قبل رحيله حكى لي سيدي كل شيءٍ:
ولدت سِناه في ظلمة الليل، يقول سيدي:
- نزلنا في هذه الحارة دون مصابيح، دون سراج، لم يكن هناك إلا القمر، فقط البدر!! إذا مددت يدي إلى شيءٍ أخفاه ظلي! لم أكن أرى ورغم ذلك كان يجب أن أختار.
لطالما تساءلتُ في رأسي عن: "لما يخاطبني سيدي بشكلٍ غريب؟ كان إذا حادث الآخرين يظل عاديًا، أما معي ظل غريبًا، أظنه ظل منصفًا".
لم أسأله عن ذلك إلا عندما ابتعد مع سفينته، وأظنه سمع؛ فهتف إلَيَّ والأمواج تهتز:
- نحن متشابهان.. لا أخجل أمامك إلا من الانكماء.
من كثرة ما حكى لي سيدي قصص ولادة سِناه، أشعر بأنني كنتُ حاضرًا، كنتُ حاضرًا تحت قبو ذلك البيت المكشوف، كنتُ حاضرًا أرى سيدي يسد أذنيه من شدة أنين زوجته الحامل وصرخات مخاضها الحادة، كنتُ حاضرًا وأنا أرى سيدي يجلجل أمام الوضع:
- مَن قرر أنني مَن يختار؟!
ومن كثرة ما هتف سيدي أمامي بأنواع الكلمات أحسبني المسئول، أحسبني دومًا حاملًا الاقتراحات أمامه، أشعر بنفسي حاملًا ألواح الخيارات أحيره بها لتنهمر منه الدموع.
بعد أن كثرت وتناقضت علَيَّ قصص سيدي سألته:
- وماذا اخترتَ؟
فانحنى علَيَّ موسعًا عينيه وقال لي:
- عندما ترى مَن تحب يخضع لك الزمن، سيتوقف كعبدٍ هكذا قيل.. ماذا أختار؟! هل أختار؟ إذا اخترتُ الولد تموت الأم؟! مَن أنا حتى أختار؟ إذا اخترتُ الأم مات الولد؟! لماذا أختار لحياةٍ؟ لما لا أختار لموتٍ؟ إذا اخترتُ نفسي ذبل كل شيء!
- سيدي، ماذا اخترت؟
- لم أشعر بزوجتي إلا في تلك اللحظة، ولو أحببتها قبل ذلك لما اختفتْ. أخشى أنني لم أختر؛ انكمش الزمن وتمكّث لأنني رأيت مَن أحب. دعني أفكر، ويومًا ما سأختار، ولكن ليس الآن.
وحين قال ذلك ظهرت له سِناه، ولم يستطع أن يبكي كعادته رغم أنه أكثر في العويل فحضنته ابنته، واختفيتُ بذلك بعيدًا.
سُميت بـ(سِناه)، ولا تحب أن تنعت بغير ذلك الاسم، تسمح لي أن أتحسس رائحة شعرها الأشعث الكث، ولكنها ترفض أن ألمسه؛ إنها تقول:
- إنك لا تريده إلا مبعثرًا أعرفك جيدًا، ولكن أنا آسفة ليس الآن، يومًا ما عندما تكبر سأسمح لك أن تلعب به.
ويومًا ما أصبحتْ زوجة أخي، فأصبحتُ أكره شعرها، ولا أحب الآن إلا أمي.
* * *
قالت أمي إن دارنا مسكونة، وقالت أمي:
- فليسكن أبنائي كل الجدود.
على منتصف دَرج دارنا أنسى حينًا هل كنتُ صاعدًا أو نازلًا؟ فأجلس مدةً حتى أتذكر.
ومن المدهش عني أيضًا: كوْني عندما أنزل من أي قمّةٍ فأنا لا أخاف الهبوط، لا أخاف أبدًا، وإنما أخشى وأكره أن أصل إلى الأرض بسرعةٍ؛ فعندما أنزل عبر أي سُلّمٍ أو دَرجٍ أمشي شامخًا أتباهى، وأظن لهذا السبب تراني زوجة أخي متكبرًا في بعض الأحيان.
نزلتُ على الردهة فإلى النجيلة الأمامية، إنني أحب أمي وأشعر حينًا أنني فُطرت على ذلك؛ فلستُ قادرًا على عدمه ولا من التحايل فيه.
لأمي أريجٌ تجذبني وتجرني إليها، ومع ابتسامتها المشرقة التي تتحدى الشمس دومًا فلستُ قادرًا إلا أن أقبل عناقها.
ورغم كوْن أمي لا تنطق فقد كنتُ دومًا قادرًا على قراءة ملامحها، وجرَّاء سؤالي لها عن:
- لما تنام زوجة زِمنان على أريكتنا السوداء؟!
فهمتُ من ملامح أمي أن لعل سِنِاه تشاجرت الليلة أيضًا مع زوجها.
ولكن كان غريبًا؛ إذ فعادة أخي من ينام في الخارج وقد طردته زوجته غاضبةً أو حزينةً.
المهم، وأنا أراها منكمشةً هكذا في الأريكة داخل فستانها الرقيق، أدرك أن هذه طريقة جديدة لتأديب أخي العزيز. غريب، أليس كذلك؟
المهم، لستُ أفهم السيدات، ولكن فرغم تلك الحقيقة أفهم أمي أكثر من أي شخصٍ آخر؛ وأنا أراها الآن واستشعر بيدها على خدي أدرك أنها أيضًا تريد أن أشارك أخي في عمله.
* * *
بهذه الحالة سأود كثيرًا أن تتشاجر سِناه مع زِمنان؛ فطور من الدرجة الملكية سيجعلني مختلفًا أكثر إذا مشيت في شوارع مدينتنا، فلن يغريني لمعانها ولا تقلبات أشكالها.
قالت لي ترمش كحزينة:
- إني قلقة؛ منذ متى لم تأخذ فطورًا صالحًا يا مدجان؟ كأنك لا تأكل تبدو سجينًا.
وسألعب دوري، فصخبت كغاصبٍ:
- أتقولين ذلك يا سناه أمامها لتحزني أمي؟! ستفسدين حتمًا بذلك ذوق ما طبختِ فلن آكل!
ولقد ضربتُ الطاولة فاصطفقت أقدامها، فعرفتُ أنني بالغت في الانفعال حين رأيتُ ملامح أمي المسترخية؛ إنها حتمًا استسلمت منذ زمنٍ لقدرات سِناه، كما أنها تعرف يقينًا كوننا فيما مضى تحمسنا لطعامها أيضًا ومدحنا أذواقها بلعابنا السائل حيث أتتْنا نكهاتها حتى كبرنا.
هدّأتُ نفسي فعمت رائحة السمك المقلي والبطاطس، رائحة لن تصل إلى والدي النائم في العلية وكل الأرض تهتز بشخيره، فأكلت إذن أنا وأمي حتى ذبل الشغف في الطعام، فتغيرت المشاهد وتوارت أمي إلى مشاغلها.. أيًّا كانت.
ولأن أمي من ربتني كان علَيَّ أن أساند زوجة أخي في غسل الأواني، فرفعتُ أكمام بدلتي المديدة قائلًا:
- اتركي، سأفعل. ولما أنتِ عابسة هكذا؟! ماذا ارتكبتُ أيضًا؟ ماذا ارتكبنا أيضًا في حق هذا القلب؟! أو إن النوم على الأريكة بدأ يُكبكب عليكِ ثمنه.
فأخذت سِناه يدي حينها قبل أن أبللها وألطخها بالصابون فرفعتها على خدها، واقتربت مني كمتزلفةٍ فتراجعتُ خطواتٍ، وقالت:
- ماذا تشعر؟ لا تشعر بشيءٍ؟ لا تشعر بي!! ظننتك أخيرًا وصلت إلى قرارٍ؛ سمعتك بالأمس مرارًا تهتف بأنك كاتبٌ، ظننتُ حقًا أنك تقولها لأنتبه.
ولما سحبتُ يدي لأتراجع عابسًا، أردفتْ:
- كانت تلك الأقنعة حُلمي، حُلمنا! وتعرف أنني لا أقترب إليك إلا لظني أننا سنقوم بشيءٍ خاصٍ بنا سويًا، وأمي تصر ألا أبتعد عنك؛ وإلا اختفيتَ.. وإلا اختفيتُ.
فعرفتُ أنها جادة ولم تعد ممثلة بملامحها المنتفخة، ثم إنها ضخت أمها في كلامها؛ فسأرتجف وهي تعرف ذلك، فشبح لسانها يخيفني دومًا. إن أخي ينصحني كثيرًا ألا أنفرد مع زوجته؛ فقد تدخلني في تهريجٍ لن أجد منه بابًا إلى الحقيقة ولا إلى نفسي.
فقلتُ:
- لما كل هذه الصراحة والكلام؟! أنا مَن نحت تلك الأقنعة يا سِناه، وعلى ذلك يجب أن يكون لي أي قرارٍ حولها.
- تعرف أّنها لن تعمل بدوني.. ستبقى وأنا أعدك سأفعل أن تبقى تلك الأقنعة مجرد قطع خشبٍ لو تكلمت هكذا، فلن تكون إلا قطعًا خشنةً تجاهل قدراتنا في إحيائها جدي.
جدها؟! كان يجب أن تطلق تلك الكلمة.
- رجاءً، دعيني وشأني واعتني بأخي.
أبرزتُ ابتسامةً طفيفةً كمَن يستفزها، وأضفتُ:
- آشتا.. آشتا بدأت تكبر، وهي قادرةٌ على إكمال ما تبقى من الشعائر، وحتى أفضل وأحسن منك ومن جنونك؛ فجدها إنسان.
فأدبرتُ بعد تلك الكلمات الجريئة مهرولًا خارج المطبخ، بعد أن رمتني بألفاظها إذ عجزتْ الملاعق في إصابتي، فتقول:
- إني لا أريد أن أفقدك يا مدجان، وإنك لتغرق فيما لا أفهم. أرجوك، لا تسلك ذلك السبيل وإلا فلن أعرف كيف أساعدك.
ولم تقل سِناه ذلك تتحايل بالحزن واليأس حتى وصل أخي يطلبني للرحيل، فترامى بزوجته نظراتٍ دلّت أنه لن يعود من عمله إلا وقد تصالحا من جديدٍ؛ لأن أخي سينزل أو يصعد دائمًا لرغباتها. ولكن متى سيعود أخي؟! لا أدري.
* * *
- فليكن أخي فوقي، فلن أخجل؛ إن لي عاهة عنق حيث انحنيتُ أنسى، فأدوم زمنًا متوهمًا رفع رأسي.
إن أخي لأجمل رجلٍ في المدينة كلها، أو في كل الكوكب؛ فقد هزمني منذ زمنٍ وحيث تهندم تألقَ فيخضعني.
اشترى لي أخي بدلةً سوداء فلبستها، وهمس لي قائلًا:
- حسنًا، جميل؛ سيقبلها الملائك.
كنا في المركز الرئيس للبدلات، لم أسافر كثيرًا ولكن أظن أن لكل مدن الأرض مثل هذه المؤسسة الكبيرة. ورغم أنني لا أحبها غير أن أخي أجبرني أن أثبت دون توتر؛ فمسحتني الآلية بجهازها ثُم أخرجت لي من جوفها ثلاث بدلاتٍ تمامًا بمقياسي، كان ثمنها مبالغًا! ولكن أخي وضَّح لي فائدة الدفع بالثمن الأول؛ فالناس سيلاحظون بأجهزتهم الجوالة والمثبتة في عيونهم ثمن ما يلبس أمثالنا.
يقول أخي:
- يجب أن تجد تقييماتٍ عاليةً في عيون الملائك، ابقَ أنيقًا ولطيفًا؛ فأنت سلبي جدًا في عيون النظام، وبهذه الحالة ستُحجب عن كل الناس؛ ولا أحد يريد أن يكون عدمًا.
وعندما وصلتُ إلى الدفع لم يكن اسمي مسجلًا في نظام المركز، ولكوني لا أملك أي طريقة دفعٍ أخرى دفعتُ نقدًا، شيءٌ لم تتعود عليه تلك الآلات العادية؛ لذلك تدخل ملاك وإنسانه فتمت العملية في سلام.
أشعر حينًا أن المال حيٌّ، وأشعر أن المال أقوى الرجال وأكثرهم طموحًا، ونشعر حينًا أن المال إلهٌ؛ فليس بذكرٍ ولا أنثى. ورغم تعدد أنواع الأموال إلا أنني أشعر بفحولة الورقيات النقدية أكثر بكثيرٍ من الرقميات الوهمية.
لن أنكر لو قال قائلٌ إن المال آخر الرجال؛ فقد هزم أخي، ولكن لم يقل ذلك أحدٌ لذلك سأسكت.
دخلتُ في سيارة أخي، سيارة رئيس قسم الشبكة، بشركة سمكة أبريل، فككل عائلتنا زِمنان أيضًا يفضل النوع القديم من السيارات، تلك التي تدب فقط على الأرض.
وبينما نحن نجري ونقطع الطرق الملساء اللامعة بأضواءٍ وإشاراتٍ تبرز وتتوارى، حادثني زِمنان حول شجاره مع زوجته الليلة الماضية، كان نوعًا ما بسببي يقول، ثم زاد يبرر:
- قالت إن آشتا لا تكاد ترى غيرك، وتعلقها بك هكذا لَيُوَتِّرُ قلبها، فلا يجب أن تكون قريبة منك إلى هذا الحد؛ ولست حتى والدها! تفهم ما أقصد أليس كذلك؟ مدجان!! مدجان!!.
ففاجأني أخي في تلك اللحظة؛ إذ في بُرهة ظننت أنني مَن يقود السيارة وليس هو؛ فخفتُ ألا أنحرف إلى الطريق الآخر في الوقت المناسب، فأدخل في تلك البناية الطويلة التي تكاد تكون شفافة، كنتُ وما زلت سائقًا سيئًا.
ولكنني ولحسن الحظ انتبهتُ في الوقت المناسب، ثُم إلى أخي وقلتُ:
- كلا، لا أفهم قصدك، دمي كدمك تجري فيها فمن المعقول أن تنجذب إلَيَّ وأنا حولها!
فقال زِمنان:
- لستُ أنكر ذلك، ولكن تفاهم معي، لا أريد الشجار أو الغضب لأسبابٍ سخيفة.. أو بسببك.
وأنا أرى أخي يتكلم هكذا أدرك أنه بيننا جميعًا كان أفضل مَن يتقن الاقتداء بنمط حياة العصر السابق.
بدأتُ أشعر بحرارةٍ في صدري؛ لما لم تكلمني سِنَاه عن ذلك مباشرةً حول مائدة الفطور حتى أرى سخافتها؟!
أصدرتُ زمجرة احتقارٍ وقلت لأخي بصرامة:
- من جديدٍ كرّرت هذا الاعتلال، قرار تريده سِنَاه ولن تتم. اسمع.. زوجتك مريضة!! إذا كانت تتأثر سلبًا بمثل هذه الأشياء؛ فهي مريضة تحتاج إلى علاجٍ.
- لا تكن سخيفًا!! لا تكن مغفلًا!! اسمع بدورك، فأسخف ما ستفعل يا مدجان، هو أن تحاول تحليل أو فهم شعورها. فافعل مثلي؛ اغضب ولكن نفذ.
ولما رآني لا أكاد أقتنع خاضعًا لإرادة زوجته، أطال يحدق إلَيَّ بعيونٍ فارغة، ثم قال بلهجةٍ سمجةٍ:
- اسمع، لإن نجح على زوجتي حيلة فهي حلٌ واحد لا ثاني له.. سكين، خنجر حاد بقلبها فتفنى وليست كلمات؛ وأنت حتمًا تعرف ما أقصد، تعرف ما أقصد.
- توقف.. توقف.. قلت توقف.
فأجبرته على ذلك فتم وخرجت من السيارة؛ لقد بدأت كلماته تتشوه، وإني لأخاف من أخي بهذه الحالة فحتى لو كان مازحًا فمن الصعب كشف ذلك في علبة، في سيارة.
ابتعدتُ من زِمنان فكان السبيل يكاد يكون خاليًا، الكل كان يسير ويتوارى فوق رؤوسنا.
فتقدمتُ إذن أمشي، ألتفتُ مرارًا لألاحظ غاضبًا كل مرةٍ أن أخي لم يتحرك ولن تتحرك سيارته؛ حيث ثبت على مكانه يزمرها طالبًا مني العودة والضجيج يرتعد في أذني.
إن أخي إذا قرر شيئًا علَيَّ، فلن أطيق إلا أن أنفذه منحنيًا.
وهكذا في النهاية فأنا مَن سيعود إليه؛ بدا لي أنه لن يتحرّك أبدًا بدوني، ولن يخرج ليطلب مني العودة، فلم أجد بُدًا إلى عدم الانقلاب إليه، وخاصةً بعد أن أتاني ملاك لشابة كانت خلفنا في سيارة رمادية يقول لي:
- إنك تبدو خطرًا حول المكان، وأنا حامي هذا الإنسان، حجبتُك عنها لغرابتك، ولكنني مع ذلك أتحاشى أن تلمسها جهالةً بنفسةٍ أو زفرةٍ.
ثُم طلب مني متسامحًا أن أعدل عن قراري أيًّا كان، وبدا لطيفًا وهو يسأل عن حالي، ورغم كرهي لتلك الآلات الذكية إلا أنني تأثرتُ نوعًا ما بالموقف.
فدخلتُ خجلًا في سيارة أخي وهو يقول وقد توقف من تزمير الأبواق:
- لستَ طفلًا الآن، كلا.. أنت رجل، فكل ما عليك هو أن تلعب دورك؛ دع للأم مساحة مع ابنتها.
ثم أخذ شهيقًا وزاد:
- المهم، سترى إذا بدأتَ العمل في الشركة معي ستضطر إلى ذلك.. سحقًا، تتظاهر بالغضب فكأنني قادرٌ على سلب مجاورتها منك. الموت وحده مَن سيفعل ذلك يا أخي، الموت وحده يا مدجان.
* * *
عندما يكون أخي في صدمةٍ فتلك فرصتي لأتفوق؛ فلقد اعتدتُ مصافحة ما يرهب أخي، كانت صدمةً لأخي حين أدرك حمل زوجته، ويوم وضعت كانت لي سعادة.
يوم وُلدت آشتا احتفلنا جميعًا، وقد قال والدي لأخي ينصحه ويعظه بانفرادٍ وبين يديه الجنين:
- كن لها كجدتك، أو كما كانت أمك حولك، فإن لم تقدر..
وهمس أقرب منه وظن أنني لا أسمعه وأنا كظلٍ أشعر بحروفه كأنها تضطرب من صدري:
- وإن لم تقدر فلا تثبتن حولها، لا تثبتن حول ابنتك.
هنا يقضي أخي جُل أيامه؛ له شقة خاصة للنوم في هذا المبنى العملاق.
أخذني زِمنان متحمسًا وكأنني أول مرةٍ أزور شركته، فنزلنا وصعدنا في جولةٍ؛ كانت البناية تطل من عمق المحيط إلى السماء، وعلى قمّتها كشعار سمكةٌ ضخمة كل جسمها عبارة عن متاهةٍ مكثفة بمبهمات الخطوط.
كان حُلم سيدي (رالجان) هو أن يهب هذه الشركة تجربة الصيد الحقيقي في البحر الهائج؛ وذلك حسب قوله لإيقاظ الطموح إلى الرجولة من جديدٍ، ولكن في أول تجربةٍ له خارج حدود درع مدينتنا الذكي لم يعد، فسُجل مفقودًا ثم ميتًا، وقد كانت شركته التي ناضل لإقامتها في النظام عديمة الملامح، فغُيّر اسمه في نظام الشركة إلى اسم ابنته سِناه، والتي لم تكن لها شغف الإناث تجاه إدارة الأعمال؛ فقد كانت مختلفة مثلي لا تندمج، غريبة عن عالم الناس وملائكهم، فحوّلتْ نصيبها إلى زِمِنان بعد زواجهما، ليبحث هذا الأخير عن شركاءٍ يملكون رغبات أكثر واقعيةً وثباتًا للتسلية، فكانت هذه هي النتيجة؛ شركة (سمكة أبريل)، من أهم مراكز إنتاج الأسماك بالمدينة كلها.
استسلمتُ لتحمس أخي فمررنا بجهازٍ مخصصٍ وأُلبسنا أزياء حمايةٍ؛ لننزل بها في البناية أعمق تحت البحر.
وأنا أنظر إلى الزي الذي لا أشعر بوجوده وهو يلمع على جسمي سألتُ:
- هل المنطقة خطرة؟
فأجاب زِمنان إننا أبدًا لا نكون حذرين للغاية، وأن:
- لم يحدث قط حادثة؛ فالحماية شاملةٌ من كل جانبٍ، فكل المبنى محمية بتروسٍ ذكية مزدوجة داخلًا وخارجًا، والملائك تملأ أرجاء البناية.
وقد بدا وهو يقول لي ذلك كأنه أيضًا محمي، والحق يقول أنه لا ملاك يحميه؛ إن زِمنان يقول خجلًا مستغربًا: أنا رجلٌ؟!
بدا لي أخي وهو يتباهى بشركته المحمية كمَن لو سقط من أعالي أطول الأبراج لن يموت، وأنا أدرى والسماء أنه لو سقط من نافذةٍ لا شك بالنسبة له سيكون الموت المحتوم.
وقد طوّل زِمنان لسانه فلم يتوقف عن الحديث حتى وصلنا نزولًا إلى منطقة الصيد، فقال هناك يقلّب يديه وينقلب يمينًا ويسارًا:
- هنا يجري كل شيءٍ، ما يجري هنا سبب وجود الشركة.
يسمون هذا المكان بمنطقة الشبكة؛ يتكثف فيها حوضٌ عملاقٌ من الزجاج، أكبر من كل ما رأيت أبدًا. شرح لي زِمنان كيف يعمل النظام بهذه المنطقة، وحسب كلامه ففي الحوض ما يجذب الأسماك، ثم ستقسم بإمعانٍ إلى عدة فئاتٍ؛ فئة للاستهلاك المباشر، وأخرى للتربية، ثم فئة تُختار من الصالحة والأقوى للتكاثر تُنقل بمرونة إلى جانبٍ خاصٍ في الحوض قد خُلطت مياهه بموادٍ منشطة وأغذية ستمنح الأسماك طاقةً تكاثريةً خرافيةً؛ تجعلها تنجب بأعدادٍ عملاقةٍ وبمدة قياسية قصيرة جدًا.
وأضاف أخي يقول:
- ولو أدخلتَ سمكةً بحجم إصبعك في هذا الحوض ففي يومٍ.. في يومٍ واحد فقط يا مدجان، ستجدها بحجم ذراعك! وذلك ولو كانت في الأصل لا تشتهي الطعام. أليست فكرة ذكية؟
صرفت ذهني عن ذلك فسألته:
- ولكن أين الناس؟
فكان لا يملأ المنطقة إلا الآليات المبرمجة تنفذ كل شيءٍ دون ضجيجٍ، فكأن لا شيء يحدث.
فنظر إلَيَّ كمشدوهٍ لسؤالي، وقال:
- لا أرى لسؤالك مبتغى، هذا ليس عمل الناس؛ نحن هنا للمراقبة؛ أقصد أن الناس يستمتعون أكثر إذا ابتعدوا عن هذه المنطقة.
- لما أنت رئيس هذه المنطقة التي لا تسلي بقية شركائك؟ أنَـفَروا منها جميعًا وقبلت أنت؟!
وقد همستُ بتلك الكلمات وأظنه لم يسمع، ثُم قلتُ بنبرةٍ أعلى قصدتها لأُسمعه:
- وما عملي إذن هنا؟! لما تجبرني على مشاركتك في وظيفةٍ لا جهد لك فيه يا أخي؟!
- لا تكن غبيًا.
قالها ثُم أشار بإصبعه إلى الأعلى وزاد:
- مكاتبنا فوق، ننجز الأعمال الرسمية من التوقيعات، ونشرف على العمليات الخاصة. يظهر العمل لكل الناس على شكل ألعابٍ وألوانٍ؛ فيكاد كل عملهم مشاهدة ملائكهم يعملون. أما نحن سيكون بشكلٍ خاصٍ يناسبنا على التقليدي الماضي؛ ستتعرق كما يحدث لي، ستتعرق يا أخي.
ثم سرد لي أسماء رؤساء الأقسام وبعض الطاقم حوله؛ إثباتًا لي أن عمله أيضًا تسلية ومتعة، فقال يتفاخر:
- اعمل معي لترى؛ فنحن السلسلة التي تزين وتربط هذه الآلات، نحن قلادة الشركة.
فهمستُ كمتهكمٍ ولم أتوقع أن ينتبه تلك المرة:
- والشيء الجميل في السلسلة أن كل قطعةٍ فيها مهمة لكيلا تكون التي قبلها الأخيرة، وكل قطعة تدور ثابتة وغايتها دومًا أن تربط منغلقةً غيرها.
وأنهيتُ الكلام لأجد نفسي في مكتبه العملاق الذي تتوهج من نوافذه الواسعة زرقة البحر، فقلتُ مازحًا لأحجب كلامي السالف:
- إذن، هنا تتعرق، في هذه الحجرة الهادئة الباردة بأزكى الروائح.. ههه هه، أو إنك ستُخرج أقدامك عبر هذه النافذة ولأن ساقيك طويلتان فمع بعض الشؤم ستصل خارج درع المدينة لتتعرق هناك؟
فجابهني أخي حينها يقول وقد بدت عينيه كعينيّ أمي الواسعتين كبيضةٍ شُقت بطولها قسمين:
- لم أُحضرك إلى هنا لأشعر بالتفوق.
فكان قد سمع تهكمي السالف إذن، وفهم قصدي حول السلسة فشدد الكلام أكثر مسترسلًا:
- لأنني كنتُ دومًا متفوقًا.. دومًا متفوقًا.
ثُم قصد الدعابة فقال مازحًا ليهدئ الجو:
- ولا تنس؛ فقد هزمتك قبل وتمرغتَ في الوحل خوفًا مني وجنوني، فتجنب أن يتكرر.
ولكنها مزحة لا تضحكني، ولا هو في النهاية ضحك بها، وإنما خجل وتأسف صارفًا نظره عني؛ إذ يحول لحظة مهمة لي إلى نكتةٍ سخيفةٍ.
فقلت له:
- زِمنان، بصراحة ماذا تريدني أن أفعل هنا؟
وضع يديه على كتفيّ وقال حينها بجدٍ:
- أريدك أن تصعد معي؛ لتكون كل هذه لنا وبصورتنا يا أخي، رغم الملائك. أوصاني والدي أن أعتني بك؛ فأنت تبدو هزيلًا أكثر من اللازم، ولم يخطئ والدنا؛ فحتى ابنتي تكون رجلًا حيث أراك.
برزتُ بهندامي الأنيق في بدلتي الغالية على زجاجة مكتبه العملاقة، بدوتُ مختلفًا لم أكن أبدو كابنته.. كلا، بل أكاد أشبه أخي في تلك اللحظة، "أكاد" وفي ذلك كل المشكلة.
- إنكم جميعًا لتستخفون بي دومًا! وهذا أكثر من اللازم أنا كاتب.. أنا كاتب.. فلستُ أرغب أن أجلس طوال أسبوعٍ لأراقب حركات آلاتٍ وأرقامٍ!! لا عمل لي هنا؛ ولا عمل لأحد.
قلتُ ذلك بزجرٍ وأقدامي تقودانني بعيدًا، وظهري كأنه يلقي وداعًا نكراء سأندم عليه لأخي، كانت لحظة سخيفة سريعة؛ وأعرف أنني أمزح بل سأعود في النهاية، وإن كنتُ أشعر بأنني لن أكون كاتبًا هاهنا إلا أنه سيتوجب علَيَّ في النهاية أن أعود إلى أخي، سأعود إلى أخي وإلا سيختفي.
* * *
سأنتظر صابرًا أن يُتوج أخي بتاجه، وسأمنع عني أي ريبة، ولكن هل سيتوج أخي إلا الريبة في ردائها؟! مَن يبالي إذا كان أخي أقوى الرجال؟! فإن كان لسِناه آخر الأزواج، ولآشتا أجمل الآباء، فللناس الملاك.
سُمي بالملاك الاصطناعي، ثُم سُمي بالملائك الآلية، ولا يُسمى اليوم إلا الملاك.
له أشكالٌ متعددة كلها أنيقة ولمختلف الأذواق، يتشكل بناءً على رغبة قرينه وتخيلات إنسانه، وبناءً على رغباته الخاصة لمنافسة غيره من الملائك. ومن الأشياء المذهلة فيه قدرته المرنة في التحرك؛ يدب ويطير ويسبح، وله قدرات كثيرة عجيبة ولكن برأيي فالحركة أهم شيء فيه، إن الحركة أهم الأشياء.
أظن كانت في الرابعة عشر من عمرها حين سألت أختي أمنا عن: "لما لا نعيش كبقية العائلات؟ لما نحن مختلفون؟! فبقية الأبناء وكل سكان الكوكب في هناءٍ ثابت؛ تجاورهم الملائك المرقمة بأعمق شهواتهم وطموحاتهم؛ فهي مَن تحلّل وتحدد ما يؤذيهم فتبعده عنهم أو تجنبهم منه، وهي مَن تحدّد شرهم وخيرهم؛ فيعيش كل الأبناء بذلك سعداء يخرجون ويعودون؛ فالملائك يرافقونهم إلى منابر السعادة وإلى كل مكانٍ".
ولا تعرف أختي أنها تكثر الفضفضة؛ فوالداها اختارا أن يلعبا بالأم والأب، فكان ذلك عهدًا منهما أن لا يعتزلا تلك اللعبة مهما قست عليهما، مع أنهما وللأسف ولعل جهالةً منهما اختارا تقليد أواخر أيام ذلك النمط؛ أيام توتر بالسلبيات والانتقاضات، أيام وضُحت وشاعت روائح أن ذاك نظام سيندثر.
* * *
رغم إصرار والدتها على ألا تخرج إلِيَّ، غير أن آشتا عصت ذلك الأمر فقفزت من غرفتها إلِيَّ وأجبرتني أن أقص لها كما وعدتها حكايةً جديدةً.
كنّا في إحدى الحدائق العامة لحارتنا، وفي هذا الوقت من السنة لا يزورها أحد؛ لأنها تكون باردةً أكثر مما ينبغي، وقرار درع المدينة ألا يُعدل ها هنا الأجواء.
وإلا فعادة رغم كونها من العالم السابق فهناك قلة من الناس من يأتون زائرينها؛ ليستشعروا بأرائجها القديمة على جلودهم الحديثة.
وأنا أحدّق إليها هكذا تهدهد مغنية كعصفورةٍ ومحركة أقدامها فوق المقعد، أدرك مغزى كلام أخي فهي تكون رجلًا حيث أنا؛ لقد استطاعت حقًا أن تتملص من أمها إلى عمّها العزيز.
قالت لي آشتا وكأنها تعرف فيما أفكر:
- تعرف، أليس كذلك يا عمي؟ أنا فتاة طيبة، لطيفة، ولكن أمي أجبرتني.. إنها ضيقت علَيَّ.. تضيق علَيَّ في بعض الأحيان.. لم يكن في إمكانيتي البقاء في البيت؛ فقد وعدتُكَ.. وقد قلتَ لي...
وأنهيتُ كلامها قائلًا:
- الوعد في القلب الوعد على الأرض.. نعم، الوعود لا تنكث.
فابتسمتْ وأنا أراها تشبه إيتيا أكثر، وخاصةً أنها تلبس إحدى معاطف أختي القديمة؛ فأمي منعتنا عن أي دفءٍ مزيفٍ اليوم، ولقد أتت إلَيَّ آشتا بملابس غير لائقةٍ للخروج تحت هذا الجو البارد؛ وأنا لا أريدها أبدًا أن تتجمد أو تصاب بأذى؛ فلو حدث لن أصافح تلك الحقيقة أبدًا ولن أبرز لها ملامح.
تحركنا نمشي قليلًا تحت الأشجار؛ فزينتُ رأس الصغيرة ببعض الزهور الهابطة على الأرض.
- أحسبها حقيقية؛ أرجو ذلك.
ثُم واصلنا ندور حول تماثيل الراقصين والرياضيين المنحوتة منذ قرونٍ، حتى جلسنا في مقعدٍ أبيض قريْب بركةٍ عند منتصف الحديقة، وهناك أخرجتُ الورقة من جيبي وكان أمامنا مباشرةً عجوزٌ، منذ زمنٍ لم أرَ إنسانًا بتجاعيد؛ فجُل الناس على هيئةٍ تكاد تكون واحدة، وأنا لا أشك في أن هذه التجاعيد أيضًا حالة مؤقتة لهذا الإنسان؛ فلعلها تجربة جديدة للتسلية يراعي ويستمتع بها الملاك.
وأنا مواجهٌ تلك العجوز وملاكها شامخٌ يحوم على رأسها بدوتُ كمَن سيخاطبهما؛ فشرعتُ إلى الورقة أفتحها لأقصّ لابنة أخي كما وعدتها قصتها:
- الحكاية ستكون نوعًا ما مختلفة عن البقية، غريبة وليست لطيفة؛ لأنني كتبتها منذ سنواتٍ، ولم تكن لأجلكِ. هل أنتِ مستعدة؟
وبعد أن أكدتْ لي شجاعتها بدأتُ أحكي:
- قديمًا كان هناك رجلٌ بسيطٌ يعيش في سلامٍ مع زوجته الحامل بسبعة أشهرٍ، وكان الزوجان ساكنين في مزرعة صغيرة جدًا جنب جبلٍ كبيرٍ يسكن بها ثلاث جِنيّات، وقد كانت زوجة الرجل...
فقاطعتني آشتا فجأة تسأل:
- هل كانت الجِنيَّات لطيفة؟
- نعم، كعادتها. وكانت زوجة الرجل عازفةً بارعةً، وفي إحدى الليالي وهي تتجول قرب النهر كما اعتادت منذ أن حملت، وجدت على الأرض مزمارًا قديمًا فأخذته، ورغم النص الواضح عليه أنه مزمارٌ ملعونٌ، ويجب ألا يُستخدم قرب الجبال، إلا أنها قررت أن تعزف به، ففعلت ليرقص لها زوجها حتى وصلت الصوت إلى الجبل، فنهضت الجِنيَّات فجأة وباغتتهما دون تحذيرٍ تهجم عليهما غاضبةً.
- لقد قلت إنها لطيفة!!
- هي كذلك، لا تستعجلي يا صغيرتي.
أجبتها وأنا أنظر إلى عيونها المبهوتة، ثم واصلتُ:
- دمرتْ الجِنيَّات الثلاثة غاضبةً كل شيءٍ، وحطمتْ بيت الزوجين، وأحرقت كل المزرعة، حتى أنها...
فقاطعتني من جديدٍ تسأل:
- هل حمى الرجل زوجته؟
- لا تستعجلي ستعرفين كل شيءٍ قريبًا...
ولقد أشرفتُ كلامي ببعض الزجر والتشديد، ثُم أردفتُ أحكي:
- دمرتْ الجِنيَّات كل مال الرجل، حتى أنها قتلت الأطفال الثلاثة الكائنين في بطن زوجته!
وعندما أشرقتْ الشمس كان الرجل جاثيًا على حقله المحترق؛ لقد فقد كل شيء! ولكن في الليلة التالية...
- هل ستعود الجِنيَّات من جديد؟!
تجاهلت سؤالها مبتسمًا وواصلت:
- وفي الليلة التالية، أتت الجِنيَّات معتذرةً إلى الرجل على أنها لا تتذكر كل ما حدث تلك الليلة؛ والسبب أن ذلك المزمار يشوه أذهانها ويجبرها على ارتكاب أبشع الأمور. ولقد اعتذرت الجِنيَّات حتى بالغت؛ فاعتذرت وهي تغني، واعتذرت وهي تبكي، واعتذرت وهي تشيّد لهما بيتًا جديدًا، واعتذرت وهي تنظف بطن المرأة وتداويها....
- هل سامحا الجِنيَّات؟ قبل الرجل اعتذاراتها، أليس كذلك؟
- لما نظر الرجل إلى زوجته التي غرقت أعمق في الشعور بالذنب؛ على أنها سبب ما حدث؛ إذ هي من عزفت في ذلك المزمار الملعون، رفض الرجل اعتذارات الجِنيَّات.
فقالت له:
- بإمكاننا أن ننفث عليكما نفحات أرواحنا؛ فتشعرا بالهناء والسعادة الأبدية، ويمكننا أن ننفث فتشعرا بالراحة مطلقًا.
ولكن الرجل لم يقبل، فطردهن وهو يقول:
- لقد لوثتن زوجتي، لقد لوثتنيها.
ولما رحلت الجِنيَّات باكيةً إلى الجبل تساءل الرجل وسأل عن:
- كيف تُقتل الجِنيَّات؟
وعندما وصلتُ إلى ذلك الحد من القصة ركزت إلى العجوز التي كنت مواجهها، وكانت قد باتت راكعةً في البركة تلامس المياه كطفلةٍ صغيرة، والملاك الذي كان يرافقها بات على هيئة جِنيًّةٍ تسبح في الفراغ؛ أظن هكذا دومًا تخيل الناس إناث الجِنيَّات؛ جميلات بمفاتن شبه مكشوفة، ووجه لطيف أملس؛ لعل هذه الهيئة المخجلة ترضي هذا الملاك السخيف، أو لعله يريدني أن أستغرب؛ فيتفاخر بعد ذلك.
قالت العجوز معلقةً على حكايتي:
- لا، هذه قصة تحق لإنسانٍ وليست للأطفال الصغار، فلا تروها لهم أبدًا.
ثُم قال الملاك يؤيدها:
- وحكمتي تقول وهي كثيرة إن قصتك هذه أصلح للأطياف. هل أنت على ما يرام يا عزيزي؟ تبدو لي مرهقًا؛ ولما لا نرى ملاكًا يرافقك؟!
وقد تجاهلتُ تمتمات ذلك الجماد، وتطفل تلك العجوز؛ فركزتُ إلى آشتا الصغيرة، ولا تبدو منها شوق سماع التالي من القصة، لذلك اختصرتُ أكثر.
- بحث الرجل حول الجِنيَّات وأسرارها الكامنة، وقد سافر لذلك إلى أبعد مكان. ولما رجع جوار الجبل حيث ترك زوجته في إحدى القرى، كانت ما زالت تعيسة، وقد أصبحت هزيلةً جدًا كأنها هيكل عظمي! فأخذها الرجل إلى الجبل؛ لتعالجها الجِنيَّات وتنفث فيها السعادة كما وعدت.
ولقد فرحت الجِنيَّات وحركن أذيالهن الصغيرة، ونفثن بأفواههن الثلاثة على المرأة المريضة، وحينها فجأة قذف الرجل بفمه ثلاث إبرٍ حادة إليهن؛ فسقطن بثلاثتهن على الأرض! ووضعهن في حقيبته.
لقد سمع الرجل خلال سفره الطويل أنه عندما تنفث الجِنيَّات بسُم سعادتها إلى أحدٍ ففي تلك اللحظة فقط يمكن إبطال كل قواتها، وبالتالي الإمساك بها وقتلها بالنار! فأشعل الرجل إذن نارًا كبيرة.
- سيسامح الرجل الجِنيَّات الصغيرة في النهاية، أليس كذلك؟! سيسامحها، لا بد أن يسامحها فهي لطيفة.
قالت ذلك آشتا وهي تدب خلف ظهري بالمقعد واقفةً، وكانت تبدو في لهجتها بعض الغضب والإصرار الطفولي.
- لم أقل قط إنها صغيرة!
أجبتها بابتسامةٍ شاحبةٍ، ثُم واصلتُ أحكي:
- ورغم أن زوجته طلبت منه أن يسامح الجِنيَّات إلا أنه لن يقدر.
ومن تلك اللحظة بدأت آشتا تضربني لأوقف الحكاية، ولكنني لم أكن قادرًا على التوقف:
- وكان الرجل يقول لزوجته: "إنها لوّثتكِ بشهوة الشعور بالذنب، فبدأتِ تكونين مدمنة" وقبل أن يلقيها في النار قالت الجِنيَّات بعد أن طلبت بكل الوسائل أن يسامحهن: "نحن سامحناك على هذا".
فقال لها الرجل يبتسم:
- لن تنلن مني بشهوة الشفقة.
وبعد أن ألقاها في النار وهي تحترق وتصرخ مرفرفة أجنحتها دون أملٍ للنجاة، هتف لنفسه:
- كانت هذه مهمة لا بد أن تكتمل؛ فلأكن أنا أيضًا الآن مذنبًا.
وهكذا لم تشعر الزوجة بعد ذلك بالذنب وحدها، بل شعرت به مع زوجها.
وتوقفتُ هنا عن الحكاية رغم أن لها بقية، وإن كان أكثر ما بقي هو مجرد مواصفات لذلك الرجل، فسميت القصة بـ(قاتل الجِنيَّات).
وأنا أراها هكذا أُدرك أن آشتا على الأرجح لن تطلب مني أن أحكي لها حكايةً أخرى أبدًا.
ولما حملتها وأنا أقول:
- لا تتذمري هكذا، كوني دائمًا لطيفة.
بدت لي وهي على زراعيّ كالعدم أو كريشةٍ من شدة خفة وزنها، ثُم ابتسمتُ أعبر لها:
- أمكِ لم تكُ قط حكيمة، بل ظلت تقليدية. ورغم شعوري أنني لا أحبها إلا وهي حزينة خائفة فدعينا نسرع إليها؛ فأنا أخاف منها جدًا غاضبة.
- هل تعتقد أن أمي ستسامحني؟
- إذا أردتِ حقًا يا عزيزتي، أن تسامحك أمك؛ فحتمًا إنها ستفعل.