هل سألت نفسك يومًا ما عمّا تحتويه حبة الرمل الصغيرة "على شط البحر"؟
إن سمحت لي أستطيع إجابتك باختصار وإيجاز شديد، (مليارات الذرات المتناهية الصغر والمختلفة المترابطة مع بعضها في هيئة مركبات، وكل مركب متكون من مجموعة ذرات متشابكة مع بعضها بفعل قوى الجذب والطرد المغناطيسية المتولدة من دورانها السريع تحت تأثير شحناتها الكهربية السالبة والموجبة للإلكترونات والنيترونات منذ ملايين السنين)!
ما رأيك..؟ هل كانت إجابتي مملة..؟ حسنًا، قبل أن تمزق هذا الكتاب وتلقي به في القمامة سأعاود الإجابة، إجابتي الحقيقية المختصرة هي (وحدة الخلق).
في أحد الاكتشافات عُثر على بردية فرعونية مدون عليها كلمات من أحد العلماء والكهنة في مصر القديمة يقول فيها (كما فوق كما تحت).
والحقيقة إنني توقفت عند هذه الكلمات كثيرًا جدًا، ودفعني ذلك للتفكير في ما أجبت به عليك في إجابتي المملة الأولى، وأصابني بعض الجنون وشطحت في تفكيري عن وحدة الخلق وعن دلالتها الواضحة على وحدة الخالق.
أصابتني الدهشة حين أدركت أنني لست في حاجة لأن أكون داعية لكي أجعلك تؤمن بالله، كل ما احتجته هو دراسة الفيزياء والكيمياء كغيري في الثانوية العامة وبعض التفكير.. "بره الصندوق".
لا تتعجل، سأوضح لك كل ما قصدته حتى تصل إلى اقتناع راسخ بأنني لست إلا "مجنون رسمي".. لنبدأ الرحلة.
الكون
نعلم أنه بدأ بانفجار عظيم، انفجار ألف ألف مليون مليار قوة انفجار نووي، استطعنا أن ندرك ذلك ونستوعبه عندما شاهدنا قدرة تفجير نواة الذرة، تلك النواة التي اخترعنا ميكروسكوب يستطيع تكبير الصورة ملايين المرات لمجرد أن نراها.
وتفاجأنا أن هذه النواة بكل هذا الصغر في الحجم ولّدت كل تلك القوة الهائلة، وتمدد تأثيرها مئات وآلاف الكيلومترات في اتساع رهيب، لا يختلف في الأسلوب والنوعية عن اتساع الكون من بداية خلقه بالانفجار العظيم وحتى وقتنا هذا من تأثير الانفجار الأول مع اختلاف الحجم والقوة الذي لا يقارن بالطبع، ما رأيك في التطابق (كما فوق كما تحت).
وبعد الانفجار والاتساع العظيم بدأ تكثف السحب الدخانية العملاقة والركّام بفعل قوى الجذب والطرد المغناطيسية لتنتج أولى المجموعات من المواد أو المجرات العملاقة، وبداخل إحدى المجرات كانت المجموعة الشمسية تتوسطها الشمس، ذلك النجم شديد الحرارة، ويدور حوله عدة كواكب بفعل قوى جذب وطرد تحافظ على مساراتهم منذ ملايين السنين، ولفت نظري أيضًا تركيب الذرة والمادة؛ لأنّك لو اعتبرت الشمس هي النواة والإلكترونات هي الكواكب لن تجد غير تطابق (كما فوق كما تحت).
هي قوانين الجذب والطرد نفسها بلا أي اختلاف سوى فرق الحجم الهائل وناتجة عن الشحنات الكهربية نفسها والدوران المستمر، ولو سافرنا أبعد قليلًا خارج المجموعة الشمسية حتى نصل برؤيتنا إلى المجرة (درب التبانة) مثلًا لن تجد إلا التركيب الذري نفسه في المادة، ستجد تجاذب الذرات مع مثيلاتها في هيئة جسيمات أو مركبات لأكثر من عنصر وبقوانين الكون الكبير نفسها.
تطابق آخر و(كما فوق كما تحت) نسافر أبعد قليلًا، مليون سنة ضوئية مثلًا ونشاهد المجرات كلها وهي تدور حول بعضها بالقوانين نفسها، ونعود لنشاهد مجموعة الجسيمات والمركبات داخل حبة رمل واحدة على شط البحر!
لن أقولها ثانية.. أنت قلتها (كما فوق كما تحت) ولكن ما كل هذا الإبداع.
هكذا أستطيع الإدراك الآن أنّ بداخل كلّ حبة رمل هندسة ربانية تفوق الوصف، إنّ بداخلها عالمًا متكاملًا صاخبًا بالحركة الدائمة والمستمرة من دوران الجسيمات والإلكترونات وطاقة مهولة لا توصف بداخل كل نواة من المليارات لو توفر لها شروط الانفجار.
هل تتخيل أن ما تحدثنا عنه كان مجرد حبة رمل على شط البحر؟
وفجأة تفجر في رأسي العديد من التساؤلات.. أستطيع الآن فقط أن أرى الحقيقة بصورة أوضح.. هل تتخيل أنّ بداخل جسدك مليارات الذرات.. مليارات العوالم الصاخبة بالحركة والطاقة.
حتى بداخل ما تأكله وتشربه كل يوم نفس هذه العوالم الصاخبة.. في كل شيء حولك... سريرك الذي تنام عليه ومكتبك، وملابسك، وهذا الكتاب الذي تقرأه والحبر الذي كتب به تلك "الكلمة" فقط تحتوي على مليارات الذرات والعوالم الصاخبة بالحركة.
قلت لك لا تتعجل، فهنا فقط انتهت المقدمة.
هنا فقط انتهت الكلمات التي تتسم بالعقلانية ولا تتطرق للجنون.. ولنبدأ الآن كلام "المجانين"، مجرد أسئلة بسيطة جدًا ومشروعة.
إذا كانت وحدة الخلق والتطابق متواجدة في الكون كما في حبة الرمل على السواء وبالقوانين نفسها، كيف أمنع عقلي من تخيل أن هذا العالم الصغير جدًا (حبة الرمل) لا يحتوي على حياة مثل حياتنا!
هل لو استطعنا في يوم من الأيام اختراع ميكرويسكوب يستطيع تكبير الصورة مليارات المرات أكثر لن نتفاجأ!
أليس من الممكن أننا نبحث عن الحياة في الفضاء والكواكب من سنوات بينما الحياة طالما كانت متواجدة أمامنا في حبات رمل متناثرة هنا وهناك، تريليونات المجموعات الشمسية المتكاملة بكواكبها ولكن متناهية الصغر! بداخل تلك الحبات من الرمل، ومنها الصالح للحياة.
وذهب عقلي المجنون ثانية ليتخيل أن في هذه اللحظة ربما يجلس أحد المجانين الصغار في كوكب صغير داخل عالم حبة الرمل ويكتب مثلما كتبت، بل إنه قد يكتب هو الآخر عن حبة رمل أصغر "على شط بحره"!
ولعله يتعجب أيضًا من تطابق الخلق و(كما فوق كما تحت).. وكذلك إلى ما لا نهاية.
عوالم صغيرة داخل عوالم أكبر داخل عالمنا وعلى شط بحرنا، ولو كان هذا صحيحًا فإلى أي مدى وصلوا في الحضارة والتطور وما لديهم من علوم، هل يستطيعون الوصول إلى ما وصلنا إليه أم أننا نحن المتأخرين عنهم؟
هل لديهم مركبات فضائية تدور في فلك حبة الرمل؟
وهل لديهم أديان وحياة روحية وكتب سماوية ورسل؟
وهل لديهم شيطان صغير يوسوس لهم بالشر؟
هل يراودك شك أنَّ الله قادرٌ على خلق أشكال وأطوار عديدة من الحياة؟
أليس ذلك هو المنطق نفسه الذي نتقبل به وجود حياة أخرى خارج الأرض، في الفضاء، ليست المشكلة في الحجم إذن، أم إّنك ألفت شكل الفضائيين في الأفلام والسينما، بل إنّك أصبحت تنتظر فقط وصول من يشبههم.
ولو كان هذا صحيحًا أيضًا، إذن فلا بد أن يختلف معيار الزمن في هذا الكون الصغير عن معيارنا.
القانون نفسه ولكن بمعيار مختلف.
فالزمن عندنا يقاس بمعدلات دوران الأجسام، دوران الأرض حول نفسها.. ٢٤ ساعة أو يوم.. دورانها حول الشمس.. ٣٦٥ يومًا أو سنة وهكذا.. فهل تتخيل السرعة الهائلة لدوران إلكترون حول النواة باعتبارها الشمس عندما تصبح هي معيار(السنة) بالنسبة لهذا الكوكب الإلكترون!.
من الممكن أن يمر بضعة آلاف من السنين على كوكبهم في أثناء قرائتك لهذه "الكلمة" في ثانية واحدة على كوكبنا.
هل تريد إعادة قراءة السطر الأخير ثانية؟.. أنصحك بهذا.
هل قرأته مرة أخرى، إذن لقد مر على كوكبهم ١٠٠.٠٠٠ سنة أخرى
وإذا كان معيار الزمن يختلف على أرضهم فسيختلف بالتأكيد في إحساسهم!.
وفي اللحظة التي قرأت فيها الكلمة أيضًا، قد عاش ومات المليارات من تلك المخلوقات على كوكبهم وبدأت وانتهت حضارات شعوب وقصص كفاح أمم وصراعات وحروب وملايين الحكايات العاطفية السعيدة والحزينة ومليارات اللحظات الجميلة وآلاف المليارات من قصص الحب والأشعار.
لا يصيبك الدهشة! تستطيع المقارنة بين عمرك من بدايته لنهايته وبين عمر الكون.
قارن بين ٧٠ أو ٨٠ أو حتى ١٠٠ سنة، وبين ١٤ مليار سنة، وسوف تدرك ما قصدته بسهولة.
قارن بين مليارات عاشوا وماتوا على هذه الأرض منذ بداية وجود الإنسان وحتى الآن.
وتخيل كم تحتاج من أعمار على عمرك حتى تحاول التفكير في كل إنسان منهم لدقيقة واحدة، تتخيل قصة حياة كل فرد وأحلامه وطموحاته وآماله التي حققها والتي تحمّل من أجلها، وأحزانه، قصة حبّه التي لم تكتمل، وتلك التي اكتملت وعاشت سنين، وأطفاله الذين ولدوا وكبروا وأصبح لديهم قصص أكثر وصراعات ومآسي.. كل هذا ومثله مراتٍ لا حصر لها.
أصبح تحت الرمال وطي الكتمان وكأنه لم يوجد في يوم ما!
وأنا وأنت سنصبح هكذا في يوم من الأيام.
هل زالت عنك الدهشة الآن، أنا لست مجنون أو على الأقل هذا ما أظنه في نفسي!
لقد كانت مجرد فكرة فكرت فيها وقررت بعدها أن أتوقف عن التفكير لأن فكرتي وصلت بيّ إلى هلاوس غريبة ومخيفة.
فأثناء محاولتي بأن أتفلسف في حبة الرمل وأتخيل كل هذا العالم بداخلها
وكل هذه المخلوقات المسكينة الصغيرة جدًا.
خطر على بالي سؤال أهم.. هل ذلك العالم الذي نعيش فيه بكل شموسه ومجراته؟!
من الضروري أن يكون هو الكبير؟.. "إيه الغرور ده".
(مش برضه ممكن يكون حبايه رمل على شط بحر كبير في عالم أكبر)
وفجأة تذكرت صوت فؤاد المهندس ...
وهو يقول: مش كـــــــــده ولا إيــــــــه!