وقفت على رصيف محطة القطار في انتظار موعدي تحت تلك الإضاءة المُنبعثة من أعمدة الإنارة، ذلك الضوء الأصفر الباهت الذي لم أكن أحبه يومًا؛ لأنه يذكرني بأيامي الأولى، لكنه يروق لي الآن مِن أيّ وقتٍ مضى، لأنهُ يخفي الكثير.. الإضاءة الصفراء تساعدنا على رؤية الأشياء لكنها لا تساعدنا على كشفها ورؤيتها بوضوح، يضيء الأصفر لنرى وليس لنكتشف. كان كلّ شيء حولي باهت وبارد، المارة مِن حولي تمرّ وكأنه أجساد بلا روح، يشبهون (الموتى الأحياء) في حركتهم، الخطى الثقيلة والوجوه العابثة كلّ منهم يتحرك اتجاه نقطة يعرفها هو فقط، كما نشاهدهم على شاشة التلفاز في الأفلام، كلّ منهم يمر وهو يضع غطاءً على رأسه، خوفًا من "مرض الضوء"، هذا الغطاء الذي نظن أنه سيحمينا من الموت أو المرض، لكننا نجهل أننا نموت كلّ لحظة في أيّ وقت مِن كلّ يوم..
الجميع يعاني.. وكيف لا.. في ظلّ ما يحدث في هذا العالم؟
نحن صناعنا عالمًا قاسيًا، القليل من الاهتمام، الإفراط في مشاعر الحقد والغضب والألم.. لم نترك لنا ما يضمن إنقاذ أروحنا.. لم نكُن نعي جيدًا حقيقة الأمر كيّ نعلم أن الخوف من الإصابة بمرض الضوء ليس هو ما يفزعنا، كان هناك عدد من الأمراض المُشابهة، عدد من العلاقات التي تتفشى حين نسكت عنها؛ لأننا سمحنا لمخاوفنا وأوجاعنا، وأخلاقياتنا الملتوية بأن تُلزمنا الصمت، بينما يلاحق الموت كلّ صباح مشاعرنا.. كفانا توجيه اللوم، كفانا توجيهًا الاتهامات.. كفانا خلطًا بين من يبلغون الخسائر، ومن يتسببون بها.
تسلل صوت المذياع من إحدى البنيات الصغيرة الموجودة على زاوية الرصيف يحمل خبرًا:
(إنَّهُ في الحادي عشر من شهر سبتمبر القادم سيتم انقطاع الطاقة عن العالم لبثها إلى الفضاء في محاولة لاستعادة الشمس طاقتها من جديد.. التي غابت عنها مُنذ التغيرات المناخية الأخيرة)
تسمر الناس كأنهم جذور شجرةٍ عتيقةٍ أصلها ثابت في الأرض منذ قرون من الزمن، ورؤوسهم كفروع تأكل الطير منها، تنصتًا إلى ما يذاع، كان الخبر أشبه بطوق نجاة لنفوس غارقة وسط محيط من اللامبالاة والإحباط ظنًّا منهم أن الحياة سوف تعود إلى طبيعتها، أما أنا فكُنت أشبه قصبة خاوية تتأرجح وسط العاصفة، تحاول إلّا تسقط أمام مهب الريح.
نظرت إلى ساعة يدي الذكية بعد تنبيهها لي بأن موعد القطار قدّ تأخر، ربما يقيمون بإجراء الاحتياطات الاحترازية داخل عربات القطار استعدادًا للسفر، وإذا بي أسمع الصوت الداخلي لمحطة القطار عبر مكبرات الصوت تخبرنا "على السادة المُسافرين إلى قطاع الساحل الشمالي/ مدينة مرسى مطروح الاقتراب من الرصيف استعدادًا لدخول القطار إلى المحطة" ليتابعه بعد ذلك إشارة ضوء عربته الأولى مُدلًا على قدومه، اقتربت من الحافة وأنا أنظر إلى الرصيف في شرودٍ، وراودني عقلي قائلًا: ماذا لو هوت إحدى قدماك وسقطت في اللحظة التي يصل فيها القطار ليدهس جسدك تحت عرباته، حتمًا ستنتهي كل هذه الأشياء دُفعة واحدة دون أن تشعُر بشيٍء، أفقت من شرودي على دفعة الهواء التي جاءت مع قدوم القطار، وأنا أخبر نفسي: الموقف لم يعد يحتمل أكثر من ذلك، كل شيءٍ سينتهي قريبًا مثلما بدأ.
دخلت عربة القطار وأنا أتفقد رقم مقعدي، وقفت أمام المقعد أمسح رقم كود الكرسي الذي سأجلس عليه، فإذا بضوء أحمر جانب الكرسي يتحول إلى لون أخضر في إشارة أن هذا المقعد لي.. جلست وبعد دقائق معدودة بدأ القطار يتحرك، وإذا بصوت أحد الركاب يقول "اللهم ارفع عنا البلاء".
إنه الخوف أعرفه جيدًا، لقد عشت سنوات كثيرة وأنا أحاول إخفاءه، لكني لم أنجح قط.
كان نظري تائه على العالم الخارجي من نافذة القطار، وتدريجيًّا بدأت تتلاشى ملامح العمائر والبيوت على طول مسار القطار، إلى أن بهتت أضواء أعمدة الإنارة حتى اختفت، وكأن الظلام يبتلع القطار في سكون تام، هذا الظلام الذي يُشبه السواد القاتم بداخلي، النظر من النافذة أثناء التحرك بسرعة يُشعرني دومًا أني أريد التقاط الأشياء من حولي لكنني لا أستطيع لأنها ليست من حقي، أظن أن حياتي كلها كنت تحمل هذا المعني، أنظر إلى الأشياء ولا أحصل عليها.. وسط هذا السكون الذي لا يقطعهُ سوى صوت الهواء المرتطم بزجاج نوافذ القطار، تسللت من ذاكرتي صورة مريم لترتسم في الفضاء الشاسع وكأنها نجوم أهتدي بها، وأعرف من خلالها الطريق الذي عليّ أن أسلكه، هذه الغرفة المتواجدة في ركن من ذاكرتي، والباب الذي ظننت أنني أغلقته مُنذ سنواتٍ مضت، لكن أظن أني لم أحكم إغلاقه مما جعل الحنين يتسرب منه.
***
ظهر على المسرح وهو يلوح بيده بالتحية للجمهور وسط تصفيق هائل، مُبتسمًا كعادته، يشعر بحماسنا نحوه، فبعد انتهائنا من التصفيق، جلس على مقعد البيانو ونظر إلى الفرقة الموسيقية وأشار ببدء العزف، هدأت القاعة تمامًا مع أول نقرة منهُ على البيانو، كان يعزف المقطوعة الموسيقية التي طالما أحببتها مريم، ومع ظهور أول ملامح العزف نظرت إليها وأنا أقول: عارفة "مقطوعة عارفة"، لأرى ابتسامتها وهي تجلس بجانبي، تلك الابتسامة التي كلّما ارتسمت على وجهها تغيرت ملامح العالم، كأنها تخرجني من الظلمات إلى النور، كالواقف على أبواب الجحيم وبيدها هي فقط صكوك الغفران.. وبدأت تدندن مع نغمات الموسيقى كلمات الأغنية وهي تحمل هاتفها تصور المشهد..
عارفة
فرحة كبيرة وصوت مزيكا ف قلبي
وكأننا حبيبين اتقابلوا بعد فراق
ليه فجأة بقيت مستني لوحدي
بدي اتكلم وأحكيلك واشكيلك همي
كان قلبي يتراقص مع نبرة صوتها وكأنها أوتار تعزف بها على مشاعري، لم تكن المرة الأولى التي نحضر فيها معًا حفلة لعمر خيرت، لكنها كانت المرة الأخيرة، انتهى الجزء الأول من الحفل وخرجنا معًا إلى ساحة الانتظار المخصصة خارج القاعة، وقفنا نلتقط الصور التذكارية معًا..
– عارفة.. لم تكن هذه المرّة الأولى التي نحضر فيها الحفل، لكن لا أعلم لماذا أشعر كلّ مرّة بفرحة وسعادة المرة الأولى التي جئنا فيها إلى هنا.
نظرت إلي وهي تحرك بأصبعها خصل شعرها الهاربة على جبينها وهي تخبئها خلف أذنها.
– هذا حقيقي.. لا أعرف لماذا لا يصيبني الملل، على الرغم من أنك تعرف أنّي لا اهوى سماع الموسيقى دون كلمات.. لكن معك الأمر يختلف.. به مُتعة، أحصل عليها بمجرد الدخول إلى الأوبرا.. كلّ شيء هنا أنيق وجميل.
كانت الحياة في حضورها تتلون بها، وكأنها تضيف البهجة وتجذب الفرحة لكلّ شيء يدور في فلك وجودها.
قاطعتها وأنا أتغزل فيها على استيحاء.
– هذا لأن عيناكِ جميلتان.. هذا الجمال الذي ينعكس على كلّ شيء تبصريه.. فتجعلين للأشياء من حولك طعم مُختلف يُشبهك.
ابتسمت في خجل وهي تحرك بؤبؤ عينيها في اللاشيء مِن حولها.. كمحاولة منها لتجنب النظر إلى عيني مُباشرةً، وهي تقول:
– لا.. أنظر جيدًا من حولك.. فكلّ الأشياء هنا جميلةً ومُنظمةً.
– ربما.. لكن الأكيد هو أن العين دائمًا تعكس ما بداخلنا على ما نرى.. أؤمن أن العين نافذة تطل على أرواحنا من الداخل وليس من الخارج.. أو ربما أصدق أن في وجودك نُبصر الأشياء على حقيقتها، وكأنك عيناكِ تخلقها من جديد.
هربت ضحكةً منها وهي تقول:
– على الأرجح أن لجام لسانك قد انفك عقدته.. أين كنت تخبئ هذه الفلسفة والكلام الجميل، لا بد من أن موسيقى الحفل لها تأثير وبدأ مفعولها يظهر عليك الآن.
انكمشت داخلي في حركة لا إرادية، وشعرت فجأة بأني كسرت حدود نفسي في حضورها.. ثم حل صمت قصير، لتأخذني هي من نفسي وهي تقول:
– علينا أن نسرع في الدخول لقد أوشك الجزء الثاني على البدء، وعليك أن تتذكر جيدًا وعدك لي..
لأقاطعها وأنا أؤكد:
– أنني لن أحضر حفلة لعمر خيرت إلّا وأنتِ بصحبتي.
لتبتسم وهي تقول:
– حسنًا.. أنا أثق بك.
بعض الناس يشعلون النار في قلوب الآخرين، وهي كانت ماهرةً في ذلك.
***
انتهت الحفلة واتجهنا معًا إلى السيارة في ساحة الانتظار.. كانت تتكلم عن مدى سعادتها بأجواء الحفل، وكُنت أنا أسبح بين موجات صوتها، ورائحة عطرها المُتطاير من حولي مع لغة جسدها العفوية وهي تلوح بيديها في الهواء.. كان للزمن خفة في حضورها.
هذه اللحظات الرائعة حيث يُختزل العالم في شخص، لا نوجد إلّا من أجله ولأجله، نرتعش عندما نسمع وقع خطواته، وحين نسمع صوته، وتخور قوانا عندما نراه، ويصبح العالم من حولنا مشوش.
لم أكن أعرف الحُب من قبل، ربما لأنني لم أكن أؤمن به.. طيلة حياتي لم أدرك معنى أن تُحب شخص، لكن في حضورها دومًا يحدُث الفارق.
اللحظة التي أرادت أن أعيّد تكرارها آلاف المرات، ولو أن العالم سينتهي يومًا ما، فلماذا لم ينتهِ في تلك اللحظة؟ لأكون بجوارها عندما تحين النّهاية.
جلسنا داخل السيارة وبمُجرد أن بدأت بالتحرك.. قالت أريد أن أقول لكَ شيء، لكن لا أريد منك أن تقاطعني، أومأت برأسي مُجيب: حاضر، وامتلكني شعور بأنها ستبوح لي بحبها، هي تعلم تمامًا أن شخص مثلي لا يقوى على الاعتراف الأول، وربما عرفت هي بترددي الدائم، فقررت أن تخطوا هذه الخطوة بدلًا عني، في محاولة منها لانتزاع خوفي وكسر كل القيود التي قد وضعتها لنفسي مُنذ اللحظة الأولى التي التقينا فيها.. وجاءت كلماتها:
– أنا أعرف أنك تُحبني.. وأنا كذلك أحبك، لن أقول لك مثل أخي، هذا الكلام المتعارف عليه في تلك اللحظات.. أنت مُهم في حياتي، وأحب وجودي معك.. أنت تشعرني بالأمان والسعادة، لكن.. هناك آخر أحبه، أعلم أني لم أخبرك عنه من قبل، هذا لأن الأمور معه تسري بشكل مُعقد، لكني شعرت أن عليك أن تعلم حقيقة مشاعري نحوك.
مع كلّ كلمة تخرج منها، كانت تتزايد نبضات قلبي وكأنها طبول تقرع، لتعلن هزمي في حرب لم أكن أنوي أن أخوضها، أصبت بخرس مؤقت، لم أقو على نطق كلمة لمقاطعتها كُنت فقط أومئ برأسي وهي تتحدث، وكأني واقف على حافة الجحيم في انتظار أن يلقوا بهِ للتوّ إلى الأعماق في محاولة للتخلص من الترقب والألم الذي يشعر بهِ.
***
قاطع شرود حنيني.. صوت المُسافر الجالس على مسافة كرسي فارغ بجانبي، وهو يتطلع إلي بعد أن انتهى للتوّ من النظر إلى هاتفهِ المحمول..
– هل تعتقد أنهم يستطيعون أن يعيدوا للشمس طاقتها من جديد كما يقولون، أما هذه نهاية العالم كما يشاع؟
نظرت إليهِ مُستسلمًا مُحاولًا تجنب الإجابة عليهِ، ليته يعلم أن نهايتي قدّ عشتها من قبل مُنذ اللحظة التي لم يعد لي الحق أن أكون بصحبة مريم، لكن نظرتهُ لي كانت توحي بأنه ينتظر مني ردًا، كأنه أراد طوق نجاة وسط أمواج عالية عسى أن يفلّت من الغرق، لكنه لا يعلم أن من ينتظر منه يدًا العون هو غارق في الأساس، لأنظر لهُ وبإيماءة من وجهي - لا أدري - وأنا أحرك كتفي للأعلى.. كُنت أود أن أشرح لهُ القصة كاملةً وأخبره كيف النجاة؟ لكن ليس هناك جدوى من كلّ ما نحاول العيش من أجلهِ، وبعد أن فقدّ اهتمامي لهُ عادة ينظر إلى هاتفهِ مُجددًا.
وصل القطار إلى محطته الأخيرة، نزلت من العربة وكانت المحطة شبه خاوية، فمَن الذي سيأتي إلى مدينة كمرسى مطروح في هذه الأوقات التي يمرّ بها العالم، غير مُسافر عائد إلى أهله ليشهد بجانبهم ما الذي سيحدث خلال الأيام القليلة القادمة، أو ربما تائه مثلي يبحث عن ملجأ، عسى أن يجد النجاة، فالمدينة ما هي إلّا مُجرد منطقة سياحية على أطراف الجهة الشمالية الغربية من مصر، بعيدًا عن صخب العاصمة، كانت ملاذًا للمصيفين قبل أعوام، أما الآن فهي نقطة صماء كالكثير من الأشياء التي تُنسى طالما لم نعد نجد فيها شيئًا نحتاج إليهِ.
حملت حقيبة الظهر وأخرى كنت أجرها خلفي وأحتفظ بملابسي داخلها،اتجهت إلى باب المحطة وأمسكت هاتفي أطلب سيارة أجرة، وبعد دقائق معدودةٍ وصلت السيارة، ركبت وأنا أخبر السائق بالمكان الذي أريد الذهاب إليه، وعلى طول الطريق كنت أراقب بتمعن كيف تبدلت الأحوال، وكيف تبدو الأيام قاسيةً علينا؟
فيما مضى كان الزمن يحمل الكثير من الليالي التي ظننا فيها أن الدنيا ستقدم لنا الكثير من السعادة الموجودة في هذا العالم، لكن كعادة الأيام السعيدة سريعًا ما تتطاير كالكحول في الهواء لتبقى منها ذكرى معلقةً في عقولنا.. يدفعنا فقط الحنين من وقت إلى أخرى لاستعادتها، فتذكرت قول أحدهم: لو أعادوا لنا الأماكن كيف يمكنهم أن يعيدوا لنا الرفاق؟
لم أتطلع إلى حديث السائق، كُنت تائهًا بين خلايا عقلي وأنا أحمل جهازي الصغير المُتصل بحقيبة الظهر، لكنهُ لم يكن ينتظر مني ردًا، فقط.. أراد أن ينفس عن مشاعر القلق التي بداخله وهو يفكر بصوت عالٍ، كان يريد أن يطمئن روحه أن كلّ شيء سيمرّ بخير.