم يجد دينتون
إلا البكاء للتنفيس عما بداخله؛ ثم ترك المنزل مُتجوِّلًا في طرقات المدينة مرة أخرى، لكنه
أصُيبَ بالدهشة الشديدة هذه المرة عندما وجد عملًا.
كان معيار التوظيف لدى دينتون قد انحدر تدريجيٍّا حتى وصل لأدنى درجات
العمالة المُستقِلة. في البداية، كان يطمح لشَغل مَنصب رفيع فيشركات الطيران أو دوَّارات
الرياح أو المياه؛ أو العمل في إحدى مُنظَّمات الأخبار العامة التي حلَّت محل الصحف؛
أو تأسيس شراكة مِهنية؛ لكن كل هذه كانت أضغاث أحلام. بعد ذلك لجأ دينتون إلى
المُضارَبة في البورصة وخسرثلاثمائة جنيه ذهبي من الألف التي كانت تملكها إليزابيث في
سوق الأسهم. كان دينتون سعيدًا أن مظهره الوسيم قد ساعَده في الحصول على مُقابَلة
وهيشركة تُتاجِر في قلانيسالسيدات وزينة « سوزانا هات » عمل لوظيفة رجل مبيعات في
الشعر والقبعات؛ لأنه على الرغم من أن المدينة كانت مُغطَّاة بقُبَب زجاجية، كانت النساء
ما زِلنَ يرتدين قبعات جميلة المنظر مُنمَّقة التصميم في المسارح ودور العبادة العامة.
كان الأمر سيُصبِح مُثيرًا للضحك لو كان من الممكن إطلاع صاحب مَتجر في شارع
ريجينت من القرن التاسع عشر بالتطوُّرات التي حلَّت بمُنشأته التي يعمل فيها دينتون.
كان ما زال يُطلَق على الطريق التاسع عشر في بعض الأحيان اسم شارع ريجينت، لكنه
الآن أصبح طريقًا للمنصات المُتحرِّكة ويبلغ عرضه نحو ثمانمائة قدم. كان الحيِّز الأوسط
في الطريق ثابتًا لا يتحرك، وكان يُوصِل إلى المنازل التي تقع على كلا الجانبَين بواسطة
مجموعة من السلالم تصل نزولًا إلى طرق تقع تحت الأرض. أما على يمينه ويساره فكانت
توجد سلسلة صاعدة من المنصات المُتصِلة التي كانت تتحرك كل منها بسرعة تزيد عن
التي تسبقها بخمسة أميال في الساعة حيث يمكن للمرء الانتقال من منصة إلى أخرى حتى
سوزانا » يصل لأسرع طريق للخروج والتجوُّل في المدينة. كان المبنى الذي يضم شركة
له واجهة كبرى تُطِل على الخارج ويخرج من جانبَيها سلسلة علوية مُتداخِلة من « هات
الشاشات الزجاجية البيضاء الضخمة التي تعرض صورًا عملاقة مُتحرِّكة لوجوه نساء
شهيرات جميلات على قيد الحياة يرتدين أحدث القبعات؛ وكان دائمًا ما يحتشد الناس
في الطريق الأوسط الثابت ليُشاهِدوا آلة عرض عملاقة تعرض الصور المُتحرِّكة لأحدث
الصيحات. كانت واجهة المبنى بالكامل في حالة دائمة من تغيُّر الألوان، كما كانت تلك
الواجهة التي يبلغ طولها أربعمائة قدم، والطرق المُتحرِّكة التي تُطِل عليها، تتلألأ وتلمع
.« قبعات سوزانا » بآلاف الألوان والحروف التي تعرضعبارة
علاوةً على ذلك، كان يوجدصف عريضمن الفونوغرافات العملاقة التي تُصدِرصوتًا
بينما كان هناك في بداية ونهاية كل شارع آلات «! قبعات » غطَّى على صوت المارَّة صائحة
«؟ لماذا لا تشتري قبعة لفتاتك » : مُتسائلة « اذهبوا إلى سوزانا » أخرى تنصح المارَّة بأن
أما بالنسبة إلى الذين كانوا يعانون الصمم — ولم يكن الصمم أمرًا غير شائع في لندن
ذلك العصر — فقد كانت تُلقى منشورات من مُختلِف الأحجام من فوق الأسطح لتهبط
على المنصات المُتحرِّكة أو في أيدي المارَّة أو أمامهم أو على رءوسهم وأكتافهم، كما كان
هناك وميض مُفاجئ من الضوء يظهر عند أقدام السائرين للفتِ الأنظار إلى لافتات من
ورغم كل هذه الجهود .« عرض رائع لشراء القبعات » أو « القبعات رخيصة اليوم » قبيل
في الدعاية، كانت المدينة غارقة في ضوضاء شديدة، وأصبحت أعيُن وآذان المارة مُدرَّبة على
تجاهُل كل هذه الدعاية حتى إن العديد من المُواطِنين كانوا يمرون بذلك المكان آلاف المرات
.« سوزانا هات » غير مُدرِكين لوجودشركة
لدخول المكان، كان يجب نزول السُّلم في الطريق الأوسط والمشي في ممر عام تسير
فيه فتيات جميلات يرتدين قبعات عليها إشارة السعر مُقابِل أجر زهيد. كانت غرفة
الدخول عبارة عن قاعة كبيرة مليئة بالرءوس الشمعية المُزيَّنة على أحدث صيحة وكانت
تدور على نحو جذَّاب على قواعد للتماثيل، ويعبُر الزائر هذه الغرفة ليجد نفسه في مكتب
الخزينة الذي يتكوَّن من مجموعة لا متناهية من الغرف الصغيرة يمكث في كل غرفة منها
رجل مبيعات وفيها ثلاث أو أربع قبعات ودبابيس، ومرايا وآلات عرض الصور المُتحرِّكة
الخاصة بها وهواتف ومُنزَلقات القبعات المُتصِلة بالمُستودَع الرئيسيكما كانت تضم أريكة
مُريحة ومُرطِّبات جذابة. أصبح دينتون الآن رجل مبيعات في إحدى هذه الغرف وكان من
واجبه أن يُساعِد هذا السيل المُتدفِّق باستمرار من السيدات اللاتي يخترن التعامُل معه،
وأن يتصرف على نحو جذاب بقدر الإمكان، وأن يُقدِّم لهن المُرطِّبات ويتحدث إليهن في أي
موضوع يخترنه وأن يُوجِّه دفة المُحادَثة بذكاء إلى الحديث عن القبعات دون أن يُظهِر أي
نوع من الإلحاح أو الضغط عليهن. كان يجب عليه اقتراح تجربة أنواع عديدة من القبعات
على أي عميلة وأن يُوضِّح بأسلوبه وحركاته — وبدون أي تملُّق فج — المظهر الجميل
الذي تُكسِبه القبعات التي يُريد بيعها لمن ترتديها. كان يوجد في الغرفة العديد من المرايا
الموضوعة بزوايا وانحناءات ذكية وحساسة لأي شكل من أشكال الأوجه وألوان البشرة،
وكان يعتمد اعتمادًا كبيرًا على استخدامها على النحو المناسب.
انهمك دينتون في إنجاز هذه المَهام الغريبة عليه التي لم تكن تُلائمه كثيرًا بقدر من
الرضا والحماس الذي لم يكن يتوقعه قبل عام؛ لكن كل هذا كان لا طائل من ورائه. فقد
غيَّرت كبيرة المُديرين — التي انتقتْه للوظيفة بل وأثنت عليه — رأيها فجأة وأعلنت بدون
سبب واضح أنه أحمق وفصلته بعد ستة أسابيع من عمله كرجل مبيعات؛ ولذا كان على
دينتون استئناف بحثه العقيم عن عمل.
لم يستمر بحثه التالي عن العمل كثيرًا؛ وكان المال الذي بحوزته قد أوشك على النفاد
ولم يجد حلٍّا إلا إرسال ابنته الصغيرة إلى إحدى دور الحضانة العامة التي ملأت المدينة.
كان هذا هو الشائع آنذاك بعد أن أدَّى تحرير المرأة بسبب الخروج للعمل والتفكيك الذي
نتج عنه للبيوت بمعناها التقليدي إلى أن تُصبِح دور الحضانةضرورة للجميع فيما عدا
فاحشِيالثراء وذوي العقول الاستثنائية. ففي تلك الدور كان يتوفر للأطفال ميزاتصحية
وتعليمية لا يمكن أن يحصلوا عليها في غيرها، كما كانت دور الحضانة العامة تتوافر لكل
الطبقات الاجتماعية وتتنوَّع مستويات رفاهيتها وصولًا إلى طبقة العمال الذين كان يلتحق
أبناؤهم بدور الحضانة التابعة للشركة حيث تتكفَّل الشركة بسداد مصروفاتهم بنظام
الأجل ليُسدِّدوا هم مصروفات الحضانة عندما يكبرون بعملهم لدى تلك الشركة.
لكن، كما قلنا من قبل، فإن إليزابيث ودينتون كانا شابَّين عتيقَي الطراز غريبَي
التصرُّفات مُتشبِّعَين بأفكار القرن التاسع عشر وهو ما جعلهما كارهَين لفكرة دور
حضانة الأطفال العامة هذه كراهيةً شديدة، ووافَقا على مضض في النهاية أن يُرسِلا
دينجز الصغيرة إلى إحداها. قابَلتهما فور وصولهما إلى دار الحضانة موظفة حنون ترتدي
زيٍّا رسميٍّا. كانت سِمَتها الجدية والنشاط إلى أن انخرطت إليزابيث في البكاء عندما أتى ذِكر
تركها لطفلتها الصغيرة، وحينها تحوَّلت المرأة، التي اندهشت لوهلة من هذه العاطفة غير
المعتادة، إلى كائن مُفعَم بالأمل والمُواساة مما أكسبها امتنان إليزابيث إلى الأبد. اقتِيد الوالدان
إلى غرفة واسعة يُشرِف عليها العديد من الحاضنات ويفترش أرضيتَها المُغطَّاة بالألعاب
مئاتُ البنات الصغيرات في الثانية من عمرهن حيث كانت هذه هي غرفة الأطفال الذين
تبلغ أعمارهم عامَين. تقدَّمت حاضنتان وراقبت إليزابيث في غيرة تعامُلهما مع دينجز.
كانتا عطوفتَين وكان هذا واضحًا، ولكن …
حان وقت انصرافهما بسرعة؛ وكانت دينجز حينها قد جلست في أحد الأركان في
سعادة وقد امتلأ ذراعاها واختفى جزء كبير من جسدها تحت كمية كبيرة غير معتادة من
اللُّعب. وبينما ابتعد أبواها، بدَت غير مُكترِثة بأي علاقات بشرية.
مُنِع الأبوان من وداعها كي لا يُعكِّرا صفوها.
وعندما وصلت إليزابيث للباب نظرت خلفها للمرة الأخيرة لتُشاهِد ابنتها الصغيرة وقد
أوقعت الألعاب أرضًا وأخذت تُراقِبها بوجه مُتردِّد. وشهقت إليزابيث فجأة بينما دفعتها
الحاضنة الحنونة للأمام وأوصدت الباب وراءها.
يمكنكِ المجيء مرة أخرى قريبًا » : قالت الحاضنة وقد ملأ عينَيها حنان مُفاجئ
حدَّقت فيها إليزابيث للحظات بوجه خالٍ من أي تعبير، بينما كرَّرت الحاضنة «. يا عزيزتي
كلامها. فجأةً ارتمَت إليزابيث في حضن المرأة مُنتحِبة وهو ما جعل الأخيرة تكسب امتنان
دينتون أيضًا.
وبعد مرور ثلاثة أسابيع، أفلس بطلانا الشابَّان تمامًا ولم يعد أمامهما سوى حل
واحد وهو الذهاب إلى شركة العمالة. وبمُجرَّد أن تأخَّرا عن دفع الإيجار أسبوعًا واحدًا،
صُودِر ما تبقَّى من ممتلكاتهما، وبأقل القليل من اللياقة أخُرِجا من الفندق. مشَت إليزابيث
في الممر المُتجِه صوب السلالم الصاعدة إلى الطريق الأوسط الثابت، وقد سيطرت التعاسة
عليها لدرجةٍ جعلتها لا تستطيع التفكير. كان دينتون قد تخلَّف عن اللحاق بإليزابيث
ليُنهي جدالًا حادٍّا وعقيمًا مع حامل الحقائب ثم اندفع مُسرِعًا للحاق بها وقد احمرَّ وجهه
بسبب انفعاله الشديد. أبطأ دينتون من خطاه بعد أن لحق بها وصعدا السلالم المُوصِّلة
للطريق الأوسط في صمت؛ ثم وجدا مقعدَين شاغرَين ليجلسا فيهما.
«؟ ألسنا بحاجة للذهاب إلى هناك بعد » : قالت إليزابيث
«. كلا، حتى نشعر بالجوع »
ثم جلسا صامتَين.
كانت عينا إليزابيث شاردتَين في كل الاتجاهات. إلى اليمين، كانت الطرق المُتجِهة
صوب الشرق تزأر صخبًا وكذلك تلك المُتجِهة في الاتجاه المُضاد. كانت جميعها تعجُّ
بالناس. أما للأمام والخلف فكان هناك رجال مُتعلِّقون بأحد الأسلاك يرتدون ملابس
المُهرِّجين ويُصدِرون إشارات وإيماءات ويحمل ظهر وصدر كل منهم حرفًاضخمًا ليُكوِّنوا
«. حبوب بركنجيز للهضم » : جميعًا عبارة
قامت سيدةضئيلة الجسم ومُصابة بفقر الدم ترتدي ثوبًا من الخيشالأزرق الخشن
كريه المظهر بتوجيه بصر ابنتها الصغيرة تجاه أحد تلك الإعلانات التي تتحرك بسرعة؛
«. انظري! ها هو والدك » : قائلةً
«؟ أيهم » : ردَّت الطفلة الصغيرة
«. ذو الأنف المَطلي بالأحمر »
بدأت الطفلة في البكاء، مما جعل إليزابيث على وشك البكاء كذلك.
انظري كيف يُحرِّك ساقَيه. » : قالت المرأة المُصابة بفقر الدم مُحاوِلة إبهاج الطفلة
«! انظري
على الجانب الأيمن من الواجهة كان هناك قرص ضخم وزاهي الألوان بشدة يلفُّ
«؟ هل يُصيبك هذا بالدُّوار » : بدون توقُّف لتنبعث حروف من نار مُكوِّنة جملة
«. تناوَل حبة من حبوب بركنجيز للهضم » : ثم تتوقَّف لوهلة، لتستمر كاتبة
إذا كنتَ تحب أدب التفاخُر، اتصل ببراجلز، » : ثم صدر صوت نداء مُزعِج وكئيب
أعظم أدباء ومُفكِّري التاريخ. ارفع من معنوياتك! إنه يُشبِه سقراط تمامًا فيما عدا مُؤخِّرة
رأسه فهي تُشبِه مُؤخِّرة رأسشكسبير. إنه يمتلك ستة أصابع في كل قدم ويرتدي الملابس
«! الحمراء ولا ينظف أسنانه أبدًا. استمعوا له
لم أتخيَّل الزواج منكِ. لقد » : أصبح صوت دينتون مسموعًا خلال فترة توقُّف للنداء
أضَعتُ مالكِ ودمَّرت حياتكِ ولم أجلب لكِ إلا التعاسة. يا لي من نذل! يا لَهذا العالم
«! الملعون
حاوَلت إليزابيث الرد، لكنها ظلَّت للحظات غير قادرة على النطق؛ ثم جذبت يده قائلة:
«؟ هلَّا أتيت » : ثم تحوَّلت رغبة لم تكتمل داخلها إلى عزم، مُضيفة «. لا»
«! لا يجب علينا الذهاب إلى هناك بعد » : ردَّ بعد أن نهض
لا أقصد هذا، بل أريدك أن تأتي بصحبتي إلى المنصات الطائرة حيث التقينا لأول »
«. مرة. أتدري؟ ذلك المقعد الصغير
«؟ هل يمكنكِ فعل هذا » : تردَّد ثم قال مُتشكِّكًا
«! لا بد »
تردَّد للحظة ثم أطاعها مُتحرِّكًا.
وهكذا قضَيا ما تبقَّى لهما من نصف يوم من الحرية في الهواء الطلق على المقعد
الصغير تحت منصات هبوط الطائرات في المكان الذي اعتادا اللقاء فيه منذ خمس سنوات.
أخبرته إليزابيث بما لم تستطع أن تُخبِره به بسبب ضوضاء الطرق العامة وهو أنها غير
نادمة أبدًا على زواجها منه، وأنه مهما كانت الحياة تُخبِّئ لهما من تعاسة وشقاء، فإنها
راضية بما ستمر به. كان الطقس لطيفًا وكان المقعد يغمره ضوء الشمس الدافئ وفوق
رأسَيهما كانت الطائرات اللامعة تروح وتجيء.
حان وقت الغروب ومعه حانت نهاية الوقت الذي قضَياه معًا. عاهَد بعضهما بعضًا
وتعانَق كفَّاهما ثم نهضا وعادا إلى طرق المدينة رثَّي المظهر تُثقِل الهموم قلبَيهما ويغلبهما
الإرهاق والجوع. وبعد قليل، وصلا إلى لافتة زرقاء باهتة تُشير إلى مكتب لشركة العمالة.
توقَّفا برهة في الطريق الأوسط يُشاهِدان اللافتة ثم في النهاية نزلا السلالم وجلسا في غرفة
الانتظار.
كانتشركة العمالة في الأساس مُنظَّمة خيرية تهدف إلى توفير الغذاء والمأوى والعمل
لكل الوافدين إليها، وهذا ما كان منصوصًا عليه عند تأسيسها. كما كانت الشركة مُلزَمة
كذلك بتوفير الغذاء والمأوى والرعاية الطبية للعاجزين عن العمل الذين يطلبون المُساعَدة
كمبيالات » من الشركة، وفي المُقابِل كانوا يدفعون التعويضات للشركة عن طريق ما يُسمَّى
التي كان يجب عليهم سداد قيمتها فور تعافيهم. كان أولئك العاجزون يُوقِّعون « العمالة
هذه الأوراق ببصمة الإبهام التي كانت تُصوَّر وتُفهرَس بطريقة تجعل البحث عن شخص
يعمل لدى الشركة التي تضمُّ مائتَي أو ثلاثمائة مليون شخص حول العالم لا يستغرق
إلا ساعة واحدة فقط. كان العمل اليومي في ذلك الوقت هو أن يقضيالعامل نوبتَي عمل
على آلة ميكانيكية تُستخدَم لتوليد الكهرباء، وكان بالإمكان فرض أداء هذا العمل بقوة
القانون. عمليٍّا، وجدت الشركة أنه من الأفضل أن تُضيف لتعهُّداتها اليومية التي تُقدِّمها
للموظفين من غذاء ومأوًى بضعة بنسات كحافز على العمل. لم يُؤدِّ هذا الالتزام فقط إلى
القضاء على الفقر بل وفَّر الغالبية العظمى من العمالة الأكثر إحساسًا بالمسئولية. كان
ثلث سكان العالم يعملون لدى الشركة أو مَدينِين لها منذ مولدهم وحتى مماتهم.
بهذه الطريقة العملية الخالية من العواطف، حُلَّت مشكلة البطالة وجرى التغلُّب
عليها بنتائج مُرضية. أصبح لا يُرى من يتضوَّرون جوعًا في الطرقات العامة أو من يرتدون
أسمالًا أو من يرتدون ملابس أقل نظافة وأمانًا من القماش الأزرق الخشن الصحي وغير
الأنيق الذي يرتديه عمال الشركة حول العالم. كانت الفكرة السائدة في الصحف التي تُذاع
عبر الفونوغرافات هي أنه كم تطوَّر العالم منذ القرن التاسع عشر عندما كانت جُثَث من
يموتون بسبب الحوادث المرورية أو بسبب الجوع أمرًا اعتِيد رؤيته في الشوارع المُزدحِمة
كما كان يُزعَم.
جلس دينتون وإليزابيث بعيدَين بعضهما عن بعض في قاعة الانتظار حتى يحين
موعدهما. بدا معظم الجالسين في الغرفة ضعفاء وقليلي الكلام، لكن كان ثَمة ثلاثة أو
أربعة شباب في أزياء مُبهرَجة يُشيعون الضوضاء التي بدَّدت صمت رفاقهم. كان هؤلاء
الشباب مُوظَّفِين مُستدامِين لدى الشركة فقد تربَّوا في دور حضانتها في صغرهم ومُقدَّر
لهم الموت في المستشفيات التابعة لها. كانوا قد عادوا من تسكُّعهم ولهوهم بعدما أنفقوا
تلك الشلنات الإضافية التي كانت تدفعها الشركة لهم حافزًا. كانوا يتحدثون في صخب
بلهجة الكوكني التي أصبحت أكثر تطوُّرًا عن السابق وبدوا فخورِين بأنفسهم للغاية.
انتقلت عينا إليزابيث من مُراقَبة الشباب إلى أناس أقل ثقة وقوة؛ إذ شاهدت امرأة
أثارت الكثير من مشاعر الشفقة لديها، كانت امرأة في الخامسة والأربعين من عمرها لها
شعر ذهبي ووجه مُلطَّخ بالمساحيق سالت عليه الدموع الغزيرة؛ كما كان لها أنف رفيع
ومُدبَّب وعينَان يملؤهما العوز ويدَان وكتفَان هزيلان، كما كانت ملابسها القديمة المُتربة
تُعطي لمحة عن حياتها. كان من بين من لفتوا نظرها كذلك رجل عجوز رمادي اللحية
يرتدي ملابس أحد أساقفة الطوائف الأسقفية العليا؛ إذ تحوَّل الدين في ذلك العصر إلى
تجارة لها تقلُّباتها. كان يجلس بجانبه هناك فتًى سقيم خليع المظهر يبلغ من العمر اثنين
وعشرين عامًا تقريبًا ويُحدِّق في التليفزيون.
بعد ذلك أجرَت المُديرة — حيث كانت الشركة تُفضِّل تعيين النساء في هذا المنصب —
مُقابَلة مع إليزابيث ومن بعدها دينتون. وجدت إليزابيث أن المُديرة تمتلك وجهًا مُفعَمًا
بالحيوية وأسلوبًا ازدرائيٍّا وصوتًا بغيضًا للغاية. استلم دينتون وإليزابيث شهادات عديدة
من بينها واحدة تُفيد بأنهما ليسا بحاجة إلى تقصير شعرهما. وبعد حصولهما على بصمات
التعريف ومعرفة الرقم المُسجَّل على كل منها، استعاضا عن ثيابهما الرثَّة الخاصة بالطبقة
الوسطى بملابس العمال المصنوعة من الخيش الأزرق الخشن والمُرقَّمة تسلسليٍّا؛ ثم ذهبا
إلى قاعة تناوُل الطعام الضخمة الخالية من أي معالم مُميَّزة لتناوُل أول وجبة في الظروف
الجديدة. بعد ذلك عادا إلى المُديرة للحصول على تعليمات العمل.
بعد تغيير ملابسهما، لم تقدر إليزابيث على النظر إلى دينتون في البداية، لكنه نظر
إليها ولدهشته كانت ما زالت تبدو جميلة حتى وهي مُرتدية الخيش الأزرق؛ وفي نفس
الوقت أتتْ أطباق الحَساء وقِطع الخبز مُنزلِقة في مساراتها الصغيرة على سطح الطاولة
الطويلة لتتوقف مُحدِثة هِزة مُفاجئة لينسىدينتون ما كان يُفكِّر به؛ إذ لم يكونا قد تناوَلا
وجبة مناسبة منذ ثلاثة أيام.
وبعد تناوُل العشاء، استراحا قليلًا، ولم يتحدَّثا فلم يكن هناك ما يُقال؛ ثم نهضا بعد
قليل وعادا إلى المُديرة لمعرفة ما يجب عليهما فعله.
لن تكون غرفتكما هنا بل ستكون » : تفحَّصت المديرة لوحًا من ألواح الكتابة ثم قالت
في دائرة هايبري في الطريق السابع والتسعين، رقم ألفَين وسبعة عشر. من الأفضل أن
تُدوِّنا هذا في بطاقتَيكما. أما أنتِ، فرقمك صفر صفر صفر، الفئة سبعة، أربعة وستون،
بي سي دي، جاما واحد وأربعون، أنثى؛ ستذهبين للعمل في شركة تشكيل المعادن لتجربة
العمل لمدة يوم واحد بمكافأة أربعة بنسات إذا نلتِ إعجابهم هناك. أما أنتَ فرقمك صفر
سبعة واحد الفئة أربعة، سبعمائة وتسعة، جي إفبي، باي خمسة وتسعون، ذكر؛ ستذهب
للعمل فيشركة التصوير الفوتوغرافي الكائنة في الطريق الحادي والثمانين وستتعلَّم أمرًا أو
أمرَين، لا أدري، مُقابِل ثلاثة بنسات. إليكما بطاقتكما. هذا كلشيء. التالي! ماذا؟ لم تُدرِكا
كل ما قلت؟ يا إلهي! سوف أكُرِّر ما أبلغتكما به ثانية. لماذا لا تُنصِتان جيدًا؟ يا لَكما من
«. شخصَين مُهمِلَين غير مُباليَين. هذه أمور بسيطة على ما أظن
كانا يتشاركان طريق الذهاب إلى العمل لفترة من الوقت مما أتاح لهما فرصة للحديث
معًا. وللغرابة كان يبدو أن معظم ما أصابهم من اكتئاب قد زال الآن بمجرد أن ارتديا
مهما » : الخيش الأزرق. كان دينتون يتحدَّث بحماسٍ حتى عن العمل الذي سيُؤدِّيانه قائلًا
كان العمل، فلا يمكن أن يكون أسوأ من العمل في شركة القبعات. وحتى بعد أن ندفع
تكاليف حضانة دينجز، سيتبقَّى لنا بنس في اليوم نقتسمه بيننا. بعد ذلك — بعد أن
«. يتحسَّن أداؤنا في العمل — ربما نحصل على المزيد من المال
أتساءَل لماذا يجب أن يكون العمل » : كانت إليزابيث أقلَّ حماسًا منه في الحديث قائلة
«. كريهًا هكذا
إنه أمر غريب. أظن أنه لم يكن ليكون هكذا إذا لم يكن هناك من يُعطي الأوامر. »
«. أتمنَّى أن يكون مُديرونا أشخاصًا دمِثِي الخُلق
لم ترُد إليزابيث؛ إذ لم تكن تُفكِّر في هذا بل كانت مُستغرِقة في أفكارها الخاصة.
ثم توقَّفت «… بالطبع. لم نعمل من قبل في حياتنا ومن العدل أن » : ثم قالت بعد قليل
عن الكلام.
كان الأمر شديد التعقيد.
لقد دفعنا الثمن. » : قال دينتون، الذي لم يكن قد فكَّر من قبل في هذه الأمور المُعقَّدة
«. لم نفعل شيئًا، لكننا دفعنا الثمن. هذا ما لا أفهمه
ربما ندفع » : ردَّت إليزابيث التي كانت فلسفتها في الحياة بسيطة وتقليدية للغاية
«. الثمن الآن
حان وقت افتراقهما حيث اتجه كل منهما إلى عمله المُكلَّف به حيث كان يجب عليه
الاهتمام بمكبس هيدروليكي مُعقَّد يبدو كما لو كان كائنًا يعقل. كان ذلك المكبس يعمل
بماء البحر وكان مُصمَّمًا لتفريغ مصارف المدينة؛ وهذا لأن العالم أقلع منذ زمن طويل عن
حماقة صب مياه الشرب في البواليع. كانت تلك المياه تُنقَل إلى الطرف الشرقي من المدينة
عن طريق قناة ضخمة، ثم تُرفَع بواسطة مجموعة مضخات هائلة إلى خزانات ترتفع إلى
مستوى أربعمائة قدم فوق سطح البحر لتنتشر في جميع أنحاء المدينة بواسطة ملايين
الروافد الرئيسية؛ من ثَم تُصَب مياه التنظيف والري وتُشغَّل مختلف أنواع الآلات من خلال
مجموعة غير مُتناهية من القنوات الدقيقة داخل المصارف الضخمة أو أنظمة البواليع التي
تحمل مياه الصرف إلى المناطق الزراعية المحيطة بلندن من جميع الجهات.
كان المكبس يُستعمَل في إحدى عمليات التصنيع الفوتوغرافي، لكن طبيعة العملية
بالضبط لم تكن تشغل بال دينتون. كانت أهم الحقائق في العالم بالنسبة له تتمثَّل في
أنه يجب أن تكون الإضاءة باللون الأحمر الداكن عندما تعمل؛ ومن ثَم كانت الغرفة التي
يعمل بها تُضاء بكُرة مُلوَّنة مغمورة بضوء ساطع لدرجة لا يشعر معها بارتياح. في أكثر
زوايا الغرفة ظلامًا، كان يقبع المكبس الذي أصبح دينتون المسئول عن تشغيله الآن. كان
للمكبس جسم ضخم مُعتِم مُتلألئ له غطاء بارز يُشبِه رأسًا مُنحنيًا؛ كما كان يحتل مكانًا
في الأرض كما لو أن تمثالًا معدنيٍّا لبوذا جالسًا في هذا الضوء الغريب يُلبِّي احتياجاته.
لقد بدا لدينتون في بعضالأحيان كما لو كان إلهًا غامضًا قدَّمت البشرية له — في ضلال
وانحراف — دينتون قربانًا من أجله. كانت مهامُّ دينتون مُتنوِّعة لكنها رتيبة ومُمِلة، وهذه
المهامُّ التي سنصفها تُعطي فكرةً عن تشغيل المكبس. كان المكبس يُصدِر صوت قرقعة
مُستمِرة ما دام يعمل على ما يُرام، لكن إذا تغيَّر تركيب الخليط القادم من إحدى المُلقِّمات
القادمة من غرفة أخرى والذي يُكبَس على هيئة ألواح رقيقة، فإن إيقاع الصوت يتغير
ويتوجَّب على دينتون الإسراع بإجراء بعض التعديلات. كان أقل تأخير يتسبب في إهدار
المعجون وخسارة دينتون لبنس أو أكثر من أجره اليومي. إذا قلَّ إمداد المعجون — حيث
كانت هناك عمليات يدوية من نوع غريب مُتضمَّنة في تحضيره، وأحيانًا كان العاملون
تنتابهم تشنُّجات تُؤدِّي لتشويه ما يُنتَج — كان على دينتون إيقاف المكبس عن العمل.
كل هذا فرضعلى دينتون قضاء ثُلث أيام العمل في هذه المهام التي تحتاج منه إلى تركيز
شديد؛ إذ كان يتعيَّن عليه الانتباه لأدق التفاصيل. كان الجهد الذي يبذله مُضنيًا؛ نظرًا
لغياب اهتمامه الطبيعي بهذا العمل. وفيما عدا زيارة عارضة بين الفَينة والأخرى من
مُديره الذي كان رجلًا طيبًا لكنه بذيء اللسان، كان دينتون يقضيساعات عمله وحيدًا.
أما عمل إليزابيث فقد كان ذا طبيعة اجتماعية. كان في ذلك الوقت ثَمة تقليد يتضمَّن
تغطية الشقق السكنية التي يمتلكها أشخاص فاحشو الثراء بصفائح حديدية مُزيَّنة
بنقوش بارزة مُتعدِّدة ذات مظهر جميل، لكن ذوق ذلك العصر كان يتطلَّب ألَّا تتكرَّر
نفس النقوش بنفس النمط بالضبط بحيث يبدو الأمر طبيعيٍّا وليس آليٍّا؛ ووُجِد أن الجزء
الأكثر جمالًا من التنسيق غير المُنتظِم للنقوش كان يُصنَع بواسطة نساء ذوات ذوق رفيع
وفطري في صنع هذه النقوش بآلات صغيرة. كان يجب على إليزابيث إنتاج عدد مُحدَّد من
الأقدام المُربَّعة من الصفائح المعدنية كحدٍّ أدنى؛ وكانت تحصل مُقابِل كل قدم مُربَّع زائد
على قدر إضافيضئيل من المال. كانت الغرفة التي تعمل فيها، مثل معظم الغرفالتي تعمل
بها العاملات، تحت إشراف مديرة، وكان هذا لأن الشركة وجدت أن الرجال ليسوا فقط أقل
قسوة مما هو مطلوب بل أكثر ميلًا إلى إعفاء سيدات بعينهن مُفضَّلات لديهم من نصيبهن
من المهام اليومية. كانت المديرة شخصية طيبة لكنها كانت مُتحفِّظة في كلامها ويتسم
وجهها ببقايا جمال صارم يُميِّز ذوات البشرة السمراء. كانت العاملات يكرهنها بالطبع
وربطن بينها وبين أحد مُديرِي عمال المعادن من منظور فضائحي ليُفسِّرن حصولها على
هذا المنصب.
كانت اثنتان أو ثلاثة فقط من زميلات إليزابيث قد وُلِدن في أحد المستشفيات التابع
لشركة العمالة وكنَّ فتيات لا يتسمن بأي ملامح مُميِّزة وذوات وجوه مُتجهِّمة وكئيبة؛
لكن معظمهن كان ينطبق عليهن أوصاف القرن التاسع عشر للسيدات كريمات المَحْتِد
اللاتي واجَهن ظروفًا قاسية، لكن ما كان يُميِّز السيدات الكريمات المَحتد قد تغيَّر واختفت
صفات مثل الخجل والتعفُّفالمشوب بالسلبية والتردُّد. كان معظم زميلات إليزابيث يمتلكن
شعرًا وبشرة تلاشىلونهما وكانت تدور مُحادَثاتهن الحافلة بالذكريات عن أمجاد شبابهن
الضائع. وكانت كل هؤلاء النساء اللائي يعملن في إنتاج الزخارف الفنية أكبر سنٍّا بكثير
من إليزابيث؛ بل وعبَّرت اثنتان بوضوح عن دهشتهما أن تأتي فتاة صغيرة وجميلة مثلها
لتُشارِكهن الكَدْح، لكن إليزابيث لم تشَأ إزعاجهن بقناعاتها الأخلاقية التي عفا عليها الزمن.
كان يُسمَح للعاملات، بل قد اعتِيد تشجيعهن، على إجراء المحادثات بعضهن مع بعض
حيث وُجد المُديرون، وكانوا على صواب في هذا، إن أي أمر يُؤدِّي لحدوث تقلُّبات مزاجية
لدى العاملات كان يُنتِج تغيُّرات جميلة في أنماط الزخرفة، وكانت إليزابيث شبه مُضطَرة
للاستماع لقصصحياتهن التي تداخَلت فيها قصة حياتها؛ وكانت تلك القصصمُشوَّهةً
ومُحرَّفةً بسبب الخُيلاء والغرور لكنها كانت مفهومة بما يكفي. ولم يمر وقت طويل
قبل أن تبدأ في تقدير الضغائن البسيطة وسوء الفهم الطفيف والتحالفات والتآمُرات التي
تُحيط بها. كانت هناك امرأة ثرثارة على نحو مُفرِط حيث كانت تصف ابنًا جميلًا لها؛
بينما كانت هناك أخرى أصبح لديها صوت خشن مُثير للسخرية بدا أنها تعتبره أفضل
تعبير ممكن عن الأصالة؛ وثالثة دائمة التفكير في الملابس هامسة إلى إليزابيث كيف أنها
ادَّخرت كل بنس يومًا بعد يوم وستحظى عما قريب بالحرية، وتقضيساعات في وصف
ما سترتديه. كانت هناك عاملتان أخريان دائمًا ما تجلسان معًا وتُناديان بعضهما بعضًا
بأسماء حيوانات أليفة حتى حدث أمرٌ تافهٌ ما في أحد الأيام أدَّى لافتراقهما، وأصبحت كل
واحدة منهما كما لو كانت لا ترى ولا تسمع الأخرى. ودائمًا ما كان يصدر من العاملات
صوت نقر مُستمِر أثناء العمل — تاب، تاب، تاب — ودائمًا ما كانت المُديرة تُصغي جيدًا
لهذا الإيقاع لتعرف ما إذا كانت إحداهن قد توقفت عن العمل. تاب، تاب، تاب؛ هكذا كانت
تمضيالأيام، وهكذا كان يجب أن تمضي. كانت إليزابيث تجلس وسطهن، ساكنة ولطيفة
المَعشر. كانت مُنكسِرة الفؤاد تتأمل القدر مُتعجِّبة؛ تاب، تاب، تاب، تاب.
توالت أيام العمل طويلة وشاقة على دينتون وإليزابيث مما أدَّى إلى خشونة أكُفهما،
وامتزج جمال حياتهما الناعمة ببعض الأمور الغريبة القاسية والجديدة عليهما وهو ما
أدَّى إلى ظهور خطوط وظلال في وجهَيهما، كما اختفَت حياتهما السابقة المُريحة والمُبهِجة
بلا رجعة. وأدركا تدريجيٍّا وببطءٍ حقيقةَ الطبقات الكادحة؛ إنه عالمٌ فسيح وشاقٌّ وكئيب
وحافل. كان هناك العديد من الأمور الأخرى التي لم تكن ذات أهمية كبيرة؛ أمورٌ روايتها
تُصيب المرء بالأسى والملل؛ أمور مريرة وثقيلة الوطأة على النفس؛ إهانات واستبداد ومثل
تلك الأمور التي يعهدها الفقراء في المدن، لكن أحدها لم يكن هينًا بل جعل الحياة تسودُّ
تمامًا في عينَيهما وهو مرض وموت طفلتهما، لكن تلك القصة القديمة التي تتكرَّر منذ
الأزل حُكِيت كثيرًا وبطريقة بليغة حتى إنه لم تعُد ثَمة حاجة لسردها مرة أخرى. كان
هناك نفس الخوف الشديد ونفس التوتُّر والصدمة الحتمية المُؤجَّلة التي لا سبيل لتفاديها
والصمت الكئيب. لقد كان الأمر كذلك دائمًا، وسيظل كذلك دائمًا. إنها سنة الحياة.
كانت إليزابيث من تحدَّث أولًا بعد صمت مُؤلِم وثقيل دام لأيام، ليس عن الطفلة
الصغيرة التي غادرت العالم بالطبع، ولكن عن الظلام الذي عشَّش في روحها. واجَها معًا
الحياة المُضطرِبة الصاخبة للمدينة. لم يُعيرا اهتمامًا لصيحات الباعة وصراخ مُمثِّلي الأديان
المُتنافِسة والسياسيِّين، بينما لم يكن لوهج الأضواء المُركَّزة والحروف المُتراقِصة والإعلانات
النارية وقعٌ على تلك الوجوه الجامدة البائسة. ذهبا لتناوُل العشاء في قاعة الطعام وقد
أريد أن أذهب إلى منصة الطائرات » : جلسا في مكان مُنعزِل. قالت إليزابيث بطريقة خرقاء
«. لأجلس على المقعد. هناك يمكن أن أجلس في صمت
«. سيكون الليل قد حلَّ » : نظر دينتون إليها قائلًا
«. أرغب في هذا. إنها ليلة جميلة »
كان يعتقد أنها ليست قادرة على تفسير ما بداخلها ثم أدرك فجأة أنها تُريد رؤية
النجوم مرة أخرى؛ النجوم التي شاهَداها معًا في الأرض المُنخفِضة المفتوحة خلال شهر
العسل الجامح الذي حظِيا به منذ خمسسنوات. شعر بغُصة في حلْقِه وأشاح بنظره عنها.
«. سيكون أمامنا فسحةٌ من الوقت لنذهب » : قال بلهجة تقريرية
في النهاية، ذهبا إلى المقعد الصغير المُفضَّل لديهما على منصة الطيران وجلسا لوقت
طويل في صمت. كان المقعد الصغير يقع في الظل لكن أعلاهما كان مُكتسيًا بلون أزرق
باهت؛ بسبب تألُّق المنصة بينما امتدَّت المدينة أسفلهما على هيئة مُربَّعات ودوائر ورُقَع
رائعة المنظر تغمرها شبكة من الأضواء. بدَت النجوم الصغيرة خافتة الأضواء وبعيدة بعدًا
لا مُتناهيًا، لكن ظلَّت مرئية بالنسبة إليهما في المناطق المُظلِمة وسط وهج الأضواء وخاصة
في جهة الشمال من السماء، حيث تتحرَّك مجموعات النجوم العتيقة بثبات وتُؤدة.
إذن فهمتُ، » : جلس بطلانا في صمت لفترة طويلة ثم تنهَّدت إليزابيث في النهاية قائلة
إذن أمكنني أن أفهم؛ عندما أكون في المدينة فهي تبدو عالمًا كاملًا — بضوضائها وسرعة
إيقاع الحياة والأصوات — يجب عليك الاجتهاد والتدافُع لتظل حيٍّا. أما هنا فلاشيء يحدث.
«. يمكن للمرء هنا أن يُفكِّر في سلام
نعم. كم يبدو الأمر كله واهيًا! من هنا يبدو نصف المدينة غارقًا في » : قال دينتون
«. الظلام. سوف تندثر يومًا ما
«. سوف نموت نحن أولًا »
أعلم هذا. لو كانت الحياة لحظة فالتاريخ كله سيبدو كيوم واحد. نعم، سنموت. »
وستندثر المدينة كذلك وكل ما هو آتٍ. الإنسان والمخلوقات الخارقة وعجائب أخرى لا
«… تُوصَف؛ ومع ذلك
أدُرِك ما تشعرين، أو أتخيَّل هذا على » : توقَّف عن الكلام للحظات ثم بدأ من جديد
الأقل. في المدينة يُفكِّر المرء في العمل، يُفكِّر في مَلذاته ومُنغِّصاته التافهة، ما يأكل وما
يشرب، ما يُريحه وما يُؤلِمه. الموت حتمي كالحياة. في المدينة، يبدو ألمُنا كما لو كان نهاية
الحياة. أما هنا فالأمر مُختلِف. على سبيل المثال، من المُستحيل العيش في المدينة إذا كان
الشخص مُشوَّهًا بشكل مُروِّع أو مشلولًا أو موصومًا بالعار. أما هنا، تحت هذه النجوم،
فلا يهم أي من هذه الأمور. لا يهم أي منها مُطلَقًا. إنها جزء منشيءٍ ما ويبدو المرء كما
«. لو كان يستطيع الإمساك بهذا الشيء تحت النجوم
توقَّف دينتون عن الكلام فقد تلاشَت من عقله الأمور الغامضة غير المحسوسة؛
العواطف الغامضة التي لم يكتمل تحوُّلها إلى أفكار قبل أن يُعبِّر عنها بالكلمات مما جعله
«. الأمر يصعب تفسيره » : يقول على نحو أخرق
ثم جلسا في صمت طويل.
من الجيِّد القدوم إلى هنا. هذا هو خط النهاية بالنسبة لنا، فعقولنا » : قال في النهاية
محدودة للغاية. في النهاية، نحن مُجرَّد حيوانات ضعيفة نشأت من الوحوش؛ لكل منها
عقل لكنه عقل بدائي للغاية. نحن كائنات غبية. الكثير من الأشياء يُؤلِمنا، لكننا نعلم
أنه سيحدث يومًا ما أن يتحول كل هذا الضغط الرهيب وكل هذا الشقاق والخلاف إلى
انسجام وتناسُق وسنشهد هذا. لاشيء في تناسُق الآن، لكن حتى هذا يُسهِم في حدوث هذا
التناغُم. لا شيء. كل هذا الفشل وكل أمر ضئيل يُسهِم في حدوث هذا التناسُق والانسجام.
كل ما يحدثضروري في حدوث هذا. وسنُدرِك هذا. لا يمكن استثناء أي شيء، ولا حتى
أكثر الأمور ترويعًا أو أكثرها تفاهة وابتذالًا. كل طَرْقة من طَرَقات مِطرقتك على النحاس
في عملك وكل دقيقة من عملي؛ أو حتى تَعطُّلي، يا عزيزتي! كل حركة من حركات ابنتنا
المسكينة، كل هذه الأمور تستمر للأبد، وكذلك أكثر الأمور غموضًا وصعوبة على الإدراك.
«. حتى جلوسنا هنا معًا. كلشيء
العاطفة التي جمعت بيننا وما أصبحت عليه، لم تعد عاطفة بقدر » : واستمر دينتون
«! ما أصبحت حزنًا وأسفًا! عزيزتي
لم يستطع قول المزيد أو الاستسلام لأفكاره أكثر من ذلك؛ بينما لم تُجِب إليزابيث
فقد كانت ساكنة للغاية لكن يدها كانت تبحث عن يده حتى عثرت عليها
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.