شفتان متورمتان، جبهة تتفصَّد عرقًا، الاحمرار يزداد في بقعةٍ ما من جسمه، تتبادل الوجوه حوله النظرات وترتدُّ سريعًا، فتلك الفوضى التي اجتاحته وبعثرت كيانه بدأت ولن تنتهي، وذاك القلب الذي يحمله بين جنبَيه دخل إلى حلبة السباق ولن يتوقف، فالحياة فخ كبير لا سبيل إلى تفاديه.
نقترب حينًا فنعود بالخذلان، نبتعد حينًا فتصفعنا الذكريات، نتقلَّب بين هذا وذاك فتهزمنا الصدمات حتى نعي أنَّ القرب من بعضهم إهدارٌ للعمر، والتورط في العلاقات الباردة موتٌ للشغف، ووَأْد الحنين يجعلنا ننطوي، ننزوي ونبتعد.
في غرفة الطوارئ حيث كانت مُستقرًا ومُقامًا، جفَّ حلقه، وشعر بدوار وغثيان، حاول أن ينهض فعجز وتهاوى من الإعياء، أما جسمه فقد كان يرتعش بصورة هيستيرية، شيء ما يجثُم على صدره فلا يستطيع التنفس، وعظام جسمه تئِنُّ بضراوة، حاول أن يصرخ فتوقفت الكلمات في فمه، وعندما نظر إلى الجزء الزجاجي رأى وجوهًا تطالعه بلهفةٍ وجزعٍ لكنه لم يتعرف على أيٍّ منها.
وجه نحيل ارتسم على ملامحه بعض القلق وإن ادعى الثبات، هرول وراء الطبيب يسأله:
- كيف حاله؟
أعاد الطبيب عُوَيناته الزجاجية إلى موضعِها ومنح نفسَه فرصة استنشاق بعض الهواء قبل أن يجيب:
- التهاب حاد أدى إلى حمى.
- لا حول ولا قوة إلا بالله!
تمتم مستطردًا:
- هل حالته خطيرة؟
- الحرارة تُقلِقُني لأنها لا تستجيب إلى المخفِّضات، وأعتقد أن الحُمَّى تستشري في جسمه، وربما يدخل في غيبوبة.
أُسقِط في يده، فلم يمتلك ردًّا سوى دعاءٍ بصوت خفيض حتى لا يثير اضطراب أهله الذين قتلهم الخوف عليه.
توجه "عمرو" نحو والد "راغب" وشقيقتيه، كل واحد منهم كان يسند قلقه وضعفه إلى قلق الآخر وضعفه. ومعهم تلك الأمنيات المعلقة في المصابيح والأحلام المؤجلة على فراش المرض، لتمضي الساعات تلو الساعات، ظلوا يبثونها السكات، داعين المولى أن يلهمهم الثبات.
جلس "أبو راغب" يتلبسه الصمت بين ابنتيه محتضنًا إياهما، سألته "سلوى":
- ماذا يقول الطبيب؟
- هو بخير لا تقلقا.
هزت "جنى" رأسها في حين اشتعلت عيناها بدموع خفية مزقت قلب "عمرو" فتصاعد نشيج الجميع.
***
حين فقد سكِينتَه وسكونَه وسقطت أسوارُه وحصونُه، ضلَّت الخُطا طريق الصواب، وتعثَّر المسير حيث هدفه ومبتغاه، تاهَ عن مرساه، ظَلَّ يبحث عن هويَّته، تاريخه وجغرافيته، فهل يعثر على خارطته؟
ربما كانت تلك أضغاث أحلام! ربما كان هذيانًا مصاحبًا للحُمَّى التي اجتاحته إثر لَسْع النحل إياه! ربما رحل وهو الآن ينتظر مصيرَه! في زوايا الحياة التي لا تهدأ ولا تَرضى سِوى الغرق فيها، الشَّدْوِ على أنغامِها المُفْعمة بالصخب، لتستقبل الأحبَّة في قصائد منظومة، وتتذوق جرعات الحب المتْرفة عبر خيالاتٍ تدفع زمن الوحشة والضجر. فأنَّى تَخمد نيران قلبه الملتهبة؟! ومَن يبثُّه الأُنس والهدوء في خِضَم معاناته المتوقدة؟! مَن يدلُّه كيف يعود إلى نفسه؟!
على بُعد خطوات، وقف الطبيب يتحدث إلى والده الذي بادر يسأله:
- أرجوك طمئنِّي عليه يا دكتور.
- الحرارة ترتفع باستمرار، والحُمَّى تتصاعد وقد دخل في غيبوبة.
حَوْقل الأب، استرجع ثم رفع يديه إلى السماء داعيًا الله أن يمنَّ على ولده بالشفاء.
بينما هو مُمَدَّد هناك، وقد تصلَّب جسمه وتجمَّدت الدماء في عروقه، دوارٌ شديد أصابه وبدأت أنفاسه تتلاشى، انهارت مقاومته تمامًا، وفجأة ضاع من عينيه ضَوء النهار، ليَسقط في جُبٍّ عميق، وقبل أن يغيب عن الوعي كان يردِّد آيات وأدعية الكرب كما علَّمته أمه من قبل.
بدا مُستسلمًا لها، هالةٌ من النور حولها، يُضيء وجهها كبدر التمام، لا تشبه أحدًا، لا في مظهرها ولا في حركتها.
بدأ النور يلف المكان كأنما غاب كل شيءٍ عداه ثم غاب الجميع، واحدة فقط سحبته من يده وأَوْلجَته هناك، تزاحمت الأنفاس في صدره، تقدَّمت خطوة إلى الأمام ثم تراجعت قدمها إلى الوراء مضطربة وجلة. اقترب الجسم من الجسم حتى كاد الجسمان يلتصقان ليطيرا في الهواء، شعر كأنه يسبح في الفضاء، كان الجو باردًا والليلة مُقمِرة، السماء تمتلئ بالسُّحب المتناثرة هنا وهناك، وخَزَ البرد وجهه، نبَتَت على شفتَيْه ابتسامة رضا واستشعر بعض الدهشة، لكنَّ روعة المكان وأَدَتْها قبل أن تغادر خاطرَه.
الهدوء يُضفي مسحةً ملائكيةً على المكان، كأنما غادر عالمًا وولج عالمًا مغايرًا، وظلَّا يسبحان في الهواء حتى الصباح.
تماهى معها في الزمان والمكان حتى نسيه الوقت ليغرق في ذاك الوسن.
المملكة
شعر بخفة في جسمه كأنما نبَت له جناحان يُحلِّق بهما بعيدًا، كأنما هو آدم حين دخل الجنة، وأنه يتنفَّسها وتملأ رئتيه قبل أن تحتل قلبه، يتنسَّمها رحيقًا لا شهيقًا، عبيرًا لا زفيرًا. كانت هي صاحبة الديار، وهو ضيفها وساكنها، مُثقلٌ هو بالخيبات وفوق جبهتها رأى انتصاراته، كانت تشعر بما يُخفيه وما يخافه، تسمع في صمته ما يُغني عن الكلام فهي ليست بحاجة إلى كلام، وكانت تقرأ في عينيه القصة كاملة وعلى جفنه كلمة الخاتمة.
رأى نهرًا بلون العسل يتدفَّق ماؤه عذبًا، رمال ناعمة كأنها صفحة سماء رائقة، وخيوط الشمس الذهبية تتدافع نحو الأرض تنثر الضياء والدفء، بساتين وحقول غنَّاء على جانِبَي الطريق، الورود تتمايل والزهور تتراقص بغنجٍ ودلالٍ على نغمات الرياح، فيما أريجها يعبق الجوَّ سحرًا وجمالًا وعطرًا فوَّاحًا، وبعض الندى ينثُر عبقه رذاذًا لطيفًا على وجنتَيْه.
- ما أروع الطبيعة هنا! كأني أرى كل شيء لأول مرة.
كان الطريق أمامهما ساحرًا على جانبَيْه مُروج خضراء يانعة تزدهي تحت أشعة الشمس التي تصافح الأرض بود.
تذكر أنه لا يعرف اسمها فاستدار لمواجهتها سائلًا:
- من أنتِ؟ وأين نحن؟ وكيف يُضيء الكون من غُرَّتك ويشرق من نورك؟
ابتسمت وضنَّت بتوضيحٍ أَسرَّته في نفسها مراوغة إياه:
- لا يهم، المهم أننا هنا بعيدًا عن ضجيج البشر، فلا يحزنك شيء وأنت معي وليغْشَ الكون ما يغشى.
ابتسمت وهي تباعد الخُطا عنه، فهرول يلاحقها مدفوعًا هو بقوةٍ خفيةٍ للسَّيْر وراءها، كانت تتسلل إلى رئتيه كالنسيم تُلطِّف جوفه المتقد كربيع يحمل البهجة والفرحة بعد خريفٍ طويل.
هَمَّ أن يسألها مرةً أخرى، ويستنطقها لإجابة أسئلته التي لا نهاية لها، فاختفت كل الأصوات حوله، وتبَقَّى صوتها وحده يداعب أذنه ويُدغدغ فؤاده. سحرته بعينيها العسليتين فلم يعد يرى شيئًا غيرها، ألحانُها كانت قصائد عينيه، ودندناتها كانت نبضات فؤاده، كانت كالنور الذي أضاء ظُلمة لَيلِه فسقط في ظلِّه وذاب في حضنه، ليبعث فيه الدفء والراحة.
حوله المكان رائعٌ خلاب، قرص الشمس الدامي الذي بدأ يبتلعه الأفق رويدًا رويدًا، ليتناغم ثوب السماء الأزرق مع لون البحر السماوي الرائع في لوحة فنية بديعة، الأشجار مصفوفة، حقول وبساتين، ورود وأزهار، كثير وكثير.
أُلقِي في رَوْعه طمأنينة شابها شعور خفي بأنه لا ينتمي إلى هذا المكان، أفسد اللحظة بتلك الهواجس وتساؤلات اقتحمت تفكيره تدفعه إلى المعرفة، كيف استحالت ذاكرته إلى ورقة بيضاء لا يكاد يذكر شيئًا؟! كيف انشقَّت الأرض عنها؟!
اضطرب كل شيء حوله واختلطت الأمور عليه، خيالاتٌ وهواجس عَلَقتْ في مُخيِّلته عن الماضي، فرضخ تحت وطْأتها مُعلَّقًا كورقة شجر جافة في مَهبِّ الريح، وهنا تشتَّتَت العقول وتفطَّرت القلوب، فأصبح الكلام هذيًا، والفكر نسيًا، والنظر آسيًا.
لكن السهام التي أطلقتها من عينيها تلاقت مع نظراته الحائرة، لتتعانقا وتتآلفا في المنتصف تمامًا كما في القلب، ليمتزجا فيه، لتقف تلك الخفقة بينهما شاهدةً على مشاعر تتأجَّج، وحب يولد ويتوهَّج.
ابتسمت فأشرقت الدنيا، ليزداد ذهولًا ويستسلم تمامًا، راح يجول ببصره في المكان الفسيح كأنما قُدَّ من جنة رضوان.
هم من بحثنا عنهم في موضع فَفرَّقتنا المواضيع، من أرادوا أن يؤنِسوا وحشتهم فتوحَّشوا الأنس، سَعوا إلى البراح ولم يملكوا البوح، فرَّقهم الناس وجمعهم الله من فوق سبع سماوات، تعثَّرت أقدامهم فتلاقت قلوبهم وضمَّتهم دائرة واحدة. وإن كان التِّيه، وإن حاربوا الضياع، وإن سكنوا الوحدة.
وفي النهاية رسموا على شجرة قلبين متعانقين، كأنما يُحيون أملًا أراد الخفوت بعبارة واحدة: "عساه قريبًا".
رحل النهار إلا قليلًا منه، تطلَّع إلى المكان يستشفُّ هويَّته ففشل في معرفة أي شيء، أو التعرف على أي أحد، استبدَّت به الحيرة وأهمَّه التفكير، جناحاه خارا من التحليق في السماء، قدماه ذابتا في البحث عن إجابة لسؤاله، وابيضَّت عيناه من التحديق في الأشياء، لكنه ما زال يرقب طلَّتها البهية ويتزَوَّد من حضورها البديع ويراقب قدومها الرائع، فلا انشغال للطرف عن وجه الحبيب، وهو كان دائم النظر إليها.
طالعها باهتمام وتعجب حين همست إليه:
- بدأت مراسم "الكرنفال".
مراسم الكرنفال
هكذا سمع منها وتابعها بشغف وهي تقترب منه وتشير إلى مجموعات متلاحقة من الحوريات برزت أمامهما، تلتها النساء ثم صفوف كثيرة من الرجال في احتفالية كبيرة. التفت يطالع السماء فوجدها صافية شامخة فوق أشجار عملاقة كأنها مُعمِّرة منذ آلاف السنين، بناء ضخم يختلط فيه اللون الأبيض باللون الذهبي في روعة وجمال، بهو متسع، عيناه تبحثان عنها، وحين تلاقت الأعين شعر بوخزٍ في قلبه، شيءٍ ما ينبت في فؤاده، وثمة وهج يزداد وشغف يتزايد.
دقت الطبول وأعلنت الأبواق الافتتاح وبدأ المهرجان، رقصات أدَّتها الفتيات برشاقة وخفة، يتزايد إيقاع الرقصات، ليُلهِب حماس الجموع فيزداد التصفيق وتعلو الصيحات، في حين أن الملكة تراقب ما يجري في صولجانها في تلك القاعة الفخمة التي يتصدَّرها عرشٌ عظيم.
الرؤوس فوق الرقاب مشدوهة مشدودة بحبال خفية وقد غلب الجميع الفضول المصاحب للدهشة والانبهار، لكن شيئًا ما بعث الطمأنينة في قلبه واستمال الهدوء إلى نفسه.
دنت منه محدثته هامسة:
- الملكة "فيرومونا".
وأشارت باتجاه الملكة التي كانت تزدان في ثوب مُزركشٍ بلون العسل تعلوه غلالة واسعة ألوانها مبهجة، يغلُب عليه اللون البرتقالي، أكثر نعومة وأشد لمعانًا من الجميع. تُعمِل نظرها فيما حولها بإباءٍ وشموخ، والبهجة ترتسم على وجوه الجميع بِشرًا وسرورًا، انحنت الرؤوس والهيبة تكتنف عرش الملكة، الاحترام والإجلال سادا الأجواء، وهنا خشعت الأبصار.
الكل يشاهد بشغف بداية الاحتفال، انتهت الفتيات من الرقص وبدأ الهتاف لفخر المملكة: "عاشت الملكة فيرومونا"، وكرر الجميع: "عاشت الملكة فيرومونا" ( ).
تقدم صفَّان من الرجال العمالقة الأقوياء البنية الضخام الأجسام في موكبٍ مهيبٍ يحمل عرش الملكة، يتقدمون من منتصف الحلقة بخشوع ففُتِنَت الأعين بجمال صاحبة الجلالة.
كان الجميع طيِّعًا لرغبات الملكة التي أبدت آيات الشكر والامتنان لشعبها الكبير، اتجهت الأنظار إلى ملكتهم، بعضها مبهورٌ وبعضها مفتخرٌ وأغلبها محبٌّ ممتنٌّ، وضجَّت الساحة ابتهاجًا وتجاذب الجميع أطراف الحديث.
الحياة التي ظنَّ أنها خذلته ذات مرة ربما هو الذي لم يتمسك بها جيدًا، ربما هو من رغب في عدم اللحاق برَكبِها، ربما هو من فقد الشغف بها. الحياة لا تخذلنا، نحن مَن نفعل.
الحياة لا تفوتنا لكنها تدهسنا حين نتكالب عليها ونظن أنها الغاية الكبرى، ثم ندرك في النهاية أنها كانت مجرد رحلة قصيرة في أسفار طويلة.
خلف قوافل السحب التي تزدحم بها السماء، والبرد الذي يكاد يجمد كل شيء، كان يرى كل شيء باللون الأبيض، الجدران كأنها صنعت من الشمع الأبيض، هناك بهو للاستقبال كل ما فيه نقي نظيف معطر، الثريات تتلألأ، الأرض مفروشة ببساط لونه كلون العسل المصفى.
عَبَر ردهة طويلة، أرضيتها مكسوة بالرخام الأبيض المصقول وسقفها شديد الارتفاع، الأعمدة متراصة على الجانبين، كل شيء ناصع البياض. المكان كان باردًا، والنسمات تعانق الوجوه بلطف حميم، الهواء يعبق برائحة منعشة، راح بصره يتنقل فيما وجهه مشوش يتنازعه الذهول والدهشة.
شعر بخفة كأنه في سماء صافية، كأنه يطير، نظرت إليه صاحبته ثم راح نظره يطوف فوق ملامحها كأنه يقرأ كتابًا ويريد الحصول على المعرفة.
شعر بنسمة ناعمة تلفح وجهه عندما تطايرت أطراف وشاحها، أحس بيد تتلقفه، إنها يدها، أطال النظر إلى وجهها فاختفت عنه حدود الزمان والمكان.
نسمات الهواء تخترق جناحيه ليحلق في الأعالي، يحملانه تارة فوق الأزهار وتارة وسط الأشجار، كان يوقن أن تلك الأشجار لها أرواح حية فهي ترى وتسمع وربما تتكلم. في المساءات الدافئة كان يمسك أوراقها اليابسة بين يديه يفركها ليذروها في الهواء، في حين يمر بأصابعه ملامسًا بعض الورود والزهور متأملًا روعتها، منتشيًا بعبيرها، يناجيها أحيانًا ويُسائلها أحيانًا.
أقبل الصباح، ليلقي على الأرض حُلَّة من الإشراق ويغمرها دفئًا ونورًا وضياء. الجو دافئ والطقس صحو فخرجت الطيور من أعشاشها تحلِّق بأجنحتها، تشقشق بنغماتٍ عذبة. شعر بالجوع يقرقر بطنه، تقدَّمت صاحبته وأعطته بعض الطعام الشهي الذي التهمه بنَهمٍ شديدٍ مستعذبًا طعمه اللذيذ.
- هذا فقط حتى نجتمع بالملكة في وليمة أعدَّتها خِصِّيصًى لاستقبالك.
بُهِت وأجابها في ذهول:
- الملكة تدعوني أنا؟!
- نعم، فأنت في ضيافتي، لا تستهن بي!
زلزلته كلماتها وازدادت رعدة فؤاده.
- لقد امتدَّت بيننا الأيام التي خلت من الجميع وامتلأت منكِ، فخبِّريني بالله عليكِ، مَن تكونين؟ فقد اشتد عليَّ أمركِ وانقدتُ إليكِ طوعًا، فأي المقادير أحاطت لتحيلني بكِ حالًا وإليكِ مرتحلًا؟!
- حَرِيٌّ بمن أيقن تلك المعاني أن يعرف صحاح الأمور ويدرك ما استعصى عليه من الفهم، فلتصبر إن الوعد حق، وأنا وعدك وموعودك وموعدك.
في ثوب أخضر مُطرَّز بالقصب، وجدائلها الذهبية المعقودة على ظهرها، تقدَّمت "شهد" بوقارٍ وهدوءٍ تُحَيِّي الملكة، في قاعة واسعة كانت تنتظرهم الملكة "فيرومونا" أمام مائدة عامرة بما لذ وطاب من الطعام والشراب المختلفة ألوانه.
كانت بشوشة الوجه، يجلس عن يمينها "اليَعْسُوب"، الذي قام لتقديم الترحاب ومعه بعض الحوريات ورجال الدولة. أشارت الملكة للجميع فجلسوا، فيما بعض الحوريات كنَّ يغنِّين ويعزفن بألحان عذبة، وصغيرات العذارى يرقصن بمهارة وخفة لا مثيل لها كأنها لوحة فنية لأحداث في مشهد من رواية تاريخية.
ابتسمت الملكة في ود وبادرته بسؤالها:
- هل أنت مستريح معنا؟
- بالطبع سيدتي، المكان رائع والفتيات يؤدين عملهن على أكمل وجه.
هزَّت رأسها برضا وأردفت:
- وكم ستبقى في ضيافتنا؟
باغته سؤالها، فهذا ما لم يحسب حسابًا له، غمغم مرتبكًا:
- لا أعرف.
تردد صوتها في القاعة وأعقبه صداه:
- مرحبًا بك في كل وقت يا عزيزي.
مرَّ الوقت مبهجًا في ضيافة الملكة، لمس هدوءًا افتقده منذ زمن بعيد، استشعر خدرًا يسري في أوصاله، خلع أردية الريبة وتآلف مع المكان والزمان، فداعب الكَرى عينيه واستراح جسمه واستكانت نفسه وغطَّ في نوم عميق.
ليلة واحدة فقط ننام بلا كوابيس مزعجة، ولا أحلام مقلقة، نور ويقين ولا ظلام فيها بل كلها، لا يكون نور فراشنا فيها جمرًا متَّقدًا ولا وسائدنا لهيبًا مستعرًا، ننام بلا دموعٍ حارقة، بلا سهرٍ مضن، بلا تعب، بلا أرق، بلا ذكريات. نقضي على الكراهية التي نسينا أسبابها والشغف الذي لا حدَّ له، والحماسة لما لم يعُد واعدًا، والحنين إلى ماضٍ لم يكن جميلًا.
ليلة واحدة فقط لإكمال الروايات التي لم تكتمل، ووضع نهايات لأحداث لا تنتهي، لغناء كل القصائد القديمة وعزف الألحان الهادئة، للقاءات المرتبكة وإلقاء السلامات، لتبادل الابتسامات واللكزات أيضًا.
ليلة واحدة فقط أقول فيها "أحبكِ" دون مداراة أو مواربة، أجري فيها كل التجارب المؤجلة، المغامرات المنهكة والنزوات الطائشة، أعلن فيها اعترافات صادمة.
ليلة واحدة فقط يحتفظ فيها البدر بتمامه والقمر باكتماله والشمس بوهجها، تتخلى فيها الأرض عن لفِّها ودورانها علينا، يتخلى القمر عن تخاذله والنجوم عن ترددها والشمس عن سطوتها والعتمة عن سوادها، لا يكون فيها الحديث همسًا والحب رجزًا والقطيعة لأهل المرحمة.
ليلة واحدة فقط لا ليكون الصباح أجمل، بل لنكون أخفَّ حملًا وأنقى سريرةً وأوضح بصيرةً. هذا كل ما تمنَّاه، ليلة واحدة فقط.
تذكَّر حين ضاقت به نفسه وضاقت عليه الأرض بما رحُبَت وظن أنه وحيد وأن الأماكن خاوية على عروشها، تذكَّر حين زاد همه وحزنه وحمل نفسه الباهتة كما حمل خريف أيامه الطويلة ولياليه السُّود وأجنحته المُتَكسِّرة.
تذكر حين أعلن هزيمته في معركة لم يخضها بعد، فأرادها انتصارًا ولو للمرة الأولى والأخيرة، أرادها حصنًا يأويه بعد سقوط قلاعه وموت جيشه، أرادها ملاذًا بعد سفر طويل وسير عسير في دروب مُظلِمة، أرادها حضنًا بعد صقيع بارد وأمانًا بعد أن أُغلِقت كل الأبواب في وجهه، أرادها يدًا تُكَفكِف الدمع وهواءً يُثلج الصدر وماءً يروي جفاف أيامه قبل حلقه، أرادها سلامًا بعد أن تَعِب من الحرب، وحياةً لأنه على وشك الموت، أرادها حبًّا لأن الأرض مُلِئَت بالبغض.
***
كان "أبو راغب" يتوسم خيرًا في ولده، ينتظر منه السند له ولشقيقاته، بعد أن ترك قريته فرارًا من الثأر الذي يحصد الأرواح بلا رحمة، كرِه العصبية القبلية وكرِه الثأر قَدْر كرهه رائحة الموت، كان يخاف البندقية، يرتجف من ملمسها، الموت الذي يصاحبها يختبئ في رصاصاتها، يتحيَّن الزمان والمكان، ليبدأ مسلسل بترٍ لا يكاد ينتهي.
للموت أسباب عديدة ليس بالضرورة أن يكون الثأر أحدها، كان يردُّ على أعمامه هكذا وهم يطالبونه بالأخذ بالثأر، ففي ربوع القرية سيلقبونه بالخائن الجبان.
قفز إلى مخيلته صورته وهو يسير مُطأطَأ الرأس في خِزْي، يقذفه الصغار بالحجارة وتبصق في وجهه النساء، فكَّر في الهرب بعيدًا ليضيع وسط زحام المدينة، ترك أرضه وماله وأهله بالسُّترة التي على جسمه، لينجو بنفسه، بل بإنسانيته، تنقَّل من مدينة إلى أخرى، لا يكاد يستقر في مسكن ويعرفه أهل الحي حتى تتنازعه المخاوف فيحمل حقيبته ويغادر في صمت، خمسة أعوام كاملة استطاع فيها أن يُغيِّر اسمه وعمله، بل جلده.
وقد اكتسبت بشرته لونًا جديدًا داكنًا مائلًا إلى الاحمرار من أثر الشمس، فقد كان يبيع بضاعته وسط الميادين وعلى قارعة الطريق، باع كل شيء، بدءًا من الحلوى والبسكويت، مرورًا بالحقائب والأحذية وانتهاءً بالملابس التي وجد في تجارتها الخير الكثير، استطاع منه أن يستأجر محلًّا صغيرًا يعرض فيه بضاعته، وليعرف المرأة التي تزوجها فيما بعد لتُقاسمه خوفه وقلقه، ورضيَت أن ترتحل معه كل مدة.
واجتمع اثنانِ اللهُ ثالثهما، لتحفظ الثانية سرَّ الأول وتصونه، قال لها يومًا:
- أنا كورقة بيضاء، فلتخُطِّي بيمينكِ ما سيقرأه الناس عنا، سنواجه الحياة بصدور عارية، سأكون معكِ وأمامكِ أتلقى صدمات الحياة وأدافع عنكِ بكل ما أوتيت من قوة، من قوتي وحدي، لا أب يُساند ولا أم تُناضل ولا عم يَرعى ولا خال يَحمي، فأنا مقطوع من شجرة وإن كانت شجرة عملاقة بظلِّها وظلالها، لكن مغانمها ليست من حقي، لقد تراخى بي الزمن، فما أبعد الماضي وإن طال الفكر! أنا مطرود ومُطارَد ومضطرد بكامل إرادتي وبكل وعيي.
أسرَّت شفقتها عليه في نفسها وإن كادت تبدي له حبًّا وإعجابًا بصلابته وصموده، فارتد إليها طرفها وقد شغفها احترامًا قبل حُب.
- سنكتب معًا ما أراد الله لنا أن نحياه، ولا تنسَ أنني وحيدة يتيمة الأبوَين، ليس لي سوى عَمة عجوز أعيش معها، أسعى على رزقي ورزقها، لست أدري إن تركتها مَن سيرعاها ويهتم بها.
- ستعيش عمتكِ معنا يا راضية، فأنا بشوقٍ جارف إلى دفء عائلة، وسبحان من يمنع ويمنح، يأخذ ويعطي، يحرم ويهب. حرمني حنان عائلتي ووهبني أسرة جديدة، فالحمد لله حتى يبلغ الحمد منتهاه.
لكن الأقدار تختار وعين المولى ترحم وترعى، فبعد عقد القِران وهما يستعدان للزفاف، وافت العمة المنية ورحلت عن الدنيا، ليكونا بالفعل وحيدين، استأنسا ببعضهما، فيسد أحدهما ذاك الثقب في قلب الآخر الذي يسد تلك الفجوة في روح الأول.
وأنبت الحب ثمرة أولى، هي فتاة جميلة، "سلوى" قُرَّة عين أمها وروح أبيها، ثم تبعها ولد آخر أسمَياه "راغب"، كان معقد الآمال ومنتهى الرجاء، وتلاهما "جنى" بخفة ظلِّها وحيويتها، حتى كان مسك الختام وبدر التمام "سُلاف"، حبَّة القلب ونور العين، بركة المنزل وخيره، بل طُهر الكون ونقاؤه كله.
وفي رحلة الحياة حاول الأب أن يوفر لأبنائه حياة كريمة تكفيهم ذلَّ السؤال وقهر الحاجة، كان يواصل الليل بالنهار كدًّا وتعبًا، بالكاد وفَّرَ لهم الضروري من متطلبات الحياة، حتى جاء مرض "سُلاف" ليستنزف كثيرًا من قُوت الأسرة، وحتى يكمل "راغب" تعليمه انحنى ظهر الأب وكلَّت قدماه، لكنهم كانوا يبيتون بقناعة ونفس راضية، فقد كان أبوه دَومًا يقول:
- إن الحياة قصيرة، فلا تذهب نفسك عليها حسرات، لتبدأ بالصبر وتنتهي بالرضا فتحوز الدنيا بحذافيرها.
كان البيت الذي يعيشون فيه بسيطًا، أثاثه متواضع، غرفتان صغيرتان إحداهما للبنات والأخرى لـ"راغب"، وحجرة كبيرة تضمُّ مقعد الضيوف وأريكة للأب ومثلها للأم، التي كانت تتجول في المنزل طوال الليل، لا تضع جنبها حتى يسكن الجميع وتطمئن على الكبير قبل الصغير.
لم تشْكُ يومًا ضيق الحال وكثرة العيال، بل دائمًا هي حامدة راضية، وبالفعل كان اسمها "راضية" فكانت كشجرة السنديان العتيقة تمنح الجميع ظلَّها وظلالها، لكن ما أوجع قلبها وجعلها تشيخ قبل أوانها مرض "سُلاف" الذي طال بلا أمل، فلم تملك لها إلا الدعاء.
"سلوى" أخته الكبرى، صاحبة الطلَّة الجميلة، تمتلك عينين واسعتين وقلبًا أوسع من المحيط، قبِلت الزواج بـ"خيري"، وهو رجل متوسط الحال، لتخفف العبء عن كاهل والدها، فعاشت حياةً صعبةً تكاد تندرج تحت خط الفقر.
كانت الشمس ترحل وقد تخلت عن وهجها ونورها، لتغطس ويبتلعها اليَمُّ كما ابتلعته الحياة من قبل، ليصير ترسًا من تروسها التي لا تكلُّ ولا تملُّ من الدوران.
ذاب السؤال في عتمة أفكاره، والأب يسألها:
- أهي بخير؟
هزت رأسها:
- الحمد لله على كل حال.
"سُلاف" ابنته الصغرى، ضمَّها إلى صدره فدفنت رأسها الصغير فيه، تحتاج إلى حنانه كله، نظرت إليهما الأم مطرقة الرأس وقلبها يعتصره الألم على فلذة كبدها التي تصارع مرضًا يسيطر على عقلها ويُكبِّله، فبينما يكبر جسمها يومًا بعد يوم وعامًا بعد عام، يظلُّ عقلها لا يبرح مكانه ولا يتجاوز أعوامه الستة الأولى، ومع ضِيق ذات اليد لم يستطع الأب توفير رعاية صحية مناسبة لها، بالكاد بعض ما يحصلون عليه من دعم أطباء المراكز الطبية أو المستشفيات الحكومية، استسلما لقدر الله ورضِيا بما قسمه لهما.
أُم "راغب" لا تكُفُّ عن البكاء كلما نظرت إلى ابنتها، كانت تبكي حين تُبدِّل لها ملابسها كأنها طفلة صغيرة، كانت تبكي حين تجلس إلى ابنتَيها توصيهما خيرًا بأختهما المريضة، كانت تبكي حين تطلب من "راغب" البحث عن مركز لتأهيل ذوي الاحتياجات الخاصة فيعِدها ثم ينسى، كانت تبكي حين تنظر إلى وجه زوجها، كانت تبكي ولكن لا أحد يراها ولا تترك أحدًا يطَّلِع على بكائها.
لا تترك نفسها فريسة للبكاء كثيرًا، فقط تجد فيه متنفسًا وسرعان ما تحمد الله وتبتسم في رضا، كانت تبيتُ الليلَ مطرقةَ الفكرِ حزينةً على حال ابنتها، تفكرُ في مصيرها إن هي رحلت وتركتها، وكثيرًا ما كانت تذهب ليلًا إلى فراش "سُلاف" وتلقي عليها نظرة لتطمئن، فتجد في وجهها نورًا وعلى جبينها سكينة وطُمأنينة فتغمرها راحة البال ويتغمدها رضا ويقين كبير.
وكلما ابتسمت "سُلاف" اطمأنت أمها بوعد ربها فهو خير الحافظين، كانت تَرجمُ الإحباطَ ببسمةٍ مشرقة.
نامت ذات ليلة وكانت مهمومة بحال ابنتها، فرأت في منامها رجلًا يرتدي البياض، وجهه يتلألأ نورًا وثغره يبتسم حبورًا، عليه هالة من وقار. نظر إليها برضا فاطمأنت، وكانت تحمل "سُلاف" بين يديها فأشار إليها الرجل بثقة ومدَّ يده يلتقط الصغيرة، مسَّد شعرها مرة بعد مرة ونظر إلى عينيها ثم أعاد الكَرَّة، كانت يداه بيضاوين لا شِيَة فيهما ووجهه نور لا تقاسيم فيه، فرفع الصغيرة كأنما نبت لها جناحان فحلقت فوق رؤوسهم، والهالة البيضاء تزداد اتساعًا، ليضحك الرجل حتى تظهر نواجذه ويشير إلى الصغيرة لتعود إلى أمها كي تَقر عينها ولا تحزن، وحين تضمها الأم بين ضلوعها تُشفَى من سقمها وتغادرها علَّتُها، كأن لم تمرض من قبل، فتغدو صبية جميلة القدِّ ممشوقة القوام كاملة النضج والأنوثة، وتبدأ في ترديد الأذان لتصدح "الله أكبر"، فتُكبِّر الأم مرات متتاليات "الله أكبر الله أكبر الله أكبر"، تصحو على صوت أذان الفجر صادحًا ولا تزال بالتكبير تردد "الله أكبر"، تقولها من قلبها قبل لسانها.
انتفضت الأم من فراشها وقد ملأت حناياها السعادة، وكلما تذكرت رؤياها تطرب، هاتفٌ يناديها أن المريض سيشفى والشقي سيسعد والمستقبل أفضل وأجمل.
كان لـ"سُلاف" خيالٌ جبار، كانت ترسم كل ما تراه، تعبر عن نفسها بالرسم فترتب به ما تبعثر من مشاعرها وما استحكم من مغاليق عقلها، وأول ما رسمت هو عائلتها، رسمت صورة بسيطة للأب يجلس وبجواره الأم، في حين تمسك "سلوى" بيد أختيها "جنى" و"سلاف" ويرتسم على شفتيها ضحكة رائعة، أما "راغب" في ركنٍ قصيٍّ من اللوحة بين كتبه وأوراقه لا يُعيرهم اهتمامًا.
كانت تعابير وجهها البسيطة ونبرات صوتها التي لا تتعدى بضع جمل قصيرة تدل على براءة طفلة في السادسة وجسم شابة في العشرين من عمرها، كانت تضحك حين يبكي الجميع وتبكي حين يفرحون، فرشاتها تتمتع بتفاصيل متقنة وألوان متناغمة لروح جميلة ونفس شفيفة، ترسم أناسًا لم ترهم من قبل، فذاكرتها تعجُّ بآلاف الوجوه التي رأتها وإن لم تتعرف عليها أو حتى تتذكرها، فرشاة تحكي كل شيء وتبوح بكل سر، وإن لم تُوهَبْ لسانًا فصيحًا أو عقلًا ناضجًا، عيناها تلمعان بقوة، تُحرك رأسها باستمرار، تُغمغم بكلمات غير مفهومات، كان نضجها كشعاع ضئيل يتراقص من بعيد في نفق مظلم والسنوات تمر والشعاع يخفت تدريجيًّا حتى يكاد ينتهي.
في الصباحات الباكرة، ترى قريناتها يرتدين زيَّ المدرسة وتُزيِّن رؤوسهن الشرائط الملونة، فتأكل الحسرة قلبها على فلذة كبدها ويعتصرها الأسى. كم عانت من المقارنات الظالمة والقاتلة بينها وبين أختَيها! المرارة التي تعانيها قتلت كثيرًا بداخلها حتى أصبحت عاجزة عن التعبير، أصبحت تتأقلم مع حطامها الصامت لتعتاد التعاسة ولتنطفئ رغبتها في الحياة، بل تتمنى أن يكون في المستقبل أقل قدر من الآلام. بعض الانكسارات تترك فينا شيئًا لا نستطيع تجاوزه، وتلك الجراح التي تتركها تظل تؤلمنا وإن توقف النزف وإن بدأنا في التعافي، تظلُّ ذكرياتها تُوجِعنا وتذكرنا بأن تلك المعارك القديمة قد أنهكتنا تمامًا. لكن ما كان يجعلها تتشبث بالأمل وتقاوم الغرق في طوفان الألم هو أولادها وبخاصة صغيرتها "سُلاف"، فقد كانت تدرك أن الناس لا يحيون لأنفسهم، بل يحيون لتعلق الآخرين بهم كطوق نجاة.
- لِمَ كل هذا الشرود يا راضية؟! أخبريني ما بكِ؟
قالها "أبو راغب" بعد أن رآها تجلس بجوار النافذة تتطلع إلى الطريق ولا ترى منه شيئًا.
تنهدت بحرارة والتفتت إليه بعد أن استفاقت على صوته الحنون:
- قلِقة أنا على أولادي وبخاصة سُلاف.
"راضية" التي تجاوزت الأربعين ببضع سنين تتمتع بصبغة الحياء وهو ما يميزها عن بقية النساء.
ابتسم مداعبًا:
- لا تفْرطي في حبك لهم واستودعيهم الله مولاهم، هو أرحم بهم منا، وهو أحن على صغيرتنا من أنفسنا، فلن يضيعها الله.
أومأت برأسها موافِقةً وهي تردد:
- ونِعم بالله. قل لي بالله عليك ماذا فعلت في المبلغ المطلوب للجلسة العلاجية الخاصة بسُلاف، موعدها غدًا.
- يدبرها الله، هو مولانا وهو نعم المولى ونعم النصير.
تنهدت عبر خواطر يمتلئ بها صدرها:
- أنا أم قبل أي شيء، أريدهم عكازَ فجرٍ أتوضأ قبله بحبهم وأتكئ عليه في المساء قبل أن أنام، وإن غاب الجميع يتسع كتفي لحملهم حين يعودون. أحلم بصلاحهم ولا حيلة لديَّ إلا الدعاء، فهو سلاحي الوحيد الباقي بعد أن نفدت كل حيلي عندهم. أريد دموعًا لا تهرب من عيني أمامهم وكفًّا تتسع لرعشة يدي، أريد ابتسامة لا تعلق فيها أصوات العالقين بداخلي، أريد يومًا فضفاضًا يسع تفاصيلهم فأنا أحبها كلها. لا بأس، ما يزال عندي كثير من الحكايا ليكبر الصغار، كثير من الهموم ليملأ الطناجر ويفيض فأطهوه وأوزعه على المارة، كثير من الأصابع حاولت أن أمسكهم بها فاحترقت، يدان حاولتا التقاطهم بها فسقطتا. أدركت اليوم أن نظري ضعيف، لم أستطع رؤية عيوبهم، أو لِنَقُل لم أحب رؤيتها. كثير من المسكنات التي أرهقت كبدي، حبات الدواء التي امتلأ بها جوفي، كل ذلك سرٌّ حتى لا أرى في أعينهم حزنًا ولا ألمًا. ربما أتركهم يومًا، لكن سأخبرهم بأنني باقية لن أرحل، ستظل روحي تحاوطهم ودعائي يسبقهم وقلبي يرعاهم ويحفظهم.
لاح من بعيد طيف ولدهما قادمًا، مرَّ بهما ليُلقي السلام ويرحل كشعاعٍ باهتٍ لا تأثير له ولا أثر.
تمتمت الأم قبل أن يغادر بصوت مشحون بالألم:
- لا تنسَ ما طلبته منك يا راغب، فجلسة أختك موعدها الغد وربما وجدت لنا مخرجًا عند أحد أساتذتك أو زملائك.
لوَّح بيده في الهواء، وغادر دون رد.
كانت تأمل منه أن يكون راعيًا لشقيقاته مراعيًا لوالديه، لكنه كان لا يبالي بأي شيء.
***
فرض على قلبه عقابًا قاسيًا بالفرار من كل ما يتعلق بماضيه حتى ذاك الحنين إلى جذوره وعائلته، بتر يريح ضميره لكنه يتجرع مرارة قسوته رويدًا رويدًا.
ففي رحلة الحياة، تتعانق الأمنيات بالقلوب، فما تلاقى منها أثمر وأينع وما سقط ففي قعر القلب جبه ومكمنه، وهو رجل مضعته الخطوب، بعض الخبز وقطع الجبن الأبيض كانت فطورًا صباحيًّا معتادًا، وكوب شاي من يدها لهو النعيم المقيم، بساطة واقع أم عظم رضا وطول صبر ويقين، الحب شعور غير قابل للتفاوض، كانت هي لحظات صدقه، نصفه الذي وجده بعد عناء.
"أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه"، كررها "أبو راغب" مرارًا وخطوط الزمن التي حاوطت جانبي ذقنه تزداد.
- أبيع نصيبي من الأرض، هذا هو الحل الوحيد.
ألقاها في وجهها دفعة واحدة، ردت باترة لجدال على وشك الحدوث:
- لا، لن تذهب إليهم برجليك، سيقتلونك!
كانت "راضية" تخاف عليه أكثر من نفسه التي بين جنبيه، بمشاعر زوجة تعلم ما يقض مضجعه تعلم عجزه وقلة حيلته.
رمقها بحسرة وغضب:
- علاج سلاف يا راضية.
رغمًا عنها صرخت رافضة:
- أنت أهم عندنا من الدنيا وما فيها!
استقام وتوجه نحوها بخُطا بطيئة ليهمس بحروف ثقيلة لا يود أن يسمعها لأحد:
- وماذا سنفعل؟
- يدبرها الله الذي لا يغفل ولا ينام، حاشاه ينسى عباده.
جاورها على الأريكة القديمة، كانت ترتدي شالًا صوفيًّا وبجوارها مذياعٌ قديمٌ تتطايَر منه برامج صباحية خفيفة تناسب قلنسوته المزركشة بألوان الطيف، صنع يديها لشريك عمرها.
بالسلامة يا حبيبي بالسلامة
باصبَّح عليك
إيناس جوهر، تسالي
غمض عينيك وامشِ بخفة ودلع
الدنيا هيَّ الشابة وانت الجدع
تشوف رشاقة خطوتك، تعجبك
لكن انت لو بصيت لرجليك، تقع! عجبي
ابتسمت تجاهد تلال الحزن الرابض فوق صدرها وغيرت المؤشر باتجاه إذاعة القرآن الكريم، رمقته بحنان ثم قالت بنبرة أثيرة:
- اتركها على الله، سأدبر جمعية مع بعض الجارات.
على الرغم من ملامحها الباهتة وذلك الضعف والهزال الذي تبدو عليه، فإنه يراها أجمل نساء الكون، وما بينهما لا تستطيع أن تطلق عليه حبًّا، فهو أعظم من هذا بكثير. فحين سُئلَت "راضية" ذات مرة عنه قالت: "ظله أمان، طرفه ستر وحضنه كون رحيب"، واختتمت بابتسامة خجلى: "وحسه بالدنيا".
استبشر خيرًا بطلة ابنته "سلاف" فضمها إلى جناحه لثوان، وجلست بجواره تهز رجليها بوداعة طفلة:
- صباح الخير، صباح النور على البنور، يجعل نهارنا هنا وسرور يا بابا ويا ماما.
تلك بهجة الحياة.
منامتها الشتوية وذاك اللكلوك المنتفخ في قدمها، أنوثة موءودة في رحاب طفلة صغيرة لم يتجاوز عقلها بضع سنوات، في حين أن جسمها يفوقها بضعفين على الأقل.
راغب
كنا اثنين و"عمرو" ثالثنا، أصدقاء مدرسة، تشابهنا في السجايا وإن اختلفت هيئاتنا. "أحمد" كان أكثرنا ذكاءً وتفوقًا، نجح في الإعدادية بتفوقٍ مبهر، وكان الأول على المحافظة. "عمرو" كان مغرمًا بالبحث العلمي، لكنه يضيع أغلب وقته في قراءة الكتب السياسية ومتابعة الأخبار العالمية. أما أنا فكنت بينهما، لا إلى هذا ولا إلى ذاك، كنت مهتمًا بدراستي وعلومي وفقط.
"عمرو" الذي كان نعم الصديق، اصطفيته لنفسي، و"أحمد" الذي كان نعم الأخ، فاتخذته خليلي.
السماء التي بكت مؤخرًّا هتونًا حانيًا يُقبِّل صفحة الأرض بحياءٍ فتستقبله بخجل، استيقظنا ذات يومٍ ليفجعنا خبر وفاة "أبو أحمد"، وكان "أحمد" على عتبات الثانوية العامة، ترك له أبوه عائلة مكونة من أخٍ أصغر وابنتين وأم، لا عائل لهم، ما اضطره إلى البحث عن عمل.
ومع إصرارنا على استكماله الدراسة كنا نمده بالكتب والمراجعات، ونرتب أوقاتنا كل جمعة لنشرح له الدروس، ومرَّتْ الامتحاناتُ على خير. ويوم النتيجة كنت و"عمرو" حاصدين الدرجات ذاتها والمجموع تقريبًا فالتحقنا بكلية الطب، أما "أحمد" فقد نجحَ بمجموعٍ ضئيلٍ ليلتحق بكلية متواضعة. فرحنا بالنجاح واستمرت علاقتنا مترابطة مع "أحمد" الذي كبر قبلنا، كان يتصرف كالرجال، يفكر كالكبار، على الرغم من أنه لا يزال في مرحلة الشباب، فإن رعايته لأسرته ومسؤوليته عنها جعلت منه رجلًا ناضجًا، مما أضفى على العلاقة بيننا وبينه أيضًا ظلال المسؤولية عنا بشكلٍ أو بآخر، فقد كان دائمًا الناصح الأمين، كان يحمل همَّ عائلته وهمَّ دراسته، فابتعد عن المزاح واللهو، لا يعرف غير الجِد في حياته، وكما يقولون إن الصاحب ساحب، فقد سحبنا "أحمد" إلى الرجولة، ومضت بنا الحياة، ولا نزال على عهدنا مع "أحمد" ولا يزال على عهده معنا. فذلك النهر الذي يمضي في طريقه يتدفق، لا يُغيِّر اتجاهه مهما مر على أرضٍ صخرية أو تربة طينية، فخَيْره إلى الجميع واصل، يسقي هنا وهناك، الزهور اليافعة كما الأشواك القاسية، فالحياة مثله تمامًا تمضي بنا، تحملنا السعادة تارة ويلطمنا الحزن تارة، ولا يبقى شيء على حاله، لكنها لا تقف على أحد، فلا فرح يطول ولا حزن يدوم ويخلف الله.
أسندت رأسي المثقل بالصداع إلى مقعد، وبعبثية صارخة صاح "عمرو":
- الفريسة حين تدرك أنها ستقع في شباك الصياد، يفرز المخ هرمون الأدرينالين فتتضاعف قوة ركضها ويدفعها الخوف من الأسر إلى محاولة الهرب ولو بدت مستحيلة.
قفز "أحمد" وبفرقعة من إصبعه رفع علامة النصر.
- نعم، وهو ما يفعله البشر غالبًا.
***
طنين مستمر
"أنثى لها مئة عين في رأسها وثماني وأربعون سنًّا في فمها وثلاثة قلوب في جوفها وست سكاكين في خرطومها، لكل سِكين وظيفة، ولها ثلاثة أجنحة في كل طرف، وجهاز حراري يُحوِّل لون الجلد البشري في الظلام إلى لون بنفسجي حتى تراه، وجهاز تخدير موضعي يساعدها على غرس إبرتها دون أن يشعر الإنسان، وما يشعر به كالقرص يكون نتيجة مصِّ الدم، مُزوَّدة بجهاز تحليل دم، فهي لا تستسيغ كل الدماء، لها جهاز لتمييع الدم حتى يسري في خرطومها الدقيق جدًّا، وتستطيع شمَّ رائحة عرق الإنسان من مسافة تصل إلى ستين كيلومترًا، ولها القدرة على نقل أمراضٍ كثيرة أشهرها الملاريا".
اختتم "أحمد" حديثه بابتسامةٍ وهو يُطبِق كفَّيه على ناموسة صغيرة، بينما أنا و"عمرو" ننصت لحديثه بشغف وانبهار، إذ على الرغم من ميوله السياسية في القراءة، فهو مثقف في شتَّى المجالات.
***
كانت زميلتي في الجامعة فلسطينية الأصل، تدرس الطب في مصر، كانت آية في الجمال، عيناها نابهتان وبشرتها بيضاء كالثلج، حماسها وثوريتها في النضال والدفاع عن قضيتها، فتاة تمردت على الأنصاف في زمن عزَّ فيه الإنصاف. أثارت اهتمامي فتقرَّبتُ منها حتى صرنا نتحادث كل يومٍ وسط مجموعة الطلبة في كل شيء، الدراسة والاقتصاد والسياسة. تقيم في سكن خاص بالمغتربات، تطورت المحادثات بيننا من ثرثرة يومية حول الدراسة والمدرسين والطلاب إلى ثرثرات حول الأحداث والقضايا والسياسة، ندرس الطب ذاته ولكن كل بطريقة مختلفة ونظرة مختلفة وغاية مختلفة.
رمقتها بشرود وهي تقف بكل جدية تليق بها وبقضيتها.
- ألا تفكرين في شيء غير بلدك؟
وضعتْ يدها على فمها بصدمة أمام جملتي.
- وما يستحق التفكير سواها؟!
كنت أُحدِّق إليها، في تفاصيلها أحاول تمرير اللحظة، فنهايتها صدام لا محالة.
زفرتُ وهي تجتاز بوابة الجامعة إلى مبنى كلية الطب، هي لا تريد خاتمًا يزين بنصرها، هي تريد من يشاركها قضيتها.
إحساس خانق يستحوذ عليها، "راغب" لا يتوافق مع شخصيتها، يومًا بعد يوم، أسبوعًا وراء أسبوع، شهرًا تلو شهر يتأكد إحساسها، هو لا يؤمن بقضيتها وإن بدا متعاطفًا معها. حتى وإن آمن بها وصدقها وانفعل معها، فهي لا تريد هذا فقط، لا تكفيها مشاعر الحزن والغضب على القدس المستباح، لا تكفيها حنجرة تهدر بهتافات عقيمة مملة لا تجدي نفعًا، هي تريد من يحيا معها حياة الجهاد، من يؤمن بوطنها كقضية وبالأقصى عقيدة، تريد من يتفهم متطلبات أهدافها ومعقد آمالها.
هو ليس رجلها.
كانت تبتهل إلى الله في صلواتها بأن تُكتَب لها سجدة في المسجد الأقصى مُحرَّرًا من دنس اليهود، قبل أن يقبضها إليه. كانت تعيش بكيانها كله من أجل تحقيق تلك اللحظة، يتنازعها شعوران متضادان، أحدهما اطمئنان والآخر قلق، اطمئنان تجاهه فهو صادق، قلق من سلبيته ولا مبالاته.
اتسعت خطاها وكنت أحاول اللحاق بها، وبلفتة صارمة سألتني:
- ما يعني لك الأقصى يا راغب؟ وما رأيك في الجهاد؟ وما هي غايتك الكبرى؟
تلعثمتُ مغمغمًا وقبل أن أجيب استطردت بثبات وحزم:
- لا أريد جوابًا الآن، فكر مليًّا ولنا حوار آخر بعد نهاية الامتحانات، فكلانا بحاجة إلى وقت لترتيب الأفكار.
كان اسمها "شهد"، وبالفعل كانت كقطعة شهد صافية، النمش المتناثر في وجهها كنجومٍ في ليلةٍ لا قمر فيها، أحببتُها بكل جوارحي وتمنيتها زوجة، لكنني انتظرت تحسن الأحوال وانتهاء الدراسة حتى أتقدم لطلب يدها، بَيْد أني صارحتها بمشاعري فسكتت ولم تجب، أفترت شفتاها عن بسمة خجول اعتبرتها بدوري موافقة، فكما يقولون: "السكوت علامة الرضا".
غنَّت العصافير على الأشجار وشدَت المياه في الغدران، تراقصت أعمدة الإنارة ولافتات المحلات فرحًا، الكون كله ابتهج بحبٍّ عفيفٍ نبتَ للتو بين قلبين غضين. كانت "شهد" شعلة متقدة من الحماس، ففي السنة الثانية من التحاقنا بكلية الطب كانت تُنظِّم بصفة دورية وقفات احتجاجية، وتعقد ندوات حول القضية الفلسطينية، كانت تؤمن بشدة بحقها في العودة إلى الديار وبضرورة الحرب ضد العدو الغاشم، وتوالت تحذيرات رئيس الجامعة ورؤساء مكتب شؤون الطلبة أو شؤون الجامعة وغيرهم من القيادات لها ولمجموعة مرافقة لها. كم حدثتني عن "صابرا وشاتيلا"، أطفال الحجارة و"محمد الدرة" وغيرهم. كنت أراها متحيزة لقضيتها أكثر من اللازم، أؤمن بكل حرف تقوله ولكن مع استسلام تام للواقع إذ لا أمل في تغييره. كانت تلك طبيعتي، عكسها تمامًا، ومن هنا بدأت الخلافات بيننا. كانت أفكارها نابعة من ضميرٍ لم يتلوث، عفوية غير قابلةٍ للمزايدة وغير صالحةٍ للتزييف. أما أنا فكنت دائمًا منزويًا أعيش في عُزلة اختيارية، لا أصاحب أحدًا إلا نادرًا، أهتم بدراستي ونفسي فقط، وفي رحلتي في دراسة الطب رأيتُ كَمِ الحياة غالية، تتشبَّثُ بها أجسام المرضى بقوة، وكنت أرى الموت ذلك الخيط الرفيع الذي ينسلُّ عن الجسد بهدوء، ليتركه جثةً هامدةً غير عابئ به. كنتُ أرى كيف تغرب الأعين وترحل في صمت تاركةً الأحبة يتجرعون كأس الفقد، كنت أسمع حشرجات الأنفس الأخيرة التي ينتزعها ملك الموت ولا يزال أصحابها يقاومون حتى الرمق الأخير.
هانت عليَّ الدنيا ولم تعد لها سطوة عندي وزادتني بلادةً على بلادتي فلم أعد مهتمًّا بشيء، أن ترى الموت بعينيك أمر صعب، والأصعب أن يصبح تعدادًا رقميًّا لا رهبة له، فيكون أمرًا اعتياديًّا. كانت دراستي حلقة وصل بين الحياة والموت، فأحيانًا تخفف الألم عن جسد أرهقه المرض وأحيانًا تخرج نفَسًا من نَفْسٍ بأمر الله، فتوهب لها الحياة بين يديك، وأحيانًا يموت أحدهم منك في منتصف الطريق فترى دموعًا وتعرف آهات وجعٍ وتسمع صرخات تشق القلوب لفقد الأحبة.
أما "شهد" فكانت نظرتها إلى الأمر مختلفة، إذ كانت تقول إننا نعرف من خلالهم معنى الحياة ونقدر قيمتها. اتَّهمتني باللا مبالاة والسلبية عقب كل نقاش، تصفعني كلماتها على وجهي صفعة أشد من صفعة الكف.
في أحد النهارات المشمسة، التقيت "عمرو" و"أحمد" في الجامعة، ترجَّلنا حتى وصلنا إلى المكتبة، ليبحث كل منا عن كتابٍ مناسب. كانت تجلس وحيدة فجاورناها وبدأنا الكلام.
- مرحبًا شهد.
- مرحبًا راغب.
- أُعرِّفك بصديقَيَّ أحمد وعمرو.
هزت رأسها بتحية وقورة.
جلستُ أمامها مرة وعلى وجهي علامات التردد والقلق، فقالت:
- ما بك يا راغب؟
أطلتُ النظر إليها وكلي إشفاق عليها.
- أخشى عليكِ مما تفعلين، كثُرت التحذيرات والتلميحات لكِ من إدارة الجامعة.
اختفت ابتسامتها واعتدلت في مجلسها وردَّدت:
- "قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا".
كانت عيناها تحملان جذلًا وبريقًا زادها حُسنًا فوق حُسنها، استطردتْ:
- أنا أدافع عن حقي، عن أرضي التي سلبها الأعداء، عن وطني الذي صار مستباحًا. لم يحتلونا لقوتهم يا راغب، صدقني، لقد احتلونا لضعفنا وهواننا، وهو أننا حين تكالبنا على الدنيا وانشغلنا بأنفسنا، وبِاسْم السلام استُبِيحت الحرمات وسُلِّمت البلاد إلى الأعداء، فأُقيمَت المُستوطَنات وهُجِّرت العائلات وهُدِّمت القرى والمحافظات.
صمت بدأ متململًا بينهما، لكنه كان مقطوع اللسان، تفرسَتْ في ملامحه، كادت أن تصارحه، إن أخبرته فقدته وإن كتمت عنه خسرته، لكنها في النهاية يزداد يقينها ببعد المسافات بينهما. عانقت حزنها حتى انصهرت معه، ذابت فيه لتبدو صامدة. أن ترحل عن وطنك وتترك فيه (قلبك وروحك...) ويبقى القوس مفتوحًا في انتظار مزيدٍ من التنازلات.
تهاوتْ على كرسيها في وهن، قطعَ حسرتها صوت الطلابِ متلحفًا بكسوةٍ من همهمات ونمنمات متقطعة.
في يوم مُشْمِسٍ رأيتها في صحن الجامعة تشتعل عيناها غضبًا، بادرتني:
- هل سمعت آخر الأخبار؟
أجبت:
- لا، ماذا حدث؟
ناولتني جريدة خُطَّ عنوانها بخبر عريض.
"إحياء عملية السلام
"انعقاد مؤتمر السلام بين الوفد الفلسطيني ونظيره الإسرائيلي غدًا باستضافة العاصمة الإسبانية، وستشارك فيه بعض الوفود العربية والغربية لمدة ثلاثة أيام".
كانت تغلي، كأن مَراجِل من غضب تتلظَّى بداخلها، وصاحت غاضبة:
- كيف يجتمعون مع أحفاد القردة والخنازير بعد كل ما صنعوه بنا؟! وعن أي سلام يتحدثون؟! اتفاقيات السلام التي أعادت بعض المبعدين إلى وطنهم، هل استطاعت إعادة الوطن إليهم؟!
قالتها بغيظ واستنكار ( )، ثم تابعت ولم تنتظر مني ردًّا:
- إنه مؤتمر العهر والنخاسة، سُحقًا لهم!
كانت تتحدث كالملسوعة، كأن نارًا تحرق جسمها.
- كيف لوطنٍ أن يُباع بتلك الفجاجة؟!
بكت "شهد"، بكت وطنًا، بل خُذلانًا وضعفًا، لكن ما فائدة البكاء؟! تركتني وهي تلعن الأنظمة والزعماء العرب، كانت أعند من أن تتراجع عن فكرها وأقوى من أن يثنيها أحد عن عزيمتها.
تعاظمتْ على صدرها الذكريات، وتثاقلت على قلبي الأحزان، ولا تزال تغلبني الحيرةُ في أمرها، ويدهشني الثباتُ على قضيتها، أما هي فعبست وهي تشبك ذراعيها أمام صدرها بوجوم، فتذكرت حين أطبق الجنود على منزلهم ذات يوم لم يخطر في بال أحد، أن تلك القوة بأكملها قادمة لاعتقال شقيقها الصغير، اقتلعوا البابَ بقبضتهم العنيفة وكانت هي على بُعد شبر لا أكثر من الباب، وعند الزاوية كانت تقف أمها، امتدت أيدٍ كثيرة تمسك به، فتى لم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره، اندفعوا يحطمون المكان مجتاحين كل شيء أمامهم مبعثرين كل ما تطاله أيديهم، كانوا أسرع بكثير من صرخات أمها وهم يدلفون بشراسة إلى حجرة الصغير وينتزعونه عن فراشه الدافئ. "عمار" الطفل الصغير الذي صعد شجرة بجوار مدرسته وعلَّق العلم الفلسطيني عليها، تلك هي جريمته.
كانوا يجرونه جرًّا رغم تشبثهم به، لم يرحموا دموعَ أمه وتوسلات أبيه وهو يستعطفهم: "خذوني أنا مكانه، فهو طفل صغير". تلك المداهمة سحقت قلوبهم لكنها لم تُثِر الخوفَ فيهم رغم اللطمة التي تلقاها أبوه واللكمة التي طرحت أمه أرضًا كي تترك ولدها. تلك اللكمة التي أجبرتها على أن تضع يدها معلقة في جبيرة حول عنقها لمدة شهرين كاملين حتى عاد الصغير إلى حضنها مرة أخرى، يومها فكت أمه الجبيرة وأطلقت الزغاريد. في المساء، أعدت المنسف ( ) بعد أن ذَبح أبوه خروفًا ابتهاجًا بسلامة ولده.
اجتمعت العبرات في عينها والصرخات في جوفها، فالتفتُّ إليها وازداد إشفاقي عليها، وقد غشيت وجهها مسحة استنكار. الهواء الذي كان بيننا لم يحمل منا إلا الصمت، وماذا يقال وليس للكلمات معنى؟!
وسط الجامعة تحلق عدد كبير من الطلبة والطالبات حولها، تهتف "شهد" وتُلهب حماسهم، وقد اشتعلت ملامحها بالغضب:
الأرض أرضي أنا وأخي ضحَّى هنا
وأبي قال لنا: مزِّقوا أعداءنا
اليهود أعداء إلى يوم الدين لا سلام معهم
ملعونة المؤتمرات، ملعونة الاتفاقيات، ملعونة المعاهدات
فأيديهم تقطر بدماء آبائنا وإخواننا
سرقوا أرضنا ودهسوا عرضنا
فجذوة الحرب لن تنطفئ
أغلق" أحمد" التلفازَ بعد انتهاء البرنامج السياسي الذي اختُتِم بمقال عن خارطة الطريق ( )، أحسَّ بنفسه يتشظى، فكلمة المتشددين قصمته إلى نصفين. ساعة كلاسيكية عملاقة يتدلى منها بندول نحاسي يتحرك بانتظام، ويد تحتضن كوبًا ساخنًا من أعشاب اليانسون، الشراب المهدئ للأعصاب.
على منضدة صغيرة ترقد رواية قرأها مئات المرات عنوانها "لصوص الليل" لآرثر كوستلر، الرواية التي أثرت فيه بشدة، تدور أحداثها في تلال الجليل.
كان يتخيل نفسه بطلًا في الرواية، يسير في شوارع الحليصة ويتسلق ذلك السفح حتى يصل إلى شارع ضيق تقبع فيه بعض أشجار السرو، التي تنحني لتمد أغصانها فتصنع مظلة للمارين.
انتبه على صوت والدته تناديه:
- أحمد.
دلَفت إلى حجرته ووضعت كوبًا من الحليب ليتناوله، لكنه امتنع بلطف قائلًا:
- لا أحتاج إليه مطلقًا يا أمي، فقد شربت للتو أعشابًا مهدئة، اشربيه أنتِ فصحتك تسوء.
- يا ولدي الحليب مفيد لك، وجهك شاحب وجسمك هزيل، حتى أكلتك ضعيفة، الحليب سيمنحك القوة ويساعدك على النوم باسترخاء، وأنا شربت منذ قليل.
رفع إليها عينين تحتشد فيهما الدموع وينزوي فيهما خزي وقلة حيلة، ليُقبِّل رأسها من دون كلمة واحدة، كان شعوره لحظتها حزينًا.
لا يحق لأحد أن يقول لك ما هو المهم وما غير المهم، عليك أن تعاين الأمر وتعايشه أولًا قبل أن تقرر.
***
ألقى الليل سِتره على الأرض، ليلُفَّها بظلامٍ وسكون.
ناولته قِدحًا من الشاي الساخن وطبقًا جانبيًّا رصَّت فيه بعض فطائر الجبن التي تعدها بمهارةٍ عالية، تضيف إليها الزعتر الذي يجعل رائحتها وطعمها مميزًا.
همست بحنو:
- أنصِتْ لأمك يا ولدي، واسمع مني، خذ عني فكل ما أقوله لك خبرة سنواتٍ عُمر طويلة.
ضحك "راغب" ممازحًا لها:
- من يسمعكِ يظنكِ عجوزًا لها من العمر مئة عام، لا تزالين صغيرةً يا راضية.
- العمر عمل يا ولدي، فقد تعيش عمرًا يُقاس بأعمار وقد تموت دون أن يتذكرك أحد.
هزَّ رأسه بلا مبالاة يريد إنهاء الحديث، لكن أمه تابعت في وَجَل:
- لا بد أن يكون لك هدف يا ولدي وأن تسعى إلى تحقيقه، لا بد أن تنصُرَ الحق وتنشر العدل وتتعامل بالمرحمة، كنْ رفيقًا بأهلك، راعيًا لشقيقاتك حانيًا عليهن، فأنت سندهن وملاذهن، كنْ قويًّا حتى تُقَوِّي عزيمتهن فلا تصرعهن الحياة، كنْ حماهن وملجأهن إن آوَينَ إليك.
قرابين التطهير
استفاق على جلبة وضجيج، فرك عينيه، وقد انشقَّت الأرض عن مجموعات كبيرة، كأنها حربٌ ضروس، قتالٌ وعراكٌ يدور هنا وهناك، ملك الموت يجثم على الصدور، يسحقُ أجسادًا كانت تدبُّ فيها الحياة منذ قليل، لكنها استوفت عدَّتها من الحياة، لترحل غير مأسوفٍ عليها، فلا بواكي للقتلى هنا.
الوجوم يعلو الوجوه، والتوتر يكسو قسماتها، ومن يغادر لا أحد يشعر به. الأحلام لا تتحقق وحدها، الكوابيس تستطيع ذلك.
لم تدع له الرهبة براحًا ليفكر أو يفهم ما يحدث، فالخوف يمخُر عباب قلبه، كل ما يشغله الآن الفرار من هذا المصير المرعب، انعقد لسانه وعلا صوت أنفاسه، هربت الدماء من عروقه وتجمَّدت أطرافه وأيقن أنه هالك لا محالة.
الحرس يقفون عند التلال يأمرون الجند بمداهمة من تبَقَّى وسَحقهم سحقًا، تلفَّت حوله في وجوم وقلق يبحث عنها فلم يجدها، يتساقط القتلى من كل مكان جثثًا وأشلاءً ممزقة، اشرأبَّ عنقه وهو يحاول استطلاع الأمر خلف صخرة احتمى بها ونزف جبينه ماء عرقٍ غزير.
تكاثرت السحب في السماء وازداد لونها قتامة مُنذِرةً بهطول مطرٍ غزير، ابتلَّت الأرض وسرت قشعريرة في الأبدان تخرج زفراته قلقًا وخوفًا، حتى إذا بَحَّ الصوت وسكن الموت وحضر الفَوْت، تقدَّمت منه صاحبته باسمة وهي ترى الفزعَ في عينيه، وقد انخلع قلبه وسرت رجفة في جسمه، كل ما فيه مرتبك وكل ما فيها ثابت.
حدَّق إليها بفزع وصاح:
- ماذا يحدث؟
لكنها لم تجبه واكتفت بإشارة أن يتبعها، ركضت فظلَّ يركض ويركض خلفها والرياح تشتد قوةً وهزيمُ الرعد يصعق الآذان، كان الجو شديد البرودة وخطوط البرق تشقُّ عباب السماء. فَرَك كفَّيْه يستمد منهما دفئًا مفقودًا، تلقَّفته السماوات، يحتضنه قلبها وتُخبِّئه بين طياتها، تغلق عليه أهدابها.
قادته إلى حيث مكان آمن، دلف إلى الداخل معها عبر البوابة بقلق وتابعتها عيناه بتردد. يبدو أنه مسكنها، بناءٌ ضخم له ثلاث بوابات كبيرة، قاعة فخمة ثم ممرات كثيرة تؤدي إلى غرف متفرقة، كل شيء أبيض كالثلج وروائح عطرية تعبق المكان، والبهو الرئيسي شديد الاتساع.
كمن أُلقيَ في غياهب جُبٍّ تاهت عنه السيارة فلم تستطع التقاطه، كان كذلك.
دلفت إلى إحدى الغرف الجانبية، جلست مسترخية على حشوة بيضاء كالشمع حتى شَقَّت كلماتها صمت انتظاره، ثم همست مطمئنة:
- لا تقلق فذلك موعد "قرابين التطهير".
نظر إليها متعجبا وردَّد:
- قرابين التطهير؟!
ابتهجت لولَعِه بمعرفة كل شيء وأجابته بابتسامة اجتاحت شفتيها:
- نعم. في مملكتنا لا مكان للكسالى والعاطلين، نحن أمة العمل. في مجتمع النحل يُتخلَّص من ذكور النحل الذين صاروا عبئًا على المملكة، يُضحَّى بهم حتى لا يُلوَّث المكان وتكثر المخلفات، فيُقضى عليهم ثم تُطهَّر الخلايا كلها وتُنظَّف استعدادًا لموسم تزاوج جديد تتكاثر فيه الأنفس وتتزايد الأعداد.
اندهش لثقتها.
نقرت نقرتين تستدعي الشغالات، اتسعتْ عيناه ذهولًا وهو يطالعهن كيف يقمن بعملهنَّ بجهد حثيث.
نادت إحداهن وكان اسمها "سلوى"، فتقدمت بود تجيبها:
- أمركِ سيدتي.
كانت تخالسه النظر بين فَيْنة وفَيْنة، مرت أمامه غير قاصدة لفت انتباهه، لكنها أثارت في نفسه الحنين، اللهفة على الزمن الجميل.
راقَهُ اسمها وشعر تجاهها بألفة عجيبة، لاحظتها هي لتقدم له بقية الشغالات، ربما كنَّ ثلاثة بالتمام، وها قد بدأ بينهم الكلام.
أومأت إحداهن برأسها:
- مرحبًا.
التقطت "شهد" طرف الحديث:
- هذه سُلاف وتلك جنى، هنَّ رفيقاتي أيضًا، أما سلوى فهي مربيتي.
ربتت على كتفها ومنحتها ابتسامة حب مُغلَّفة بالامتنان.
- ما رأيك فيما يؤدونه من عمل بهمة ونشاط؟
كنَّ دؤوبات لا يتوقفن عن التنظيم والترتيب ببراعة، أثار ترتيبهن ونظافتهن إعجابه ودهشته وأثنى على نظامهن الرائع:
- تبارك الرحمن، سبحان من أبدع وصور، لم أرَ في حياتي مكانًا أروع ولا أجمل من هنا!
المعتاد أن الشغالات أغلبهن طويلات اللسان ناقلات للكلام مُطَّلعات على عورات البيوت ومُفشيات للأسرار، إلا من رحم ربي.
اختتم خاطرته بتلك الجملة حتى لا يأثم، لكنه هنا رأى صورة مغايرة من جهدٍ وكدٍّ وتفانٍ في العمل، تذكَّر أنه لا يعرف اسمها حتى الآن فسألها عنه.
داعبته ضاحكة:
- هل تسابقني؟
سابقته، ليلحق بها في أرض اللقاء، حيث المكان يشهد على حبٍّ طاهرٍ وُلد في محرابٍ قدسيٍّ كفيلٍ بتغييره وحَقيقٌ عليه الإصلاح ما استطاع.
وليسمع أجمل اسم عرفه في حياته "شهد" ( ).
شهد عمر الصوالحة
حلوة الملامح وضَّاءة الوجه مليحة الطلة، عيناها اللوزيتان تُضفِيان عليها جمالًا هادئًا، لكن الضيق يكسو ملامحها ويعتريها قلقٌ تعجز عن البوح به، لا عن ضعف، بل عن شفقة وعطف. حدس الأنثى بداخلها كان يخبرها ولكنها كانت تتجاهله مرة وتُكذِّبه مرات.
جدار كان يرتفع بينهما يومًا بعد يوم، كلما أوشك أن ينقض أقامته تصرفات "راغب" ولا مبالاته المستمرة.
تنهدت طويلًا قبل أن تتحدث:
- الفرق بيني وبينك يا راغب أنك تبحث عن غربة، أما أنا فأبحث عن وطن، الوطن دقة قلب، رفة رمش، الوطن نبض العروق، حانٍ كضمة أُم، دافئ كحضنها، باسم كوجه السماء، الوطن له امتداد سحري وإن كنا بعيدين عنه، الوطن دفء وإن كنا في صقيع غربة، ما أصعب أن تحترق بالوطن قبل أن تحترق بالغربة!
مزدحمة هي بالتفاصيل، جذور الوطن، سهوله، جباله، تلاله، أنهاره، صحاريه وأراضيه، كله يقبع في ذاكرتها شبرًا شبرًا وذراعًا ذراعًا. الحب آفة القلوب، ماذا لو كان الحب ثورة؟! العشق انكسار الأقوياء وهزيمة الأبطال، ماذا لو كان العشق وطنًا؟!
كتَّفَ "راغب" ذراعيه ونظراته نحوها مستنكرة مشفقة لائمة، قال بنبرة يائسة:
- لا جدوى مما تفعلينه، ألا ترين قوتهم ونفوذهم في كل الدول والمنظمات العالمية؟!
مال برأسه إلى الوراء وسحب شهيقًا طويلًا كأنه يستعد لإلقاء جملة ثقيلة، ليستدرك:
- هم تقريبًا صُنَّاع القرار والمسيطرون بمالهم ونفوذهم على كل شيء، حتى مصائرنا، أنتِ تناطحين السحاب!
مطت شفتيها وواجهته باستغراب ساخر:
- والمطلوب منا الانبطاح، الاستسلام وإعلان الولاء التام!
رد باترًا جملتها:
- لا، لا أقول استسلامًا أو انبطاحًا يا شهد، بل أقول فقط علينا أن نعرف وضعنا وحجمنا الحقيقي.
حدقت إلى الفراغ، في بؤبؤيها وطنٌ ولا أرضَ سواه، ثم قالت بنبرةٍ خاويةٍ استوطنها الألم:
- لا تستخدم نون الجماعة من فضلك، فلتتحدث عن نفسك فقط.
ثم استكملت بنبرة مفعمة بالاستنكار:
- الهوان لن يصل إلى قلوبنا ولن تتحول أحلامنا إلى كوابيس ما دمنا نسعى إلى تحقيقها، علينا العمل، "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة"، هذا ما أُمِرنا به، أما النجاح والنصر والتمكين فهو توفيق من الله واستكمال لآياته وحكمته في الخلق، مأمورون نحن بالزرع والغرس، أما الإثمار والحصاد فعلى الله.
هز كتفيه بغير رضا، فرمقته بنظرة غاضبة فيما هو عاجز عن مجاراتها في أفكارها، ارتكزت نظرتها عليه ليرجع به الزمن في تفاصيل حياته التي عاشها وأب يفر من الثأر من بلدة إلى أخرى ومن قرية إلى غيرها.
عاش حياة الخوف والقلق من كل شيء، من الجيران، من الأصحاب، من الأصدقاء، من المدرسين والبائعين. عاش غريبًا وظل غريبًا في كل مكان، عاش خائفًا وظل خائفًا من الجميع. القلق كان رفيق دربه والخوف صاحبه الوفي. أول الحكاية وآخرها، خوف! المقدمة والخاتمة، خوف! القارب الذي طالما أغراك بالسفر يَبيت كل يوم وهو يخشى الغربة.
قاطعت أفكاره وعيناها لا تُخفِيان الازدراء:
- عمومًا يا راغب، أنت لست مجبرًا على الدفاع عن قضية لا تهمك.
قالتها وهي تحمل الإجابة عن كل ما دار في رأسه ورأسها من تساؤلات في خلال المدة السابقة، ولكن بقي الوضع على ما هو عليه.
اتسعت عيناها وتابعت بغضب مكتوم:
- لتترك الجهاد لأهله.
اتسعت عيناه بصدمة جزع وغضب:
- ماذا تقولين يا شهد؟!
ارتسم على وجهها تعبير هزلي:
- أقول ما تخجل أنت من قوله.
بُهِتت ملامحه وارتعشت عيناه وهو يلقي عليها نظرة أخيرة قبل أن يرحل في صمت كئيب، وهي تشيعه بعينين كليهما يأس وقنوط.
***
- أوَتدرين يا راضية، ما يبدد الوحدة ويذيب شقاء الأيام؟ إنها لمَّة العائلة، تلك الجذور التي تثبت في أعماق الأرض، فيثبت أفرادها راسخين فيها، لا تهزمهم الخطوب ولا تنال منهم الحياة ولا تباعد بينهم المسافات. العائلة حضن دافئ يذيب الجليد، قرقعة أكواب الشاي بالحليب، صليل الملاعق ودوي الصحون، إلحاح أم بتناول مزيد من هذا الصنف من الطعام، التفافهم حولها وهي تنقش كحك عيد الفطر أو تصنع الفتة وصواني الرقاق في عيد الأضحى، تحشو القطائف وتسقي البسبوسة والبقلاوة بشراب العسل، تنظف المطبخ حتى ينقصم ظهرها لكنها تعي أن تعبها في جلي الصحون معناه أن البيت فيه من الخير الكثير وأن وجبة دافئة معناها أن لمة العائلة لا تعوض.
لم تكن تتذمر من شغل البيت على الرغم من رقة الحال وضيق ذات اليد، تطبخ اللقمة وتحمد الرزاق على النعمة، تجلي الصحون وتشكر الوهاب على عطاياه، تكنس البيت، تنظف الحوض وترتب الأسِرَّة، تثمن النعم وتشكر المنعم وتدعوه بتتابع الخيرات ( ). وحينما حضر ولدها، حروف تحتضر على فمها وكلمات ترتجف لا تريدها أن تنفجر، نشيج بدأ وتسلل في ضعف وقلة حيلة. لم تجادله، فلا يجدر به أن يكون بطلًا في هذه الرواية، لكنه للأسف كان البطل، مكدس بالأنانية، بالسلبية وبالنرجسية، البطولة شرف لا يستحقه.
مرر أصابعه بين خصلات شعره وزفر بضيق يجاوبها:
- الوقت كان ضيقًا يا أمي، لم أستطع التحدث مع أي من أساتذتي.
تنهد بقسوة وأردف:
- الامتحانات على الأبواب والجميع منشغل بها صدقيني.
عقدت حاجبيها هاتفةً باستنكار:
- يا سلام! ألهذه الدرجة طوال الوقت الجميع مشغول؟!
اقترب منها بود وقبل رأسها يحاول تهدئة غضبها:
- أعدك أن أعيد المحاولة غدًا.
أشاحت بوجهها في عدم رضا.
- لقد مللتُ وعودك وسئمت أعذارك الواهية.
لمست وجنته بحنان مستعطفة:
- هي أختك شقيقتك، ليس لها أخ سواك، هل فهمت يا ولدي؟! هي تحتاج إليك، تحتاج إلى رعايتك وحنانك ومن قبلهما اهتمامك.
ابتسم بحنان يمازحها ويقبل رأسها من جديد:
- حاضر يا راضية، أقسم لك أن أفعل.
وصال الأحبة موصول وإن لم يلتقوا، فالأرواح جنود مجندة لها مدارجها ومسالكها، تتجاور فيها مع من تحب، ويصير حديثهم موصول وإن بدا بلا وصل، أما الغرباء فمفترقون ومفارقون مهما تجاوروا، حديثهم منقطع وإن بدا موصولًا.
سلوى
تلك التي احترفت القوة في حين يعج الكون برجال ضعفاء، تقف بثبات فيما يلهث الجميع خلف السراب، متمردة هي على الألم في حين يصرخون هم من الوجع، تنظر بكبرياء وشموخ في حين يجرون أذيال الخيبة، تصنع لهم خبز الحياة ويسقونها كؤوس المر والعلقم، تعزف لهم أنشودة الرضا والصبر ويتراقصون هم على نغمات الذل والقهر، تلك التي تاقت إلى النور في حين أنهم يوصدون الأبواب ويغلقون النوافذ.
قبل يدها وشرد بعيدًا فكلمات الحب هنا مختزلة أدراجها دومًا في فعل لا قول. سألها مهتمًّا:
- كيف حالك؟
كانت مبتسمة برضا وهي التي تنظر إليه دومًا برضا:
- الحمد لله.
ضحكة صافية انطلقت من صدر "سلوى" بعد مداعبة خيري إياها، كانت سلوى كـ"راضية"، طاهية ماهرة وربة منزل محترفة، تطبخ طاجن البامية باللحم الضاني وتعد المحشي والبط والملوخية بمهارة، تدفن همومها في مطبخها لتصنع الصبر طعامًا والرضا شرابًا واليقين حساء، تبث العجين أمانيها، تقربه من قلبها فيتناغم مع نبضها، فتفرغ شحنة الحزن داخلها كأنما غُمِست في نهر من السعادة غمسًا.
نهضت "سلوى" من فراشها ليلًا لاهثةً تستغفر فقد كان كابوسًا، ما رأته أقسى من أن يحتمله قلب كقلبها على شاطئ نهر مظلم مياهه سوداء، كانت تقف خائفةً مرتجفةً وطفل صغير يقف على حافة النهر، وهي تناديه بأعلى صوتها: "راغب، ارجع"، لكنه لم يستجب، كان يسير صامتًا لا يلتفت، فنادت بصوت أعلى: "عُدْ يا راغب"، لكنه لم يستجب، فكان عليها أن تتحرك لتنقذه لكنها فوجئت بقدميها مغروستين في طين أسود. فصرخت بصوت أعلى: "لا تتقدم وعُدْ إلى هنا يا راغب!"، لكن الولد التفت إليها بابتسامة شاحبة، لكنها مصرة على استكمال الأمر والمضي قدُمًا، فسار خطوات أخريات حتى ابتلعته أمواج البحر السوداء، ليغرق كل شيء في عتمة حالكة.
استيقظ "خيري" فزعًا، وقبل أن تمتد يده إلى المصباح استعاذ بالله من الشيطان الرجيم، وبدأ يُهدِّئ من روعها بعد أن ناولها كأسًا من الماء.
- خير، خير بأمر الله، وإنني امرأة منقوعة في الصبر حتى إذا أتت عليَّ الدنيا بما فيها أدير لها ظهري. كل ما أخشاه أن تكون أنت إحدى خسائري الفادحة، أخشى أن تجمع لي الدنيا ولا تكون أنت فيها، أو تكون هزيمتي الكبرى.
طلع الصباح على سلوى بعد ليلة لم تذُق فيها للنوم طعمًا، متململة في فراشها، تجمعت عليها الهموم والأحزان فحالت بينها وبين الاطمئنان، تحمل همها وهم عائلتها والهم الأعظم كان شقيقها.
أغلقت الباب خلفها، وقد وضعت صينية الطعام على الطاولة، توجهت نحو "خيري" الممدد على الفراش، انحنت وقبلت جبينه بلطف وهمست:
- التلاميذ في انتظارك.
وكان عنوان الدرس: مذبحة (دير ياسين) يوم التاسع من نيسان 1948.
تنهدت تنهد المحزونين، فتلك أوجاع العابرين لا تزال تحرق صدورنا أجمعين.
***
- عنترة بن شدَّاد الشاعر العربي الذي كتب دواوين الشعر والغزل في عبلة، وخاطر بحياته لأجلها ثم خانها مع أكثر من ثلاثين امرأة وتزوَّج عليها.
ضحك "عمرو" حين ألقى "أحمد" على مسامعهم تلك المعلومة وهم يتحدثون عن الحب، قادهم الحديث من الحب إلى الخيانة.
لامست عينا "راغب" اللوحات المُعلَّقة على الجدار، واستعرضتا الزوايا ثم انزلقتا على الستائر وتلكَّأتا هنا وهناك في منزل "عمرو"، كان منزلًا بسيطًا لكنه يضُمُّ عددًا كبيرًا من الصور واللوحات، فهواية والده التصوير.
رمقه "راغب" بنظرة عميقة، فكم أعجبته اللقطات التي صوَّرها والده وجمعها في لوحات فنية.
- ما رأيكم في كتائب الأقصى وحماس والجهاد الإسلامي؟
سألهم راغب.
- رأيي أن العمليات الفدائية التي ينفذونها أرهبت العدو ولا تزال.
كان هذا رد عمرو.
- تاريخ السياسات الإسرائيلية التوَسُّعية الهادفة إلى طرد السكان الأصليين يوضح أن الصراع المحتدم بين الفلسطينيين والمستوطنين اليهود كان جوهره دائمًا الأرض والمياه، هذه الأفكار وتاريخها يُوثِّق اتجاهات القمع والطرد والمصادرة لدى اسرائيل، ويكشف بالتفصيل عن النزعات التوسعية الكامنة في التيارات الصهيونية العُمَّالية وفي التيارات الدينية واليمينية على حد سواء، وهو ما يوضح تزايد العمليات الاستشهادية.
كان هذا تعقيب "أحمد" الذي بدأ يعرض لهم عبر جواله مقطعًا قديمًا بثته قناة (CBS) الأمريكية، الذي تُدُووِلَ على نطاق واسع وحصد ملايين المشاهدات، كان الفيديو لشابين فلسطينيين "عودة وائل" و"أسامة جودة" من قرية عراق تايه شرقي مدينة نابلس، اللذين كسر بعض الجنود الإسرائيليين أيديهما، واستمر المقطع لمدة لا تقل عن نصف ساعة يعملون على تكسير عظام الشابين، والأمر كله كان تعليمات من "إسحاق رابين" وزير الدفاع الإسرائيلي، ثم اختفى الشابان اختفاءً تامًّا، ما أثار ضجة وقتها لما في الشريط من جرأة مرعبة، اشتعلت بعدها القرى والمدن في الضفة الغربية وقطاع غزة بالمظاهرات، لتتسع الانتفاضة ويتزايد التعاطف العربي والغربي معها. كان الجندي الإسرائيلي يكتب على خوذته، وُلِدتُ لأقتل الفلسطينيين. ( )
يخمور
استمرَّا في السير، ظلَّ يتبعها داخل ممراتٍ كثيرة تعلو درجات وتهبط دركات، هبطا وديانًا وصعدا تلالًا، حتى ولجت قاعة كبيرة اندفعت داخلها، اتجهت يمينًا حتى ضاقت الممرات وهو يلاحقها أينما ذهبت، كان معها كظلِّها، انتبهت لخطوات تتعقبهما فالتفتت مُستطلِعة بقلق، فوقع بصرها عليه.
كانت الغيرة تأكل قلبه، يتلظَّى بنار الشوق ويعجز عن تفسير التغيُّر الذي حدث لها، قرَّر مواجهتها بالأمر فيما يَرمُق غريمه بنظرات تَقطُر حقدًا وغلًّا.
- ما بك يا يخمور ( )؟ ولمَ تتبعني؟ أتراقبني؟!
انفلت زمام صبره فاقترب منها، وصاح مشيرًا إلى الآخر الذي كان يسابقها منذ قليل:
- مَن هذا؟ ولم تهتمين به هكذا؟
اجتاح وجهها حمرة الغضب:
- وما شأنك أنت؟!
- أنا...
احتلَّت القسوة قسَمات وجهه وأردف:
- أنسيتِ ما بيننا، أنـ...
سكت ولم يكمل، كان له مع عينيها عهد، وليست كل العهود تُوَفَّى، وليس كل الحب يستحق الوفاء.
جاهد وهو يتلعثم معاتبًا:
- كنتُ رفيق دربكِ وسيد قلبك، أم تراكِ تبدلتِ فتخليتِ؟! صبرتُ كثيرًا على هجركِ الجميلِ ظنًّا أنكِ تمُرِّين بمحنة ما، أما وإني أراكِ تضيعين مني فلن أسكت ولن أقف مكتوف اليدين، سأقاتل في سبيلك، سأدافع عنكِ حتى الرمق الأخير.
بعض الخيبات قاتلة إن كانت ممَّن نحب، وبعض الخذلان ساحق إن كان من المقربين.
دفعها بعنف بالغ كاد أن يخلَّ بتوازنها، ثم أمسك بها بقوة أوجعتها حتى كادت قبضته تحز في كتفها.
- كيف وقلبي يتألم وأنا أراني في جفنيكِ أتقلب، ومن قلبكِ أتدحرج، لأسقط في بئر الشقاء؟!
رمى الخوف بسهامه فأصاب قلبه واستبَدَّ به القلقُ والهمُّ، فربما بينهما قصة حب وهو لا يدري.
كان قد أحكم عليها قبضته، فطال ألمها وطالت قسوته، حاولت منه الفكاك ونجحت أخيرًا في فض الاشتباك، ألقمته بكتلة شمع واشتعلت عيناها غضبًا ثم تحركت، لتكون في مواجهته مرسلة إليه إشارة تحذير شديد اللهجة:
- حذارِ من غضبي، ابتعد عن طريقي يا يخمور.
وسلام على أرض المحبة كل حين، مرتحلٌ أهلها رَيْب الظنون.
كانت عيناه تلمعان بغضبٍ عظيم، فهو يرى سر تغيرها نحوه، إنه ذلك الضيف القادم من عالم آخر. أما هي فلم تكن تبادله أي مشاعر، هي الأميرة وهو أحد الرعية.
ظلَّ يرمقها بنظرة لوم وعتاب وفي قلبه تنوح الذكريات الباكيات، دار على عقبيه عائدًا أدراجه جارًّا أذيال الخيبة والخزي الكبير، أما هي فمضت بثقة وثبات، وسرت الطمأنينة في نفسه وهو يراقبها ترفل في عباءتها كملكة متوجة وقد نفضت التعب عن وجهها، تبعها وقد ازداد شغفه بها.
ها هو القدر قد جمع بينهما بعد حين، فما كان منه سوى همس بالحنين:
- انتظري أميرتي.
استدارت لتعلن بفخر:
- بل الملكة يا راغب.
بدأ الفضول والدهشة ينهشان خاطره، إنها المرة الأولى التي تذكر فيها اسمه، خبط بكفِّ يده على جبهته قائلًا:
- لقد كدت أنسى اسمي.
ضحكت وهمست له:
- أما أنا فمُحال أن أنسى.
ابتعدت كأنها تتلحَّف برداء الهيبة والوقار، ران عليه صمت طويل وجلسَ شاردًا، خلَت الأرضُ إلا من السماء ومنه، أما هي فكانت تقف في خشوعٍ تراقبُ البحرَ اللجيَّ من بعيد.
صوت الهدير والرياح تتراقص بخفة ودلال تداعب أوراق الشجر، القمر يضوي على استحياء، بدا الكون بديعًا.
زخَّات متعاقبات تطل من السماء هتونًا رقراقًا يداعب بحنُوٍّ سطح الأرض بتناغم عذب، تتبعثر قطراته هنا وهناك، لكن الليل يرسل دائمًا أنينًا خافتًا مليئًا بالذكريات.
الموج الذي كان يمخُر عباب البحر، موج كالجبال أيقظ فيها مشاعر وجلب له مزيدًا من الحنين.
هناك
تَرقد مُدِّيَّة مُسَنَّنة داخل علبة ورقية تتكئ بارتياح على قطعة قطنية بيضاء اللون تتوسَّدها وتتمدد عليها، استلَّها برعونة وغادر مسرعًا، تحَيَّن قدوم الظلام، ليقتنصه ويثأر لقلبه.
الصراع الذي اشتد بين عقله وقلبه والألم الذي احتبس داخل صدره كان كفيلًا بإشعال ثورته. قرر أن ينتقم، باغته بسلاحٍ حاد، نصله يلمع كسيفٍ مسنون وانقضَّ عليه ليداهمه، طَوَّقه من الخلف بقوة كادت تفصل رأسه عن جسمه، لتشل حركته في النهاية فيما تشبَّث المهاجم بظهره، وبدا صوته كفحيح أفعى يهدر في أذنه بغلٍّ وحقد:
- لترحل من هنا سريعًا أيها الصرصور.
- ماذا تريد مني؟! أنا لم أتعرض لك بسوء.
- وهل تمثل عليَّ البراءة الآن؟! فلتلعب لعبة أخرى.
- دعني وشأني، ففيَّ ما يكفيني من هموم، وما يثقل كاهلي من أوجاع، وما يعتصر روحي من آلام. كيف بي وأنا في تيه بلا وجهة، ضباب وسراب كلما اقتربت منه حسبته ماء، حتى إذا أتيته لم أجده شيئًا.
- لن أتركك حتى أقتلك وأستريح منك.
- اتركني أيها الوغد.
قالها وهو يحاول الإفلات من قبضته، فأحكم الأخير عقدة زمامه حتى كاد السلاح أن يحزَّ عنقه، وبالفعل نزف قليلًا من جرح صغير، فأصدر صرخة ألم محمومة، استجمع قواه، ليطيح بالآخر ويقذفه بعيدًا، وقع بصره عليه فعرفه:
- قل لي، ماذا فعلت؟
فلكل منا ملحمة مريرة، لكل منا حكاية مختلفة التفاصيل، لكن مرارتها واحدة تزيد وتنقص، تعلو وتهبط، تكبر وتصغر، وكل ما علينا إكمال المسير ولو فقدنا البوصلة وضاعت من بين أيدينا الخارطة.
مرت لحظات عصيبة وهو يتخبط في حيرة وخوف شديدين، كاد يسرع بالفرار حتى استوقفه ما أدهشه، كان وجهه أسودَ داكنًا، تفوح قسماته بشراسة وعدوانية، استشرف الخطر الذي ران عليهما بظلال من صمت حذر وشر مستطير. ثوانٍ ثقيلةُ الوقع على نفسيهما معًا، المهاجم والمدافع عن نفسه، كلاهما ضحية، قرأ في عينيه ما لم يُفصِح به لسانه، وأدرك أن هناك سرًّا يحفظه بين طيَّات فؤاده.
تسارعت دقات قلبه يستشرف خطرًا مُحدِقًا به، شحب وجهه وتسمر مكانه بعد لطمة عنيفة تلقاها فأفقدته توازنه، طاح جسمه وارتطم بأرض الحجرة، وقع السلاح من يده، وندَّت من عينيه دمعة حزن حاول أن يداريها بكفه، فنظر إليه "راغب" واستشف من عينيه كسرًا وضعفًا، هو يحبها ويكتوي بصدودها عنه حتى صار هشًّا ضعيفًا تسُوقه نزعات الغضب فتَتأجَّج الغيرة في نفسه.
بصعوبة شديدة بدأ يسترد أنفاسه وهو يشعر بدوار حاد، انصرف، ليتحسس "راغب" رقبته فعلق في أنامله دمه النازف من جُرحٍ تركه له قبل رحيله، قضى ثُلثَي الليل وهو يفكر في ما حدث وجافى النوم عينيه.
يعيش في عالم آخر، عَصِيٍّ على الفهم والتأقلم معه، رجفة غريبة سرت في جسمه لم يعرف أهي من نسمات الفجر أم من الخوف الذي توغل في صدره قبل قليل، إن شيئًا مروعًا يحدث في داخله، هو الذي ظن أنه قوي وأنه يمسك زمام الأمور، صار كورقة في مهب الريح لا يملك من أمر نفسه شيئًا.
كوحدة يونس في بطن الحوت وقد اجتمعت عليه ظلمات ثلاث بطن الحوت والبحر والظلام، من غربة إلى غربة ومن وحشة إلى وحشة ومن ملجأ إلى منفى، راح يفكر فيم حدث، وما السبب الذي يستدعي قتله بهذه الطريقة؟ وهذا المجهول الذي يعيش فيه ويصبغه الظلام، وتسارع نبضات قلبه المتلاحق كأنها في سباق محموم.
نظرات "يخمور" وكلماته التي تطن في أذنه كأنها نصال حادة، القساوة التي كانت في عينيه وعباراته الملتهبة من قلب محترق بنار الهجر.
كل ذلك عصف به، وجعل رأسه يدور حتى أوشك على السقوط، كانت على شفته كلمة أوشك أن يصبها في أذن "يخمور" قبل أن ينصرف لكنه عجز عن النطق بها. توضأ واستعد لصلاة الفجر، فحين فقدَ جناحًا ولم يحصل طوال رحلته على ريشة واحدة، ضاقت عليه الأرض بما رحبت فلجأ إلى أبواب السماء.
بعد عدة أيام التقت نظراتهما للحظات، حاول "راغب" الحفاظ على رِباطة جأشه، بل حاول أن يبدو طبيعيًّا ما استطاع، لكن ابتسامته الواسعة ضاقت وتصبب العرق غزيرًا من جبهته، فكر في الانسحاب لكنه عاد وصمم على البقاء.
- لن أغادر المكان قبله، لن أهرب.