«الحربُ ليست فقط هي ما يحرق حاضرنا، ولكن أيضًا ما يستمر فينا من رماد حتى بعد خمود حرائق الموت.
لكل فراشة احترقت أجنحتها الهشة، وهي تحاول أن تحفظ ألوانها، وتبحث عن النور في ظل ظلمة، كل يوم تتسع قليلًا».
واسيني الأعرج
إهداء
إلى من سيجدون أنَّاتهم التائهة بين سطور هذه الحكاية.
زخاتٌ متعاقبات أهدتْ الأرضَ ماءً ثجاجًا، فأغرقت كل شيء، ابتل معطفه الذي تصارعه الرِّيح، كي يتحرك بعيدًا عن جسمه النَّحيل. أما رداء الأرض الأخضر، فقد تزين بحبات المطر الذي بدأ يخفت رويدًا رويدًا، ومعه وجع يتذبذب في صدره فأطلق حواسه وترك جوارحه، عله يهدأ ويستكين.
الأيام التي تساقطت كأوراق الشجر لم تُهدِه جوابًا عن أسئلة كثيرة تعربد في رأسه؛ الدنيا لا تهب إلا المشقة والحياة أقصر من أن تعطينا كل ما نتمنى.
الريح التي تهدر بصفير حاد تعصف بأوراق الشجر لتصفع النوافذ والأبواب، وتتراقص الملابس فوق أحبال المناشر، وقت المطر نغلق الأبواب، نحتمي بالبيوت والجدران، يسارع الأهل بسدِّ الفُرَج والنوافذ، نستدعي الدفء بحساء أو مشروب ساخن، برد الشتاء كالإبر ينفذ إلى العظم مباشرة.
وحدها أمه كانت تقف في شرفتها تراقب حبات المطر وتدعو بحبور: "اللهم صيبًا نافعًا، اللهم بارك في أولادي واحفظهم وارزقني بِرَّهم، اللهم استرنا ولا تفضحنا وأكرمنا ولا تهنا".
كان لسانها يلهج بدعوات متتاليات للجميع، تدعو لهم فردًا فردًا.
لا ينسى أبدًا رائحة طبخها الشهي ومخبوزاتها الطيبة التي كانت تعجنها بملح الصبر وتخمرها بكأس اليقين وتخبزها في بوتقة الرضا.
المدينة غارقة في الظلام، نظر حوله فاسترعى انتباهه قطة تموء جوعًا وبردًا.
بعيدًا، كان هناك رجل يرتدي جلبابًا من الصوف الأزرق يضم أبواب دكانه ثم يثبتها بعارضة حديدية وقفل ضخم- فرك يديه ليحصل على بعض الدفء المنشود وهو ينظر إليها، ثم وَلَّاها ظهره وهو يحكم كوفيته حول رقبته.
ثوانٍ معدودات وخلا الطريق من المارة تمامًا.
اللجين الذي ارتعش فوق صدر السماء ليضوي البرق ويدوي صوت يتردد مرارًا كأنه قادم من بعيد.
من وراء تلك الغيوم يصاحبه طوال رحلته، وقعه يريح النفس ويسكن الفؤاد، وكلما تسارعت الذكريات يصدر الصوت أنينًا بهذه الكلمات القليلات:
"ترفَّع يا ولدي عن النزالات الصغيرة، فالملاحم الكبرى لا يصنعها سوى الأبطال".
من الحكايا ما وددنا لو كتبناه بالإبر على مآقي البصر ونحتنا له الحفر، وأبلغناه لسائر البشر، ليُنير البصيرة قبل البصر، ربما يكون عِبرة لمن اعتبر.
على صدر السماء، الشمس تلقي بآخر أشعتها، لتصيبها بسهم من وهج.
سار كأنه بطل مغوار، أو محارب عاد من معركته للتو منتصرًا، لكنه كان في الحقيقة خالي الوفاض.
ساقته الأقدار إلى عالمِها، كل خطوة يخطوها خطر يُحدِق به، غلالات حيرة تلبَّسته وفراغ يحيط به، ليلتقط بعض الخيالات.
تتعاظم دقات قلبه وهو يُحدِق النظر إلى الزوايا كلها، تأرجَح قلبه مرارًا بين ضلوعه كبندولٍ حائر، تتَّقِد عيناه بشرارات رعبٍ ويدفعه الفضول إلى التقدم نحو المجهول.
كانت نورًا، أضاءت فضاءه العظيم، سدَّت ثَقب قلبه وأنارت ظلماته الثلاثة: الخوف، التردد والأنانية.
أحيانًا تكون معه وأحيانًا تتركه يواجه الأمر وحده، وهو يتخبَّط، يبحث عنها، ليكتشف في النهاية أنه كان يبحث عن نفسِه فيها، نفسه التي فقدها في عالمه، ولم يستطع استعادتها، لتظهر هي من عالمها فتصاحبه إلى حيث يكشف الأسرار التي تشبه أسراره إلى حدٍّ كبير، لينتهي إلى حقيقة خالدة:
"النهاية قد تكون بداية حياة جديدة".