أحببت أن أبدأ كتابي بهذه الكلمات كن.. فيكون، الأمر الإلهي للخلق، كل الخلق، الكلمة التي اختارها الله بنفسه.
كلّنا طالما استخدمناها أثناء نقاشنا مع شخص يتعجل تنفيذ أمر ما ولا يتفهم احتياجه للوقت والجهد، ودائمًا نقول له: "إنت فاكر إيه؟ ... هي كن فيكون".
والحقيقة إن هذا التعبير كان خاطئًا جدًا ومثلًا غير منطبق على الحالة، نحتاج القليل من التأمل في هذه الكلمات ونعيد صياغتها في عقولنا؛ لأن من أهمية فهمنا الصحيح لها قد نتفاجأ أنها من أهم الأشياء في حياتنا التي تعثرنا في فهمها دائمًا!
أولًا.. دعنا نفند هذه العبارة من المنظور اللغوي:
(كُن) فعل أمر تام... وهو الأمر الإلهي للخلق.
(ف) حرف الفاء هنا استئنافية تربط الكلمتين بعضهما البعض.
(يكون) فعل مضارع مستمر يفيد حدوث ما أمر به الله بفعل كُن.
والاستعارة التمثيلية هنا في قوله تعالى (كن فيكون) هو تمثيل لسهولة حدوث المقدرات بأمره ومشيئته غير المحدودة.
وقد ذهب البعض دومًا لتفسير ذلك بسرعة الحدوث (في التو واللحظة)، وهذا ما نريد مناقشته، البعض فسر ذلك على أنّه دليل على السرعة لما في قدرات الله من عدم المحدودية وقدرته على ذلك، ولكن التأمل والمشاهدة قد يدفعنا لتفسيرٍ آخر، مختلفٍ بعض الشيء لكنه لا يخرج بالطبع عن حقيقة لا محدودية قدرة الله في الخلق.
فإن الله أراد أن يخبرنا قدرته على الخلق بمجرد الأمر، مجرد كلمة تنقاد لها كل الظروف والمعطيات حتى يصير ما أمر به واقعًا.
واستخدم (يكون) لدلالتها على استمرار الحدث، الحدث الذي أمر الله بأن يكون (كان واستمر) وتكرر حدوثه مرات ومرات، وهو قادر على تكونيه من البداية مرات ومرات أيضًا، ولكن من المشاهدات في كل واقع حياتنا كان لزامًا علينا التوقف والتساؤل.
كم استغرق تكوينه؟
وهل ظهر من العدم فجأة؟ وهو قادر على ذلك.
أم خُلق طبقًا لقانون الحياة والتكوين والتطور، ذلك القانون الذي وُجد وخُلق بقدرة الله أيضًا وبكلمة كن.
الحقيقة إن الإجابة المنطقية أن هو من وضع قانون الخلق منذ البداية ثم خلق بداخله وبقواعده كل ما أمر به باللفظ (كن فيكون)، وبالمشاهدة والتحليل نستطيع إحصاء وسرد وتدوين كل المعجزات التي حدثت يومًا في التاريخ من الكتب السماوية والروايات الموثوقة، ربما في بضع ورقات.
ولكن على الجانب الآخر لن نستطيع مهما حاولنا إحصاء وسرد وتدوين البعض القليل مما خُلق ويخلق كل لحظة باتباع الله لقانون الخلق الذي قدره لنا؛ لذلك فإن القاعدة الراسخة في حياتنا هي الخلق تبعًا لمراحل الخلق وتوقيته وزمنه الطويل بحساباتنا، والاستثناءات هي المعجزات بالطبع، وكلا الأمرين حدثا بعد أمر إلهي واحد هو (كن فيكون)، إذن ليس سرعة الخلق ولا الخلق في التو واللحظة هي القاعدة إنما هو الاستثناء، وكلاهما في قدرة الله اللا محدودة.
وهذا السؤال سيظل بلا إجابة وافية في هذه الحياة، لكن ما يتعلق بإدراك المغزى فهو واضح لنا طوال الوقت ونستطيع رؤيته حولنا كل لحظة.
ولذلك كانت القاعدة التي لا بد أن نبدأ بها حوارنا هي أن الفرق الجوهري بين الخلق من العدم في التو واللحظة والخلق تبعًا لقانون الخلق الإلهي تتعلق بالسرعة أو بمعنى أوضح بالزمن، وذلك الزمن هو العنصر المحسوس من البشر، غير الموجود في قواعد وقوانين الله، لأنه ببساطة لا نستطيع تطبيق قوانين البشر على الإله؛ لأن الله لا يحده قانون ولا يحسب له زمن طال أو قصر بالنسبة لنا، الزمن غير موجود أصلًا في حساب الله، كالمعامل صفر في القوانين الفيزيائية.
ولأن غالبًا الإجابة لن تصبح كاملة من عقل مخلوق بحدود الإدراك الذي خلقها له الله، ولأن الحقيقة أن عقلنا المحدد بقواعد الزمان والمكان لن يدرك عدم وجودهم في قواعد الله ولن يستطيع أن يفهم ألا فرق بين الأمرين، إذا أصبح لا وجود للزمن في المعادلة؛ لذلك فإن البحث عن الإجابة بالعقل مجرد عبث، غاية ما يستطيع عقلنا هو التأمل ومحاوله الفهم، ولكي نستطيع الفهم تعال نسرد بعض الحقائق التي نراها حولنا، تعال نفكر قليلًا.. "بره الصندوق".
عندما أمر الله بخلق الحياة في هذا الكون استغرق تنفيذ الأمر قرابة ١٤ مليار سنة حتى يتكون الكون والأجرام السماوية والنجوم والشموس والكواكب لتوجد هذه الأرض التي خلقت عليها الحياة.
وعندما أمر الله بخلق دابة استغرق تنفيذ الأمر (من بعد خلق الكون) ملايين السنين لتوجد أول حياة في صورة أولية من خلايا حية، وتنقسم وتتكاثر وتتطور إلى كائنات بسيطة مجهرية وتتبدل وتتحور إلى كائنات بدائية ثم إلى كائنات حية تتنفس وتأكل وتشرب، ووفر لها في ملايين السنين البيئة اللازمة لحياتها من غلاف جوي لتنفسها ودرجة الحرارة المناسبة لحياتها مثلما وفر لها الغذاء.
وعندما أمر الله بخلقك أنت استغرق تنفيذ الأمر ٩ أشهر حتى تتكون في رحم أمك وتتطور ويكتمل نموك وتولد، بكل ما في الأمر من متطلبات وطبيعة خلق.
وبعد ميلادك استغرق الأمر سنوات حتى تكبر وتتعلم وتنضج وتدرك وتستطيع قراءة هذه السطور.
وهكذا في كل مثل من الأمثلة ستجد وحدة الخلق ووحدة الخالق تتجلى بتطبيق قانون الخلق.. كن فيكون.
ومن هنا يتضح ويعلو شأن المعجزة الإلهية على سبيل المثال في قصة نبي الله العُزير، حيث أنشأ الله دابته (الحمار) والطعام أمام عينيه من التراب والعظام المتحللة البالية بفعل زمن يربو على مائة عام، بإعادة خلقهم في التو واللحظة، بتعطيل القانون الطبيعي، وإنشائهم من العدم وليس بداخل الأرحام وتسريع وتيرة قانون الخلق الطبيعي آلاف المرات.
هنا أصبحت معجزة فقط لأنها حدث خارج عن المألوف، ومن هنا كانت العبرة بأن صانع وخالق قانون الخلق وواضع معاييره هو فقط من يستطيع تغيير قواعده وقتما شاء.
تلك المعجزة وهي التي يعني لفظها بلاغيًا (ما يعجز عنه استيعاب عقول البشر) وليس (ما يعجز عنه البشر)؛ لأن البشر في كل الأحوال عاجزين عن الخلق؛ هي الدليل على قدرة الخالق في التو واللحظة، ولكنه لا يفعل ذلك دائمًا، بل إن ما يفعله دائمًا هو الخلق في توقيت وزمن حدوثه الطبيعي الذي قدره لمراحل الخلق؛ لذلك عندما اختلفت المعايير رأيناها إعجازًا، استثناءً عن القاعدة.
لا أحب الإطالة في سرد الأمثلة في الكون والحياة، ولكنك تستطيع رؤية هذا القانون الإلهي في كل زمان ومكان وفي كل شيء حولك من الحشرات وحتى سفينة الفضاء، كلها خلقت وصنعت بعد توفر العوامل الطبيعية لوجودها والتطور والتكيف والتأقلم مع البيئة المحيطة، ومن تطور الإنسان ومعرفته وإدراكه نتجت الاكتشافات والاختراعات والصناعات من توفر المعرفة والتجربة والخطأ.
هذا هو القانون الذي وجد في الحياة مع كن فيكون.
معنى (كن فيكون) الأشمل هو أنّ كلّ شيء بأمر الله يستغرق الوقت المحدد له لتواجده بقوانين الحياة والكون (التي خلقها الله)؛ لذلك فقد يختلف كثيرًا فهمك للعديد من الأمور الغيبية والروايات وتستطيع تفنيدها ومعرفة الصحيح من الأسطورة والتحريف والإضافة البشرية بمجرد تطبيقك لهذا القانون.
العديد من الأمور التي افترضناها مسلمات ومعجزات لم تحدث من تلقاء نفسها في التو واللحظة، بل تمت بتلك الطريقة وبالقانون الإلهي نفسه، وبالتحضير والتجهيز نفسه الذي قد يستغرق ملايين ومليارات السنين، وهذا ما أرادنا الله أن نفهمه بالعلم وليس الإلحاد، باتباع خطوات العلم في الفهم والدراسة والتفنيد داخل قانون الخلق، الملحدون ضلوا الطريق لأنهم أرادوا تطبيق العلم فقط، وكثير من رجال الدين ضلوا الطريق أيضًا لأنهم طبقوا معيار المعجزة التي تحدث في التو واللحظة دائمًا دون اتباع القانون الإلهي للخلق، طبقوا الاستثناء على القاعدة؛ ولذلك ظهرت في الكتب خرافات كثيرة وأغلبها من الإسرائيليات، ولأنها تحريفات بشرية دون علم ولا علاقة لها بالكتب السماوية بالطبع، فإنه من الخطأ بعد كل هذه المعرفة التي وصلنا إليها أن نحكم بمعايير الزمن القديم نفسها.
من ضمن ما أقصده عن الخرافات على سبيل المثال قضية سطحية الأرض أو كرويتها، ورواية أن الأرض يحملها ثور كبير على قرنيه، ورواية خلق القطة من عطسة أسد، وخلق الخنزير من دبر الفيل في سفينة نوح مثلًا، والعديد من تلك الخرافات نستطيع الآن ضحدها بكل بساطة وأريحية وإزالتها من الكتب، ونستطيع كذلك فهم الكون والمخلوقات بطريقة أشمل ورؤية أوضح، ولأنك خليفة الله على الأرض وضع لك هذا القانون في كل شيء حولك في الحياة.
وعلمك أن لكل عمل تريد أن تقوم به الزمن اللازم لإتمامه، فحتى تطبيقك لهذا القانون في حياتك سيضفي نوعًا من الراحة النفسية لك ويلهمك الصبر والتحدي في مواجهة أعباء حياتك، مجرد معرفتك بالقانون كن فيكون.
وكأن الله أراد أن يعلمنا الصبر والاجتهاد بين دفتي كلمتين، ويعطي لنا درسًا في أنّ إيمانك أن ما أردت فعله سيكون، ولكن في الزمن اللازم لذلك، ويعلمك ألا شيء يحدث في التو واللحظة سوى المعجزات، ويوضح لك الرؤية وفهم قصص نجاحات كثيرة حولك، ومن مشاهداتك في الكون حولك تستطيع المقارنة، فإذا كان هذا هو القانون الإلهي في خلق هذا الكون، هل تستطيع أنتَ فرض قانون جديد؟ إذا كانت إجابتك بلا، فقد أدركت أنك إذن لابد أن تسير وفقًا لهذا القانون، وبأنك تستطيع استخدامه على قدرك، انظر إلى حياتك وحياة غيرك.. هل تريد أن تصبح طبيبًا مشهورًا، عالمًا، لاعب كرة متميزًا، كل هؤلاء ماذا فعلوا ليصبحوا كذلك، وكم استغرقت رحلتهم ليصبحوا كذلك، دراسة من مراحل مختلفة في سنوات، وتخرج، وتدريب وعمل مستمر وصقل خبرات وخطأ أحيانًا وتعثر ونهوض ومثابرة، الرحلة تستغرق سنين حتى تصل، في أول الرحلة تنطق (كن) الخاصة بك.
وبعد السنوات والعمل ترد عليك الحياة بـ(تكون)، وإن قارنت بين (كن) الخاصة بك في إنجاز أي شيء في حياتك و(كن) الإلهية في خلق أي شيء حولك من حيث الفترة الزمنية لاكتمال الخلق، سيساعدك هذا على الصبر واستكمال المشوار القصير جدًا، تذكر أنّك لكي تُخلق سبقك ١٤ مليار سنة من التحضير والتجهيز لميلادك في الدنيا، فلا تستعجل السنين، وهذا هو الدرس التي أرادنا الله أن نتعلمه.
أخيرًا، أحبُ أن أخبرك أنني قد بدأت هذا المقال وقلت (كُن) مقالًا، وكتبته في بضع ساعات، وعدت لأقرأه وأضفت إليه بعض التعديلات وحذفت منه بعض المقاطع ثم عدت وأضفت ثانية وأخيرًا راجعته، وعدلت فيه لآخر مرة.. حتى (كان).