يقصد بالمعجم الشعري: الاستخدام الشعري أو الجمالي لمفردات اللغة؛ "ففي الوقت الذي تتم فيه عملية اختيار الألفاظ وترتيبها بطريقةٍ معينة؛ بحيث تثير معانيها، أو يراد لمعانيها أن تثير خيالًا جماليًا، فإن ذلك ما يمكن أن نطلق عليه المعجم الشعري." (5) فالشعر بناء، والكلمات ليست إلا لبنات هذا البناء، والشاعر المجيد بمثابة المهندس البارع، يكون حظه من البراعة بمقدار استغلاله لكل الإمكانات في تشييد بنائه، وتسخير كل ما يراه مناسبًا لتأسيسه وتأمين تماسكه، وبقدر ما يبرع الشاعر في تعامله مع الكلمات يكون حظه من الفن والشاعرية، ويحكم له أو عليه على هذا الأساس.(6)
ومن هنا اهتمت الدراسات اللغوية القديمة -قديمًا وحديثًا-بدراسة المعجم الشعري، وجعلته مركز الدراسات التركيبية والدلالية، وفي ضوء هذا الاهتمام تأتي دراسة المعجم الشعري عند أبي سلمى في ديوانه الآخر. وتنصب دراسة المعجم الشعري في هذا القسم على تأمل الدلالات الشعرية التي تتحمل بها المفردات داخل النص الشعري، ويتبين توارد هذه المفردات، وتصبح مثل هذه الدراسة ضرورية في حالة المفردات التي تتردد في النص بنسبةٍ عالية، ولكن قد يقتضي الأمر -أحيانًا- التطرق إلى مفرداتٍ قليلة الشيوع في النص؛ وذلك لارتباطها بالمفردات كثيرة التردد، أو لدورها الفعال في إنتاج دلالة النص.
وتتوزع دراسة المعجم الشعري -في هذا الفصل- على ثلاثة مباحث على النحو التالي:
المبحث الأول: المحاور الدلالية؛ وفيه يتم استخلاص أهم الحقول الدلالية.
المبحث الثاني: المفردات المعجمية البارزة.
المبحث الثالث: الصور البيانية بوصفها بنية لغوية تدخل في تشكيل المعجم الشعري لدى الشاعر.
المبحث الأول:
المحاور الدلالية
من خلال تتبع الديوان الآخر للشاعر أبي سلمى ظهرت مفردات على السطح، تلقي بشعاعها على أبصارنا، فتلفت انتباهنا إليها وإلى أهميتها في تكوين البنية الدلالية للنص الشعري بصفة عامة؛ ولذلك فإنني سأقوم بحصر هذه المفردات وتقسيمها إلى حقولٍ دلالية؛ بحيث يشتمل كل حقلٍ على المفردات التي تندرج تحت إطارٍ دلالي واحد، سواء أكانت تلعب دورًا رئيسًا فيه، أم أنها تتصل به اتصالًا ثانويًا معتمدة في تحديد ذلك على ثلاثة أسس هي: (الاشتقاق الصرفي - الترادف - القرابة أو الصلة المعنوي.)
وبعد تناول المحاور الدلالية كلٌ على حدة، سوف أقوم برصد العلاقات بين هذه المحاور، وهي علاقات تجعل من المحاور على اختلافها الظاهري وحدة دلالية كلية تمثل النتاج الأدبي للشاعر؛ فالنتاج الأدبي لأي شاعر يعد "كأنه خطاب من نوع معين، ذو طابع وحدوي مميز، يتألف -غالبًا- من وحدات فرعية أوسع من الجملة، هي الفصل أو القصيدة أو المشهد، وكي يكون تحليل هذا الخطاب كاملًا يتوجب على الدارس أن يدرس الصلات القائمة بين هذه الوحدات الفرعية منفردة، وبينها وبين النتاج بكامله" (7) ومن ناحية أخرى ستقوم دراسة كل محور بتتبع المفردة وتحليلها من خلال السياق الذي وردت فيه؛ وذلك لأن لكل مفردة مجالًا دلاليًا خاصًا يختلف باختلاف سياقها.
إن المتتبع للمعجم الشعري في الديوان الآخر للشاعر أبي سلمى تستوقفه بعض المحاور الدلالية؛ أهمها: (محور الأرض - محور الموت - محور التحدي والصمود - محور العمر - محور اللون).
أولًا: محور الأرض:
إذا كان دال الأرض في المعاجم اللغوية يتحدد بـ"الأرض التي عليها الناس أو الموضع والمكان. أو أصل الأرض." (8) فإن الشاعر أبا سلمى في ديوانه الآخر قد وسع من إطاره الدلالي، وأصبح يحمل في طياته مدلولاتٍ أخرى جديدة على النحو التالي:
- الأرض (الوطن - فلسطين).
- الأرض (العالم).
- الأرض (التراب).
- الأرض (الحلم).
وهذه الدلالات على تنوعها يجمعها مشترك دلالي واحد هو: العطاء المتواصل، وإذا تتبعنا هذا المحور في الديوان الآخر تتكشف لنا تلك الدلالات دون غموض.
فالأرض (الوطن - فلسطين) تبدو في قول أبي سلمى: (9)
انطلقنا من جبال النار واستجبنا لنداء الثار
نحن في ساح الوغى إعصار قد أزلنا باللهيب العار
واستردت أرضها الأحرار والتقى بالدار أهل الدار
قد محونا بالدم الحدود والبطولات بيننا شهود
أمة العرب كلها جنود خافقات فوقها البنود
واستعادت موطن الجدود فلها اليوم وحدها الخلود
لقد رسم الشاعر حدود دال الأرض الدلالية؛ فلم يعد ذا دلالة عامة تعني الموضع أو المكان، وإنما أصبح ذا دلالة خاصة بالوطن/ فلسطين، من خلال تتابع بعض الألفاظ التي تحمل مدلولات وطنية، وتقوم الصياغة بتحديد العلاقة بين الثوار والأرض، وهي علاقة تلاحم وترابط تجعل من الأرض ملكًا للثوار، وقد صبغ الشاعر الأرض بصبغة وطنية، جعلت الحديث يتحول من الأرض إلى الوطن، باختيار دوال ذات دلالة وطنية؛ مثل (جبال النار - أهل الدار - الحدود - موطن - البطولات - جنود) وقد كان لاختيار دال (الأحرار) دوره في تكثيف هذه الدلالة؛ حيث إن اللفظ يوحي بأن الأرض تشير إلى الوطن، ولا تخرج من إطاره ويشير من ناحية أخرى إلى إصرار أبناء الأرض/ الوطن العربي الدفاع عنه حتى استطاعوا استرداده، وبذلوا في سبيل ذلك أرواحهم. من هنا فإن حديث الشاعر عن الأرض كان نوعًا من التوطئة لحديثه عن الوطن؛ ليصل في آخر الأمر إلى جعل دال الأرض رمزًا للوطن.
وقد يتخذ دال الأرض في الديوان الآخر مدلولًا آخر؛ ليعني الأرض/ العالم العربي، وذلك في قول أبي سلمى: (10)
وجعلنا ونحن نقتحم الهول ونأبى المستعمرين حيارى
كلنا في الجزائر الحمر جند يحطمون الدود والأسوارا
دمنا الحر فوق كل ثرى حر وقطر يوحد الأقطارا
يغرسون الأمجاد في كل أرض وعلى السفح يزرعون الغارا
إنها ثورة الشعوب ولن ترحم مستعمرًا ولا استعمارًا
تحمل الأبيات دلالة كلية لعلاقة الشاعر بالعالم؛ بحيث يصبح ارتباطه به ارتباطًا عضويًا، وتبرز الذات المتكلمة بروزًا قويًا على مستوى الصياغة من بداية الأبيات في الضمير المتصل (أنا) الذي يتكرر في المقطع من أوله، وحضورها على مستوى الصياغة يعكس -بالمثل- حضورها على مستوى الدلالة، وبتقدمها على مستوى الصياغة -رأسيًا- نلحظ تقابلًا بين الـ(نحن) والموضوع، حيث إن الطرف الأول ثابتًا ومتكررًا بصورة واحدة، بينما الطرف الثاني كان يتغير ويتبدل؛ ليشمل (جميلة - رجاء النقاش - بور سعيد - الجبل - الأخضر - الشام - عمّان - العراق - الأردن)
وهذا التقابل شحن الصياغة بتوتر دلالي، وأعطى الموضوع صفة شمولية تتساوى مع مدلول الأرض في عمومه، وإذا كان الموضوع يتغير ويتبدل، فإن البعد المكاني/ الأرض ظل ثابتًا؛ ليزيد من تكثيف الدلالة وتركيزها في مساحة محددة تتسع لذلك التغير، وقد حرص الشاعر على استخدام الدال (كل) قبل (أرض)، ليعبر من خلاله عن شمولية إحساسه لكل الأحداث، وزاد من هذه الشمولية مجئ دال (أرض) نكرة. من هنا فإن تتابع الأحداث وتنوعها في الصياغة ينقلنا من المفهوم الضيق للأرض إلى المفهوم الشمولي؛ لتصبح الأرض هي العالم باتساعه وتباعد أطرافه.
وقد تأتي الأرض في موضع آخر من الخطاب الشعري بمعنى التراب؛ ويصبح حضور التراب في الصياغة إشارة إليها؛ يقول أبو سلمى: (11)
يا حفنة التراب اعزفي فيك بقايا السلف
ما تلك ذراتك بل تلك حروف المصحف
يطوف في عالمها روح العلا والشرف
فيا سماء هللي ويا ملائك اهتفي
تبدأ الأبيات بأداة النداء (يا) التي تستحضر المنادى على سطح الصياغة، والنداء من شأنه أن يعكس علاقة سلبية أو إيجابية، وهنا يبدو تعاطف (الأنا) مع الموضوع، ورغبتها أن تبقى علاقتها به علاقة حقيقية وواقعية، وهذا من شأنه -في الوقت نفسه- أن يحمل دلالة القرب بين الشاعر و(حفنة التراب)، وإذا كانت (حفنة التراب) في الأسفل في مقابل السماء في الأعلى، وإذا كان التراب بديلًا عن الوطن، فإن الشاعر يمتلك الأرض والسماء؛ ليشكل منهما وطنًا كاملًا، يطوي بين طياته بقايا السلف؛ ولذلك تبدو (حفنة التراب) الأرض المقدسة مثل حروف المصحف، وبذلك فإن دلالة التراب تتطابق مع دلالة الأرض، ويصبح الاثنان عند الشاعر بدلالة واحدة.
وفي مقابل هذه الدلالات الحسية للأرض (الوطن - العالم - التراب) نجد أبا سلمى قد حاول أن يبني معادلًا تجريديًا للأرض، فإذا كانت الأرض في الواقع قد انسحبت من تحت قدميه، وأصبح هائمًا على وجهه في غير الأرض، فإنه يواجه هذا المصير مواجهة فنية، من خلال عالمه الشعري؛ فيشيد البديل الموضوعي الذي لا تحده حدود، وإنما حدوده قد ارتسمت في الذهن، وانطبق على مساحة الورق، وبذلك يميل الشاعر إلى الدخول في حُلم ذهني، ويسعى إلى تحقيقه ويصبح الحُلم معادلًا موضوعيًا للأرض التي لم يجدها في الواقع.
يقول أبو سلمى: (12)
ليت شعري متى يطل على العالم شعبي محرر الأعناق
كيف لما تطهر النار أهلي عجبًا أو تشع بعد احتراق
ما يزالون في غرور وذل لم يسر واحدًا بغير نفاق
وتغني له الروابي وقد عاد إليها منضَّر الأوراق
يرتمي فوق أرضه يلثم التربة نشوان من هوى واعتلاق
إن حرص الشاعر على بلوغ حُلمه يدفعه إلى أن يبقى في حالة حُلمٍ مستمر، وهنا يبدو لنا الوطن موزعًا بين عالمين متناقضين؛ عالم يسوده الغرور والذل والنفاق (غرور - ذل - نفاق) وعالم الحرية بمعناها الواسع (محرر الأعناق)، ووقوع الشاعر بينهما كفيل بأن يدفعه إلى التخلص منهما معًا، والاختفاء في عالم آخر نقيض لهما، هو عالم "الحُلم" كبديلٍ لعالم الواقع، وتبرز الأنا بشكلٍ واضح في الصياغة من خلال ضمير المتكلم (الياء) كما تثور على هذا التحول، وتستنكره، ولكن ما إن تعود إلى هدوئها، وتوازن بين النقيضين (الواقع، الحُلم) حتى تتراجع وترى أن في تحوله حُلمًا، تسود فيه الحرية والفرح والنشوى (محرر الأعناق - تغني - نشوى).
وهكذا نرى أن التحام الشاعر بأرضه أو وطنه حجبه عن رؤية الأوطان الأخرى، إلا في بعض المواضع التي تحدث فيها عن بعض البلاد العربية والعرب، وهو في هذه المواقع لم يكن حديثه متفردًا، بل كان وطنه ملازمًا له، ورقيبًا عليه، تتراءى له صورته في كل خطوة يخطوها. ومن هنا نصل من حديثنا عن محور الأرض في الديوان الآخر، إلا أن التحام الشاعر بأرضه كان له شقان؛ الأول أن الشاعر كان يفر من الواقع المر الذي يعيشه ويكابده، والثاني أنه يحاول أن يبني البديل للوطن الذي افتقده على أرض الواقع.
ثانيًا: محور الموت:
إن دال الموت ومشتقاته الكثيرة ومترادفاته يمثل ركيزة عامة في بناء النص الشعري عند أبي سلمى في ديوانه الآخر، مما يدل على أهمية هذه الظاهرة، وانشغال الشاعر بها، ومن مشتقات الموت ومترادفاته التي وردت في الديوان الآخر: (نلحد - الردى - قبر -الموت - اللحود - القتل - الراحلين - نعى - مراثينا - نادبه - ثكلى - استشهاد.)
ولا شك أن ظاهرة الموت في الديوان الآخر تكشف عن رؤية خاصة لقضية الموت عنده؛ فالقارئ للديوان يلحظ أن حديث الشاعر عن الموت ليس حديث الخائف منه، القلق من مستقبله، بل هو يرى فيه نقطة البدء نحو حياة كريمة أخرى، وطريقًا من طرق السعادة التي يحلم بتحقيقها، وبهذا اقترب أبو سلمى -بحبه للموت- من مسلك الرومانتيكيين الذين يرون الموت نهاية للعذاب وبداية للسعادة، ولكن يختلف عنهم في أن تمنيه للموت لا يتم عن نزعة تشاؤمية انهزامية؛ بل هي نزعة تفاؤلية.
إن رؤية أبي سلمى للموت تنبع من فكرة معينة؛ وهي أن استرجاع الوطن والعودة إليه لا يتحققان إلا عن طريق الموت والاستشهاد؛ فالشاعر وإن كان يعشق الحياة، فإنه يعشق الموت من أجل بقاء الحياة، وأنه ما انطلق إلى موته إلا من أجل الحياة ورفع الموت، فقد أطلقته دوامة الأحداث وعنفها، انطلق يدفع الرياح والأخطار عن وطنه، ويحميه من الموت، وهو لا يعطي حياته اعتباطًا ولكنه يمنحها حين يصبح الفداء الحاجز الوحيد الذي يمنع موتًا أكثر رهبة وخشية من الموت.
يقول أبو سلمى: (13)
ولعينيها تحدينا الورى وتقحمنا النضال الدمويا
ولعينيها حلا استشهادنا ليروي دمنا التراب الزكيا
ولعينيها أبينا غيرها وطنًا مهمًا تحلّى أو تزيّا
ولعينيها وأقسمنا بأن لا نرى فوق ثراها أجنبيًا
فالموت يصبح عند أبي سلمى جسرًا، أو حالة، أو شكلًا قاسيًا وجميلًا من أشكال البحث عن حياته وحياة الآخرين المتحدة فيه، فإذا كان الموت مستهجنًا في هذا العصر، بعد أن انغمس الإنسان في ترف الحياة ومتاعها، وسخرت من أجله وسائل الراحة، فإنه يحلو للشاعر، ولم يكن الشاعر في ذلك شاذًا عن القاعدة؛ فهو لم يقدم على الموت إلا بعد أن فشل في تجربة غيره، ورأى أن الوطن لا يبنى، ولا يتحرر من الأجنبي إلا بالموت والاستشهاد.
ويقول أبو سلمى: (14)
ستنظرنا نصطلي نارها ونودي بمن جاء مستعبد
فينظر طعنًا يقد المتون وضربًا يفض شؤون العدا
فإما حياة لنا حرة وإلا... فهيّا لكي نلحدا
إن الشاعر يعتبر الموت "جسر الاضطرار إلى الحرية، وليس بذرة سلبية كامنة في البطل التراجيدي، وذلك أن الصراع في جوهره صراع ملحمي." (15)
كما يعد الموت لدى أبي سلمى أول شروط الاحتفاظ بالكرامة الإنسانية والجدارة بالحياة، وفي ذلك يقول: (16)
عش عزيزًا أو مت وأنت كريم بين طعن القنا وخفق البنود
فإذا لم يستطع الإنسان أن يعيش عزيزًا، فعليه أن يختار الموت بديلًا عن حياة الذل والإهانة؛ فهو إن مات مع المكافحين المناضلين حاملًا العبء مع الناس فإن موته هذا ذو معنى خاص، أوضح معانيه أنه يشارك في منح الحياة الكريمة للأجيال القادمة، فبدلًا من أن تعيش ذليلة، يتاح لها أن تحيا في كرامةٍ بعيدًا عن امتهان أو اضطهاد أو هوان.
وهكذا نجد أن دال الموت في الديوان الآخر لا يحيل إلينا معاني الخوف أو الرهبة، وإنما أضحى الموت علامة على الحب؛ ذلك "لأن الموت تتبعه الحياة على الفور، فهناك بعث دائم متجدد للشعب، مهما كانت المصاعب." (17) فالشوق إلى الموت في الديوان الآخر جاء اشتهاءً لتجلي مظاهر الانبعاث بالتخلي -طوعًا-عن الموت؛ الفناء والنهاية فصار "الموت الفلسطيني العربي سباقًا للبحث عن الحياة، أو افتتاحية لبداية الإنسان الجديد؛ لأن هذا الموت ليس حلًا لمشكلة الحياة الشاقة، لا هو موت ذهن، ولا هو تآكل الأعضاء من الخمول والسأم، إنه طريقة في السفر للبحث عن الجانب الحي في الحياة، أو هو لتخليص الإنسان من الموت في الحياة إلى الحياة في الموت." (18)
ثالثًا: محور التحدي والصمود:
إن العذاب والألم الذي يقاسيه الشاعر وشعبه كان دافعًا قويًا لأن يعلن تحديه لكل قوى القهر والطغيان، وأن يأخذ عهدًا على نفسه بالكفاح والصمود أمام مخططات العدو، التي تسعى إلى طمس الهوية الفلسطينية. وهذا كله دفع الشاعر -كفلسفي- إلى الخروج من دائرة مأساته، مهما كلفه ذلك من ثمن، فنراه لا يذعن لأحزانه، بل يتحامل على نفسه حتى يعبر إلى الضفة الأخرى، حيث يحلم بالعيش في مجتمعٍ جديد، تنعطف أرجاؤه على السعادة والعدل، وهو إذ يعد إلى ذلك يدرك أن حُلمه لن يتحقق إلا بالتحدي والصمود والصبر على المصاعب، يقول أبو سلمى: (19)
إن جهلتم سلوا فلسطين عنا كيف يدمي تاريخها الأشعارا
وسلوا بور سعيد والجبل الأخضر والشام غوطة وصحارى
هل سألتم عمان ساعة هبت وغدت في هبوبها إعصارًا
هل سألتم شعب العراق وقد حوم يبغي على الطغاة انفجارًا
هل سألتم بقية الشعب في الأردن كالسيل عاتيا جبّارًا
قد تركنا المستعمرين من الهول سكارى وما هم بسكارى
وجعلنا ونحن نقتحم الهول ونأبى المستعمرين حيارى
ورأيناهم يجرون ذلًا خلف أسيادهم وخزيًا وعارًا
يستعيد أبو سلمى الماضي المشرق؛ ليكون باعثًا للثورة والتحدي، فهو يرى أن حياة النضال هي الطريق الحقيقي للنصر والعودة إلى الوطن، وهي السبيل الوحيد لتحقيق جدارتهم وجدارة الشعب بالعزة والكرامة، وعلى مستوى الصياغة تمثل الأبيات حوارًا بين (الأنتم) و(الأنا) حيث يبدأ الموقف الشعوري باستعادة الحدث الماضي من خلال الأفعال الماضية المتتالية في العبارة التي جاءت لرصد ألوان التحدي والثورات التي قامت بها الشعوب العربية، ولما كانت الأفعال الماضية ملازمة للآخر (جهلتوا، سألتوا) والمضارعة تغلب مع (الأنا) التي جاءت بصيغة الجمع (نا) [نقتحم - نأبى] ومما يدل على أن الذات هي المسيطرة في النهاية اختفاء الآخر من الأبيات الثلاثة، وكأن غياب الآخر من الصياغة ينذر بغيابه عن الواقع.
وتبرز الخطابية والمباشرة في هذا المحور؛ وذلك لأن الشاعر لا يخاطب بشعره فئة خاصة من الناس، وإنما يخاطب جماهير شعبه بكل مستوياتها، ويريد بث الحماس وإعلان التحدي، وهذا لا يحتاج إلى إعمال فكرٍ أو انشغال ذهني في بناء العبارة بقدر ما يحتاج إلى بساطة في التركيب وسرعة في الأداء.
يقول أبو سلمى: (20)
يا أهلنا في القدس والجليل
وبيت لحم
في الغور في نابلس
وطولكرم
ما زلتم
نور العيون والقلوب
على المدى يدًا بيد
نحن معًا نسير
على لظى الدروب
ونحن في بلاد العرب
نحن الذين نحمل العارا
الخطاب -هنا- موجه إلى الشعب الفلسطيني في الداخل، والعلاقة التي تربط الشاعر به هي علاقة حميمة؛ فالشعب أهله ومن ثم كان حديثه لهم صريحًا وخاصًا. وعلى مستوى الصياغة تمثل الأسطر حوارًا بين (الأنا) و(الأنتم)، ويجسده أسلوب النداء الذي جاء متصدرًا السطر الأول، وتمثل أداة النداء (يا) حضورًا خارجيًا لدال غائب ذهنيًا وهو أدعو أو أنادي، والنداء -هنا- يوحي بتراخي المنادى عن فاعليته؛ لذلك احتاج الأمر إلى هذا التشكيل الصياغي لتحريك طاقاته الإيحائية، وزرع الثقة فيه من جديد، فقد حاول استمالتهم بقوله: (ما زلتم الأعزة - ونور العيون والقلوب....)
فالشاعر يهدف إلى تحريك الذات وتقوية إرادته الضعيفة، والتي هي إرادة شعبٍ بأكمله، وقد بدأ الشاعر بعملية إقناعٍ منطقي للمخاطب؛ فقد بدأ بضمير المتكلم (أهلنا)، وفي ذلك استثارة للشعب، وإمعانًا في التفضل يعود إلى المتكلم الجمعي (نحن) ثم يعود إلى ضمير المخاطب الجمعي (أنتم) وهكذا تتوالى ضمائر الخطاب وتتنوع، وذلك لأن تحول الضمائر من الحضور إلى الغياب يؤدي إلى إثراء الدلالة؛ فالشاعر يهدف إلى تحرير الذات من أي خوف؛ لأن إرادة الذات حرة، تأبى الرق، وترفض الذل، قد حرص الشاعر على استخدام الفعل المضارع؛ ليؤكد استمرار الحدث، وقد عبر بصيغة الجمع (نا) و(نحن) ليأخذ الحدث صفة شمولية تقع من الجميع.
وفي قوله: (21)
نحن طلاب وحدة لا وربي نحن طلاب فرقة وشقاق
رحماء على العداء وأشداء على أهلنا وبين الرفاق
ما أرقنا إلا دما عربيًا ودم الأجنبي غير مراق
لم نسم غير قومنا بهوان ونرى الخصم في أعز نطاق
ليت شعري متى يطل على العالم شعبي محرر الأعناق
يبرز التناقض منذ البيت الأول؛ حيث يبدأ المفارقة الساخرة من خلال التقابل الدلالي الذي جاء من خلال التناقض؛ حيث يبين حال الأمة العربية التي تدعي لنفسها الوحدة، ولكن الفراق والشقاق هو حقيقتها، والرحمة للأعداء والشدة للأهل والرفاق، وإراقة دماء العرب، وترك الأعداء في حرية، والهوان والخزي لأهلينا، والعزة والكرامة للأعداء، ثم يحاول الشاعر أن يخرج من واقعه الحزين، ويضع حدًا لخلاص الأمة من واقعها، وذلك من خلال الاستفهام الاستنكاري الذي يزيد من تكثيف الدلالة الحزينة، والذي يعلن من خلاله وجوب التحدي والوقوف في وجه العدو.
من هنا يأتي التحدي الذي تتمحور حوله الصياغة ليس تحديًا سلبيًا عاجزًا عن الفاعلية، وإنما هو تحدٍ قائم على المواجهة الفعلية مع العدو، وبذلك استطاع أبو سلمى أن يبرهن على قدرته وقدرة شعبه على التحدي والصمود أمام مخططات القوى الاستعماري، وذلك بالانخراط من طريقين متوازيين؛ أحدهما: يتجه نحو البناء الداخلي، والآخر: يحمل على عاتقه عبء المقاومة والمواجهة.
رابعًا: محور الزمن:
يعد الزمن عنصرًا فنيًا مهمًا ووسيلة من وسائل التشكيل في التجربة الشعرية المعاصرة؛ "فالمتتبع لشعر الحداثة يدرك أن الزمن وامتداده كان أبرز العناصر التي أحاطت بشعراء الحداثة، ومن خلاله جاء الإحساس بالخضوع في مواجهة العالم."(22) ويعتمد أبو سلمى اعتمادًا كبيرًا على الزمن اللغوي في تشكيل رؤاه الشعرية، وبيان وجهة نظره في الكون والعالم من حوله، فالزمن اللغوي هو وعاء الزمن الوجودي والمساهم في تشكيله واختلافه.
وبالوقوف أمام مفردات الزمن في الديوان الآخر لأبي سلمى (الليل - الدهر - الفجر - الصبح - الماضي - الزمان - النهار - الأيام - الليلة - عامًا - يوم) يتبين لنا مدى رؤية الشاعر لعالمه، وهي رؤية تنطلق من إحساس محبط، مفعم بالهم، مبعثه الإحساس الدائم بوطأة الحاضر وقسوته وعدم القدرة على مسايرة الأيام وتتابع الأزمان، بيد أنه يحاول -دائمًا- الهروب من هذا الإحساس المحبط، والتخلص منه بتذكر الماضي السعيد الذي تمتع فيه بالوصال، وذاق فيه السعادة.
ومن مفردات الزمن الذي ضمها الديوان الآخر (الدهر) الذي تنصرف دلالته إلى الزمان الطويل، الذي لا نعرف له عدة يتحدد بها، وكان له من المعتقد الجاهلي سطوة المتحكم الذي لا يعرف رحمة في حكمه، وكان من شأن العرب "أن تذم الدهر عند النوازل" (23). وربما التمسنا العلة في هذه العلاقة القلقة مع الدهر من خلال الدلالة اللغوية لمادة (دهر) التي تدور حول "النازلة والمصيبة"(24) وكان العرب يسندون فاعلية المصائب والمهالك إلى الدهر، خاصةً عند من عرفوا بالدهرية؛ الذين حكى القرآن الكريم قولتهم في سياق الذم والاستهجان في قوله تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهر} (الجاثية) (24) وذلك في قوله: (25)
من يقيني عادي الدهر غدا بعدما أصبحت في الأفق البعيد
فأبو سلمى يشعر بالعجز التام إزاء (عادي الدهر) بعد موت زوجته.
ونجده في موضع آخر لا يأمن الدهر، ويجعله خائنًا في قوله: (26)
لئن هاج ذكر الراحلين رسيسي فقد حطم الدهر الخؤون كؤوسي
فالدهر في نظر الشاعر خائن (خؤون)، وقد جمع إلى ذلك التخريب (فقد حطم.. كؤوسي) فهذا الوحش الزمني ليس له من لوازم دلالية سوى الفناء والإذهاب بالأهل والرهط والتخريب، وهكذا نجد الشاعر ينظر إلى الدهر نظرة سوداوية، ويحس بطغيانه وقسوته، ويشعر بعجز أمامه.
أما الماضي فيأتي -دائمًا- رغم ندرة الكلمات الدالة عليه -مقياسًا للحاضر- جميلًا، يرتبط بالذكريات والجمال، محملًا بالحُلم، يلقي بظلاله على الحاضر، فيتشبث به الشاعر، ويسترجعه ليحقق للنفس الإحساس بالسعادة والشعور بالهناء. يقول أبو سلمى: (27)
تعالي نذكر الماضي ونستنشد أحلامه
فيدنو ب إعراض وما أجمل أيّامه
تعالي نذكر الماضي
تعالي قبلما نفنى نذق لذة عمرينا
وننسى الهم والحزنا وحتى ذكر قبرينا
وما أحلى وما أهنا زاهي عهد فجرينا
تعالي قبلما نفنى
تكشف الأبيات السابقة عن حالة شعورية، ومعاناة من الدهر في الحاضر، بما يستتبع ذلك من الآلام والهم والحزن، والذي جعله متشائمًا، يتوقع الموت، وما استرجاع الماضي إلا رغبة عارمة في الهروب من واقع آنٍ ردىء، وأملًا في التخلص من شدة وقعه على نفسه، وإيلامه له. ولكن محاولات الشاعر التشبث بالماضي واسترجاعه بوصفه عوضًا عن حاضره المظلم الكئيب لم تفلح؛ لذا ينظر إلى مستقبله عاقدًا عليه الأمل من حين إلى آخر، والمتأمل في الديوان الآخر يجد قلة حضور الكلمات الدالة على المستقبل، قياسًا إلى الكلمات الدالة على الحاضر.
ولكننا نجد المعنى الدال على المستقبل في بعض السياقات؛ وذلك عندما يعقد الأمل على الثائرين في تحرير البلاد؛ حيث تتبدل معه الظروف إلى ما هو أفضل؛ وذلك في قوله: (28)
نحن جئناك مع الصبح المبين وحملنا الموت للمستعمرين
طهري بالنار أرض الثائرين إنها حرية للعالمين
هذه مصر تنادي أنا تاريخ الجهاد
يصبح العالم حرًا يوم تحرير بلادي
ينادي الشاعر في الأبيات السابقة بتطهير البلاد، فإن معه ستتحقق حرية العالم بأكمله. وهكذا استطاع أبو سلمى من خلال المفردتين (الصبح - يصبح) أن يعبر عن المستقبل المشرق الذي سيتحقق فيه الأمل في تحرير بلاده.
أما الزمن أو الزمان فهي لفظة تطلق على كل وقت طويل أو قصير، وهو يرتبط بالدلالة على "المرض والعجز؛ فالزمانة: المرض أو العاهة التي يصاب بها الإنسان، ويدخل فيها." (29) ويترتب على هذه الدلالة أن تكون العلاقة بين الدهر والزمن هي علاقة السبب بالمسبب، وقد تربط بينهما علاقة الترادف، ومن ثم تكون الشكوى منهما واحدة، ولكننا نجد في الديوان الآخر أن صورة الزمن المخيفة قد اختفت، وغدت برقتها موائمة للدلالة التي يقتضيها النص.
يقول أبو سلمى: (30)
ثم جاد الزمان واعتنق القلبان والحب في حمى عطفيك
أنا لولاك ما تلألأ نجم في فؤادي ولا أقام لديك
وهذا راجع إلى حالة الرضا النفسي التي يحياها الشاعر وهو يرسم صورة الزمن، فقد حفزته هذه الحالة أن يهب الزمن بهجة وسروراً؛ فهو في البيت الأول يصف الزمان بالجود والكرم؛ لأنه أتاح له فرصة اللقاء مع محبوبته، بل إن الزمن يبدو ذاويًا ضعيفًا في قوله: (31)
حبك يسري في كياني لاهيا ذوى الزمان وغرامي ما ذوى
فقد ضعف الزمن، وشاب، وهرم أمام حبه الذي يسري في كيانه، ويملؤه نضارة وحيوية. وكان طول الليالي مفردة من المفردات السائدة عند أبي سلمى في ديوانه الآخر، ولمنه يأخذ عنده طابعًا خاصًا؛ وذلك عندما يربطه بغياب الحبيبة؛ في قوله: (32)
حبيبتي طال على شاعرك الليل الحزين
وأظلم القلب ودنيا ه فهلا تشرقين
فالشاعر يشعر بطول الليل لغياب المحبوبة؛ فقد جاء بمفردة الليل موصوفة بـ(الحزين)؛ لبيان وتفسير السبب في شعوره بطول الليل الذي غطى كل ما حوله بالظلام، وانعكس هذا الظلام على شعوره؛ فقد(أظلم القلب ودنياه)، ويتمنى -لذلك- زوال الليل برجوعها (فهلا تشرقين).
ومن تلك المفردات المقترنة بدالة الليل الأرق وما يستوعبه من الهم والسهد، وهي أحاسيس لا تظهر إلا في الليل، يقول أبو سلمى: (33)
كيف تنامين وليلي ضنى يملأ لياي الهم والسهد
وما هذا الأرق المتخذ من الليل زمنًا يباشر فيه سطوته على الشاعر المهموم إلا المخاض الذي تمخض عنه تذكر محبوبته المرتحلة عن المكان، مخلفة وراءها أثرًا لا ينمحي، بل يترك للشاعر الضنى والهم والسهد.
ويربط أبو سلمى -أحيانًا- طول الليل بغياب الأبطال في قوله: (34)
ليلة طال أم هوى النجم في النهر فلم يبق غير ليل مديد
سألت عن رجالها الفتكات البكر ضل الصدى من الترديد
فقد طال ليل الشاعر بسبب غياب الأبطال بالتشريد والتهويد في بلاده.
ومن المترادفات الزمانية التي وردت في الديوان الآخر(الربيع)؛ وذلك في قوله: (35)
يدعو القطيع إلى المياه إلى الربيع إلى الحياة
والربيع يعني للشاعر -في بيته السابق- الحياة والتفاؤل والأمل. والشتاء في قوله: (36)
أحبيبتي خصمي الشتاء وبيننا طال الخصام
الذي ارتبط عنده بالقلق وعدم الراحة.
والصيف الذي يحمل الدلالة المعاكسة؛ حيث يتخلى فيه من الهم والقلق في قوله: (37)
فمتى يطل الصيف حتى ينجلي عنها الغمام
واليوم في قوله: (38)
فكل سيف سرى في المشرقين سنًى هيهات يوسم بعد اليوم بالضلل
فقد جاءت مفردة اليوم محملة بدلالات القوة والشجاعة، وأحيانًا تأتي دالة (اليوم) محملة بدلالات الكآبة والحزن، وذلك في مثل قوله: (39)
خيامهم سود كأيامهم وصوتهم في هبة الشمال
وإذا جاء بها في سياق دالٍ على الحزن، فإنه يأتي بها في صيغة الجمع، فتكون مرادفة لمعنى الخيام السود التي لا تعرف عدتها.
و(العام) من المفردات الزمانية -أيضًا- وقد وردت في مثل قوله: (40)
سبعون عامًا حولي أجيال أزمنةٍ بين الشعوب لظاها كان والدول
فقد ارتبطت الدالة (عامًا) بالحديث عن البطل (عمر المختار) وكلها دوال تؤكد على أن لمفردات الزمن حضورًا بارزًا في المعجم الشعري للديوان الآخر.
ويلاحظ أن السمة الغالبة على توظيفه لمحور الزمن أنه كان مأزومًا بقضية الزمن ومصارعته التي كان على يقين من أنها أمر لا طائل من ورائه سوى الخسران؛ لأنها معركة غير متكافئة الأطراف، ومن ثم برزت مفردات الزمن عنده في سياقات تغذي فكرة الصراع هذه، وتدور في إطارها؛ فالشاعر يشعر في زمنه بالوحدة والغربة، يبحث عن الخلاص لنفسه وروحه؛ وذلك بالرجوع إلى الماضي الجميل المشرق حينًا واستشراف آفاق المستقبل السعيد حينًا آخر.
على أن تخاصم أبي سلمى مع زمانه لا يعني رفضه القاطع للزمن من حيث هو، وإنما يعني رفضه لظروفٍ عضال، تلقي بظلالها الكئيبة عليه، وحين تتغير هذه الظروف تنقلب حالة الخصام والرفض إلى حالة من الوئام والوفاق، ولكن في النهاية نجد الشاعر يحيا زمنه على قسوته ورداءته، ويستدعي ذكريات ماضيه الجميل ليخفف من وطأة حاضره.
خامسًا: محور العمر:
تربط بين حقلي الزمن والعمر روابط دلالية متينة تجعلها أشبه ما يكون بوجهين لعملة واحدة؛ وذلك أنه إذا كان الزمن سنواتٍ وشهورًا وأيامًا، تقل أو تكثر، فإن العمر هو الصورة التجميعية لتلك المفردات الزمنية. ويمكن تقسيم مراحل العمر في الديوان الآخر إلى أربعة مراحل هي: مرحلة الطفولة، وقد عبر عنها بالمفردة (الأطفال) ومرحلة الصبا، وتضم مفردات مثل: (الصبا - فتايا - بنت) وبعض التراكيب الإضافية مثل: (جنون الصبا - ميعة الصبا - زين الصبا) ثم مرحلة الشباب، وتضم مفردات مثل: (الشباب -غضى - الحسان - الفاتنات - حسناء) ومرحلة الهرم، تضم مفردات مثل: (مشيب - سبعون عامًا - شيب - شاخ) وترتبط مفردات كل مرحلة منها -دلاليًا- بعلاقة الترادف، ويضمها حقل دلالي واحد، وهو حقل مفردات العمر، وقد جاء تعبير الشاعر عن مرحلة الطفولة من موضع واحد، وقد قرنه بالحيرة؛ وذلك في قوله: (41)
ناي رضوان أرشد القوم قد أمسوا حيارى في الأمر كالأطفال
أما الحديث عن الصبا فقد جاء مقترنًا بأهم الصفات التي تميزه عن غيره من المراحل العمرية؛ من هذه الصفات القوة والجمال والرشاقة والحياة، وهو في كل ذلك ينطلق من اللحظة الحاضرة؛ حيث وصول النفس إلى مرحلة عمرية مفارقة لمرحلة الصبا، ولذلك اقترن حديثه عن مرحلة الصبا بصيغة الفعل الماضي الدالة على انتهاء الحديث، مع الإشارة إلى ما يغمر النفس من حنين حزين؛ وذلك في قوله: (42)
وقلت لأصحاب الصبا بتفجع ودمع جوى الأكباد غير حبيس
قفوا بي على الذكرى فهذي حشاشة سقتها بنات الدهر خمرة بوس
فالشاعر يبوح بهذا الحزن لأصحاب الصبا، الذين يتذكر معهم ما مضى من أيام الصبا، ولكن أنَّى له أن تعود إليه مثل هذه الأيام التي لا يمكن أن تعود. ولم يكن حديثه عن الشباب بأقل حنينًا وشعورًا بالحرمان من حديثه عن الصبا، وماله لا يحن إلى شبابه، وقد شابت النفس، ووهن العظم، وضعف البصر بعد حدة، وازداد القلب حسرة، عندما وصل إلى هذه الحقيقة المؤلمة، وهي غياب الشباب وعدم عودته؛ وذلك في قوله: (43)
أين منك الجمال والسحر يا عيد وأين الشباب... لم يبد غضَّا
يتحسر الشاعر على ذهاب الشباب الذي ذهبت معه السعادة والإحساس بالجمال والسحر، حتى العيد لم يجد له فرحة في قلبه.
ونجده في موضع آخر يقول: (44)
وشبابي وكان كالزهر الذاوي فلما لمسته باعتناء
عاد غضا وعدت أنظر قلبًا رائع الحلم عبقري الغناء
فقد ازدهر شبابه وأينع بعد أن كان ذاويًا؛ وذلك بعد شعوره بالحب، وارتباطه بمن يحب.
وكان حديثه عن المرأة الشابة، العذارى، الفاتنات، الحسان، متصلًا بعلاقته بهن أيام الشباب؛ وذلك في مثل قوله: (45)
تميس بين العذارى الفاتنات كي يروم غانية الآمال مفؤود
وذلك عندما كان يتحدث عن ارتحال حبيبته مع صويحباتها.
وفي قوله: (46)
أين منك الحسان يرفلن بالديباج
فوق الربيع... يركضن ركضًا
وهو يتحدث عن الحسان في زمن الشباب حديث الحسرة على هذا الزمن الذي يشعر بافتقاده.
أما الحديث عن الشيب فقد جاء مقترنًا بالحديث عن مرحلتي (الصبا والشباب) حيث تمثل مرحلتا (الصبا/ الشباب) الماضي بإشراقه وبهائه وجماله وانطلاقه وقوته، ويمثل الشيب الحاضر بأسقامه وضعفه وتقوقعه، فمن النوع الأول قوله: (47)
يقولون كيف الشيب في ميعة الصبا ألا إن ما لا قيت منك يشيب
ومن النوع الثاني قوله: (48)
معرفة الشيب وغض الشباب عندي لولاه لذابت وذاب
أنتِ التي جددت مني الإهاب ودبت النشوة فيه فطاب
فالصورتان متناقضتان؛ ففي الصورة الأولى يعيش مرحلة الصبا حقيقية، ولكنه يشعر بالشيب؛ وذلك لهجر الحبيبة وصدها، أما في الصورة الثانية يعيش الشاعر مرحلة الشيب، ولكنه يشعر بأحاسيس الشباب، وذلك لما يتمتع به من سعادة لوصال الحبيبة، فقد ارتبط إحساس الشاعر بالشباب والشيب بالسعادة في الحب وجودًا وعدمًا.
وأحيانًا يعبر الشاعر عن الشيخوخة بسنوات العمر وذلك في مثل قوله: (49)
سبعون عامًا حولي أجيال أزمنة بين الشعوب لظاها كان والدول
روح من الله في الأعوام حين سرت تجمعت عزمات الشعب في رحيل
ولكن حديث الشاعر عن الشيخوخة والهرم، جاء مقترنًا بالحكمة والخبرة والعزيمة؛ التي كانت بمثابة عزمات الشعب بأكمله؛ وذلك في سياق حديثه عن المناضل البطل (عمر المختار).
من كل ما سبق، يمكن التوصل إلى أن الشاعر كانت له صبواته الغرامية في فترة الشباب؛ ولذلك ارتبط حديثه عن مرحلة الشباب بمسحة من الحزن، وعن مرحلة الشيخوخة والهرم بالشكوى، التي تعد الرابط المعنوي بين حقلي الزمن والعمر.
بحيث كان أولهما ذا أثرٍ بالغ في ثانيهما، وقد بدأ ذلك في توجيه الشاعر نحو اختيار محدد للدوال اللغوية المنتجة للدلالات المتاحة للتعبير عن الحرمان من متع الشباب بسبب الكهولة، وما يصاحبها من ضعف الجسد، وخلود المجلس من المرأة التي حدث عن شبابه وإياها حديثًا يكشف عن عمق الصلة بها، أو عن أثرها الكبير في ماضيه المنصرم.
سادسًا: محور اللون:
ارتبط حقل الزمن بحقل العمر، بحيث كان هذا الأخير الصورة الخاصة للأولى، ويرتبط بها حقل الألوان من حيث الإيحاءات التي يحملها كل لون، وقد استخدم أبو سلمى في ديوانه الآخر من الألوان (الأسود - الأبيض - الأخضر - الأحمر - الأزرق - الأصفر) وقد تفاوتت فيما بينها من حيث عدد المرات التي ورد فيها كل لون.
واللون الأسود من الألوان الواردة في الديوان الآخر، وقد جاء تأكيدًا وتواصلًا لما هو متوارث ومعروف، وإذا كان بالإمكان التمييز بين ثلاثة سياقات لورود اللون الأسود، فإن هذه السياقات لا تبتعد كثيرًا عن بعضها البعض، بل بينها صلات قوية تؤكد تقاربها وتوافقها معًا. وهذه السياقات نوزعها على ثلاثة محاور هي:
- محور الجمال والزينة والقوة والشباب.
- محور المقاومة.
- محور الحزن والكآبة.
ويمثل السياق الأول الدلالة الكلية لدال اللون الأسود، فهو -غالبًا- ما يمتد إلى السياقات الأخرى، ويصبغها بصبغته؛ ففي سياق الجمال والزينة يقول أبو سلمى: (50)
والشعر الأسود من طيبه سال على الليل الشذا يعبق
فوصف الشعر بالسواد في مقابل الشعر الأبيض يدل على الشباب والقوة والفتوة، وقد ألقى اللون الأسود ظلالًا من القوة والحيوية، كما أضفى على المحبوبة صفة الطيبة والبراءة. وهكذا أضفى اللون الأسود ظلالًا من الفرح والسعادة والحياة.
كما نلمح دلالة أخرى للون الأسود، وهي دلالة المقاومة وذلك في قول أبي سلمى: (51)
يطوح النير بأعناقهم وتعصف النيران بالمعقل
خيامهم سود كأيامهم وصوتهم في هبة الشمال
في لهيب الثورة يدوي وفي زمجرة الإعصار والمرجل
ولا شك أن اللون الأسود قد أعطى مؤشرًا مهمًا على طبيعة إدراك الشاعر لعالمه، وهو إدراك لا يبعث على التفاؤل بقدر ما يدعو إلى الإحباط واليأس. إن وصف الخيام بالسواد يكشف عن سلوك مفعم بالقسوة والغضب، استمد معانيه من وحشية النير وحرقة اللهب، وكان اللون الأسود إشارة إلى ذلك، حيث إن الشاعر وظفه توظيفًا جماليًا لتجسيد تلك المعاني، وجعلها أكثر ملائمة لذهن المتلقي.
وفي سياق الحزن والكآبة يقول: (52)
شعب بغداد أيها الحاطم الأغلال قل لي متى تذوب قيودي
المنارات والمدائن بعد "القدس" لاحت خلف المسوح السود
وبروز اللون الأسود في نهاية البيت الثاني يومئ بالخط الدلالي العام الذي يسيطر على البنية اللغوية، وهو جو الحزن والكآبة، إذ إن اختفاء المنارات والمدائن خلف المسوح السود ينقل إلينا الإحساس القوي بالهزيمة والقهر والإذلال، ولكن في الوقت نفسه يحاول أن يكسر جدران الحزن، ويرفض الاستسلام له، وذلك ما تعززه الدوال التي تبعث على التفاؤل والإيجابية، وهذا ما نجده في اللفظتين (المنارات - لاحت) وهما من الألفاظ التي تشعل في النفس معاني الحياة والفرح والسعادة، ومن ثم تخفف من قتامة الموقف، ومأساوية الرؤية التي شحنها اللون الأسود في نهاية البيت.
أما اللون الأبيض فإننا نجد أن دلالة التضاد تجمع بينه وبين اللون الأسود؛ ولذلك إذا تم الجمع بينهما في سياقٍ واحد فإنما يكون لإبراز القيمة الجمالية الناتجة عن تجاور الأضداد، وقد يكون الجمع بينهما لإبراز المفارقة بين دلالة كل منهما، خاصةً إذا كان السواد موظفًا للدلالة على الشباب، والبياض للدلالة على الشيب، وذلك على نحو ما سبق عند الحديث عن محور العمر.
أما عن السياقات التي اُستخدم فيها اللون الأبيض في الديوان الآخر؛ فقد جاء اللون الأبيض في سياق العمل والكفاح؛ وذلك في مثل قوله: (53)
سجل الدهر أول آيار حقوق الشعوب والأقطار
عرق العاملين في ظله الرحب عبير المروج والأزهار
يلتقي الفكر باليد السمحة البيضاء والنور يلتقي بالنار
فقد جاء اللون الأبيض في سياق الحديث عن العاملين، حيث جاء معبرًا عن السماحة والكرم والعطاء الذي يقدمه أبناء الوطن العاملين.
وفي موضع آخر يقول: (54)
تسمعه في أغنيات الظُبى بيضا وفي غمغمة الجحفل
حيث يأتي اللون الأبيض في سياق الحديث عن القتال والثورة.
أما اللون الأخضر فإن دلالته لا تخرج عن الخط الدلالي العام له الذي يتمثل في الخصب والنماء، ولكن الشاعر استطاع أن ينوع سياقات وروده تنويعًا أضاف إليها ظلالًا هامشية تساهم في توسيع نطاقها الدلالي.
وسياقات اللون الأخضر تكاد تنحصر في ثلاثة اتجاهات هي:
- الأول: الحديث عن الأرض.
- الثاني: الحديث عن المحبوبة.
- الثالث: الحديث عن الموت والاستشهاد.
وفي حديث الشاعر عن الأرض يتجلى اللون الأخضر كمدرك بصري مباشر، يعبر عن استمرار الحياة ونضارتها في عناصر الطبيعة.
يقول أبو سلمى: (55)
إن جهلتم سلوا عن فلسطين عنا كيف يدمي تاريخها الأشعارا
وسلوا بور سعيد والجبل الأخضر والشام غوطة وصحارى
فقد جاء اللون الأخضر في عناصر الطبيعة يدل على الحياة والنضارة في مقابل الجدب واليبس، فإن الشاعر كثيرًا ما ينقل هذه الدلالة من سياقها العادي إلى سياقٍ آخر فني، يتصل بمحبوبته، فيضفي عليها أو على حبهما طبيعة الاخضرار، ليمنحه صفة الاستمرارية والعطاء؛ وذلك في قوله: (56)
مررت بالصحراء أشكو حرها فكنتِ فيها واحتي العطرية
وسال في الوادي الغدير شاديًا مرددًا أنغامك الشجية
نشرت في السفح وشاحًا أخضرا ما كان لولا يدك السحرية
فإعطاء صفة الاخضرار لوشاحها يوحي بالعطاء والوفاء؛ فهي الواحة في الصحراء، وهي سبب سعادته.
ومن السياقات التي تجلى فيها اللون الأخضر، وأدى دلالة فنية رامزة سياق الموت والاستشهاد، حيث أن الشاعر يحاول أن يواجه الفناء أو الموت، الذي يتسلل إليه، أو إلى أبناء وطنه بعناصر تبعث الحياة فيها مرة أخرى؛ وفي ذلك يقول: (57)
والفرس الخضراء في ساحها تسأل عن فارسها الأول
إن وصف الفرس بالاخضرار أضفى عليها طابعًا رامزًا ساعد على خلق دلالات كثيرة غير مباشرة؛ فالاخضرار هو رمز الخير والبركة والراحة، والفرس المباركة لا يمتطيها إلا الفارس المبارك الكريم، ولذلك أراد الشاعر من خلال وصفه للخيل أن يضفي صفة البركة والكرم على فارسها الأول، وهو البطل الذي مات وراح عنها، وإذا كان السياق هو سياق تأبين لأحد الشهداء فإن اللون الأخضر قد أضفى الفجيعة، وخفف من حدة البلوى، وصار الحديث ليس عن حياةٍ فانية، وإنما عن حياةٍ باقية زاهية.
ويرتبط اللون الأحمر ببعض الدلالات التي تدور حول القوة، وما يصاحبها من الشجاعة وقوة البأس "وربما كان للتوافق اللوني بين لون الدم والحمرة دخلًا في مثل هذه الدلالات" (58) وقد وظف أبو سلمى اللون الأحمر في الديوان الآخر في سياقين متباعدين، هما سياق الحب وسياق القتل والتضحية، ومن ثم اكتسب دال اللون الأحمر دلالتين مختلفتين، تتناسب كل منهما مع السياق الذي ترد فيه.
ففي سياق الحب يشع اللون الأحمر دالًا على التوقد والحيوية؛ كما في قول أبي سلمى: (59)
عشت عمري أعلل القلب بالوصل وكانت شكواه منك إليك
كيف قلبته على لهب النار ولم تفتحي له جنتكِ
إن بعد الشاعر عن المحبوبة قاسٍ وشديد الوقع على نفسه؛ فالشاعر يصور بعده عن المحبوبة، كأنه يتقلب على جمر النار، ومن ثم ساعدت الكلمتان (لهب - النار) على بيان التوقد والحيوية، وكأن اللون الأحمر يعكس رغبته الجامحة في رؤية المحبوبة ولقائها، ويذكره بالموعد المرتقب، وتبادل أحاديث الهوى والحب.
وفي قوله: (60)
يا منيتي طرفك الوسنان برح بي وشرد اللب في الخدين توريد
لقد امتزج اللون الأحمر بالخصوبة والنماء، حيث صور احمرار خديها وطرفها الوسنان.
وفي سياق القتل والتضحية -حيث اللون الأحمر أكثر تواترًا والتصاقًا به- يكسب معنى الدموية والنارية، ويمثل جذوة الحياة والاشتعال التي تحاول جاهدة ألا تنطفىء يقول أبو سلمى: (61)
والبطولات التي تلثم تربة الحرية ترعى حق الحمى والجوار
ويقول: (62)
لا الراية الحمراء منشورة ولا ذؤابات القنا الدبل
حيث جاء اللون الأحمر في المثالين السابقين مشحونًا بمشاعر الغضب والانفعال والثورة.
أما استخدام الشاعر للون الأزرق فيكاد يرتبط -في الغالب-بمعاني الصفاء والشفافية، وهي معاني استمدها الشاعر من الطبيعة المتمثلة في صفاء السماء ونقاوة البحر. وقد يأتي اللون الأزرق في سياق الحب، حيث يتناسب مع معاني التأمل والهدوء والصفاء والشفافية، التي تنبعث من اللون الأزرق؛ ومن ذلك قوله: (63)
يا من غفا النجم على صدرها وظل وهو حالم يخفق
أمن سماء الحب أم بالله قولي ثوبك الأزرق
وأهمية اللون الأزرق في هذه الصورة تتمثل في اتساعه وصفائه؛ لارتباطه بالسماء بما فيها من نقاء وصفاء وراحة وطمأنينة.
وقد يأتي اللون الأزرق في سياق الرثاء والتأبين كما في قوله: (64)
لا أمل يرتجى ولا عودة إلا الرؤى في الأفق الأزرق
مطلق ما المرء سوى تائه يجول في اليم على زورق
وأهمية اللون الأزرق في البيت الأول أنه يعكس إحساسًا شاملًا بالإحباط واليأس، فقد وصف الشاعر الأفق بالأزرق، فإنه يعطي إيحاءً بالاتساع، ثم أكد الشاعر هذا الإحساس في البيت الثاني عندما صور حاله بإنسان تائه يجول في اليم على زورق.
واللون الأصفر ينذر بنهاية الأشياء وذبولها وخلوها من النضارة والحيوية، وهو إذ يلجأ إليه الشاعر فإنه يوظفه في سياق العذاب والألم في قوله: (65)
أطوف حوالي البيت والبيت واجم وأسأل قلبي والدموع تجيب
ويزهو رداء أصفر اللون شاحب وفي الوجه مني صفرة وشحوب
حيث يضفي اللون الأصفر دلالات الحزن والمرض والشحوب؛ وذلك لغياب المحبوبة.
وعلى العكس من ذلك -أحيانًا- يأتي اللون الأصفر دالًا على النضارة؛ وذلك في قول أبي سلمى: (66)
بردى زفه إلى النهر الأصفر فالدرب سوسن وأقاح
وذلك في سياق وصف الطبيعة في العين؛ ولذلك جاء محملًا بمعاني النماء والحيوية.
إن كل ما سبق من حديث عن الزمن والعمر واللون ومفردات كل منها يؤكد على أمرين:
أولهما: أن السياق يكسب المفردات اللغوية دلالة سياقية جديدة غير دلالتها المعجمية، فإذا كان بين كل منها رابطة من نوعٍ ما، وفي ذلك تأكيد على أثر السياق في إثراء الدلالات اللغوية.
وثانيهما: أن الفصل بين هذه الحقول الثلاثة أمر تقتضيه طبيعة البحث فحسب؛ لأن دراسة تلك الحقول أثبتت أن ثلاثتها متصلة ببعضها اتصالًا وثيقًا، فقد أسلم الحديث العام عن الزمن إلى تخصيصه بالحديث عن المراحل العمرية، وكانت توصيفات الألوان موائمة لهذه المراحل العمرية، وذلك تم من إدراك العلاقة بين اللون الأسود ومعنى القوة والفتوة والشباب، وكذلك العلاقة بين البياض ومعاني الشيب والهرم، وقد تم ربط كل ذلك عند شكوى الشاعر من الزمن والحسرة على أيام الشباب المنقضي.
المبحث الثاني:
المفردات المعجمية البارزة
أولًا: مفردات الأعلام:
وهي أسماء الأعلام التي استوحاها الشاعر من التراث الإنساني بصفةٍ عامة، ثم وظفها -فنيًا- في خطابه الشعري.
وأسماء الأعلام بطبيعتها "تحمل تداعيات معقدة تربطها بقصص تاريخية أو أسطورية، وتشير قليلًا أو كثيرًا إلى أبطالٍ وأماكن تنتمي إلى ثقافاتٍ متباعدة في الزمان والمكان." (67)
وقد عمد أبو سلمى إلى توظيف العديد من أسماء الأعلام المختلفة في شعره "أعلام تاريخية - دينية - أسماء شعراء - شخصيات سياسية - فنية - معاصرة" مؤكدًا انفتاح نصه الشعري على غيره من الثقافات؛ فأسماء الأعلام بطبيعتها "تحمل تداعيات معقدة، تربطها بقصص تاريخية أو أسطورية، وتشير قليلًا أو كثيرًا إلى أبطالٍ وأماكن تنتمي إلى ثقافاتٍ متباعدة في الزمان والمكان." (68) والشاعر حين يستدعي علمًا ما إلى نصه إنما يهدف إلى إثرائه بمجموعة من الدلالات الرمزية والإيحائية التي تسمو بشاعريته؛ "لذلك فإن تضمينها في بنية الخطاب الشعري يزيد من تكثيف الدلالة الشعرية الرامزة، وتحيلنا إلى عوالم أخرى -ذات مغزى- تعد من متممات عالم النص الشعري." (69) فنحن -إذن- "لا نتعامل مع كلمة، وإنما نتعامل مع مجموعة من المواقف النفسية، تستثار في الذهن كلما ذكر ذلك العلم." (70)
ومن الأسماء التراثية التي ترجع إلى الأدب العربي (المتنبي -ابن زيدون - كليوباترا - عمر المختار - أحمد شوقي - ماري عجمي - مطلق عبد الخالق) وقد غلب على الشاعر استخدامها في سياق الاعتزاز بالعروبة والانتماء إليها. أما الأسماء التي تنتمي إلى التاريخ الإسلامي؛ فمنها ما يرتبط بتاريخ الأشخاص (عثمان بن عفان - عمر بن الخطاب - علِيَّ بن أبي طالب - أحمد بن الم- ثمود) ومنها ما يرتبط بأسماء الأماكن (حطين - أجنادين - المسجد الأقصى - الكويت - دمشق - العراق - الجزائر - نابلس - عمّان - مصر - بور سعيد - الهرم - النيل - يافا - الأندلس) ومن الأسماء الأجنبية (بتهوفن - ماوتسي تونغ)
وإذا أمعنا النظر في هذه الأسماء نرى أنها تنتمي إلى عصور الازدهار والرخاء في التاريخ الإسلامي، بالإضافة إلى أن بعض الأسماء التي وظفها في نصوصه الشعرية ترتبط في أذهاننا بالانتصارات الإسلامية العظيمة؛ كحطين وأجنادين وعمر المختار، وتركيز الشاعر على هذه الجوانب المشرقة من التاريخ الإسلامي في مقابل الأوضاع الراهنة يكشف المفارقة الحادة بين الماضي والحاضر. تلك الأسماء عامة يوظفها الشاعر توظيفًا أدبيًا يصل من خلاله إلى تجسيد الواقع الأليم الذي تمر به الأمة العربية، والتعبير عن رؤيته الخاصة للعالم من حوله.
ثانيًا: الألفاظ العامية:
لا تفسر المفردات العامية -جميعها- بأنها من الأخطاء اللغوية الخارجة عن قواعد اللغة أو دلالاتها؛ فالحقيقة هناك كثير من المفردات العامية هي مفردات فصيحة، ولكن كثرة استعمالها وشيوعها بين العامة أفقدها نضارتها وجدتها التي تتمتع بها، فأصبحت من الكلمات المبتذلة التي تضاف إلى معجم اللغة العامية. وحين يلجأ الشاعر إلى هذه المفردات فإما إنه يحاول أن ينزل -أحيانًا- إلى مستوى المتلقي المعني بالخطاب، أو إنه يحاول أن يثير في المتلقي الحس الوطني؛ بذكر كلمات معينة ترتبط بموطنه دون المواطن الأخرى.
ولكن هذا لا يبرر ورود مثل هذه الكلمات في نص أدبي يرقى فوق المستوى العادي للغة، إذ إن في ورودها ما يحط من مستوى النص الفني، ويحد من جمالياته ودلالاته، وأبو سلمى لا يستخدم الألفاظ العامية في الديوان الآخر إلا في حدودٍ ضيقة، ومن هذه الألفاظ:
ومن الألفاظ العامية التي ورت في الديوان الآخر:
الكلمة معناها
الملاح (71) الملاح الريح تجري بها السفينة/ الملاح السترة.
شال (72) شال الميزان ارتفعت إحدى كفتيه، ويقال شال ميزان فلان يشول شولانًا، وهو مثل في المفاخرة، يقال فاخرته فشال ميزانه أي فخرته بآبائي وغلبته.
صباي (73) الصبي: الصغير دون الغلام ومن لم يفطم، والصبية مؤنث صبي، والجمع صبايا.
حشايا (74) الحشى ما دون الحجاب في البطن كله من الكبد والطحال والكرش، وما يتبع ذلك حشى كله، والحشى ظاهر البطن وهوالحضن.
شظايا (75) تشظى الشيء تفرق وتشقق وتطاير. شظايا.. وتشظى القوم تفرقوا. وشظيت القوم تشظية أي فرقهم فتشظوا، أي تفرقوا، وشظى القوم إذا تفرقوا، والشظي من الناس الموالي والتباع. والجمع شظايا، وهو من التشظي التشعب والتشقق، ومنه الحديث: (فانشظت رباعية الرسول) أي انكسرت.
ثالثًا: الألفاظ الغريبة التي ورت في الديوان الآخر:
ظاهرة الألفاظ الغريبة أو المهملة بارزة في شعر أبي سلمى -كثيرًا- في ديوانه الآخر، والحكم على الألفاظ بالغريب يبني على أساس أنها غير متداولة في الوسط الثقافي، أو في الكتابات الأدبية بصفةٍ عامة، وهي وإن كان بعضها مألوفًا عند الخاصة من المثقفين فإنها تبدو غريبة على أغلبهم، ونظرًا لخاصية الغرابة فإن الشاعر لم يورد اللفظ أكثر من مرة واحدة إلا في القليل النادر، وكأنه يريد بذكره أن يبرهن على اتصاله بالقديم وعدم انفصاله عنه، أو أنه نوع من إبراز القدرات اللغوية لديه، ومن هذه الألفاظ:
ومن الألفاظ الغريبة:
الكلمة معناها
مدنف (76) دنف دنفًا المريض ثقل مرضه ودنا من الموت، والشمس مالت للغروب واصفرت والمصدر الدنف. أي المرض الثقيل، والمريض الذي لزمه المرض بلفظ واحد من الجميع.
رعديد (77) الرعديد الجبان يرتعد ويضطرب عند القتال جبنًا، ومن النساء الناعمة يترجرج لحمها من نعمتها، ومن البنات الناعم والجمع رعاديد.
يلوب (78) لاب يلوب لوبًا ولوابًا ولوبانًا الرجل أو البعير: عطش، وقيل حام حول الماء وهو لا يصل إليه، والاسم اللولب واللوب واللووب واللواب.
الوجيب (79) وجيبًا ووجبانًا واضطراب ورجف، وفلان وجبة: أكله أكلة واحدة في اليوم، وفلان وجوبًا وموجبًا، مات والشمس وجيبًا ووجوبًا: غابت.
يوج (80) وج يوج وجًا: أسرع، مصدره السرعة والوج النعام والقطا.
صرود (81) صرد صردًا: بردًا يقال صرد اليوم، وصرد الرجل وصردت الريح، والسهم أخطأ وعن الشيء انصرف، فهو صرود، والصرد البحت الخالص من كل شيء. والجمع صرود.
رسيس (82) رسس رس بينهم يرس رسًا، أصلح ورسست كذلك. الرسيس الشيء الثابت الذي قد لزم مكانه ورسيسًا وأرس: دخل وثبت ورس الحب ورسيسه بغيته وأثره.
نسيسي (83) النسيس السوق. والنسيس والنسيسة بقية النفس، ونسيس الإنسان وغيره ونسناسة جميعًا مجهود، وقيل جهده وصبره، قال: وليلة ذات جهام أطباق قصعتها بذات نسناس باق النسناس صبرها وجهدها، وقيل: النسيس الجهد وأقصى كل شيء الليث، النسيس غاية جهد الإنسان.
رموس (84) الرمس: القبر مستويًا مع وجه الأرض والتراب الذي يحشى على القبر، والجمع رموس وأرماس.
طروس (85) طرس الكتاب طرسًا كتبه ومحاه، طرَّسه طرسه (شدد للمبالغة) وأعاد الكتابة على المكتوب الممحو وتطرس في مطلعه أو ملبسه أو نحوهما تأنف وتخير، وعن الشيء تكرم عنه، وتدفع عنه الإلمام به، الطرّس الصحيفة والكتاب الذي مُحي ثم كُتب، وجمعه طروس وأطراس.
الباروك (86) الباروك الكابوس.
بمعاودة النظر في تلك الألفاظ ومعانيها نلاحظ أنها ليست ذات معانٍ متفاوتة، ولا تعود إلى حقلٍ دلالي، واحد بل هي متنوعة ومختلفة.
رابعًا: الألفاظ الدخيلة:
يستخدم الشاعر بعض الألفاظ الدخيلة استخدامًا واسعًا، بحيث تبدو وكأنها من جسد اللغة العربية، وليس ذلك إلا لكثرة استعمالها وتداولها بين متكلمي العربية، إلا أن الشاعر قد وسع من دائرة تلك الألفاظ، وأدخل ألفاظًا أخرى لا تعرف إلا في وسط المثقف، وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على ثقافة واسعة ودراية باللغات الأخرى. ومن الجدير بالذكر أن بعض الألفاظ الأعجمية الدخيلة قد تتعرض لبعض التغيير في أصواتها أو مقاطع النبر فيها؛ وذلك لأن "اللغات تخضع الكلمات الدخيلة لنظامها المقطعي، وتقوم العادات الصوتية بدورٍ كبيرٍ في هذا المجال، فينال الدخيل كثيرًا من التحريف في أصواته، وطريقة نطقه، مما يبعده عن صورته الأصلية، ويصبغه بصبغة اللسان الداخل فيه" (87) وقد أشار إلى ذلك من قبل الجواليقي في كتابه المعرب فقال: "العرب يجترئون على تغيير الأسماء الأعجمية إذا استعملوها، فيبدلون الحروف التي ليست من حروفهم إلى أقربها مخرجًا" (88)
ومن الألفاظ الدخيلة التي استخدمها أبو سلمى في ديوانه الآخر:
الكلمة معناها
التخت (89) التخت وعاء تصان فيه الثياب، فارسي، وقد تكلمت به العرب.
إسرائيل (90) كلمة أعجمية، وكلمة إسرائيل فيها لغات قالوا (إسرال)، كما قالوا (ميكال) وقالوا (إسرائيل) وقالوا أيضًا (إسرائيليين).
أيار (91) الشهر الخامس من السنة الشمسية بين نيسان وحزيران، أيامه واحد وثلاثون يقال -أيضًا-مايو سريانية.
نيسان (92) الشهر السابع من السنة السريانية ويقال له أبريل، وهو الشهر الرابع من شهور السنة الرومية.
الدولار (93) وحدة النقد الأمريكي، وجمعه دولارات وأصله ألماني THALER.
البترول (94) البترول فرنسي PETROL عن اللاتينية PETROLE، وأصل معناه زيت الصخور، وهو مركب من RERTRA أي الصخر، وOLEUM أي الزيت، والبديل العربي النفط بالكسر والفتح والكسر أفصح.
الصين (95) نوع من الخزف، وأصل مصدره من الصين أبيض اللون؛ نوع من الخزف الأبيض.
الخلاصة:
يتبين من خلال المفردات المعجمية في الديوان الآخر إلى أمرين؛ أولهما: تنوع ثقافة الشاعر التي استقاها من مصادر متعددة، وكان الفكر الغربي أحد دعائمها، ثانيهما: استخدم الشاعر الألفاظ الدخيلة؛ التي تتصل بمظاهر الحياة العامة، سواء كانت اجتماعية أو فكرية أو سياسية.
المبحث الثالث:
الصورة البيانية
تعد الصور الشعرية أحد المحاور التي يرتكز عليها المنهج الأسلوبي عند تعامله مع النص الشعري؛ لأنها -أولًا- مكون أساسي من مكونات النص الشعري، ثانيًا أنها تتكىء في إنتاجها على أسلوب المجاز باعتباره انحرافًا عن اللغة المعيارية؛ حيث تأخذ بعض الدوال اللغوية مدلولات جديدة غير تلك التي اقترنت بها في أصل الوضع اللغوي، وهي مدلولات جديدة تنتجها الصورة الشعرية التي يتم تشكيلها من خلال فكر الشاعر ووجدانه، فهي "الوسيط الأساس الذي يستكشف به الشاعر تجربته، ويتفهمها؛ كي يمنحها المعنى والنظام."(96) ومن ثم تغدو عنصرًا أساسيًا من عناصر تكون القصيدة الشعرية، بل "إن النص الأدبي لا يكون شعرًا إلا بما يحتويه من عناصر متكئة على الصورة." (97)
ولا تقف أهمية الصورة عند هذا الحد وحده، إنما تتعداه لتكشف عن تميز الشعراء فيما بينهم، فالتحليل الأسلوبي قد يكشف عن نوع من التقارب بين المبدعين في أبنية النص الشعري المختلفة، ولكن التمايز بينهم يظل مرتهنًا بالصورة الشعرية وكيفية بنائها، "باعتبارها عنصرًا حيويًا من عناصر التكوين النفسي للتجربة الشعرية." (98)
ولما كانت التجارب النفسية للمبدعين مختلفة من مبدعٍ لآخر، فإن بناء الصورة عند كل منهم يتضمن عناصر التميز والتفرد، وتغدو الصورة -من ثم- مقياسًا تقاس به موهبة الشاعر وموضع الاعتبار في الحكم عليه" (99)؛ لأن "نجاح الشاعر وفشله قرين بما يتمتع به من قدرات تصويرية، تمكنه من نقل تجاربه وأحاسيسه إلى المتلقي بواسطة ملكة الخيال." (100)
ومن هذا المنطلق "تغدو الصورة الفنية مزدوجة الوظيفة؛ حيث التعبير عن فكر الشاعر وعاطفته، ثم نقلها إلى المتلقي الذي يشعر بتميز هذا الشاعر عن غيره من الشعراء، وبالتالي عن الإنسان العادي؛ مما يضاعف من متعة المتلقي بالنص الأدبي عندما ينتقل مع الشاعر من صورة إلى أخرى، ومن مجازٍ إلى آخر، ومن استعارة إلى أخرى، وكأنما يقفز معه في سمائه من أفق إلى أفق، فيشعر بغير قليل من البهجة" (101)
ولا تقف أهمية الصورة الشعرية عند هذا الحد من تمايز الشعراء فيما بينهم، أو التعبير عن التجارب والعواطف، ثم نقلها إلى المتلقي، بل إنها لتتعدى كل ذلك، وتقوم بدور المميز بين نص وآخر؛ لأن "الصورة التي تتجلى فيها القصيدة اعتمادًا على طبيعة التجربة، وخصوصية الموهبة وذاتية القدرات تمنح هذه القصيدة بنيتها الخاصة والمتميزة." (102)
وقد أصبح مفهوم الصورة "محاطًا بسياجٍ كثيف من صعوبة التحديد، وغدت محاولة وضع تعريف جامع مانع لها أمرًا يحوطه الكثير من المحاذير؛ فالصورة الشعرية تكتسب مفهومها وخصائصها من الإبداع الشعري، وهو بدوره عصي على التحديد؛ لارتباطه بالتجارب الذاتية للمبدعين، وتأثره بالعوامل المحيطة بظروفٍ إنتاجية، مما يجعل من خصائصه التغيير، لتتغير بالتالي كل أدواته، ليصبح التعريف جهدًا لا طائل من ورائه." (103)
من أهم المظاهر التي تبعث على صعوبة هذا التعريف الجامع المانع تعدد وتنوع التراكيب الوصفية التي يرد فيها مصطلح الصورة، فهناك الصورة الفنية، والأدبية، والشعرية، والبيانية، والمجازية، والبيانية، أو يكتفي بمصطلح الصورة الفنية دونما وصفٍ معين، بينما ترجع أسباب هذه الصعوبة إلى تعدد الاتجاهات الأدبية واختلافها فيما بينها، واختلاف زاوية نظر كل منها، بل إنها لتختلف بين أرباب المذهب الواحد، بحيث يمكن أن يقال: "إن الصورة الشعرية أصبحت تحمل لكل إنسانٍ معنى مختلفًا، كأنها تعني كل شيء." (104)
"وقد ترجع بعض تلك الأسباب إلى تعدد عناصر الصورة الشعرية ووسائل تشكيلها، أو لتعدد أنماطها وأساليب بنائها، وكل ذلك مما يمت بصلة إلى تعدد الاتجاهات الأدبية والنقدية." (105) ولكن يمكن تعريف الصورة تعريفًا يراعي البنية اللغوية والدلالية للصورة باعتبارهما حقلين من حقول الدراسة الأسلوبية بأنها: [مجموعة علاقات لغوية يخلقها الشاعر؛ لكي يعبر عن انفعاله الخاص، والشاعر يستخدم اللغة استخدامًا جديدًا حين يحاول أن يستحدث بين الألفاظ ارتباطات غير مألوفة، ومقارنات غير معهودة في اللغة العادية." (106)
وتلك الارتباطات هي الدلالات الجديدة التي يقوم التركيب اللغوي بإنتاجها، منحرفًا بها عن سياق الاستعمال المعجمي، مع ملاحظة العلاقة بين طرفي الصورة المجازيين، وهذا يعني أن "بنية الصورة بطبيعتها ثنائية، مما يسمح لنا أن نجري عمليات التحليل الأسلوبيٍ." (107)
وانطلاقًا من هذين الطرفين اللذين يمثلان محور كل من الاستعارة والتشبيه، والكناية، والمجاز المرسل "باعتبارها وسائل أسلوبية يمكن معالجتها من خلال النماذج الأسلوبية." (108)
من خلال المفهوم السابق للصورة الشعرية وأهميتها ووظيفتها سوف أقوم بدراستها من خلال تقسيمها -إجرائيًا- إلى قسمين يدرس في أولهما الصورة المتكئة في تشكيلها على التشابه الذي يضم كلًا من التشبيه والاستعارة، والقسم الثاني الصورة المتكئة على التداعي، والذي يضم كلًا من الكناية والمجاز المرسل.
القسم الأول: الصور المتكئة على التشابه: (التشبيه - الاستعارة)
أولًا: التشبيه:
التشبيه من وسائل التصوير التي جاءت بكثرة في الكلام المسموع والمقروء "فهو جارٍ كثيرًا في كلام العرب حتى لو قال القائل هو أكثر كلامهم لم يبعد."(109) وذلك لأنه أبسط هذه الوسائل، وأكثرها حسية؛ لوجود المشبه والمشبه به، وهما الركنان اللذان لا يستغنى عنهما. والشاعر يجد في التشبيه وسيلة ناجحة في توصيل المعنى الذي يريده، وبالتالي يحقق اللذة التي هي الغاية من شعره، فنجده "يلجأ إليه تلطفًا منه في معالجة المعاني وصياغتها، والتلطف قرين الرفق والحذق في التوصل إلى الأشياء، فهو خاصية أصيلة من خصائص التوصيل الشعري الناجح." (110)
ولما كان من أهداف التشبيه توصيل المعنى فقد احتفى به الشاعر؛ لما يجده فيه من نقلٍ مخزونه الشعري، "فهو يسهل على الذاكرة عملها، فيعينها على اختزان جميع الخصائص المتعلقة بكل شيء على حدة، بما يقوم عليه من اختيار الوجوه الدالة التي تستطيع بفضلها القليل استحضار الكثير." (111) وينبغي على الشاعر أن يتخذ التشبيه وسيلة لا غاية، فيلجأ إليه عند الضرورة؛ بحيث يسهم في البيان وتوضيح المعنى.
وقد ظهرت عند أبي سلمى في ديوانه الآخر معالم كثيرة ومتنوعة من التشبيهات بدرجاتها المختلفة، ابتداءً من التشبيه الحسي البسيط، وانتهاءً بالتشبيهات المركبة، التي يشكل كل طرفٍ من طرفيها صورة، وهو التشبيه التمثيلي. وقد وردت التشبيهات السابقة في الديوان الآخر على النحو التالي:
جدول إحصائي بنسبة تردد أنواع التشبيه في الديوان الآخر:
نوع التشبيه النسبة المئوية
التشبيه البليغ 49%
التشبيه المرسل 21%
التشبيه المجمل 10%
التشبيه المؤكد 10%
التشبيه التمثيلي 10%
أولًا: التشبيه المرسل:
وهو أبسط أنواع التشبيه، وأكثرها وضوحًا "وذلك لوجود عناصره الأربعة، وهذا يفسر قوة طاقته الإيحائية؛ فهو أقل توغلًا في التصوير." (112) وإذا كان التشبيه المرسل يتحدد بذكر عناصر التشبيه الأربعة -المشبه والمشبه به ووجه الشبه والأداة- فإن ذلك يعني أنه أبسط أنواع التشبيه وأقربها إلى الذهن، وأسهلها على التقبل والتصور، ولكن الشاعر الماهر قد يحدث -أحيانًا- انزياحًا في علاقات التشبيه، تكسب صوره جدة وطرافة، وتسمو به فوق صفتي السهولة والوضوح التي يتصف بهما -عادةً- كقول الشاعر: (113)
صمت الليل وهو أسوان عانٍ واجفًا من طوارق الأزمان
مثقلًا بالخطوب مثل بني الدنيا خفي الإحساس كالإنسان
ففي البيتين السابقين تشبيهان مرسلان؛ المشبه فيهما واحد، وهو الليل، والمشبه به هو الإنسان، وقد عبر عنه الشاعر في الصورة الأولى، ببني الدنيا، وفي الصورة الثانية بالإنسان، فإذا كان الليل يبدو صامتًا، حزينًا، خائفًا من صروف الزمان، كذلك الإنسان الذي يخفي إحساسه، ولا يستطيع أن يظهر مشاعره، أو يفصح عنها، فالصورة التشبيهية التي تجمع بين الليل، وبين بني الدنيا، أو الإنسان تقوم على علاقات تشابه متعددة لا تدرك في سهولة ووضوح، بقدر ما تدرك بفكر وتخيل واسعين، مما أعطى الصورة بعدًا إيحائيًا، وقيمة فنية فريدة.
ومن ثم فإن التشبيه المرسل لا يستطيع أن نحكم عليه -دائمًا-حكمًا مطلقًا بالسهولة أو الوضوح؛ فهو قد يتجاوز ذلك، مما يضفي عليه الشاعر من دلالة إيحائية، تنبع من تشابك العلاقات خفائها بين أطرافه. وتعد نسبة ورود هذا اللون من التشبيه مرتفعة نسبيًا في الديوان الآخر، حيث تصل إلى ما يقرب من21% -كما هو وارد في الجدول السابق- من نسبة تشابيه أبي سلمى في الديوان الآخر، ولا يفوقه في ذلك سوى التشبيه البليغ الذي يصل إلى 49% من الصور التشبيهية. وارتفاع هذه النسبة يدل على خاصية أسلوبية لدى الشاعر، وهي اهتمامه بفكرة التوصيل إلى جانب اهتمامه بالوظيفة الشعرية، فإذا كان التشبيه المرسل يجمع بين أربعة عناصر، هي مكوناته الأساسية، فإن هذه العناصر قد تتعرض داخله إلى تغيير مواقعها، ومن ثم فإن تتبعها يقودنا إلى ظاهرة أسلوبية تتمثل في ميل الشاعر إلى شكل ما دون غيره.
أشكال ترتيب العناصر:
الصورة الأولى:
مما هو معروف لدى البلاغيين أن الأصل في ترتيب عناصر التشبيه أن يذكر المشبه أولًا، ثم أداة التشبيه، ثم المشبه به، ثم وجه الشبه، ويمكن أن يرمز إلى هذا الترتيب هكذا:
(مشبه + أداة التشبيه + مشبه به + وجه الشبه)
وذلك كقول الشاعر: (114)
حديثها كصمتها ساحر وهجرها مثل لقائها جميل
تعتمد الصورة التشبيهية السابقة على مزج المتناقضات، حيث يمزج الشاعر بين الشيء ونقيضه في وحدة وجودية عميقة، يعانق في إطارها الشيء نقيضه، ويمتزج به، مستمدًا منه بعض خصائصه، ومضيفًا عليه بعض سماته، تعبيرًا عن الحالات النفسية والأحاسيس الغامضة المبهمة التي تتعانق فيها المشاعر المتضادة وتتفاعل." (115) حيث يمزج الشاعر بين (الحديث والصمت) و(الهجر واللقاء) في إطار وحدة وجودية عميقة، تنم عن نظرة شمولية واسعة للأشياء، لا ينظر فيها من زاوية واحدة، وإنما ينظر إليه من جميع وجوهه؛ حيث يرى في حبيبته الحديث كالصمت، والهجر كاللقاء وما ذلم إلا لأنه يحبها، ويقبل منها أي شيء وعلى الرغم من أصالة هذا الترتيب، فإن الشاعر قد يخرج منه إلى أشكال أخرى.
الصورة الثانية:
يتقدم فيها وجه الشبه على الأداة والمشبه به :
(مشبه + وجه الشبه + أداة التشبيه + مشبه به)
ومن أمثلة ذلك قول الشاعر: (116)
خيامهم سود كأيامهم وصوتهم في هبة الشمال
ووضوح وجه الشبه بين طرفي التشبيه وقربه من المشبه، يجعل الصفة أكثر التصاقًا بالمشبه، "وتقديم وجه الشبه له دلالته الواضحة؛ حيث تنتشر دلالته إلى الأمام وإلى الخلف، لتصبح الصورة أكثر تماسكًا، وأشد تشابهًا، حتى إن المتلقي يكرر في نفسه وجه الشبه مرة ثانية."(117) على النحو التالي: (خيامهم سود كأيامهم سود) حيث يرى الشاعر أن الفلسطينيين الذين يسكنون الخيام السود يشعرون بالحزن والبؤس، وكأن لون خيامهم السود قد انعكس على حياتهم.
الصورة الثالثة:
ما يتصدر فيه وجه الشبه، وله شكل واحد، وهو:
(وجه الشبه + مشبه + أداة التشبيه + مشبه به)
ومن أمثلة ذلك قول الشاعر: (118)
تنير لقومي طريق الحياة كأنك بدر الدجى قد بدا
حيث قدم الشاعر وجه الشبه (ينير) ثم تبعه بالأداة (كأن) ثم المشبه "الضمير" (الكاف) ثم المشبه به (بدر الدجى) ويعني الشاعر بذلك الشهيد أحمد مربوع الذي يقوم بتأبينه.
الصورة الرابعة:
ما تتصدر فيه أداة التشبيه، وله شكل واحد، وهو:
(أداة التشبيه + مشبه به + وجه الشبه + مشبه)
ومثال ذلك قول الشاعر: (119)
اخلعي الليل في الدروب وكالفجر أقبلي
فقد قدم الشاعر أداة التشبيه (الكاف)، ثم أثنى بالمشبه به (الفجر)، ثم وجه الشبه، ثم المشبه (ياء المخاطبة) حيث يدعو الشاعر حبيبته أن تستجيب لنداء الشباب، وتستمتع بكل لحظة تعيشها، ويعد هذا النوع الذي تتقدم فيه الأداة أقل أنواع التشبيه المرسل.
الأداة:
تنوعت الأداة التي استخدمها الشاعر في التشبيه المرسل، وتوزعت بين الحرفية والاسمية، وأكثرها ترددًا هي الحروف، وتعد الكاف من أكثر الأدوات تداولًا، ثم تتلوها مثل، فكأن، فمثال وقد وردت أدوات التشبيه على النحو التالي:
جدول إحصائي بنسبة تردد أنواع التشبيه في الديوان الآخر:
الأداة عدد مرات ترددها
الكاف 25
مثل 7
كأن 3
مثال 1
المجموع 36
ثانيًا: التشبيه المجمل:
إذا كانت عناصر التشبيه تتمثل في المشبه والمشبه به والأداة ووجه الشبه، فإن هذه العناصر قد تتعرض في النص الشعري إلى تغيير مواقعها -كما رأينا- أو حذف بعضها، فـ"إذا كان العنصران الأولان -المشبه والمشبه به- من الأربعة أساسيين، فإن الثالث والرابع ثانويان؛ فتقوم الأداة بدور الرابط اللفظي، ووجه الشبه بدور الرابط المعنوي، يمكن الاستغناء عن أحدهما، أو عنهما معًا بدون أن يختل التشبيه، لا بل يقوى ويزداد عمقًا" (120) وذلك لأن ذكر وجه الشبه يحد من دور المتلقي، ومن إمكانية إيجاد تأويلات أخرى، تزيد من شاعرية الصورة وإيحائيتها؛ لأن "الوحدة المعنوية التي هي علة التشبيه تصبح معينة ومحدودة من بين الوحدات المختلفة الباقية." (121)
وكذلك عندما تذكر أداة التشبيه "تدلنا هذه الأداة بشكلٍ واضح على التشبيه من جهة، وتحد من حدة التوتر بين طرفيه من جهة ثانية، بحيث يبقى كل طرفٍ محافظًا على كيانه المنفصل." (122) ولذلك فإن حذف الأداة أو وجه الشبه لا يخل بقيمة التشبيه، بل ينمي قدرته الدلالية والإيحائية، في حين أن حذف المشبه أو المشبه به يخل ببنية التشبيه، ويخرجه من الإطار البلاغي المحدد له. من خلال هذا المفهوم نستطيع أن ندخل إلى جوهر التشبيه المجمل عند أبي سلمى في ديوانه الآخر؛ حيث يحذف فيه وجه الشبه، وهو يشكل نسبة متواضعة تبلغ حوالي 10%.
وكما هو موضح بالجدول الذي يرصد فيه نسبة تردد ألوان التشبيه، وانخفاض هذه النسبة يرجع إلى ميل الشاعر إلى حذف ركنين -الأداة ووجه الشبه- لا ركن واحد، لتكون الصورة أبلغ دلالة وأسرع إلقاء.
وترتيب عناصر هذا اللون من التشبيه تكاد تنحصر في صورة واحدة هي:
(مشبه + أداة التشبيه + مشبه به)
كقول الشاعر: (123)
العمر مثل الربيع في وطني لا تقطعيه بالهجر والحنق
ولعل ذلك يرجع إلى أنه يحافظ في بنيته على الترتيب الأصلي.
وأكثر الأدوات بروزًا هي (الكاف) حيث تتردد بنسبةٍ كبيرة تفوق معظم الأدوات الأخرى؛مثل قوله: (124)
عمر كعمر الزهر يا ليته مرّ على الروض ولم يعبق
و(كأن) في قوله: (125)
والصدر والنهد الشهي كأنه للحب جام
ومما يلاحظ على هذا النوع من التشبيه ارتباطه بسياقات الغزل والحب أكثر من سواها، وكأن الشاعر في حذفه لوجه الشبه قصدًا يرمي من ورائه إطلاق العنان لخياله، ومما يؤكد أن حذف وجه الشبه يسمح بظهور تأويلٍ وعلامات توسع من إطار الصورة التشبيهية وحيويتها.
ثالثًا: التشبيه المؤكد:
وهو التشبيه الذي حُذفت فيه أداة التشبيه، وذُكرت باقي العناصر، ويشكل هذا النوع نسبة ضئيلة من مجموع التشبيهات في الديوان الآخر، وحذف أداة التشبيه التي تعد الرابط اللفظي بين المشبه والمشبه به يذيب الفوارق بين طرفي التشبيه، ويقوي من علاقات التشابه والتطابق بينهما.
أما ترتيب عناصر التشبيه المؤكد فيأتي على ثلاث صورٍ:
الصورة الأولى:
(مشبه + مشبه به + وجه الشبه)
ومثالها قول الشاعر: (126)
هواكِ في دنياي كان الدليل لم أتعثر في الطريق الطويل
ونلحظ أن العناصر قد حافظت على مواقعها الأساسية بعد حذف الأداة؛ فالشاعر لا يريد أن يحدث تغيير فيه في آن واحد-الحذف والتبادل.
الصورة الثانية:
(مشبه + وجه الشبه + مشبه به)
ومن نماذجها قول الشاعر: (127)
هل سألتم شعب العراق وقد حوم يبغي على الطغاة انفجارًا
الصورة الثالثة:
(وجه الشبه + مشبه + مشبه به)
وفي هذه الصورة يتقدم وجه الشبه على المشبه والمشبه به، ومثال ذلك قول الشاعر: (128)
وبذلنا من أجلها المهج الحرّى وسالت دماؤنا أنهارًا
ومما يلاحظ في التشبيه المؤكد أن غالبية صوره تأتي حسية، أي تشبيه محسوس بمحسوس، وفي النادر ما يأتي تشبيه مجرد بمحسوس مثل قول الشاعر: (129)
هواكِ في دنياي كان الدليل لم أتعثر في الطريق الطويل
والصيغة النحوية الأكثر شيوعًا في هذا النوع من التشبيه هي صيغة المبتدأ والخبر.
رابعًا: التشبيه البليغ:
وهو ما حُذفت فيه الأداة ووجه الشبه، وحذفهما لا يؤثر في بنية التشبيه، وإنما يؤثر في قدرته الدلالية؛ حيث يعد التشبيه البليغ من أعمق أنواع التشبيه؛ لأنه يقوم على ادعاء أن المشبه هو عين المشبه به، دون تمييز أحدهما عن الآخر بصفاتٍ معينة. والتشبيه البليغ من أكثر التشبيهات شيوعًا في الديوان الآخر، إذ يشكل ما يقرب 49% من صوره التشبيهية، وهذا يكشف ميل الشاعر الواضح إليه، وليس ذلك إلا لما يتميز به من خصائص دلالية إيحائية واسعة. ولا يعني ذلك أن جميع التشابيه البليغة عند الشاعر تتمتع بخاصية فنية رفيعة تتقدم بها عن غيرها من أنواع التشابيه الأخرى؛ فهناك بعض التشابيه المبتذلة، التي لا تثير فينا إحساسًا عميقًا أو شعورًا حارًا عند تلقيها بحيث يمكن أن نقدم عليها كثيرًا من التشابيه المرسلة أو المؤكدة أو المجملة؛ فمثال ذلك قول الشاعر: (130)
عودي فدنيا الحب أحلى الدنا وأنت روحي وأنت ست الملاح
وقوله: (131)
ما زلتم نور العيون والقلوب
وقوله: (132)
أنت من النور وكل الغيد من ماء وطين
كلها تشبيهات لا يتوقف المتلقي عندها، ولا يشحذ ذهنه في استيعابها وترتيب عناصر التشبيه البليغ لا يتسم بالتعقيد؛ نظرًا لبنيته التي تقوم على ركنين فقط؛ حيث أن التبادل في المحل يتم بين طرفي المشبه والمشبه به، ولكن تقدم المشبه هو الصورة الغالبة عند الشاعر، وقليل ما يتقدم المشبه به على المشبه، ويأتي التشبيه البليغ على الصور الآتية:
الصورة الأولى:
(المشبه + المشبه به)
ومثالها قول الشاعر: (133)
وهوانا مع الزمان على الشط وفي الضفتين موج اشتياق
الصورة الثانية:
(المشبه به + المشبه)
ومثالها قول الشاعر: (134)
دنيا من السحر أنتِ عندي وكل شيء لديك ساحر
وأحيانًا يلجأ الشاعر إلى غرس المشبه وسط جمعٍ من المشبهات به؛ بحيث يأخذ المشبه شكل الكلمة المحورية التي تدور حولها الصور التشبيهية المتعددة، فالمشبه واحد، والمشبه به متعدد. مثال ذلك قول أبي سلمى: (135)
الورد أنت عبيره والمسك أنت زفيره
والصبح أنت نسيمه والليل أنت سميره
وأحيانًا يلجأ الشاعر إلى تكثيف التشبيه البليغ في اللوحة الواحدة، وخاصةً في حالات الانفعال التي تعجز الصورة المفردة عن استيعابها، فيجد في الصور البليغة المتعاقبة والسريعة وسيلة فنية للتعبير عن حالته الشعورية، التي تقوم على التكامل، لا التماثل، وفي النهاية تتكون صورة ممتدة لدلالة واحدة، ومثال ذلك قول أبي سلمى: (136)
دنيا من السحر أم عالم الشعر
أم الهوى العذري عيناكِ لا أدري
من نعمة الخلد أم روعة الوجد
أم من شذا الورد خداك لا أدري
هل جنة الحب صدرك لا أدري
من بسمات الحور أم وهجات النور
أم الندى المسحور جسمك لاأدري
من عبق الخمر في غفوة الدهر
أم ورق الزهر ثغرك لاأدري
زنبقة الوادي والبلبل الشادي
والكوكب الهادي أم أنت لا أدري
الصورة التي ترسمها الأبيات -كما أعلن الشاعر- صورة المحبوبة، وقد جمعت هذه الصورة بين عناصر متباينة، قام الشاعر بمزجها من خلال التشابيه البليغة المتواترة، وذلك من مكونات الطبيعة (دنيا - روضة - الورد - الحور - النور - الزهر - البلبل - الكوكب - الندى) ومكونت المرأة المحبوبة (عيناكِ - خداكِ - صدركِ - جسمكِ - ثغركِ)، وبذلك تمكن الشاعر من أن يخلق لنا صورة ممزوجة العناصر، تجمع بين الصفات البشرية المتمثلة في محبوبته، وبين الطبيعة وعناصرها؛ فالمحبوبة ليست ككل محبوبة، إنها محبوبة من نوعٍ خاص، خلقها الشاعر بحسه ومخيلته الشعرية، وكانت وسيلته الوحيدة لتحقيق ذلك هي التشبيه البليغ الذي يتميز بخاصية التوحد بين طرفيه؛ فالعينان دنيا من السحر، والخدان من شذا الورد، والجسم من الندى المسحور، والمحبوبة زنبقة وبلبل وكوكب. والصيغة النحوية المهيمنة التي يرد فيها التشبيه البليغ في الديوان الآخر بشكلٍ متواتر هي أن يكون المشبه به مسندًا خبرًا لمبتدأ، أو لناسخ مثل قول أبي سلمى: (137)
فالدمع في حقل الأزهار لؤلؤة والنوح في الدوح قد هاج الأفانينا
وقوله: (138)
ذاب منه الضمير في لهب الويل فأمسى ضميره دولار
أو تركيب إضافي مثل قوله: (139)
يروح ويغدو على مسرح البسيطة كي يأخذ الجيداء
من هنا نرى أن الشاعر قد تحرك في منطقة التشبيه البليغ بحرية واضحة، جعلت صوره البليغة صيغًا متعددة ومتنوعة.
خامسًا: التشبيه التمثيلي:
هو صورة من صور التشبيه أكثر تعقيدًا، وأحوج إلى الخبرة الفنية من غيره؛ حيث تتداخل فيه عناصر متعددة، يقوم الشاعر بالربط بينهما بطريقةٍ ذكية، والفرق بينه وبين التشبيه البسيط هو أن "وجه الشبه وصف فتنزع من متعدد، أمرين أو أمور." (140) ويرجع عبد القاهر الجرجاني جمال تشبيه التمثيل إلى أن: "المعنى يفخم بالتمثيل، وينبل، ويشرف، ويكمل، فأدل ذلك، وأظهره أن أنس النفوس موقوف على أن نخرجها من خفي إلى جلي، وتأتيها بصريحٍ بعد مكني، وأن تردها في الشيء تعلمها إياه إلى شيءٍ آخر، هي بشأنه أعلم، وثقتها به في المعرفة أحكم."(141) فالإيضاح أو التقريب الذهني خاصة أساسية من خصائص هذا النوع من التشبيه وتشبيه التمثيل عند أبي سلمى بارز في شعره نسبيًا، كما هو واضح -من خلال الجدول المعد لنسبة تردد تشبيهاته- حيث يبلغ تشبيه التمثيل نسبة 10% من نسبة تشبيهاته، وأكثره يتجه إلى المحسوس؛ ليكون أقرب إلى التصور، وأدنى إلى التأثير.
ومن خصائص التمثيل عند الشاعر أنه يبلغ به درجة كبيرة من التعقيد الذي ينتج من تشابك العناصر المتعددة، ومن ذلك قول أبي سلمى: (142)
فحنا مشفقًا عليها كأم حين تحنو على وحيد غال
حيث يشبه حنو الشاعر على الناس بحنو الأم على وحيدها.
أدوات التشبيه:
أما بالنسبة لأدوات التشبيه فهي متعددة، ولكن السيادة التامة للأداة (مثل)، ثم (كما)، أما (كاف التشبيه) التي كانت سائدة في الأنواع البسيطة السابقة فإنها تتراجع عن الظهور، ولا تأتي إلا قليلًا. فمثال الأداة (مثل) قول الشاعر: (143)
رحت أجوب الكون مثل شاعر أبحث عن أسراره الخفية
والأداة (كما) قول الشاعر: (144)
عيش بين العذارى الفاتنات كما يروم غانية الآمال مفؤود
ومثال الكاف قوله: (145)
فحنا مشفقاً عليها كأم حين تحنو على وحيد غال
وقد يسد المصدر مسد أداة التشبيه مثل قول الشاعر: (146)
مسك الشاعر الرباب فأنت أنة الواجدين في الأطلال
وكما هو واضح من الأمثلة فإن الشاعر يميل بصوره التمثيلية إلى الجانب الحسي؛ بغرض الإيضاح والتجسيد والنأي عن الغموض والإبهام.
ثانيًا: الاستعارة:
تمثل الاستعارة مكانة بارزة في الشعر، تفوق بها مكانة العناصر الأخرى التي تدخل بنيته؛ لأن "كل ماعدا الاستعارة من خواص الشعر يتغير؛ من مثل مادة الشعر وألفاظه ولغته ووزنه، واتجاهاته الفكرية، ولكن الاستعارة تظل مبدأً جوهريًا وبرهانًا جليًا على نبوغ الشاعر."(147) وعلى الرغم من ذلك ظلت عند القدماء تأتي في المرتبة بعد التشبيه؛ لأن طبيعة الاستعارة تحدث انزياحًا في دلالة الألفاظ؛ مما يتناقض وفهمهم الراسخ لاستقلالية المعنى في كل لفظة؛ "فلكل جزءٍ -كما يقال- مكانه المميز المقدر وطابعه المميز." (148) وقد ارتبطت الاستعارة عندهم بفكرة النقل، أي نقل كلمة من شيء قد جعلت له إلى شيء لم تجعل له، حتى جاء عبد القاهر الجرجاني فتجاوز فكرة النقل وما بها من قصور إلى فكرة الادعاء والإثبات؛ فالاستعارة عنده ليست مجرد نقل اللفظ من أصله اللغوي وإجرائه على ما لم يوضع له لسبب المشابهة "إنما هي ادعاء معنى الاسم للشيء لا نقل الاسم عن الشيء." (149)
ومفهوم الاستعارة يتمثل في أنها "وجه بلاغي تنتقل به دلالة اللفظ الحقيقية إلى دلالة أخرى لا تتناسب مع الأولى."لا من خلال تشبيه مضمر في الفكر." (150) وثمة وظائف تباشرها الاستعارة في البناء الشعري، منها التوضيح والتبيين والإيجاز؛ ولأنها عمل لغوي يستخدم عددًا من العلاقات اللغوية ذات الاستبدالات الدلالية، فإن دراستي للاستعارة عند أبي سلمى في ديوانه الآخر سوف تراعي الناحية الدلالية لها في إطار البناء اللغوي الذي يكتنفها؛ حيث "يتشكل العمل الأسلوبي من خلال التركيب اللغوي بعلاقات جديدة فيه، وارتباط بين أطراف الجملة فعلًا، وفاعلًا، ومفعولًا، وشبه جملة، وصفة، وحالًا، ومبتدأ، وخبرًا." (151) فتحوله من سياقاتها الأصلية إلى سياقاتٍ جديدة -استعارية- قد تهدف إلى دلالات تشخيصية، أو تجسيمية، أو إيحائية فـ"الاستعارة هي اختيار معجمي، تقترن بمقتضاه كلمتان في مركب لفظي اقترانًا دلاليًا، ينطوي على تعارض أم عدم انسجام منطقي، ويتولد عنه -بالضرورة- مفارقة دلالية، تثير لدى المتلقي شعورًا بالدهشة والغرابة، ويتمثل جوهر المفارقة الدلالية في نقل الخواص من أحد عنصري المركب اللفظي إلى العنصر الآخر." (152)
أنواع الاستعارة:
أولًا: الاستعارة التشخيصية:
يعد التشخيص وسيلة فنية قديمة اعتمد عليها الشعراء اعتمادًا كبيرًا، نظرًا لقوتها التي تستمدها من الشعور؛ "فالشعور الدقيق هو الذي يستوعب كل ما في الأرضين والسماوات من الأجسام والمعاني، فإذا هي حية كلها؛ لأنها جزء من هذه الحياة المستوعبة الشاملة، والشعور الدقيق هو الذي يتأثر بكل مؤثر، وتهتز لكل هامة ولامة." (153) ويتم التشخيص الاستعاري "باقتران كلمتين إحداهما تشير إلى خاصية بشرية، والأخرى تشير إلى جماد أو حي أو مجرد." (154) مما يعني التقارب أو التمازج بين الظواهر الكونية، وسواء أكان تغير هذه الظاهرة راجعًا "إلى بقايا العقائد القديمة التي ترى أن الحياة تعم جميع الظواهر، أم أنها راجعة إلى قوة الوجدان الإنساني إلى درجة أنه يمتد، فيشمل ما يحيط به من الكائنات." (155) فإن الاستعارة تؤكد هذه العلاقة الحميمة بين الإنسان والظواهر الكونية، فهو يعقد معها من نوعًا من المشاركة الوجدانية -دلاليًا- وأما من حيث البنية اللغوية للنص الشعري فإن "التشخيص ذو قدرة على التكثيف والاقتصاد، أو الإيجاز، وقد عزا إليه ريتشارد -فيما يقول الدكتور مصطفى ناصف- الفصل في تجنب انتشار الدوافع الانفعالية وتبددها." (156)
ومن خلال الناحيتين الدلالية واللغوية يمكن دراسة الاستعارة التشخيصية عند أبي سلمى في ديوانه الآخر كما يلي:
التشخيص في المركب الاسمي:
في المركب الاسمي يكون أحد الطرفين مسندًا، والطرف الآخر مسندًا إليه، ومن تشخيصه في المركب الاسمي قوله: (157)
لا فلا الدهر قادر لا ولا البين على قلب مدنف ولهان
فقد وقع الدهر -الطرف الأول- مسندًا إليه، وهو مجرد، ونُسب إليه القدرة (قادر) -مسند- وهي خاصية بشرية، ليحكي مدى صدق الشاعر في حسه؛ حيث لا يمكن أن يحول الدهر أو البين بينه وبين محبوبته، ومن ثم فإن الدهر -هنا- شخص في صورة بشرية.
وقوله: (158)
أحبيبتي خصمي الشتاء وبيننا طال الخصام
حيث جعل الشتاء، وهو مجرد -مسند إليه- وأسند إليه الخصومة، فقد شخصه في صورة إنسان طال بينه وبين الشاعر الخصام.
ومن تشخيصه للحي غير العاقل قوله: (159)
مطلق ما المرء سوى تائه يجول في اليم على زورق
الموج من جانبه غاضب والريح إن تلعب به يغرق
وذلك في رثاء الشهيد مطلق عبد الخالق، الذي ترك موته في النفوس جُرحًا غائرًا، جعل الشاعر وكأنه يجول في اليم على زورق تائه، وقد انعكس هذا الشعور على مظاهر الطبيعة من حوله؛ حيث بدا الموج غاضبًا، والريح ثائرة، تكاد أن تغرقه. والتشخيص وقع في المركب الاسمي (الموج من جانبه غاضب) حيث أسند الغضب، وهو من الصفات البشرية إلى الموج.
وقوله: (160)
الورد خجلان من خدك الناعم
والفل غيران والزنبق الحالم
في البيت الأول أسند الخجل إلى الورد، وفي البيت الثاني أسند الغيرة إلى الفل. وكل من الخجل والغيرة من الصفات الإنسانية، وأراد من خلال هذا التشخيص أن يعبر عن مدى جمال المحبوبة الذي فاق جمال الطبيعة من حوله.
التشخيص في المركب الفعلي:
في هذا المركب يتصدر الفعل الصورة الاستعارية، وهو مأخوذٌ من الحقل البشري، وتستند فاعليته أو مفعوليته إلى مجرد أو حي غير عاقل، أو جماد، وتنصرف وظيفة الصورة آنئذٍ إلى إسناد الصفات البشرية إلى غير البشر.
ومن تشخيصه للمجرد قوله: (161)
أيجسر هذا المنون المخيف على أحمد أن يمد اليد
حيث يبدو وكأنه مأزوم بقضية الموت الذي أخذ أحمد -الذي يرثيه الشاعر- ويلاحظ أن المركب الفعلي تأخر إلى نهاية البيت، وهو (يمد اليدا) ومد اليد دلالة بشرية أسندها إلى مجرد (الموت) مشخصًا إياه في صورة إنسان يتجرأ ويمد يده لينال من المرثي، وأكد هذا التشخيص في صدر البيت عندما تعجب من جرأة هذا الإنسان.
وقريب من ذلك شكايته من الدهر في قوله: (162)
عجبت لدهري يروح ويغدو يا ليت ما راح أو ما اغتدى
يروح ويغدو على مسرح البسيطة كي يأخذ الجيدا
فقد صور الشاعر الدهر في صورة إنسان يروح ويغدو مرارًا وتكرارًا، حتى ينقب عن الأفضل من بني الإنسان، ويأخذه؛ فالدهر -هنا- قد شخص في صورة إنسان.
ومن تشخيصه للجماد غير الحي قوله: (163)
أيهذا النيل يا نهر الخلود حدث الأجيال عن أرض الجدود
أنت في ظلك يختال الهرم عشت للأحرار رمزًا يا علم
في البيت الأول جاء النيل في موقع المنادى -وهو جماد- حيث يناديه الشاعر، ويطلب منه أن يحدث الأجيال عن أرض الجدود -مصر- ويستمر في تشخيصه للجمادات في البيت الثاني؛ حيث يجعل الهرم يختال في ظل النيل، وقد أراد الشاعر من خلال ذلك استنهاض الهمم وشحذها للدفاع عن الوطن العربي ضد أي مستعمر.
التشخيص في المركب الإضافي:
قد يأتي الطرفان المنقول منه والمنقول إليه -على هيئة المضاف والمضاف إليه- والإضافة تعني الاقتران والتلازم بين الطرفين اللذين يصيران كالشيء الواحد، وذلك أدعى إلى قوة التشابه بينهما، وتلك إحدى الوظائف الجمالية التي تقوم بها الاستعارة في النصوص الأدبية، وقد لوحظ على التشخيص في المركب الإضافي أنه قليل إذا ما قورن بسابقيه: الاسمي، والفعلي، ومن ذلك قوله: (164)
ضحكات الربيع منك سرى السحر إليها وفتنة السحر تعدى
حيث أسند الضحك (ضحكات) إلى الربيع الذي يستمد السحر من محبوبته؛ وبذلك يرى السحر يسري إلى كل مظاهر الطبيعة من حوله؛ فيشعر بالربيع في كل وقت.
من خلال هذه الأنواع الدلالية الثلاث للاستعارة التشخيصية في المركبات اللغوية الثلاثة، يمكن أن نلاحظ ارتباط التشخيص في المركب الاسمي بالاستمرار الذي يستدعي معنى التجدد؛ فإحساس الشاعر بثبوت حبه، وعدم تأثره بصروف الدهر، أو البعد إنما ينتج دلالة الاستمرار التي يرغبها الشاعر، ومخاصمة الشتاء، وغضب الموج إنما يدل على استمرارية المخاصمة والغضب، أما المركب الفعلي فإننا نلحظ الدلالة على التجدد المرتبط بزمن الحدث دون الدلالة على استمراره؛ حيث يدل مد يد المنون، ورواح الدهر وغدوه، والأخذ كذلك حديث النهر، واختيال الهرم كلها تدل على التجدد المرتبط بزمن الحدث في كلٍ، دون الدلالة على استمراره، في حين كان التشخيص مع المركب الإضافي على الرغم من القلة في نماذجه دالًا على التمازج التام بين طرفيه، وهو ما لم يتوفر في المركبين السابقين.
ثانيًا: الاستعارة التجسيمية:
وهذه الاستعارة أشبه "بإعطاء الروح والمعنى جسدًا ماديًا، ويجعل التجسيد الشعري من الحركة الجامدة حركة حية، ومن الكون المادي الصامت كونًا يموج بالمشاعر والأحاسيس، ومن الصور التي تعز عن اللمس صورًا تدركها الحواس حتى لتوشك أن تنالها الأيدي، وأن تراها العيون مما يكسب المعنويات صفات مادية محسوسة." (165) ويرتبط التجسيم بالمعاني المجردة، وذلك أدعى إلى تجسيدها في صورة حسية، يدركها المرء بواحدة من حواسه، وفيه تكمن القيمة الفنية للاستعارة وبلاغتها، فإنها من خلال التجسيم تعمل على "إخراج ما لا يرى إلى ما يرى" (166) مما يثير حواس المبدع والمتلقي جميعًا، فالفن "إذ يجعل من المعنى حسيًا عيانيًا، إنما يجعل الإحساس خصبًا، وأن يخرج منه فكرًا." (167)
ويلجأ الشاعر إلى الاستعارة التجسيمية حتى يقرب شعره للمتلقي، "فالشيء المحسوس بطبعه أقرب إلى الفهم من المعقول، والفكرة المجردة تتجسد في هيئة مادية محسوسة تبصر، أو تسمع، أو تذاق، أو تشم؛ فهي تخضع لمعطيات الحواس التي تشكلها التشكيل المناسب." (168) تتجسد المعاني المجردة من خلال ربطها بما هو حسي مفتقد صفة الحياة، ومن ثم فإن الاستعارة التجسيمية "تحصل باقتران كلمة تشير دلالتها إلى جمادٍ بأخرى تشير دلالتها إلى مجرد." (169) وذلك من حيث المستوى الدلالي، أما من حيث البنية اللغوية فإنها كالاستعارة التشخيصية بمركباتها الثلاثة السابقة.
التجسيم في المركب الاسمي:
وذلك في مثل قول أبي سلمى: (170)
شبابك ريان فاستمتعي غدًا تندمين إذا ما أفل
حيث جعل الشباب (شبابك) مسندًا إليه -وهو مجرد- وأسند إليه الري -ريان- وهو من صفات النبات، وهكذا جسم الشباب، للدلالة على الشباب والحيوية التي تتمتع بها المحبوبة.
التجسيم في المركب الفعلي:
وذلك في مثل قول أبي سلمى: (171)
يغرسون الأمجاد في كل أرض وعلى السفح يزرعون الغارا
حيث تحولت الأمجاد المجردة إلى زرع يزرعونه في كل أرض، وذلك تجسيم يخرج المجرد غير المحسوس إلى حيث يرى في صورة تدل على كثرة هذه الأمجاد وتتابعها.
وقوله: (172)
وبعدما ذقت الهوى من خمرك المعتق
تمزقين مهجتي بالهجر والتفرق
في البيت الأول جسد الشاعر الهوى؛ فقد أسند التذوق وهو للمحسوسات إلى الهوى، وهو من المعنويات، ويلحظ في هذه الصورة أنها جمعت إلى جانب دلالة التجسيم ما يمكن أن نطلق عليه تراسل الحواس، إذ تتدخل حاسة الذوق التي يستدعيها التذوق مع الهوى، وهو معنى مجرد غير مدرك بالحواس، وفي البيت الثاني يجسد المهجة (مهجتي)، وهو معنى مجرد في صورة شيء مادي يمزق (تمزقين)، والشاعر من خلال البيتين يصور مدى تأثير هجر المحبوبة عليه بعدما نعم بوصالها.
وفي قوله: (173)
ونحن في كل بلاد العرب نحن الذين نحمل العارا
حيث صور العار وهو من المعنويات بصورة شيء مادي يحمل؛ للدلالة على أن العار سوف يصيب كل بلاد العرب.
وفي قوله: (174)
وجسم هذي يزهر الشباب به وتلك تحيا من سالف العصر
حيث يتحول الشباب -وهو مجرد- إلى أزهارٍ تتفتح وتزدهر، في جسم المرأة في صورة تدل على تألقها وجمالها.
التجسيم في المركب الإضافي:
في هذه البنية الاستعارية يأتي الطرفان على صورة المضاف والمضاف إليه، وتلك الإضافة تعمق علاقة المشابهة بين الطرفين اللذين يغيب أحدهما، ويكون حضوره بما ينوب عنه، أو بما يلزمه في حين يدور الثاني في فلك المجرد، وقد لوحظ على هذه البنية الإضافية للاستعارة التجسيمية أنها جاءت قليلة، شأنها في ذلك شأن التشخيص في المركب الإضافي. ومثال ذلك قول أبي سلمى: (175)
أيبيعون أمتي وبلادي بعد طي الزمان عصر العبيد
فالمركب الإضافي -هنا- (طي الزمان) يتعلق طرفه الأول بالحسي غير العاقل؛ فالطي يتعلق بالصحائف، وأضافه إلى المجرد (الزمان)؛ ليظهره في صورة مجسمة تبين انقضاء الزمن الذي كانوا فيه عبيدًا.
وقوله: (176)
لظى حبك الذي لاح في عيني ضياء فكيف لا تشعرينا
حيث أضاف الحب -وهو مجرد- إلى ما يقترن بالمحسوسات (لظى)، وهو من خواص النيران، وقد أكد ذلك في تحول النيران إلى ضياءٍ؛ ليجسد شدة حبه الذي يقابل بجفاء وعدم شعور من المحبوبة.
ونلاحظ قلة المركب الاسمي والإضافي في الاستعارة التجسيمية وظهورها بكثرة في المركب الفعلي، مما يدل على الرغبة في إخراج المعاني المجردة التي لا تدرك بالحواس في صورة مجسمة تعطيها وجودًا حسيًا، وهو وجود نجده يتجه -في الأكثر- عند حد التجدد مع المركب الفعلي، ويصل -قليلًا- إلى حد التداخل والتمازج بين طرفي الاستعارة التجسيدية في التركيب الإضافي -ونادرًا- إلى حد الاستمرار في المركب الاسمي الذي لم يرد إلا نادرًا.
ثالثًا: الاستعارة الإيحائية:
"تحصل الاستعارة الإيحائية -باقتران كلمة يرتبط مجال استخدامها بالكائن الحي- بشرط ألا تكون من خواص الإنسان بأخرى ترتبط دلالتها بمعنى مجرد أو جماد" (177) وقد اقتصرت دلالتها في الديوان الآخر على المركبين الفعلي والإضافي: فمن المركب الفعلي قوله: (178)
أيها العيد هجت أشجان نفسي قد براها الجوى وقلب صديع
فالهيجان والاستثارة مما يتعلق بالكائن الحي، وقد أوقع الشاعر دلالة الهيجان على مجرد، وهو العيد، وموحيًا من خلال هذا الفعل الدلالي بمدى الأشجان والذكريات الحزينة التي أثارها العيد.
وقوله: (179)
غالتك كف الردى يا نور طلعته فارتاب سامرنا واهتز نادينا
ففي قوله (كف الردى) استعارة إيحائية، توحي بحتمية الموت وقصديته التي لا تخطئ من تصيبه.
من خلال هذا البحث في الصورة الاستعارية وأنماطها في الديوان الآخر نجد أنه ما كانت اللغة لتعبر عن هاتيك المعاني تعبيرًا قويًا وواضحًا، وما كان لهذه أيضًا أن توحي بهذه الأبعاد الفسيحة لولا توسلت بالاستعارة، فالشاعر ينتقي ألفاظه ببراعة ومهارة متناهيتين؛ ليتمكن من الإيحاء عن طرق هذه الاستعارة التي "هي عبور من اللغة الإشارية إلى اللغة الإيحائية، وهو عبور تم من خلال كلام نفذ معناه في المستوى اللغوي الأول؛ لكي يعثر عليه في المستوى الثاني." (180)
وإذا كانت اللغة أو "الكلمات هي التجسيد الأول للمعنى." (181) فإن البنية اللغوية للصورة الاستعارية بأنماطها الثلاثة قد تنوعت بين المركب الاسمي والفعلي والإضافي، مع ملاحظة ندرة المركب الاسمي في كل الاستعارتين التشخيصية والتجسيمية، واختفائها في الاستعارة الإيحائية في حين أنه أسهم في بنية الاستعارة التشخيصية؛ لأن التشخيص يميل إلى التكثيف والإيجاز، وهما يجتمعان في المركب الاسمي بصورة أكثر وضوحًا منه في المركبين الإضافي والفعلي، كما أن المركب الفعلي يتكئ في إنتاجه على الحدث/ الفعل، وهو متحرك، فيما يحتاج التشخيص إلى الثبات الذي ينتجه المركب الاسمي.
وقد مثلت الطبيعة بنوعيها الساكنة والمتحركة المصدر الأول لجميع الصور الاستعارية، سواء كانت الطبيعة منقولًا منها أو إليها، كما مثل الجانب الفكري العقدي مصدرًا ثريًا من مصادر إنتاج الصورة الاستعارية، وقد تبدى ذلك في تصويره للموت والدهر بصورة بشرية. وقد مالت الصورة الاستعارية جميعها إلى البساطة والبعد عن التركيب، وقد تجسدت تلك البساطة في المركب الاسمي الذي اكتفى بالمسند والمسند إليه لإنتاج الصورة، وكذا كان المركب الإضافي باكتفائه بالمضاف والمضاف إليه، ولم يجنح المركب الفعلي -كذلك- إلى التركيب، كما مالت إلى البساطة بعيدًا عن الغموض.
القسم الثاني: الصور المتكئة على التداعي: (المجاز - الكناية)
أولًا: المجاز:
المجاز هو "كل كلمة أريد بها غير ما وقعت له في وضع واضعها لملاحظة بين الثاني والأول." (182) أي هو الكلمة المستعملة في معنى غير المعنى الذي ارتبطت به، واستقر لها في أذهان الناس حقيقة. وينقسم المجاز إلى نوعين هما: (المجاز المرسل - والمجاز العقلي)
المجاز المرسل:
يؤدي المجاز المرسل وظيفته التصويرية في النص الشعري من خلال اتكائه على فكرة النقل والإبدال؛ حيث تنقل كلية من مجال دلالي إلى آخر، مبتعدة بهذا النقل عن أصل استخدامها في اللغة المتواضع عليها، وهذا الابتعاد هو ما يعرف في الدراسة الأسلوبية بالانحراف المترتب على عملية النقل والإبدال بين طرفيه. وقد أدركت البلاغة العربية هذا البعد الانحرافي في المجاز المرسل الذي حددته البلاغة بأنه "استعمال اللفظ في سياق ليؤدي دلالة ليست مرتبطة به في أصل بنائه، وإنما هي دلالة يتطلبها السياق الذي يحيط باللفظ." (183) ومما يسهم في بروز هذه الدلالة تلك العلاقة التي تربط بين الطرفين -المذكور والمعجمي- وبديهي أنها ليست علاقة التشابه، بل علاقة التجاوز التي يتم استدعاؤها، وقد وصل بعض علماء العربية بعلاقات المجاز المرسل [إلى ست وعشرين علاقة](184) والعدد هذا لا يعني التحديد "بقدر ما يعني كثرة تلك العلاقات التي قد تصل إلى حد لا يمكن معه أن تحصى أو تعد." (185) وقد استخدم أبو سلمى المجاز المرسل في ديوانه الآخر، وجاءت صورة كثيرة ومتنوعة.
ومن علاقات المجاز المرسل التي وردت في الديوان الآخر:
علاقة الجزئية:
يواجه المبدع متلقيه في كل علاقة من علاقات المجاز المرسل بكلمة لا يريدها، وإنما يريد ما وراءها من دلالاتٍ يستدعيها السياق الشعري الواردة فيه؛ "ومن ثم تكون المفارقة بين الحضور والغياب جاذبة للمتلقي، ومثيرة فيه المشاعر والأحاسيس ما يجعله مدركًا لما يقوم به المجاز المرسل من تجسيد للوظيفة الإشارية للغة." (186) أما ثنائية الحضور والغياب في علاقة الجزئية فإنها تعني حضور الجزء في نص الرسالة (القصيدة) أو البيت الشعري، وهو غير مراد، وغياب الكل المراد، بيد أن الجزء المذكور يمكن أن يعطي من الدلالات الفنية ما يعين على علة توظيفه دون الكل الذي ينتمي إليه. مثال ذلك قوله: (187)
شمخت بين قوافيه الذرى وإذا الأنجم لا تلمس صدره
إن لفظة (قوافيه) لا تنحصر دلالتها في المعنى الاصطلاحي لها؛ إذ إن الشاعر لا يعني مجموعة قوافي بمفردها، وإنما أراد نتاجه الشعري بكامله، فأطلق الجزء وأراد الكل.
وقوله: (188)
كل حرف ذوى على الدهر إلا حرفك الغض دائم التجديد
علاقة الكلية:
تتجه الدلالة في هذا المحور اتجاهًا عكسيًا لما ورد في المحور السابق، أي أنها تنطلق من الكل إلى الجزء. ومن ذلك قول أبي سلمى: (189)
يا شباب الجيل السمح ويا أمة مثل الجواء الطلق حرة
إن إطلاق لفظ (شباب) أو (أمة) لا يؤخذ على حقيقته؛ لأن الحديث لا يمكن أن يكون موجهًا لكل شباب الجيل، أو لكل الأمة، وإنما المقصود هو بعضهم، والعلاقة هنا كلية؛ حيث أطلق الكل وأراد الجزء.
علاقة السببية:
يتم النقل والتحرك فيها من السبب المذكور إلى سبب غير مذكور، وقد وردت هذه الصورة في قول أبي سلمى: (190)
يلتقي الفكر باليد السمحة البيضاء والنور يلتقي بالنار
ففي قوله (اليد السمحة البيضاء) مجاز مرسل علاقته السببية؛ لأن اليد هي سبب العطاء، فكلمة اليد حلت محل كلمة أخرى مسببة عنها، وهي العطاء؛ لأن اليد سبب العطاء، وقد أراد الشاعر أن يعبر عن عطاء الشعب الفلسطيني الذي ليس له حدود في سبيل الدفاع عن وطنه.
علاقة المسببية:
أي أن النتيجة تحل محل السبب، فالحركة -هنا- تتم بطريقة عكسية للعلاقة السابقة، وهي السببية؛ ومن ذلك قول الشاعر: (191)
نحن في ساح الوغى إعصار قد أزلنا باللهيب العار
ففي قوله (باللهيب) مجاز مرسل علاقته السببية؛ فاللهيب من مسببات قذف القنابل، ولا يقع اللهيب مباشرة، ولكن دال القنابل حدث له انزلاق من الصياغة ليحل محله دال آخر، وهو من مسبباته اللهيب أو النار، وأراد من ذلك أن يعبر عن شجاعة الشعب الفلسطيني المناضل، الذي يجاهد في سبيل الدفاع عن وطنه.
علاقة اعتبار ما كان:
وفيها يتم استعمال لفظة تدل على وضع في الماضي للدلالة على وضع في الحاضر؛ ومن ذلك قول الشاعر: (192)
أي حرية هناك ولما يعرف الشعب غير عض الحديد
فقد استعمل الشاعر لفظة (الحديد) للدلالة على السيف أو السلاح، وهو اللفظ الغائب للدلالة على تقييد حرية الشعب الفلسطيني في بلده.
علاقة المحلية:
يتم النقل والاستدعاء فيها من المحل أو المكان إلى صاحبه، أو المحال فيه، والذي تناط به دلالة البناء الشعري؛ فهو كالغائب لفظًا، الحاضر دلالةً، وبين مفارقة الحضور والغياب تؤدي الصورة المجازية وظائفها التي من بينها الربط بين النص الأدبي والمتلقي.
ومن أمثلة ذلك قول أبي سلمى: (193)
نرى القرى والمدنا في فرح وفي هنا
فالمجاز في قوله (القرى) و(المدنا) يعني أهل القرى وأهل المدن في علاقة محلية، يريد من خلالها أن يدلل على شمول فرحة العيد البلاد بما فيها من قرى ومدن.
علاقة الآلية:
أي التعبير عن المدلول بآلته، ويبدو ذلك في قول أبي سلمى: (194)
شيخ البلاد تجلى في طرابلس فعن سنى الملأ العلوي لا تسل
فكل سيف سرى في المشرقين هيهات يوسم بعد اليوم بالضلل
فقد استعمل لفظ (السيف) في البيت الثاني للدلالة على القتال، ويقصد أبو سلمى مشروعية الجهاد والقتال في سبيل تحرير الوطن.
علاقة المكانية:
أي التعبير عن المحتوى -ظرف مكان- للدلالة على المحتوى، وذلك في مثل قول أبي سلمى: (195)
طوحت بالجناة أعداء هذا الشعب لم تبق منهم ديارا
فعرش وراء مدرجة الريح وعرش هوى وعرش توارى
فقد استعمل (عرش) للدلالة على السلطة، ويريد أن يعبر من وراء ذلك عن زوال سلطان العدو على أيدي أبناء الوطن.
علاقة الزمانية:
يستخدم الشاعر ظرف الزمان للدلالة على ما يجري فيه من أحداث؛ ومثال ذلك قوله: (196)
لا فلا الدهر قادر ولا البين على قلب مدنف ولهان
فلفظ (الدهر) ليس المقصود؛ وإنما الأحداث التي وقعت فيه.
من خلال النماذج السابقة التي استعرضتها للمجاز المرسل بعلاقاته المختلفة نجد أنه "لما كان المجاز يعتمد على الفعل في استنطاق اللغة؛ للإتيان بعلاقة رابطة تفيد مبالغة أو إيجازًا، فإنه يكمل الوظيفة الإشارية العادية للغة... أي أن المجاز المرسل يعبر عن طريقة رؤية الأشياء والإحساس بها." (197) كما أن "للمجاز المرسل دورًا نشطًا في تكوين الصور الأدبية، فليست الاستعارة الشكل المجازي الوحيد الذي يضيف عنصرًا محدد المستوى الإشاري للقول، بل إن بعض الصور العامة اللافتة لا تتم إلا من خلال عمليات المجاز المرسل، إما باعتبارها أساس الصورة، وإما باعتبارها الدعامة التي تثيرها عندما نضع شيئًا معينًا مكان شيء مجرد." (198)
وهكذا استطاع أبو سلمى بهذه الصورة المجازية أن يحقق صور المجاز المرسل كما رسمها البلاغيون؛ فحقق شيئًا من المبالغة الحسية دون أن يجنح إلى التكلف والتصنع، وجاءت هذه الصور معبرة عن عقله وإحساسه وخياله، وساهمت في إبراز معانيه التي أرادها من التصوير بالمجاز المرسل.
ثانيًا: المجاز العقلي:
يعني المجاز العقلي "إسناد الفعل أو ما في معناه إلى غير ما هو له، بعلاقة مع قرينة مانعة من إرادة الإسناد الحقيقي."(199) ومن أمثلته البارزة عند أبي سلمى ما يكون فيه إسناد الفعل إلى الوسيلة؛ مثال ذلك: (200)
حمل الشعر من فلسطين نارا ثم أهدى إلى الجزائر ثارا
حممًا صبها على كل أفق وإذا النور يخطف الأبصارا
فقد أسند الفعلان (حمل) و(أهدى) إلى الشعر، والشعر في الحقيقة لا يحمل ولا يهدي، وإنما هو وسيلة من وسائل إثارة الحماس والوطنية، فحذف الفاعل الحقيقي وهو الشاعر، وأسند الفعل إلى وسيلته وهو الشعر. وقد يأتي الفعل مسندًا إلى آلته مثل قول الشاعر: (201)
ما تزال السيوف أصدق أنباء كما قلت في أعز القصيد
فقد أسند الفعل على السيوف على غير الحقيقة؛ فالإنباء لا يكون إلا من الإنسان، ويقصد من خلال ذلك أن القتال هو الحل الحاسم لاسترداد الأرض، وشطر البيت مقتبس من بيت أبي
تمام الذي يقول فيه: (202)
السيف أصدق أنباء من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب
أما إسناد الفعل إلى الظرف على سبيل المجاز العقلي فإنه يرد في مواطن كثيرة في الديوان الآخر. ومن ذلك قوله: (203)
غضب الحي من محبة راع لابنةً الشيخ وهو بعض الموالي
فالذين يغضبون هم أهل الحي، وليس الحي، وقد أسند الفعل إلى الحي، وليس لذلك أصل في اللغة، وإنما الأصل أن يسند إلى الناس، أي أن أصل العبارة على النحو التالي (غضب أهل الحي) فالفعل أسند إلى المكان بدلًا من إسناده إلى من هم في المكان، فقد أسند الفعل إلى الحي للدلالة على أن الغضب كان من أهل الحي جميعهم.
وقوله: (204)
ثم جاد الزمان واعتنق القلبان والحب في حمى عطفيك
فقد أسند الفعل (جاد) على الزمان، وليس الزمان هو الذي يجود، وإنما الأحداث التي تحدث فيه، فحذف الفاعل وهو الأحداث التي يتعرض لها، وبقي الزمان ليعبر عن الأحداث التي يتعرض لها، فقد جاءت هذه الأحداث إليه بالسعادة، عندما التقى بالمحبوبة.
وقوله: (205)
ودياري يلفها الليل حتى لم تشبع بنظرة الإشفاق
ومضى النهر لم يودع مآسي ضفتيه ولم يفز بعناق
فقد أسند الفعل (مضى) في البيت الثاني للنهر، وليس النهر هو الذي يمضي، وإنما الذي يمضي هو الماء الذي فيه وقوله: (206)
وفلسطين تستغيث من خنجر غدر في صدرها مغمود
وكما يبدو من خلال الأمثلة أن المجاز العقلي له قيمة تتمثل في أنه "يبعث الحيوية فيما أصله الجمود، ويحرك ما من عادته السكون." (207)
وبعد دراسة نماذج المجاز في الديوان الآخر يبدو لنا أن أبا سلمى قد أثرانا بأسلوب المجاز بتلك الصور الاستعارية المتعددة، وبها رأينا الأشياء على غير ما هي كائنة عليه، مع جمال وعمق تصوير، وقد بدا المجاز أكثر عمقًا من التشبيه الذي يتسم بالسطحية؛ نظرًا لأن "الحدود بين طرفي التشبيه تبقى منفصلة، ويعمل كل طرف منها بذاتيته وتفرده، بينما تلغي الاستعارة الحدود، وتدمج الأشياء حتى المتنافرة منها في وحدة، إنها عند (ستا نفورد) صورتان تعملان معًا على خلق ناتج ثالث يتحد معهما، ويحتفظ -في الوقت ذاته- بتفرد خاص يتميز عنهما." (208) ويأتي المجاز العقلي ليكمل وظيفة المجاز المرسل الجمالية، لما أحدثه من جمال الإيجاز والمبالغة اللطيفة.
ثانيًا: الكناية:
الكناية من الصور المجازية التي تعتمد النقل للكلمة أو الجملة من مجال دلالي إلى مجال دلالي آخر، وعرفها عبد القاهر الجرجاني بقوله: "أن يريد المتكلم إثبات معنى من المعاني، فلا يذكره باللفظ الموضوع له في اللغة ولكن يجئ إلى معنى هو تاليه وردفه في الوجود، فيومئ به إليه، ويجعله دليلًا عليه؛ مثال ذلك قولهم "هو طويل النجاد" يريدون طويل القامة، و"كثير الرماد" يعنون كثير القِرَى." (209)
ومعنى ذلك أننا أمام معنيين؛ معنى ظاهر غير مقصود في ذاته، يستدعي معنى آخر خفي، هو المقصود، وإن كان ذلك لا يمنع من إرادة المعنى الأول، وخفاء المعنى الثاني هو الذي يعطي الكناية قيمتها الفنية، إذ إن "كل تستر هو ميزة فنية طالما أن كل تصريح أو وضوح هو ميزة علمية." (210) وهي تنتمي إلى المجاز باعتبارها "نمطًا من التعبير، يؤدي المعنى أداءً غير مباشر، لعلاقة بين المعنى الأصلي والمعنى المراد، وهذه العلاقة هي اللزوم." (211) أو "علاقة التجاور والتقارب أو الترابط الموجود بين الكلمة قبل النقل وبعده."(212)
والكناية بهذا المفهوم يقترب تعريفها من الرؤية الحديثة لأصحاب النحو التوليدي الذين يرون أن التركيب اللغوي ذو بنية سطحية تحتمل عددًا من الدلالات المباشرة التي تنتجها الصورة اللفظية المنطوقة، وبنية عميقة يستدعيها المبدع من خلال بنية السطح، وبين العمق والسطح تبدو بعض الوسائط التي قد تتعدد دون غموض أو إلغاز في الصورة الكنائية، وقد تقل تلك الوسائط ويلف الغموض الصورة، وآنئذٍ يمكن الرجوع إلى أعراف البيئة والعصر لإماطة ما يحيط بالصورة الكنائية من غموض.
ويختلف أسلوب الكناية باختلاف البيئات وتتابع العصور؛ فالكناية عند عرب البادية قد تختلف عن كنايات أهل الحضر، وتختلف عن كنايات العصر الحديث، والكناية طريق آكد في إثبات الصفة؛ لأنها إثبات بدعوى وشاهد وحجة مصحوبة بدليل وبرهان. وتحتاج الكناية في الشعر إلى قريحة صافية وخيال واسع وعقل راجح ولغة قوية؛ حتى يسبر جمالها، الذي يتمثل في أنها تأتي بالمعنى مصحوبًا بالدليل، ثم إن فيها إيحاءً وتجسيمًا وإقناعًا، وأهم من ذلك أنها تتيح للشاعر أن يعبر عما يريده دون تحرج، فينقل لنا أحاسيسه وخواطره، ويرسم صورًا شعرية في إيجاز دال وتصوير بديع. والكناية كشكل بلاغي لعبت دورًا هامًا في تشكيل الصورة عند أبي سلمى، فنجده في بعض كناياته متأثرًا بالعرف الاجتماعي العربي، فهناك عدد من كناياته نجد فيها أن التلازم بين المعنيين مبعثه العرف الاجتماعي العربي السائد، وهو ما يمكن أن نطلق عليه كنايات موروثة. مثال ذلك قوله: (213)
يا ربة الخال يحمي الثغر معترضًا فدى لخالك أخوالي وأعمامي
حيث كنى عن المرأة بقوله (يا ربة الخال)، وهي من الكنايات القديمة، ولكن مثل هذا اللون من الكنايات الموروثة في الديوان الآخر كان قليلًا، فقد جاءت كناياته -في أغلبها- من الواقع الذي يعيشه، مستقاة من أحداث عصره.
وقد جاءت كنايات أبي سلمى في ديوانه الآخر في مظاهر؛ فمنها التلويح، والإشارة، والتلطيف، والتعريض، والرمز، وقد توافرت هذه المظاهر بدرجات متفاوتة من شعره كالتالي:
التلويح:
وقد ورد مثل هذا النوع على درجات متفاوتة من الوضوح والغموض؛ فمن الكنايات التي تبدو غامضة قول أبي سلمى: (214)
وانتشت بالهوى بقايا فلسطين وقالت متى تعود البواقي
الانتقال من الدلالة الأولى إلى الدلالة الثانية المستورة يمر بوسائط متعددة؛ يمكن تمثيلها على النحو التالي:
بقايا فلسطين بعد غياب باقي أصلها خروج المقاتلين المجاهدين
ومن الكنايات القريبة المأخذ قوله: (215)
نحن الذين نحمل العارا
الانتقال من الدلالة الأولى إلى الدلالة الثانية يسير وقريب.
العار نتيجة الهزيمة ووقوعهم في ذل الأسر.
وقوله: (216)
والبطولات تلثم التربة الحمراء تروي حق الحمى والجوار
وذلك في قوله (التربة الحمراء) حيث الانتقال من الدلالة الأولى إلى الدلالة الثانية يمر بوسائط الدفاع عن الوطن، القتال إراقة الدماء التي تسيل على التربة فوصف التربة بالحمراء ينسحب على الدم الذي يراق في المعارك.
الإشارة:
"الإشارة ضرب من الكنايات يتميز بقلة الوسائط، والبعد عن الخفاء." (217) ومن الإشارة عند أبي سلمى ما يُبنى على نص مأثور، يعمقه مع تغيير طفيف في مفرداته ودلالته؛ مثل قوله: (218)
يا وادي النيل إن الجرح يجمعنا ونحن في الشرق أشباه عوادينا
إشارة إلى بيت أحمد شوقي: (219)
يا نائح الطلح أشباه عوادينا نشجي لواديك أم نأسى لوادينا
ومن الإشارة إلى ذكر حدثٍ يجسم المدلول الإشارة إلى الفتنة التي أدت إلى مقتل عثمان بن عفان -- في قوله: (220)
يا لابسين من الإسلام زائفة قميص عثمان هذا أم قميص عليّ
وذلك ليعبر عن الحكام الذين يظهرون الإسلام، ويبطنون الكذب، والرياء، والموالاة للعدو.
والإشارة إلى موقعة حطين في قوله: (221)
تتحرك المعارك الحمر في حطين والجمر من رماد الوقود
فالشاعر يشير إلى موقعة حطين؛ لإثارة الحمية والحماس في نفوس العرب، ليثأروا لكرامة أوطانهم، ويخلصونها من الاستعمار.
وقوله: (222)
وغدا المنتمي لأرض فلسطين غريبًا كصالح في ثمود
يشير الشاعر إلى موقف النبي صالح من قومه عندما نبذوه وجعلوه غريبًا بينهم؛ ليشير إلى حال الفلسطيني، الذي أصبح منكرًا، غريبًا، منبوذًا بين أهله وقومه.
التعريض:
وهو مظهر من مظاهر الكناية، يدركه المتلقي من دلالة السياق "وهو أن يطلق الكلام، ويشار به إلى معنى آخر، يفهم من السياق، فهو نوع من التصوير يدخل في باب الكناية؛ لأن العلاقة بين الدال والمدلول تغني عن الحقيقة." (223) ومن ذلك قول أبي سلمى: (224)
نحن طلاب وحدة لا وربي نحن طلاب فرقة وشقاق
رحماء على العدو وأشداء على أهلنا وبين الرفاق
ما أرقنا إلا دما عربيًا ودم الأجنبي غير مراق
العدو اللدود يدلف حرًا في بلادي ونحن رهن الوثاق
حيث يعرض بحال الأمة العربية التي انشقت على نفسها، ولا يظهر من أهلها غير الشقاق، والتنازع، وقتل الأبرياء، وتقييد حرياتهم وأسرهم، وترك العدو يرعى في البلاد.
وقوله: (225)
يرعون في أرضهم نفطًا لغيرهم يا ليتهم من رعاة الشاة والإبل
يعرِّض بحال بعض العرب الذين باعوا نفطهم للاستعمار، وتركوا الاستعمار يرعى في أرضهم، ويستنزف خيراتهم، وكأن العرب يحرسون خيراتهم لصالح العدو المستعمر.
وقوله: (226)
هذه تربة البطولة فاسمع ما تعالى من قلبها الخفاق
إن في الخفق زمجرات الأعاصير وتاريخ شعبها العملاق
حيث يعرِّض الشاعر بكفاح الفلسطينيين من أجل استرداد وطنهم، والبطولات التي قام بها الشعب الفلسطيني الثائر. وهناك لون من التعريض يصل فيه الشاعر إلى استعمال الضد للضد؛ بحيث يطلق اللفظ، ويريد ضده؛ وذلك في قوله: (227)
واستأسد الناس والحملان كلهم وإن أشجعهم في الجمع رعديد
هم هددوني لما أن شدوت بها وهل يروع أسير الحب تهديد
يتحدث الشاعر عن موقف الأهل منه عندما تغزل في محبوبته؛ فقد قاموا بتهديده، وقد عرض بهم، وقوله (واستأسد القوم) فهم يظهرون البطولة بينما هم في حقيقتهم (جميعهم حملان).
التلطيف:
"ويتمثل في استعمال اللفظ أو العبارة لغاية التخفيف من وطأة المعنى الموحش، أو الحدث المريع." (228) ومن أنواع التلطيف عند أبي سلمى أن يلجأ إلى أسلوب المفارقة في القول؛ وذلك في قوله: (229)
العالم الرحب لنا موطن وما لنا في الكون من منزل
فالشاعر يشير إلى تفرق الفلسطينيين في البلاد وتشتتهم، بينما يضيق موطنهم بهم، حيث لا يجدون منزلًا؛ لأن اليهود يحتلون بلادهم.
ومن أنواع التلطيف عند أبي سلمى ما يستعمل فيه الجزء للتخفيف من وطأة الكل؛ ومثال ذلك قوله: (230)
وفلسطين تستغيث من خنجر غدر في صدرها مغمود
فقد أطلق العبارة للدلالة على غدر العدو، وذلك بقوله (خنجر غدر) وقد أعرض عن المباشرة تخفيفًا لوقع الحدث على النفس.
الرمز:
"الرمز عند العرب هو الكناية التي تتميز بشقين؛ قلة الوسائط، وخفاء المدلول؛ فهو درجة من الكناية قصوى، ليست بعيدة عن اللغز أحيانًا." (231) ومن ذلك قوله: (232)
ذاب منه الضمير في لهيب الويل فأمسى ضميره دولارا
حيث يرمز بالدولار إلى الاستعمار.
وقوله: (233)
اصدعي الأفق يا نسور الديار واخفقي كالملائك الأطهار
إن في كل خفقة من جناح رغم جنح الظلام ألف نهار
وانشري يا نسور أجنحة النصر على الثائرين والأحرار
حيث يرمز الشاعر للثائرين بالنسور، ويطلب منهم أن يثوروا، ويهبوا لتحرير الوطن الغالي، وتخليص أرضه من الاستعمار.
مصادر تشكيل الصورة عند أبو سلمى:
تتعدد المصادر التي يستمد منها الشاعر صوره، وهذه المصادر تتفاعل مع بعضها البعض، وتعمل مندمجة لتشكيل صورة فنية لها أبعاد وخصائص فنية، ومصادر التصوير لدى الشاعر إما أن تكون تجريبية، خبرها الشاعر بالتجربة، أو بالمعرفة، أو بالرؤية، أو بالإحساس، أو بالسماع عنها، وإما ثقافية تكونت عند الشاعر نتيجة قراءاته وإطلاعه على مختلف النواحي الثقافية في المجتمع.
أولًا: المصادر التجريبية:
البيئة أو الطبيعة المحيطة بالشاعر هي منزل وحيه، يستطيع أن يخرج مكنوناتها، ويحول ما فيها من مواد إلى معانٍ شعرية، يحبب هذه الطبيعة المادية إلى نفس الإنسان، "فالبيئة الطبيعية هي الملهم الأول لكل كاتب، ولكل شاعر بل هي الملهم الأول لكل من هذه الفنون... وإلهام الطبيعة الناس يختلف باختلاف أمزجتهم ومراكزهم في الحياة." (234)
فالشاعر حينما ينظر في الطبيعة يجد كل شيءٍ حقيقيًا بالوصف وإبداع الصور، التي تنقل الحياة وتمثلها في أبيات الشعر، فتكون الطبيعة معلمًا للشاعر حين يبدأ التتلمذ على المواد والعناصر التي يراها ليل نهار، فتكشف الطبيعة بعض أسرارها، ويحاول هو أن يكشف كل هذه الأسرار، وليس كل الشعراء متساويين في نظرهم إلى الطبيعة المحيطة، فلكل منهم ملكته التي تتمايز عن ملكة غيره من الشعراء. وتنقسم الطبيعة إلى قسمين: الطبيعة الساكنة، والطبيعة المتحركة.
الطبيعة الساكنة:
في "الطبيعة الساكنة تنتظم جميع الأشياء التي لا يجري ماء الحياة في السماء وفي الأرض، فتشمل أجرام السماء، وأفلاكها، ونجومها، وكواكبها، وسحبها، وغيومها، ورعودها، وبروقها، كما تشمل صحارى الأرض، ورياضها، ووهادها، وجدبها، وخصبها، وبحارها، وأنهارها، وكل ما تبتكره عقول العلماء وتصنعه يد الإنسان." (235) ومن مصادر الطبيعة الساكنة المياه بأنواعها؛ فقد استمد أبو سلمى بعض صوره من المياه بمختلف أنواعها (النيل-البحر- الجداول) واستخدام الشاعر المياه كمصدر من مصادر صوره يدل على حبه للخير والنماء؛ لأن الماء أساس الحياة. فمن النيل يستمد أبو سلمى هذه الصورة: (236)
أيهذا النيل يا نهر الخلود حدث الأجيال عن أرض الجدود
"فبواسطة الصورة يشكل الشاعر أحاسيسه وأفكاره وخواطره في شكل فني محسوس، وبواسطتها يصور رؤيته الخاصة للوجود" (237) والصورة التي يريد أن يعبر عنها الشاعر هي صورة التاريخ العظيم الذي خلفه الأجداد؛ حيث يستحيل النيل مسجلًا لتلك الأمجاد، ناطقًا بما خلفه الأجداد. ويظهر النبات في الديوان الآخر كمصدر من مصادر الطبيعة الصامتة في صوره بمختلف أشكاله وألوانه؛ فنراه يصف الياسمين في قوله: (238)
الياسمين الظليل يحرسنا من ألسن العاذلين والحدق
حيث يتحول الياسمين حارسًا يحرس الشاعر من العاذلين فقد خلع عليه صفة إنسانية.
وفي قوله: (239)
عرق العاملين في ظله الرحب عبير المروج والأزهار
فنجد عرق العاملين له عبير كعبير المروج والأزهار.
وفي قوله: (240)
الورد خجلان من خدك الناعم
والفل غيران والزنبق الحالم
فقد خلع على الأزهار صفة إنسانية، فيصبح الورد خجلان، والفل غيران، والزنبق نجده حالمًا.
ويذكر أبو سلمى النجوم في شعره بمقدار ما يرى فيها ما يذكره بعلو وسمو ومكانة من يتحدث عنهم، والتنفيس عن همومه وأحزانه؛ حيث نجد صلة في شعره بينه وبين النجوم "تلك الصلة التي فرضها الواقع وحتمتها الضرورة، وأدى إليها فرط الحاجة." (241) فنجده يستمد من النجوم هذه الصورة: (242)
ماذا تريدين ونجم السما رأى سنى عينيك لما هوى
منيته بالنور عند اللقا إذا به بالهجر مثلي اكتوى
حيث يصور النجم إنسانًا يكتوي بالهجر، ويشاركه أحاسيسه ومشاعره. ويستمد من السحاب صورته في قوله: (243)
لو سرت في السحب السوداء أقطفها لضوأت نظرات الشوق لي سحبي
حيث تحولت السحب ثمارًا يقطفها.
ويشخص البدر في قوله: (244)
وتجلى بدرٌ يبثُ عزاء لأولي الشجو بل إلى الأكوان
وقام يبث العزاء إلى الأكوان.
كما يستمد أبو سلمى صوره من مظاهر الطبيعة من حوله؛ فمن الجبال يستمد صورته: (245)
يا شباب الجبل السمح ويا أمة مثل الجواد الطلق حرة
حيث شخص الجبل، وأضفى عليه صفة من الصفات البشرية، وذلك بقوله الجبل السمح.
ويشخص التراب في قوله: (246)
كيف يناديك تراب الحمى ولا تلبي دعوة الأعزل
حيث يتجول التراب إنسانًا يناديه.
الطبيعة الحية:
وتشمل كل ما هو حي عدا الإنسان؛ كالخيل، والطير، وبعض الحيوانات المتوحشة، والزواحف، وغير ذلك من الكائنات الحية المهيأة لأن تكون مصدرًا لصور الشاعر وإلهامه، وقد تردد في الديوان الآخر العديد من هذه الكائنات؛ ومن ذلك الغزلان، والحمام، والبلبل، والعصفور، والريم، والنسر؛ فنجده يذكر البلبل مشخصًا إياه في قوله: (247)
يا بلبلي الشادي مالك لا تشدو
حيث يقيم حوارًا مع البلبل، ويطلب منه أن يشدو، ويشخص الفرس في قوله: (248)
والفرس الخضراء في ساحها تسأل عن فارسها الأول
والفرس تعطي شعورًا بالقوة، ووجودها يوحي بالشجاعة وقد أضفى عليها الشاعر سمة البركة والسماحة بوصفها بالخضراء. ويستخدم النسر في وصف الفارس الشجاع في قوله: (249)
إيه يا نسر البلاد ارو تاريخ الجهاد
وهكذا وجدنا للطبيعة الحية حضورًا واضحًا في الديوان الآخر، وكأن الشاعر أراد أن يبتعد عن الواقع الذي تعيش فيه بلاده، وما آل إليه حالها نتيجة الاحتلال ويوجه فكره وعاطفته نحو هذه الكائنات، وربما وجد سلوته في ذلك، فكانت الكائنات الحية بذلك مصدرًا مهمًا من مصادر صوره.
ثانيًا: المصادر الثقافية:
ونعني بالمصادر الثقافية التراث، والأمة العربية تعد من أعظم الأمم وأجلها تراثًا وحضارة، ولا شك أن أبناء هذه الأمة أحرص الناس تمسكًا بهذا التراث وحفاظًا على هذه الحضارة، ولا شك أن التفوق العلمي والأدبي يبدأ بحفظ القديم والتزود بتراث القدماء الأدبي، والديني، والتاريخي، والسياسي.
وفي مجال الأدب نستطيع أن نقول إن ثقافة الشاعر وإلمامه بالتراث والحضارة وإطلاعه على إبداع السابقين يعد زادًا يتزود به الشاعر في رحلته الأدبية وطريقه الفني. ولقد اهتم النقد القديم بثقافة الشاعر وقراءاته باعتبارها عنصرًا فعالًا في تشكيل الصورة الفنية، فرأوا ضرورة إلمام الشاعر بجوانب شتى من الثقافة؛ وذلك "لاتساع الشعر واحتماله كل ما حمل من نحو، ولغة، وفقه، وخبر، وحساب، وفريضة." (250) وقد فطن النقد الحديث إلى أهمية هذا العمل المؤثر في عملية الإبداع الشعري، فعني بعض النقاد بعلاقة الشاعر بالتراث، وضرورة اطلاعه عليه؛ ليتكون عنده الإطار الشعري الذي يعتبر الأساس الأول في عملية الإبداع الفني؛ لأن الشعر "لا يكتب نفسه؛ فالشاعر محتاج إلى قراءة غيره؛ لأن هذه القراءة تمده بالمعرفة، التي يستطيع أن يحملها بنفسه، وتطلعه على الطبائع الإنسانية المختلفة، وتقدم إليه تجارب الذين سبقوه."(251)
وبالنسبة للشاعر أبي سلمى في ديوانه الآخر نستطيع القول بأن ثقافة الشاعر الأدبية وإلمامه بالتراث الأدبي والديني كان نبعًا فياضًا أمد الشاعر بالكثير من الصور الإيحائية، فقد استطاع أن يستفيد منه رصيده الثقافي وعلمه الديني، وسخر ذلك كله لخدمة فنه؛ فاستمد منه صورًا فنية تشع روعة وبيانًا، وقد تأثر -كذلك- بقراءاته الدينية والأدبية، والتاريخ الإسلامي، والسياسة؛ ولذلك نستطيع أن نقول بأن روافد الشاعر الثقافية كانت مستمدة من:
(التراث الديني - التراث الأدبي - التراث التاريخي - الواقع السياسي)
أولًا: التراث الديني:
لقد أفاد أبو سلمى من التراث الديني العظيم المتمثل في القرآن الكريم والسيرة النبوية؛ فنجده يستمد من وحي القرآن الكريم قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (الفتح 29) ولكنه يعكس دلالة هذه الآيه التي تصور رحمة الإسلام بمن تبعه، وشدته على من كفر به؛ ليصور حال الحكام في وطنه؛ وذك في قوله: (252)
رحماء على العدا وأشداء على أهلنا وبين الرفاق
حيث تبدو الرحمة مع الأعداء، والشدة بين الأهل والرفاق.
ويستمد من المصحف هذه الصورة: (253)
ما تلك ذراتك بل تلك حروف المصحف
ثانيًا: التراث الأدبي:
وقد استمد أبو سلمى بعض صوره من التراث الأدبي القديم والحديث. ومن ذلك قوله: (254)
ما تزال السيوف أصدق أنباء كما قلت في أعز القصيد
فقد أخذها من أبي تمام؛ وذلك في قوله: (255)
السيف أصدق أنباء من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب
ثالثًا: التراث التاريخي:
ويستمد أبو سلمى من التاريخ بعض صوره؛ فيذكر بعض المواقع التاريخية، أو الشخصيات الإسلامية، أو الأماكن. من ذلك قوله: (256)
تتحرك المعارك الحمر في "حطين" والجمر من رماد الوقود
فقد استمد صورته من غزوة حطين.
وقوله: (257)
وغدا المنتمي لأرض فلسطين غريبًا كصالح في ثمود
حيث صور الفلسطيني في وطنه كصالح في ثمود.
وقوله: (258)
كيف تحيا والقدس من خلال الدمع نراها على صليب اليهود.
حيث يذكر اليهود.
رابعًا: الواقع السياسي:
أبو سلمى شاعر فلسطين؛ ولذلك نجده متفاعلًا مع قضية فلسطين، والمتتبع للقصائد في الديوان الآخر يجدها تفوح برائحة فلسطين؛ فهو يتألم لقضية بلاده، ويرصد -بتفاعل- تطورات القضية الفلسطينية، واضعًا يده على مواطن الألم، مشيرًا إلى الدرب الصحيح، والعلاج الوحيد هو المقاومة؛ ولذلك يرفض أبو سلمى الحلول العقيمة والسبل الفاشلة التي يطرحها القادة لحل مشكلة فلسطين، ويرى أن مأساتها تتواصل على مر الأجيال، ويتوالد أبناؤها اليتامى من آباء استشهدوا على مشهد من قادتهم، وأمتهم الغارقة في اللهو، ويرى أن القادة يخدعون هذا الشعب الفلسطيني المجاهد الذي قدم التضحيات المتواصلة آلافًا من الجرحى والأسرى والقتلى، ويبدو ذلك كله من خلال الصور الآتية: (259)
وحدت بيننا الهزيمةُ والعارُ ولم نتحدْ على التصعيد
دردر الملوك حين بلونا رؤساء التسليم والتحييد
شغلتهم موائد الذل لا التحرير إن التحرير صعب الورود
بأسهم بينهم شديد ولكن رحماء على العدو اللدود
وقد تكررت هذه الصور في الديوان الآخر بصورة لافتة، فلا نجد قصيدة تخلو منها، حتى القصائد التي خلصت للغزل كان يخرج من التغزل بالمحبوبة إلى الحديث عن وطنه فلسطين؛ حيث نجد أبا سلمى يستمد من تربة فلسطين هذه الصورة: (260)
هذه تربة البطولة فاسمع ما تعالى من قلبها الخفاق
ويشعر بالخزي والعار طالما في البلاد استعمار، ولن يمحي هذا الذل والخزي سوى القتال والمقاومة: (261)
نحن الذين نحمل العار سنشعل النارا
هوامش الفصل الأول
1. د. محمد عبد المطلب، البلاغة والأسلوبية، 146، مكتبة الحرية الحديثة، القاهرة(1)، 1984م.
2. د. محمد عياد، الأسلوبية الحديثة، 129، مجلة فصول، م(1)، ع (2)، ج (1)، يناير 198م
3. .محمد عبد المطلب، البلاغة والأسلوبية، 123
4. ينظر فتح الله سليمان، قضايا التركيب في شعر البارودي -دراسة أسلوبية، 62-63، رسالة دكتوراه، آداب القاهرة، 1986م
5. ينظر سليمان خالد خليل حاوي، دراسة في معجمه الشعري، 41، فصول، المجلد الثامن، العددان (1-2)، 1982م
6. د. أحمد طاهر حسين، المعجم الشعري عند حافظ إبراهيم، 29، مجلة فصول، م (3)، ع (2)، 1983م
1. جوزيف ميشال شريم، دليل الدراسات الأسلوبية، 57، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، لبنان، ط(2) 1987م
7. ابن منظور، لسان العرب، 63، مادة أرض، مكتبة دار المعارف، القاهرة، 1979م
8. غادة أحمد بيلتو، الديوان الآخر لأبي سلمى، 137-138، طلاس للدراسات والترجمة والنشر، دمشق، ط (1)، 1987م
9. الديون الآخر 124، 125
10. الديون الآخر، 126
11. الديون الآخر، 113
12. الديون الآخر، 160
13. الديون الآخر، 146
14. غالي شكري، أدب المقاومة، 411، دار المعارف، القاهرة، مصر، (د - ط)، (د - ت)
15. الديون الآخر، 131
16. رجاء النقاش، شعراء المقاومة، 176، منشورات، م.ع.د
17. محمود درويش، ورقة إلى دفتر طوكيو، 38، مجلة شؤون، عدد(35)
18. الديون الآخر، 124
19. الديون الآخر، 115
20. الديون الآخر، 112-113
21. محمد عبد المطلب، بناء الأسلوب في شعر الحداثة التكوين البديعي، 416، دار المعارف، القاهرة، 1988م
22. ابن الأثير، النهاية في غريب الحديث والأثر، ت طاهر الزاوي ومحمود الطناجي، 2/144، دار إحياء الكتب العربية، (د-ط)، (د-ت)،
23. الجوهري، الصجاح، 2-571، نادة دهر، دار إحياء التراث العربي، ط(1)، 1419هـ-1999م
24. الديون الآخر، 103
25. الديوان الآخر، 152
26. الديوان الآخر، 20-21
27. الديوان الآخر، 12
28. د. كريم زكي حسين الدين، الزمن الدلالي، 90، دار غريب، القاهرة، 2002م
29. الديون الآخر، 76
30. الديون الآخر، 72
31. الديون الآخر، 100
32. الديون الآخر، 87
33. الديون الآخر، 128-129
34. الديون الآخر، 142
35. الديون الآخر، 86
36. الديون الآخر، 86
37. الديون الآخر، 163
38. الديون الآخر، 166
39. الديون الآخر، 162
40. الديون الآخر، 19
41. الديون الآخر، 152
42. الديون الآخر، 150
43. الديون الآخر، 27
44. الديون الآخر، 24
45. الديون الآخر، 15
46. الديون الآخر، 35
47. الديون الآخر، 107
48. الديون الآخر، 163
49. الديون الآخر، 171
50. الديون الآخر، 166
51. الديون الآخر، 129
52. الديون الآخر، 118
53. الديون الآخر، 166
54. الديون الآخر، 124
55. الديون الآخر، 94
56. الديون الآخر، 165
57. د. أحمد مختار، اللغة واللون، 124، عالم الكتب، القاهرة، ط (2) 1997م
58. الديون الآخر، 76
59. الديون الآخر، 25
60. الديون الآخر، 169
61. الديون الآخر، 165
62. الديون الآخر، 172
63. الديون الآخر، 156
64. الديون الآخر، 35
65. الديون الآخر، 174
66. د. أحمد درويش، دراسة الأسلوب بين المعاصرة والتراث، 117، مكتبة الزهراء القاهرة، 1985م.
67. د. محمد مفتاح، تحليل الخطاب الشعري -استرتيجية التناص، 65، ط (2)، 1986م
68. عبد الحفيظ مصطفى عبد الهادي، شعر الشريف الرضي دراسة فنية، 344، أطروحة دكتوراه مخطوطة، بمكتبة جامعة القاهرة، 1978م
69. د. أحمد درويش، دراسة الأسلوب بين المعاصرة والتراث، 117
70. مجموعة من العلماء والباحثي؛ الموسوعة العربية العالمية، 320، 772، مؤسسة أعمال الموسوعة للنشر والتوزيع، ط (2)، 2014
71. ابن منظور، لسان العرب، مادة شول.
72. ابن منظور، لسان العرب، مادة صبا.
73. ابن منظور، لسان العرب، مادة حشا.
74. ابن منظور، لسان العرب، مادة شظا.
75. لويس معلوف، المنجد، 26، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، (د - ط)، (د - ت)
76. إبراهيم مصطفى وآخرون، المعجم الوسيط، 323، مجمع اللغة العربية القاهرة، مطبعة مصر1960م
77. لويس معلوف، المنجد، 737 سابق.
78. إبراهيم مصطفى وآخرون/ المعجم الوسيط/ ص1012 سابق.
79. مجموعة من العلماء والباحثين، الموسوعة العربية العالمية، ص87 بعلبك.
80. إبراهيم مصطفى وآخرون، المعجم الوسيط، 1/512 سابق.
81. ابن منظور، لسان العرب، مادة رسس.
82. ابن منظور، لسان العرب، مادة نسس.
83. ابن منظور، لسان العرب، مادة رمس.
84. إبراهيم مصطفى وآخرون، المعجم الوسيط، 554
85. ابن منظور، لسان العرب، مادة برك.
86. د. البدراوي زهران، أسلوب طه حسين في ضوء الدرس اللغوي الحديث، 63، دار المعارف، القاهرة، 1982م
87. أبو منصور المجاليقي، المعرب من الكلام الأعجمي على حروف المعجم، تحقيق أحمد محمد شاكر، 6، مطبعة دار الكتب المصرية، الطبعة الأولى، 1361هـ
88. ابن منظور، لسان العرب، مادة تخت
89. أبو منصور الجواليقي، كتاب المعرب من الكلام الأعجمي.
90. لويس معلوف، المنجد، 22
91. إبراهيم مصطفى وآخرون، المعجم الوسيط، 967
92. د. ناميا معادي عبد الرحمن، الدخيل في اللغة العربية ولهجاتها، 73، 1975م
93. الشيخ أحمد رضا، معجم فقه اللغة، 2/454، دار مكتبة الحياة - بيروت، (د - ت)
94. ابن منظور، لسان العرب، مادة صين.
95. خالد الزواوي، الصورة الفنية عند النابغة الذبياني، 100-101 لونجمان، ط (1)، 1992م
96. د. محمد غنيمي هلال، دراسات ونماذج في مذاهب الشعر ونقده، 60، دار نهضة مصر، (د - ط)، (د-ت)
97. د. كمال أبو ديب، جدلية الخفاء والتجلي، 19، دار العلم للملايين، ط (4)، 1995
98. د. محمد حسن عبد الله، الصورة والبناء الشعري، 17، دار المعارف، 1981م
99. د. عبد الله التطاوي، الصورة الفنية في شعر مسلم بن الوليد، 8، دار غريب 2002 م
100. د. شوقي ضيف، في النقد الأدبي، 150، دار المعارف، ط2، 1966م
101. د. صلاح رزق، شعر المعلقات في ضوء الدراسة التحليلية والرؤية المعاصرة، 1/70، دار الثقافة العربية، القاهرة، ط(3)، 1416هـ -1995م
102. مشهور فواز، التمرد في الشعر العربي الحديث، 250، رسالة دكتوراه مخطوطة بكلية دار العلوم، جامعة القاهرة.
103. د. ريتا عوض، بنية القصيدة الجاهلية، الصورة الشعرية لدى امرىءالقيس، 39 وما بعدها، دار الآداب، بيروت ط (1)، 1992م
104. بشرى موسى صالح، الصورة الشعرية في النقد العربي الحديث، 73 وما بعدها، المركز الثقافي العربي، الرباط، ط(1)، 1994م
105. د. ريتا عوض، بنية القصيدة الجاهلية، الصورة الشعرية لدى امرىء القيس، 51
106. د. صلاح فضل، علم الأسلوب مبادئه وإجراءاته، 242، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1985
107. د. ساسين عساف، الصورة الشعرية ونماذجها في إبداع أبي نواس، 27 المؤسسة الجامعية، ط (1)، 1982
108. المبرد، لكامل، 3/93، مكتبة المعارف، بيروت (د - ط)، (د - ت)
109. د. جابر عصفور، مفهوم الشعر، 57، الهيئة العربية العامة للكتاب، 1995م
110. محمد الهادي الطرابلسي، خصائص الأسلوب في الشوقيات، 147، الجامعة التونسية، 1981م.
111. محمد الهادي الطرابلسي، خصائص الأسلوب في الشوقيات، 147 الديون الآخر، 22
112. الديون الآخر، 61
113. د. علي عشري زايد، عن بناء القصيدة العربية الحديثة، 91-92، مكتبة الشباب، ط (4) 1416هـ -1995م
114. الديون الآخر، 166
115. محمد صلاح زكي أبو حميدة، الخطاب الشعري عند محمد درويش دراسة أسلوبية، 180، مطبعة المقداد، غزة، 1421هـ-2000م
116. الديون الآخر، 146
117. الديون الآخر، 57
118. محمد الهادي الطرابلسي، خصائص الأسلوب في الشوقيات، 143
119. د. صبحي البستاني، الصورة الشعرية، 107، دار الفكر اللبناني، بيروت، ط (1)، 1986م
120. د. صبحي البستاني، الصورة الشعرية، 107
121. الديون الآخر، 46
122. الديون الآخر، 156
123. الديون الآخر، 85
124. الديون الآخر، 107
125. الديون الآخر، 124
126. الديون الآخر، 124
127. الديون الآخر، 107
128. الديون الآخر، 74
129. الديون الآخر، 115
130. الديون الآخر، 101
131. الديون الآخر، 111
132. الديون الآخر، 59
133. الديون الآخر، 37
134. الديون الآخر، 31-32
135. الديون الآخر، 154
136. الديون الآخر، 123
137. الديون الآخر، 145
138. عبد المتعال الصعيدي، بغية الإيضاح لتلخيص المفتاح في علوم البلاغة، 3/57، مكتبة الآداب.
139. عبد القاهر الجرجاني، أسرار البلاغة، ت السيد محمد رشيق رضا، 94، مكتبة صبيح، ط 6، 1959م
140. الديون الآخر، 17
141. الديون الآخر، 94
142. الديون الآخر، 24
143. الديون الآخر، 17
144. الديون الآخر، 17
145. د. مصطفى ناصف، الصورة الأدبية، 124، ط (2) دار الأندلس، 1983م
146. د. مصطفى ناصف، نظرية المعنى في النقد العربي، 77، دار العلم القاهرة، 1965م
147. عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، ت. السيد محمد رشيد رمضان، 277، مكتبة صبيح، ط (1) 1960م
148. د. صبحي البستاني، الصورة الشعرية، 69
149. د. فايز الداية، جماليات الأسلوب الصورة الفنية، 114، دار الفكر المعاصر، سوريا، ط (2)، 1996م
150. د. سعد مصلوح، في النص الأدبي دراسة إحصائية، 187، عين للدراسات والنشر، ط (1)، 1994م
151. عباس العقاد، ابن الرومي حياته وشعره، 35، دار الكتاب العربي، 1976م
152. د. سعد مصلوح، في النص الأدبي دراسة إحصائية، 189
153. حامد عبد القادر، دراسات في علم النفس الادبي، 44-45، لجنة البيان، (د - ط)، (د - ت)
154. د. مصطفى ناصف، الصورة الأدبية، 136، مرجع سابق.
155. الديون الآخر، 16
156. الديون الآخر، 86
157. الديون الآخر، 156
158. الديون الآخر، 139
159. الديون الآخر، 145
160. الديون الآخر، 145
161. الديون الآخر، 121
162. الديون الآخر، 47
163. د. عبد الحفيظ عبد الهادي، شعر منصور النمري جمع وتحقيق ودراسة، 107، 108، مكتبة الآداب، ط (1)، 2003م
164. أبو هلال العسكري، كتاب الصناعتين الشعر والنثر، تحقيق علي محمد البجاوي ومحمد أبي الفضل إبراهيم، 99، عيسى البابي الحلبي، ط (1)، 1371هـ -1952م
165. د. مصطفى ناصف، الصورة الأدبية، 138ن مرجع سابق
166. د. عبد الفتاح عثمان، دراسة في النقد الحديث، 19، مكتبة الشباب، (د ط)، 1992م
167. د. سعد مصلوح، في النص الأدبي دراسة إحصائية، 188
168. الديون الآخر، 43
169. الديون الآخر، 125
170. الديون الآخر، 95
171. الديون الآخر، 115
172. الديون الآخر، 44
173. الديون الآخر، 130
174. الديون الآخر، 62
175. د. سعد مصلوح، في النص الأدبي دراسة إحصائية، 189، مرجع سابق.
176. الديون الآخر، 147
177. الديون الآخر، 154
178. ينظر، جون كوين، بناء لغة الشعر، ترجمة أحمد درويش، 241، مكتبة الزهراء، 1993م
179. بتير تيو مارك، نرجمة الاستعارة، 55، ع (5 - 6)، مجلة الثقافة الأجنبية، وزارة الثقافة والإعلام، العراق، 1984م
180. عبد القاهر الجرجاني، أسرار البلاغة، 281، مصدر سابق
181. الزركشي، البرهان في علوم القرآن، تحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم، 2/258 وما بعدها، دار التراث العربي، القاهرة، (د - ط)، 2008م
182. د. عبد القادر حسين، القرآن والصورة البيانية، 170 دار المنار، ط (2) 1412هـ -1992م.
183. د. صلاح فضل، علم الأسلوب مبادئه وإجراءاته، 170
184. د. صلاح فضل، علم الأسلوب مبادئه وإجراءاته، 222
185. الديوان الآخر، 158
186. الديوان الآخر، 129
187. الديوان الآخر، 158
188. الديوان الآخر، 118
189. الديوان الآخر، 137
190. الديوان الآخر، 130
191. الديوان الآخر، 136
192. الديوان الآخر، 163
193. الديوان الآخر، 123
194. الديوان الآخر، 16
195. د. صلاح فضل، علم الأسلوب مبادئه وإجراءاته، 255، مرجع سابق.
196. عبد القادر الرباعي، الصورة الفنية في شعر أبي تمام، 96، منشورات جامعة اليرموك، إربد، الأردن، 1980م
197. علي الجارم ومصطفى أمين، البلاغة الواضحة، 117، دار المعارف، القاهرة، (د - ط)، 1964م
198. الديوان الآخر، 123
199. الديوان الآخر، 129
200. إيليا الحادي شرح ديوان أبي تمام، 22، دار الكتاب اللبناني، بيروت، ط (1) 1980 م
201. الديوان الآخر، 18
202. الديوان الآخر، 76
203. الديوان الآخر، 112
204. الديوان الآخر، 129
205. محمد الهادي الطرابلسي، خصائص الأسلوب في الشوقيات، 211
206. عبد القادر الرباعي، الصورة الفنية في شعر أبي تمام، 96
207. عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، 60
208. د. صبحي البستاني، الصورة الشعرية، 168، مرجع سابق.
209. د. شفيع السيد، التعبير البياني 114، دار الفكر العربي، 1982
210. خوسيه ماريا ايفانكوس، نظرية اللغة الأدبية، 206 ترجمة د. حامد أبي أحمد، مكتبة غريب القاهرة 1992م
211. الديوان الآخر، 34
212. الديوان الآخر، 112
213. الديوان الآخر، 115
214. الديوان الآخر، 119
215. أحمد شوقي، الشوقيات، 1/104، ط دار العودة، بيروت 1983م
216. الديوان الآخر، 154
217. الديوان الآخر، 154
218. الديوان الآخر، 163
219. الديوان الآخر، 129
220. الديوان الآخر، 129
221. محمد الهادي الطرابلسي، خصائص الأسلوب في الشوقيات، 322
222. الديوان الآخر، 112-113
223. الديوان الآخر، 163
224. الديوان الآخر، 111
225. الديوان الآخر، 111
226. محمد الهادي الطرابلسي خصائص الأسلوب في الشوقيات، 227
227. الديوان الآخر، 167
228. الديوان الآخر، 129
229. محمد الهادي الطرابلسي، خصائص الأسلوب في الشوقيات، 220
230. الديوان الآخر، 123
231. الديوان الآخر، 118
232. سيد نوفل، شعر الطبيعة في الأدب العربي، 7-8، مقدمة بقلم د. محمد حسين هيكل، دار المعارف، ط (2)، 1978م
233. محمد حسن عبد الله، الصورة والبناء الشعري، 23
234. الديوان الآخر، 121
235. علي عشري زايد، عن بناء القصيدة العربية الحديثة، 73
236. الديوان الآخر، 46
237. الديوان الآخر، 118
238. الديوان الآخر، 139
239. د. شوقي ضيف، تاريخ الأدب العربي، العصر الجاهلي، 84، دار المعارف، ط (1)، 1986م.
240. الديوان الآخر، 40
241. الديوان الآخر، 65
242. الديوان الآخر، 22
243. الديوان الآخر، 158
244. الديوان الآخر، 165
245. الديوان الآخر، 139
246. الديوان الآخر، 165
247. الديوان الآخر، 143
248. ابن رشيق القيرواني، العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، ت محمد محي عبد الحميد، 196، دار الجليل بيروت ط (4)، 1972 م
249. د. محمد مصطفى هدارة، مشكلة السرقات في النقد الأدبي، 259-258، الأنجلو المصرية، 1958م
250. الديوان الآخر، 113
251. الديوان الآخر، 126
252. الديوان الآخر، 131
253. إيليا الحاوي، ديوان أبي تمام، 22، مصدر سابق.
254. الديوان الآخر ص 129
255. الديوان الآخر الصفحة، 129
256. الديوان الآخر، 130
257. الديوان الآخر، 130
258. الديوان الآخر، 111
259. الديوان الآخر، 115