artherconan

Share to Social Media

هولمز، » : قلتُ بينما كنتُ واقفًا ذات صباح أمام نافذتنا الناتئة المُدوَّرة أنظر إلى الشارع
«. يوجد رجل مجنون في الشارع. إنه لمن المحزنِ حقٍّا أن يسمح له أقاربه بالخروج وحده
نهض صديقي من كرسيه ذي الذراعين بتكاسُلٍ ووقف واضعًا يديه في جيبَي رداء
نومه وأخذ ينظر من فوق كتفي. كان صباح أحد أيام شهر فبراير، وكان مُشرقًا وباردًا،
وكانت ثلوج اليوم السابق لا تزال موجودة على الأرض بكثافة وتلمع بإشراقٍ في شمس
الشتاء. أما في وسط شارع بيكر، فقد جرف مرور العربات الثلوج حتى صارت شريطًا
بُنيٍّا مُفكَّكًا، وعلى الرغم من ذلك، فقد ظلَّت الثلوج الموجودة على جانبَي الطريق والمتراكمة
على حوافِّ مسارات المشاة بيضاءَ اللون كما هي. كان الرصيف الرمادي قد نُظِّفَ وكُشِطَت
من عليه الثلوج، ولكنه كان لا يزال زلقًا بنحوٍ خطير؛ لذا كان عدد المارَّة أقلَّ من المعتاد.
في الواقع، لم يكن هناك أي شخصقادم من ناحية محطة مترو الأنفاق سوى هذا الرجل
الذي لفت سلوكه الغريب انتباهي.
كان رجلًا يبلغ من العمر خمسين عامًا تقريبًا، طويل القامة وبدينًا، ذا وجه ضخم
واضح المعالم وهيئة مهيبة. وكان يرتدي ملابسَ داكنة ولكنها أنيقة. كان يرتدي معطفًا
أسودَ طويلًا، وقبعةً لامعة، وزوجًا بنيٍّا أنيقًا من الجراميق، وسروالًا مُفصَّلًا جيدًا لونُه
رمادي فاتح. إلا أن تصرفاته كانت غريبةً وتتناقض مع ملابسه الأنيقة الغالية وملامحه
المهيبة؛ فقد كان يركض بقوةٍ ويَثِب وثباتٍ صغيرةً بين الحين والآخر مثلما يفعل رجلٌ
مُرهَق غير معتادٍ على أن يُرهِق ساقيه. وبينما كان يركض، كان يهُزُّ يديه لأعلى ولأسفل،
ويهُزُّ رأسه، ويلوي وجهه بانقباضاتٍ غير عادية.
«. ماذا به بحق السماء؟ إنه يحملق في أرقام المنازل » : تساءلت قائلًا
مغامرة تاج الزمرد
«. أعتقد أنه سيأتي إلى هنا » : قال هولمز وهو يفرك يديه
«؟ هنا »
أجلْ، أعتقد أنه سيأتي طالبًا مساعدتي المهنية. إنني أعرف الأمارات. هه! ألم »
بينما كان هولمز يتحدث، اندفع الرجل نحو بابنا، وهو ينفخ ويتأفَّف، ودقَّ «!؟ أخبرك
الجرس حتى ضج المنزل بأكمله بالرنين.
بعد لحظاتٍ قليلة، كان في غرفتنا وهو ما يزال ينفخ متأفِّفًا ويومِئ بيديه، ولكن
استقرت في عينيه نظرةُ حزن ويأس لم تلبث أن حوَّلت ابتساماتنا إلى رعبٍ وشفقة. لم
يتمكَّن من الكلام لبعض الوقت، ولكنه كان يتمايل بجسمه ويشُدُّ شَعره وكأنه أصُيب
بأقصىدرجات الجنون. ثم انتصب واقفًا على قدميه فجأة وضرب رأسه في الحائط بقوة
شديدة، فهُرِعْنا نحوه وجذبناه إلى منتصف الغرفة. دفعه شيرلوك بقوةٍ إلى كرسيٍّ مريح،
ثم جلسبجانبه وأخذ يُربِّت على يده ويتحدَّث معه بالنبرة الهادئة المريحة التي كان يعرف
جيدًا كيف يوظِّفها.
لقد أتيتَ لتُخبرني بقصَّتك، أليس كذلك؟ لقد أرهقك تعجُّلُك؛ لذا أرجوك أن تنتظر »
حتى تلتقط أنفاسك، وبعد ذلك سأكون سعيدًا للغاية لأن أساعدك في أي مسألةٍ قد تَعرضها
«. عليَّ
جلس الرجل لدقيقة أو أكثر وهو يتنفَّس بقوة ويحاول أن يتمالك نفسه. ثم مسح
جبهته بمنديله وزمَّ شفتيه وأدار وجهه نحونا.
«؟ لا شكَّ في أنك تظن أنني مجنون، أليس كذلك » : وقال
«. أرى أنك تواجه مشكلة كبيرة جدٍّا » : فردَّ هولمز قائلًا
بكل تأكيد! يعلم الربُّ أنها مشكلة قادرة على أن تُذهِب عقلي بالكامل، ويعلم كم »
هي مفاجئة ورهيبة. كان من الممكن أن أواجه فضيحةً عامة، على الرغم من أنني رجل لم
تَشُبْ سمعتَه شائبةٌ حتى الآن، كما أن المصائب الشخصية هي قدَرُ الجميع. ولكن أن تأتي
المصيبتان معًا، وبهذه الصورة المرعبة، فقد كان ذلك كافيًا أن يُزلزل وجداني. وإلى جانب
ذلك، فلست أنا وحدي من سيَلحق به الأذى؛ فأنبل رجل في البلد قد يتأثَّر ما لم تكن هناك
«. طريقة للخروج من هذه المصيبة المروِّعة
أرجو أن تتمالك نفسك يا سيدي، وأعطني نبذة واضحة عن هويتك وعما » : قال هولمز
«. أصابك
ربما يكون اسمي مألوفًا لك. أنا ألكسندر هولدر، من مؤسسة » : أجاب زائرنا قائلًا
«. هولدر وستيفينسون المصرفية التي مقرُّها في شارع ثريدنيدل
كان الاسم معروفًا لنا بلا شك؛ فقد كان اسم الشريك الأكبر في ثاني أكبر مصرف
خاص في مدينة لندن. فما الذي يمكن أن يكون قد حدث إذن ليجعل واحدًا من أبرز
مواطني لندن في هذه الحالة الأكثر إثارة للشفقة على الإطلاق؟ انتظرناه بكل فضول حتى
استجمع قواه مرةً أخرى ليبدأ في رواية قصته.
أعتقد أن عامل الوقت مهم؛ لذا سارعت بالقدوم إلى هنا عندما اقترح مفتش » : وقال
الشرطة أن أسعى للحصول على مساعدتك. لقد أتيت إلى شارع بيكر عبْر مترو الأنفاق،
ومن هناك مشيت مسرعًا إلى هنا لأن عربات الأجرة تسير ببطء عبْر هذه الثلوج. لذلك كنت
ألهث؛ فأنا لا أمارس الرياضة كثيرًا. على أية حال، أشعر بتحسُّن الآن، وسأضع الحقائق
أمامك بأكثر قدْر ممكن من الاختصار والوضوح.
أنت تعلم جيدًا بالطبع أن العمل المصرفي الناجح يعتمد على قدرتنا على إيجاد
استثمارات مجزية لأموالنا بقدْرِ ما يعتمد على توسيع شبكة علاقاتنا وعدد المُودِعين لدينا.
وإحدى أكثر وسائلنا تحقيقًا للربح هي القروض التي تكون درجة الأمان فيها عالية.
لقد حققنا الكثير في هذه الناحية خلال السنوات القليلة الماضية، وقد أقرضنا مبالغ كبيرة
للعديد من العائلات النبيلة بضمان لوحاتها أو مجموعات كُتُبِها أو مقتنياتها الثمينة.
كنت جالسًا في مكتبي بالمصرف صباح أمس عندما أحضرأحد الموظفين إلى مكتبي
بطاقة شخص. جفلتُ عندما رأيت الاسم؛ لأنه لم يكن سوى اسم — حسنًا، من الأفضل ألا
أقول، حتى لكَ، أكثرَ من أنه اسم معروف في جميع أنحاء العالم — أحد أنبل وأرقى وأرفع
الأسماء في إنجلترا. لقد أربكنيشرف مقابلته، وحاولت عندما دخل أن أعُبِّر عن ذلك، ولكنه
تطرَّق إلى أمور العمل مباشرةً، بأسلوب رجل يرغب في إنهاء مهمة مزعجة بسرعة.
«. سيد هولدر، علمتُ أنكم معتادون على إقراضالأموال » : وقال
«. يقوم المصرف بذلك عندما تكون الضمانة جيدة » : فرددت عليه قائلًا
من الضروري للغاية بالنسبة إليَّ أن أحصل على خمسين ألف جنيه إسترليني على »
الفور. يمكنني بالطبع أن أقترضعشرة أضعاف هذا المبلغ الزهيد من أصدقائي، ولكنني
أفضِّل أن يكون هذا الأمر رسميٍّا، وأن أقوم به بنفسي. يمكنك أن تتفهم بسهولة أنه من
«. غير الحكمة لرجلٍ في مكانتي أن يضع نفسه تحت التزاماتٍ كهذه
«؟ إن كان لي أن أسأل، لِكم من الوقت تريد هذا المبلغ » : سألته
سأتسلَّم مبلغًا كبيرًا مستحقٍّا لي يوم الإثنين القادم، وعندئذٍ سأسدِّد لك بلا شك كلَّ »
ما ستُقرضه لي بأي نسبة فائدة تجدها مناسبة. ولكن من الضروري للغاية لي أن تُقرضني
«. المبلغ على الفور
كان سيسعدني أن أقرضك المبلغ من مالي الخاص دون أي حاجة للمزيد من »
المفاوضات لو لم يكن ذلك سيشكِّل عبئًا شديدًا لا يمكنني تحمُّله. وعلى الجانب الآخر، لو
فعلت ذلك تحت اسم المصرف، فإذن من باب إحقاق الحق لشريكي لا بد أن أصُر، حتى في
«. حالتك، أن نتخذ كل الاحتياطات العملية الممكنة
ردَّ وهو يرفع حقيبةً سوداء مربعة مصنوعة من جلد السختيان كان قد وضعها
هذه هي الطريقة التي أفضِّلها تمامًا. لقد سمعتَ بلا شك عن تاج الزمرد، » : بجانب كرسيه
«؟ أليس كذلك
«. إنه واحد من أثمنِ ممتلكات الإمبراطورية العامة »
ثم فتح الحقيبة وكانت تستقر داخلها في مساحةٍ من المخمل الناعم ذي «. بالضبط »
يحتوي التاج » : اللون الوردي قطعةُ المجوهرات النادرة التي حدَّثني عنها. وأردف قائلًا
على تسعٍ وثلاثين زمردة ضخمة، أما النقوش الذهبية فلا تُقدَّر بثَمن. إن أقل تقدير لقيمة
«. التاج يساوي ضِعف المبلغ الذي طلبته منك. وأنا مستعد لترْك التاج بحوزتك كضمانة
أخذت الحقيبة الثمينة في يديَّ ونظرت إليها ثم إلى عميلي الشهير ببعضالحيرة.
«؟ هل تشك في قيمته » : فسألني قائلًا
«… لا إطلاقًا، أنا فقط أتساءل »
تتساءل بشأن مدى مناسبة تركه لديك. يمكنك أن تطمئن حيال هذا الأمر، لم أكن »
لأفكر في ذلك إن لم أكن على أتم اليقين من أنني سأتمكَّن من استرداده خلال أربعة أيام.
«؟ إنه مجرد إجراء شكلي. هل الضمانة كافية
«. تمامًا »
أنت تفهم بالطبع يا سيد هولدر أنني أعطيك دليلًا قويٍّا على ثقتي بك المبنية على كلِّ »
ما سمعتُه عنك. أنا أعتمد عليك ليس فقط في التكتم وفي الامتناع عن أي قيلٍ وقال في هذه
المسألة، وإنما أيضًا، وقبل كل شيء، في الحفاظ على هذا التاج بكل الاحتياطات الممكنة؛ إذ
إنني لست بحاجةٍ للقول إنه إذا لحق أيضرر به، فسينتج عن ذلك فضيحة عامة. إن أي
ضرر سيصيبه سيكون على نفسالقدْر من خطورة فقدانه بالكامل؛ إذ إنه لا توجد أحجار
زمرد في العالم كله تضاهي هذه الأحجار، وسيكون من المستحيل استبدالها. على أية حال،
«. سأتركه معك وأنا كلي ثقة بك، وسآتي لتسلُّمِه شخصيٍّا صباح يوم الإثنين
عندما رأيت أن عميلي كان يتعجَّل المغادرة، لم أقل أي شيء واستدعيت الصرَّاف
وأمرته بصرف خمسين ألف جنيه إسترليني. ومع ذلك، بعدما صرت وحدي مرة أخرى
مع هذه الحقيبة الثمينة الموضوعة على الطاولة أمامي، لم يسعني سوى التفكير بشيء من
الخوف في المسئولية الهائلة التي ألقتها هذه الحقيبة على عاتقي. فلم يكن هناك أدنى شكٍّ
أنه إذا لَحِق أيُّضرر بملكية قومية كهذه، فسيتسبب ذلك في فضيحةٍ مروِّعة. لقد ندمت
بالفعل على موافقتي على تولي مسئولية هذا الأمر. ولكن كان الأوان قد فات لتغيير أيشيء؛
لذا فقد أغلقت على الحقيبة في خزانتي الخاصة وعُدت إلى العمل مرة أخرى.
عندما حل المساء، شعرت أنه سيكون من التهور أن أترك شيئًا ثمينًا كهذا في مكتبي
وأغادر. لقدسُرقت خزانات مصرفيين آخرين من قبل، فلمَ ستكون خزانتي استثناءً؟ وإن
حدث ذلك، فلا يمكنني تخيُّل كم سيكون الوضع الذي سأجد نفسي فيه رهيبًا! لذا قررت
أنني خلال الأيام القليلة المقبلة سأحمل الحقيبة معي دائمًا ذهابًا وإيابًا حتى لا تغيب عن
ناظري أبدًا. وهكذا، استقللتُ عربةَ أجرةٍ وتوجَّهت إلى منزلي في ستريتام وأنا أحمل الكنز
الثمين معي. لم أتنفَّس الصُّعداء إلا عندما صعدتُ إلى الطابق العلوي بمنزلي، ووضعته في
مكتب غرفة ملابسي وأغلقته عليه.
والآن يا سيد هولمز سأعطيك نبذةً عن الأفراد المقيمين في منزلي لأنني أريدك أن تكون
مُلِمٍّا بالوضع جيدًا. ينام سائسي وخادمي خارج المنزل، ويمكن استثناؤهما من الشكوك
تمامًا. لديَّ ثلاث خادمات يعملن عندي منذ عدة سنوات وأثق بهن ثقةً مطلقة. وهناك
خادمة أخرى تُدعى لوسيبار تعمل عندي ولم يمرَّ على وجودها سوى بضعة أشهر، ولكن
طباعها ممتازة وأنا راضٍتمامًا عن عملها. إنها فتاة جميلة للغاية، وقد جذبت الكثير من
المعجبين الذين يحومون حول المنزل بين الحين والآخر. هذا هو العيب الوحيد الذي وجدناه
فيها، ولكننا نعتقد أنها فتاة جيدة بكل المقاييس.
هذا فيما يخص الخدم. أما عائلتي نفسها فهي عائلة صغيرة للغاية، حتى إنني لن
أستغرق الكثير من الوقت لوصفها. أنا أرمل ولدَيَّ ابن وحيد، آرثر. إنه يمثِّل خيبةَ أمل
بالنسبة إليَّ، يا سيد هولمز — خيبة أمل كبيرة. وليس لديَّ أدنى شكٍّ في أنني المسئول عن
ذلك. يقول لي الناس إنني أفسدته، وهو ما قد فعلته على الأرجح. فعندما تُوفيت زوجتي
العزيزة، شعرت أنني يجب أن أوجِّه كلَّ حبي إليه. فلم أستطع تحمُّل رؤية الابتسامة
تتلاشى ولو للحظة من وجهه. ولم أرفض له طلبًا أبدًا. ربما كان من الأفضل لكلينا لو
كنت أكثرَ حزْمًا، ولكنني كنت أقصد خيرًا.
كنت أعتزم بطبيعة الحال أن يخلفني في عملي، ولكنه لم يكن يميل إلى العمل. لقد
كان جامحًا وصعب الِمراس، ولكي أكون صريحًا، لم أستطع الوثوقَ به في التعامل مع
مبالغ كبيرة من المال. عندما كانصغيرًا،صار عضوًا في نادٍ أرستقراطي، ولتمتعه بأسلوب
ساحر، سرعان ما أصبح صديقًا مقرَّبًا لعدد من الرجال الأثرياء المبذِّرين. تعلَّم أن يلعب
القمار بكثرة وأن يهدر المال على سباقات الخيل، حتى إنه كان يأتيني مرارًا وتكرارًا
متوسِّلًا أن أعطيه سلفة من مخصصاته المالية حتى يسدد ديونه التي تعهَّد بشرفه أن
يسدِّدها. حاول أكثرَ من مرة الابتعاد عن أصدقاء السوء الذين كان يرافقهم، ولكن في كل
مرة كان تأثير صديقه السير جورج بيرنويل كافيًا لأن يعود إلى رفقتهم مرة أخرى.
وقطعًا لم يكن من الغريب بالنسبة إليَّ أن يكون لرجلٍ كالسير جورج بيرنويل تأثيرٌ
كهذا على آرثر؛ فقد كان يُحضره إلى منزلي باستمرار، وكنت أجد أنني بالكاد أستطيع
مقاومة أسلوبه الساحر. إنه يكبر آرثر، وهو رجل محنَّك بكل معنى الكلمة، سافر إلى
أماكن عديدة واكتسب خبرات كبيرة، وهو متحدث بارع، وشخص يتمتع بجمال شخصي
هائل. ومع ذلك، عندما أفكر فيه بحيادية بعيدًا عن حضوره الساحر، أقتنع من حديثه
الساخر ومن النظرة التي لمحتها في عينيه أنه شخص لا يمكن الوثوق به إطلاقًا. هذا هو
رأيي الذي توافقني عليه ماري الصغيرة، والتي تتمتع بالنظرة التحليلية الثاقبة لشخصيات
البشر التي تُميز النساء.
والآن إنها هي الوحيدة المتبقية لأتحدث عنها. إنها ابنة أخي، ولكنني توليت رعايتها
عندما مات أخي قبل خمس سنوات وتركها وحيدة في العالم، ومنذ ذلك الحين أعتبرها
ابنتي. إنها شعاعضوء يُشرق في منزلي؛ فهي لطيفة ومحبة وجميلة، ومديرة ومدبِّرة منزل
رائعة، وفي الوقت نفسه رقيقة وحنونة وهادئة كما يجب أن تكون المرأة. إنها ساعدي
الأيمن، لا أعرف ما الذي كنت سأفعله بدونها. لم تعارضني قطُّ سوى في أمر واحد؛ فقد
طلب ابني الزواج منها مرتين، فهو يحبها بشدة، ولكنها رفضت طلبه في المرتين. أعتقد أنه
إن كان يمكن لأي شخص أن يعيده إلى طريق الصواب، فستكون هي، وأن زواجه منها
كان من الممكن أن يُغيِّر حياته بأكملها، ولكن للأسف! لقد فات الأوان، فات الأوان إلى الأبد!
والآن يا سيد هولمز أنت تعرفمَن يعيشون تحت سقفمنزلي، وسأواصلسرد قصتي
البائسة.
عندما كنا نحتسيالقهوة في غرفة الجلوستلك الليلة بعد العشاء، أخبرت آرثر وماري
بما حدث وبالكنز الثمين الموجود في منزلنا، ولكن الشيء الوحيد الذي لم أقله كان هو اسم
عميلي. لوسي بار، التي كانت قد أحضرت القهوة، كانت قد غادرت الغرفة بالفعل قبل أن
أخبرهما بهذا؛ أنا متأكد من ذلك، ولكن لا يمكنني الجزم أن الباب كان مغلقًا. ماري وآرثر
كانا مهتمَّين بالأمر، وكانا يرغبان في رؤية التاج الشهير، ولكنني اعتقدت أنه من الأفضل
ألا أعبث به.
«؟ أين وضعته » : سألني آرثر
«. في مكتبي الخاص »
«. حسنًا، أدعو الرب ألا يُجرى السطو على المنزل أثناء الليل » : فقال
«. إنه محكم الغلق » : رددت قائلًا
أوه، يمكن لأي مفتاح قديم أن يفتح قفل هذا المكتب. عندما كنت صغيرًا فتحته »
«. بنفسي بمفتاح خزانة غرفة التخزين
عادة ما كان يتكلم بأسلوب جامح؛ لذا لم أعِر انتباهًا إلى ما قاله. ومع ذلك، فقد
تبعني إلى غرفتي في تلك الليلة ووجهه شديد العبوس.
انظر، يا أبي، هل يمكنك أن تعطيني مائتي جنيه » : قال وهو ينظر إلى الأرض
«؟ إسترليني
لا، لا يمكنني! لقد كنت شديد الكرم معك حتى الآن فيما يتعلق بالأمور » : أجبته بحدة
«. المالية
لقد كنت شديد اللطف، ولكني لا بد أن أحصل على هذا المبلغ، وإلا فلن أتمكن » : فقال
«. من الظهور أبدًا داخل النادي مرة أخرى
«! وهذاشيء جيد للغاية » : صحت قائلًا
أجل، ولكنك لن تجعلني أتركه وأنا مُهان. لا يمكنني تحمُّل العار. لا بد أن أحصل »
«. على المبلغ بطريقةٍ ما، وإن لم تسمح لي بالحصول عليه، فلا بد أن أجرِّب طرقًا أخرى
كنت أستشيط غضبًا؛ إذ إنها كانت المرة الثالثة خلال الشهر التي يطلب فيها مالًا.
فانحنى وغادر الغرفة دون أن يقول «! لن تحصل مني على بنسواحد » : صحت قائلًا
كلمة أخرى.
عندما غادر، فتحت مكتبي وتأكدت أن كنزي كان آمنًا ثم أعدتُه وأغلقت مكتبي مرة
أخرى. بعد ذلك بدأت أتجول في المنزل لأتأكد من أن كلشيء كان آمنًا — وهي مهمة عادة
ما أتركها لماري، ولكنني فكَّرت أنه من الجيد أن أؤديها بنفسي في تلك الليلة. وبينما كنت
أنزل على الدَّرَج، رأيت ماري تقف عند النافذة الجانبية للردهة، ولكنها أغلقتها وأوصدتها
عندما اقتربت منها.
أخبِرْني يا أبي، هل أذنت » : قالت وهي تبدو منزعجة بعض الشيء، حسبما اعتقدت
«؟ للوسيالخادمة أن تخرج الليلة
«. بالطبع لا »
لقد دخلت للتو من الباب الخلفي. ليس لدي أدنى شك أنها خرجت فقط إلى البوابة »
«. الجانبية لترى شخصًا ما، ولكني أعتقد أنه تصرُّف خَطِر ولا بد من إيقافه
لا بد أن تتحدثي إليها في الصباح، أو سأتحدث أنا معها إن كنتِ تفضلين ذلك. هل »
«؟ أنتِ متأكدة من أن كلشيء موصَد
«. متأكدة تمامًا يا أبي »
قبَّلتها وصعدت إلى غرفة نومي مرة أخرى وسرعان ما «. تصبحين على خير إذن »
استغرقت في النوم.
إنني أحاول أن أخبرك بكلشيء قد يكون له أي علاقة بالقضية يا سيد هولمز، ولكني
«. أرجوك أن تستوقفني عند أي نقطة لا أوضحها وتسألني فيها
«. على العكس، كلامك واضح بنحو فريد » : ردَّ هولمز قائلًا
لقد وصلت إلى نقطةٍ في قصتي أود أن أكون واضحًا فيها بهذا النحو على وجه »
الخصوص. أنا لا أنام بعمق عادة، كما جعل القلق نومي، بلا شك، أقل عمقًا مما هو
عليه في المعتاد. لذا، في حوالي الساعة الثانية صباحًا، استيقظت على صوتٍ في المنزل. ولكنه
توقَّف قبل أن أستيقظ تمامًا، إلا أنه ترك أثرًا كما لو أن إحدى النوافذ قد أغُلِقَت بخفةٍ في
مكانٍ ما. رقدت أنصت بدقة. فجأة، لفزعي، كان هناك صوتٌ واضحٌ لوقْع أقدامٍ تتحرك
بهدوء في الغرفة المجاورة. نزلت من السرير وقلبي يدق خوفًا، واختلست النظر عند زاوية
باب غرفة ملابسي.
«؟ آرثر! أيها الشرير! أيها اللص! كيف تجرؤ على لمس التاج » : صرخت قائلًا
كان مصباح الغاز نصف مضاء، كما تركته، وكان ابني التَّعيس الذي كان يرتدي
فقط قميصًا وسروالًا، يقف بجانب الضوء وهو يمسك التاج في يديه. كان يبدو أنه يحاول
انتزاع شيء منه، أو أنه كان يَثنيه بكل قوَّته. وعندما سمعصراخي، أسقطه من قبضته
واستدار نحوي بوجه شديد الشحوب. التقطته من الأرض وفحصته، ووجدت أن أحد
الأركان الذهبية، بزمرداته الثلاث، كان مفقودًا.
أيها الحقير! لقد دمرتَه! لقد شوَّهت سُمعتي إلى الأبد! » : صرخت وأنا في قمة الغضب
«؟ أين الجواهر التيسرقتها
«! سرقتها » : صاح قائلًا
«! أجل، إنك لص » : صرخت وأنا أمسك بكتفيه وأهزهما
«. ليس هناك أي أحجار مفقودة. لا يمكن أن يكون هناك أيشيء مفقود » : ردَّ قائلًا
توجد ثلاث زمردات مفقودة، وأنت تعلم أين هي. هل لا بد أن أنعتك بالكاذب إلى »
«؟ جانب كونك لصٍّا؟ ألم أرَك وأنت تحاول انتزاع قطعة أخرى
لقد أهنتَني بما يكفي، لن أتحمل هذا الوضع بعد الآن. لن أقول أي شيء عن » : فقال
«. هذا الأمر بما أنك اخترت أن تهينني. سأغادر منزلك في الصباح وسأشق طريقي وحدي
ستغادره بصحبة الشرطة! سأطلب » : صرخت بجنون ممزوج بالحزن والغضب قائلًا
«. التحقيق في هذا الأمر حتى أصل إلى منتهاه
لن تعرف أي شيء مني. إن اخترت » : قال بانفعالٍ لم أكن أظن أنه جزء من طبيعته
«. أن تتصل بالشرطة، فلْتفعل، ولْتدعهم يكتشفون ما يمكنهم اكتشافه
بحلول هذا الوقت كان المنزل كله قد استيقظ؛ إذ إنني كنت قد رفعت صوتي أثناء
غضبي. ماري كانت هي أول مَن سارع إلى غرفتي، وعند رؤية التاج ووجه آرثر، فهمت
المسألة كلها وصرخت ثم سقطت على الأرضمغشيٍّا عليها. أرسلتُ الخادمة لتُحضرالشرطة
ووضعت مسألة التحقيق في أيديهم على الفور. عندما دخل المفتشوالشرطي المنزل، سألني
آرثر الذي كان يقف عابسًا وهو عاقد ذراعيه، عما إن كنت أنوي توجيه الاتهام بالسرقة
إليه. أجبت أنه لم يَعُد أمرًا خاصٍّا، وأنه أصبح عامٍّا لأن التاج المدمَّر ملكية قومية. كنت
مصممًا على أن يتخذ القانون مجراه في كلشيء.
على الأقل، لن تجعلهم يلقون القبضعليَّ في الحال. سيكون من مصلحتك » : قال آرثر
«. ومصلحتي أن أغادر المنزل لخمس دقائق
ولكن عندئذٍ، «. تغادر المنزل كي تهرُب، أو ربما كي تخفي ماسرقته » : فأجبته قائلًا
وبعد أن أدركت الموقف المخيف الذي وُضِعت فيه، توسَّلت إليه أن يتذكر أنْ ليست سمعتي
فقط، بل سمعة مَن هو أعظم مني بكثير، كانت معرضة للخطر، وأنه يهدِّد بإثارة فضيحة
من شأنها أن تهزَّ الأمة بأكملها. إنه يمكن أن يتجنَّب كل ذلك فقط إن أخبرني بما فعله
بالأحجار الثلاثة المفقودة.
يمكنك أن تواجه الأمر كذلك؛ فقد قُبِضَعليك متلبسًا، ولا يمكن لأي اعتراف » : وقلت له
أن يجعل ذنبك أكثر بشاعة. فقط إن أصلحت الوضع بما هو في وُسعك، وهو أن تخبرنا
«. عن مكان الأحجار، فسأنسى الأمر برُمَّته وأغفره لك
هكذا أجاب وهو يبتعد عني بابتسامة ساخرة. لقد «. احتفظ بمغفرتك لمن يطلبها »
رأيت أنه شديد القسوة بحيث لن يؤثر فيه شيء مما أقول. لم يكن هناك سوى طريقة
واحدة للتعامل معه. دعوت المفتشوسلَّمته إليه. فُتِّشعلى الفور، وليسهو شخصيٍّا فقط،
بل غرفته وكل جزء من المنزل من الممكن أن يكون قد خبأ الجواهر فيه، ولكن لم يُعثَر
على أي أثر لها، ورفض الشاب البائس أن ينبس ببنت شفة على الرغم من كل محاولات
إقناعنا وتهديدنا. لقد نُقِلَ هذا الصباح إلى السجن، وبعد أن أتممتُ كافة الإجراءات الرسمية
للشرطة، هُرِعْتُ إليك لأتوسل إليك أن تستخدم كل مهاراتك في كشف المسألة. لقد اعترفت
الشرطة بوضوحٍ أنهم لا يستطيعون تبيُّنَ أي شيء في القضية في الوقت الحالي. يمكنك أن
تطلب ما تشاء من المال وفق ما تراه ضروريٍّا. لقد عرضت بالفعل مكافأة قدرها ألف
جنيه إسترليني. يا إلهي، ماذا أفعل؟! لقد فقدت سمعتي والأحجار الكريمة وابني في ليلة
«!؟ واحدة. أوه، ماذا أفعل
وضع يديه على جانبي رأسه وأخذ يَهُزُّ نفسَه إلى الأمام والخلف، مُهَمْهِمًا كطفلٍ جعله
حزنُه عاجزًا عن الكلام.
جلس شيرلوك هولمز صامتًا لبضع دقائق وحاجباه معقودان وعيناه مثبتتان على
النار.
«؟ هل تستقبل الكثير من الزوار في منزلك » : ثم سأله قائلًا
لا يزورني أحد سوى شريكي وأسرته وأحد أصدقاء آرثر بين الحين والآخر. زارنا »
«. السير جورج بيرنويل عدة مرات في الآونة الأخيرة. لم يزُرنا أي أحد آخرَ حسبما أعتقد
«؟ هل تخرج وتختلط بالناس كثيرًا »
«. آرثر هو مَن يفعل ذلك. أما أنا وماري فنبقى في المنزل، ولا يهتم أيٌّ منا بالخروج »
«. هذا أمرٌ غير عادي لشابة صغيرة »
إنها ذات طبيعة هادئة. كما أنها ليستصغيرة السن جدٍّا، إنها تبلغ من العمر أربعة »
«. وعشرين عامًا
«. يبدو مما قلته أن هذه المسألة كانت صادمة لها أيضًا »
«. كانت رهيبة! لقد أثَّرت فيها حتى أكثر مني »
«؟ لا يشكُّ أيٌّ منكما في أن ابنك هو المذنب، أليس كذلك »
«؟ كيف يمكن أن نشك في ذلك وأنا رأيته بعيني وهو يحمل التاج في يده »
«؟ بالكاد أعتبر ذلك دليلًا قاطعًا. هل لحقتْ بباقي التاج أيُّ أضرار »
«. أجل، لقد كان مثنيٍّا »
«؟ ألا تعتقد إذن أنه كان يحاول إصلاحه »
ليباركك الرب! إنك تفعل كلَّ ما في وُسعك من أجله ومن أجلي، ولكنها مهمة ثقيلة. »
«؟ ما الذي كان يفعله هناك من الأساس؟ وإن كانت نواياه بريئة، لمَ لم يفصح عنها
بالضبط! وإن كان مذنبًا، لِمَ لم يخترع أي كذبة؟ يبدو لي أنصمته يوحي بالأمرين. »
هناك العديد من النقاط الغريبة التي تخص هذه القضية. ماذا كان رأي الشرطة في
«؟ الضوضاء التي أيقظتك من نومك
«. لقد اعتبروا أنها قد تكون بسبب إغلاق آرثر لباب غرفة نومه »
يا لها من قصة محتملة! كما لو أن مَن يرتكب جريمة سيغلق بابه بقوةٍ توقظ منزلًا »
«؟ بأكمله! ما الذي قالوه إذن عن اختفاء هذه الجواهر
«. إنهم ما زالوا يفحصون الألواح الخشبية ويفتشون الأثاث على أمل العثور عليها »
«؟ هل فكروا في البحث خارج المنزل »
«. أجل، لقد عملوا بجهد استثنائي. لقد فُتِّشَت الحديقة بأكملها بالفعل تفتيشًا دقيقًا »
حسنًا، يا سيدي العزيز، أليس من الواضح لك الآن أن هذه المسألة أعمقُ » : قال هولمز
بكثير مما كنتَ أنت أو الشرطة تظنون؟ لقد بدت لك أنها قضية بسيطة، ولكنها تبدو
لي شديدة التعقيد. فكِّر في تفاصيل نظريتك. إنك تفترض أن ابنك قام من سريره، وفي
مخاطرة كبيرة، توجَّه إلى غرفة ملابسك وفتح مكتبك وأخذ تاجك وكسر بقوةِ يديه فقط
جزءًا صغيرًا منه وذهب إلى مكانٍ آخرَ وأخفى فيه ثلاث جواهر من أصل تسع وثلاثين،
بمهارةٍ تجعل من المستحيل لأحد أن يعثر عليها، ثم عاد بالستِّ والثلاثين الأخرى إلى الغرفة
التي عرَّض فيها نفسَه للخطر الهائل بأن يجري اكتشافه! وأنا أسألك الآن: هل ترى أن
«؟ هذه النظرية مقبولة
ولكن ما البدائل الأخرى؟ لو كانت دوافعه بريئة، » : صاح هولدر بإيماءةِ يأسٍ قائلًا
«؟ فلمَ لا يوضِّحها
مهمتنا هي اكتشاف ذلك، والآن، إذا سمحت يا سيد هولدر، سنتوجَّه » : فأجاب هولمز
«. إلى ستريتام معًا ونخصِّصساعةً لإلقاء نظرةٍ أدقَّ على التفاصيل
أصرَّصديقي على أن أرافقهما في رحلتهما الاستكشافية، وهو ما كنت أتوقُ إليه بما
يكفي؛ لأن القصة التي استمعنا إليها كانت قد أثارت فضولي وتعاطفي الشديدين. أعترف
أن تورُّط ابن المصرفي في القضية بدا واضحًا لي كما كان بالنسبة إلى والده البائس، وعلى
الرغم من ذلك، فقد كنت أثق ثقةً شديدة في حصافة هولمز جعلتني أشعر أنه لا بد أن يكون
هناك بعض الأسباب التي تدعو إلى الأمل ما دام لم يُرضِه التفسيرُ المُجمَع عليه. بالكاد
تحدَّث طَوال الطريق إلى الضاحية الجنوبية، ولكنه جلس واضعًا ذقنه على صدره وقبعته
تغطي عينيه وكان غارقًا في التفكير. بدا أن بصيص الأمل الصغير الذي مُنِحَ لعميلنا قد
دبَّ فيه الروح حتى إنه دخل في حوار عابر معي حول شئون عمله. قادتنا رحلة قصيرة
بالقطار ورحلةُ سيرٍ أقصرإلى فيربانك؛ المنزل المتواضع للمصرفي العظيم.
كان فيربانك منزلًا مربَّعَ الشكل ذا حجم جيد، مبنيٍّا بالحجر الأبيض، ويبعد عن
الطريق قليلًا. وأمام بوابتَي مدخله الحديديتَين الكبيرتَين، يمتد طريق مزدوج مخصَّص
للعربات له مَرْج مغطٍّى بالثلوج. وعلى اليمين توجد أجَمَةٌ صغيرة تؤدي إلى ممرٍّ ضيِّق بين
سياجَين أنيقَين يمتد من الطريق إلى باب المطبخ، ويشكِّل مدخلَ البائعين. وعلى اليسار امتدَّ
ممر يؤدي إلى الإصطبل، ولكنه لم يكن ضمن إطار الأرضالخاصة بالمنزل، بل كان جزءًا
من الطريق العام ولكنه لم يكن يُستخدَم كثيرًا. تركَنا هولمز واقفَين عند الباب ومشىببطء
حول المنزل بأكمله، بطول مقدمة المنزل وممر البائعِين، وكذا حول الحديقة بالخلف إلى
الممر المؤدي للإصطبل. تأخَّر هولمز كثيرًا حتى إنني دخلت أنا والسيد هولدر غرفة الطعام
وانتظرنا بجانب المدفأة حتى يعود. كنا لا نزال نجلس هناك في صمتٍ عندما فُتِحَ الباب
ودخلت شابةصغيرة. كانت أطول من المتوسط، ممشوقة القوام وعيناها سوداوان وشعرها
أسود، وقد بدَوا أكثرَ سوادًا نتيجة الشحوب التام لبشرتها. لا أعتقد أنني رأيت مثل هذا
الشحوب القاتل في وجه امرأة من قبل. كانت شفتاها أيضًا شاحبتَين، وعيناها محتقنتين
بسبب البكاء. وعندما انسلت بهدوء إلى الغرفة، أدهشني شعورها بالحزن الشديد الذي
يفوق الحزن الذي أبداه السيد هولدر في الصباح، كما كان الحزن لافتًا للنظر فيها أكثر
لأن من الواضح أنها كانت امرأة قوية الشخصية وتتمتع بقدرة هائلة على ضبط النفس.
لم تُعِر وجودي انتباهًا وتوجَّهت مباشرة إلى عمِّها، ومرَّرت يدها على رأسه وربَّتت عليه
بلطفٍ أنثوي.
«؟ لقد أمرت بالإفراج عن آرثر، أليس كذلك يا أبي » : سألته قائلة
«. لا، لا، يا عزيزتي، لا بد من استقصاء الأمر بدقة »
ولكنني واثقة أنه بريء، أنت تعلم أن إحساس المرأة لا يخطئ. أعلم أنه لم يرتكب »
«. جرمًا وأنك ستندم على تصرُّفك بمثل هذه القسوة
«؟ إن كان بريئًا، لمَ لمْ يتحدث إذن »
«. مَن يدري؟ ربما لأنه كان غاضبًا بشدة منك لشكِّك فيه »
«؟ كيف يمكنني ألا أشك فيه وقد رأيته بالفعل وهو يحمل التاج في يده »
أوه، ولكنه أمسك به ليلقي نظرة عليه فحسب. أوه، صدقني أرجوك أنا متأكدة »
أنه بريء. أوقف البحث في القضية وأنهِ الأمر. إنه لأمرٌ مروُّع تصوُّر عزيزنا آرثر وهو في
«! السجن
لن أدع أبدًا الأمر يمر حتى يُعثَر على الأحجار الثمينة، لن أدعه يمر أبدًا يا ماري! »
إن عاطفتك نحو آرثر تعميكِ عن العواقب الرهيبة للأمر عليَّ. وبدلًا من التكتُّم على الأمر،
«. أحضرتُ سيدًا من لندن ليستقصيالأمر بدقة أكبر
«؟ هذا السيد » : سألته وهي تستدير نحوي
«. لا، صديقه. لقد طلب منَّا أن نتركه وحده، إنه في ممر الإصطبل الآن »
ممر الإصطبل؟ ما الذي يأمل في إيجاده هناك؟ أوه! » : رفعت حاجبيها الأسودين قائلة
أعتقد أنه هو هذا الشخص. أنا واثقة يا سيدي أنك ستنجح في إثبات أن ابن عمي آرثر
«. بريء من هذه الجريمة، وهو ما أثق فيه تمامًا
أشارككِ الرأي » : قال هولمز وهو يعود إلى ممسحة الأرجل لينفض الثلوج عن حذائه
تمامًا، وأثق في أننا، بمساعدتكِ، سنُثبِت ذلك. أعتقد أنني أتشرَّف بمخاطبة الآنسة ماري
«؟ هولدر. هل يمكنني أن أطرح عليكِ سؤالًا أو اثنين
«. تفضل أرجوك يا سيدي، ما دام ذلك قد يساعد في تفسير هذه المسألة الرهيبة »
«؟ هل سمعتِ أيشيء ليلة أمس »
لم أسمع أيشيء حتى بدأ عمي في الكلام بصوتٍ عالٍ. هذا ما سمعته وأسرعت إليه »
«. لأرى ما الأمر
«؟ لقد أغلقتِ النوافذ والأبواب في الليلة السابقة، هل أوصدتِ كل النوافذ »
«. أجل »
«؟ هل كانت كلها موصدة هذا الصباح »
«. أجل »
لديكِ خادمة لها حبيب، أليسكذلك؟ أعتقد أنكِ قد أشرتِ لعمكِ ليلة أمسأنها كانت »
«؟ بالخارج لرؤيته، أليس هذا صحيحًا
بلى، وهي الفتاة التي كانت تخدمنا في غرفة الجلوس والتي ربما تكون قد سمعت »
«. كلام عمي عن التاج
حسنًا، تستنتجين أنها ربما تكون قد خرجت لتخبر حبيبها، وأن كليهما ربما يكونان »
«. قد خطَّطا للسرقة
ولكن ما فائدة كل هذه النظريات الغامضة في حين » : صاح المصرفي بنفادِ صبرٍ قائلًا
«؟ أنني قد أخبرتكَ بأنني رأيت آرثر وهو يحمل التاج في يده
انتظر قليلًا يا سيد هولدر، لا بد أن نعود لتلك النقطة. فيما يخص هذه الفتاة »
«؟ يا آنسة هولدر، لقد رأيتِها وهي تعود من باب المطبخ كما أظن، أليس كذلك
بلى، عندما ذهبت لأتأكد إن كان الباب موصدًا أم لا، رأيتُها وهي تتسلل عائدة منه. »
«. ورأيت الرجل أيضًا في الظلام
«؟ هل تعرفينه »
أوه، أجل! إنه بائع الخضراوات الذي يجلب الخضراوات لنا. اسمه فرانسيس »
«. بروسبر
هل كان يقف إلى يسار الباب؟ بعبارة أخرى، هل كان يقف بعيدًا في الممر لدرجةٍ لا »
«؟ تُمكِّنه من الوصول إلى الباب
«. أجل »
«؟ وهو رجل ذو ساق خشبية، أليس كذلك »
يا إلهي! إنك » : نما تعبير يشبه الخوف في عيني الشابة السوداوين المعبرتين وقالت
ابتسمت، ولكن في المقابل لم ترتسم أي ابتسامة «؟ مثل الساحر! كيف تسنَّى لك معرفة ذلك
على وجه هولمز الرفيع المتحفز.
أرجو أن أصعد إلى الطابق العلوي الآن. وقد أحتاج إلى تفقُّد خارج المنزل » : قال هولمز
«. مرة أخرى. أفضِّل أن ألقي نظرة على النوافذ السفلية قبل أن أصعد
مشى بسرعة من نافذة إلى الأخرى، ولم يتوقَّف سوى عند النافذة الكبيرة الموجودة
في الردهة، والتي تطلُّ على ممر الإصطبل. فتحها وفحص حافتها فحصًا دقيقًا بعدسته
«. سأصعد الآن إلى الطابق العلوي » : المكبرة الضخمة. وقال أخيرًا
كانت غرفة الملابس الخاصة بالمصرفي صغيرة ذات أثاث بسيط، بها سجادة رمادية
ومكتب كبير ومرآة طويلة. اتجه هولمز إلى المكتب أولًا وفحصالقفل بدقة.
«؟ أي مفتاح كان يستخدم لفتحه »
«. المفتاح الذي أشار إليه ابني، مفتاح خزانة غرفة التخزين »
«؟ هل هو لديك هنا »
«. إنه هناك على التسريحة »
أخذه شيرلوك هولمز وفتح المكتب.
إنه قفل لا يُحدِث صوتًا، لا عجب أنه لم يوقظك. تحتوي هذه الحقيبة، كما » : ثم قال
فتح هولمز الحقيبة وأخذ التاج ووضعه على «. أظن، على التاج. لا بد أن نلقي نظرة عليه
الطاولة. كان عملًا فنيٍّا رائعًا، وكانت الأحجار الستة والثلاثون هي أروع ما رأيت على
الإطلاق. عند أحد جانبي التاج كانت توجد حافة مكسورة انتُزع منها جزء يحمل ثلاثة
أحجار كريمة.
الآن يا سيد هولدر، هذا هو الجزء المقابل للجزء الذي فُقد للأسفالشديد. » : قال هولمز
«؟ هل لي أن أطلب منك أن تكسره
«. لا يمكنني حتى أن أجرؤ على المحاولة » : تراجع المصرفي في رعب وقال
فجأة، حاول هولمز بكل قوَّته أن يكسره، ولكن بلا جدوى. «. إذن سأفعل أنا ذلك »
أظن أنه يتحرك قليلًا، ولكن على الرغم من أنني أتمتَّع بأصابع قوية بنحوٍ استثنائي، » : فقال
فسأحتاج إلى وقت طويل جدٍّا لأكسره. لا يمكن لرجل عادي أن يكسره. والآن ما الذي تظن
أنه سيحدث إذا كسرته يا سيد هولدر؟ ستَصدر ضجة تضاهي الضجة التي تصدر من
إطلاق طلقة مسدس. فهل تريد أن تقنعني بأن كلَّ ذلك قد حدث على بُعدِ بضع ياردات
«؟ منسريرك ولم تسمع شيئًا
«. لا أدري ماذا أقول. كلشيء غامضبالنسبة إليَّ »
«؟ ولكن ربما قد يتَّضح لك الأمر كلما تقدَّمنا في التحقيق. ما رأيكِ يا آنسة هولدر »
«. أعترف أنني ما زالت حائرة مثل عمي تمامًا »
«؟ لم يكن ابنك يرتدي حذاءً أو شبشبًا عندما رأيته، أليس كذلك »
«. لم يكن يرتدي سوىسروال وقميص »
شكرًا لك. لقد حظينا بتوفيق استثنائي خلال هذا التحقيق بلا شك، وسنكون نحن »
المذنبين إن لم ننجح في تفسير هذه المسألة. بعد إذنك يا سيد هولدر، سأواصل الآن
«. تحقيقاتي بالخارج
ذهب وحده بناءً على طلبه؛ إذ إنه أوضح أن أي آثار أقدام إضافية قد تجعل مهمته
أكثر صعوبة. ظل يعمل لمدة ساعة أو أكثر، ثم عاد أخيرًا وحذاؤه مغطٍّى بالثلوج وملامح
وجهه غامضة كالعادة.
أعتقد أنني رأيت الآن كلَّ ما يمكن رؤيته يا سيد هولدر. سيمكنني خدمتك » : وقال
«. بنحوٍ أفضل إذا عُدت إلى منزلي
«؟ ولكن الأحجار الكريمة يا سيد هولمز، أين هي »
«. لا أعرف »
لن أراها مرة أخرى! وماذا عن ابني؟ لقد أعطيتني » : فرك المصرفي يديه وصاح قائلًا
«. أملًا
«. رأيي لم يتغير بأي حال من الأحوال »
«؟ إذن، فبحق الرب، ما حقيقة العمل الشيطاني الذي حدث في منزلي ليلة أمس »
إذا زرتني في منزلي بشارع بيكرصباح الغد ما بينالساعة التاسعة والساعة العاشرة، »
فسأكون على استعدادٍ لبذل قصارى جهدي لتفسير المسألة لك. كما فهمت، إنك تعطيني
تفويضًا كاملًا بالتصرُّف نيابة عنك شريطة استعادة الجواهر، وإنك لا تضع حدٍّا للمبلغ
«؟ الذي قد أطلبه، أليس كذلك
«. سأقدِّم ثروتي كلها لاستعادة الجواهر »
جيد جدٍّا، سأبحث في الأمر خلال هذا الوقت. إلى اللقاء. من الممكن أن أحتاج إلى أن »
«. آتي إلى هنا مرة أخرى قبل المساء
كان من الواضح لي أن رفيقي قد حسم أمر القضية، ولكن الاستنتاجات التي وصل
إليها كانت أكثر غموضًا مما يمكنني تخيُّله. حاولت العديد من المرات أثناء رحلة عودتنا إلى
المنزل أن أعرف منه أي معلومات عن الأمر، ولكنه كان يراوغ دائمًا ويتحدث في موضوعٍ
آخرَ حتى يئست من المحاولة في النهاية. لم تكن الساعة قد بلغت الثالثة بعدُ عندما وصلنا
إلى المنزل. سارع هولمز إلى غرفته ثم خرج مرة أخرى بعد بضع دقائق وهو يرتدي ملابس
متسكع وضيع. كانت ياقته مرفوعة وكان يرتدي معطفًا لامعًا رثٍّا ورابطة عنق حمراء
وحذاءً باليًا ذا رقبة عالية؛ وهو ما كان تمثيلًا مثاليٍّا لهذه الطبقة.
أعتقد أن » : قال وهو يلقي نظرة سريعة على نفسه في المرآة الموضوعة فوق المدفأة
هذا كافٍ. كنت أتمنى أن ترافقني يا واطسون، ولكنني أخشى أن ذلك لن يكون مناسبًا.
قد أكون على الطريق الصحيح في هذه المسألة أو أسعى وراء سراب، ولكنني سأعرف
قطع شريحة من قطعة «. قريبًا هل هو هذا أم ذاك. أتمنى أن أعود خلال بضع ساعات
اللحم الموضوعة على المنضدة الجانبية، ووضعها بين قطعتين من الخبز ودفع بهذه الوجبة
البسيطة في جيبه وانطلق في رحلته الاستكشافية.
كنت قد انتهيت للتو من تناول الشاي عندما عاد، ومن الواضح أنه كان في حالة
معنوية ممتازة؛ إذ إنه كان يمسك بحذاء قديم ذي جوانب مطاطية ويأرجحه. رماه في أحد
الأركان ثم صب لنفسه كوبًا من الشاي.
«. كنت أمرُّ من هنا، ففكرت في القيام بزيارةسريعة. سأذهب على الفور » : وقال
«؟ إلى أين »
أوه، إلى الجانب الآخر من ويست إند. قد يستغرق الأمر بعضالوقت قبل أن أعود، »
«. لا تنتظرني في حال تأخرت
«؟ كيف تسير الأمور »
أوه، لا هي بالجيدة ولا بالسيئة. لكن ليسلدي ما أشكو منه. لقد ذهبت إلى ستريتام »
منذ أن رأيتك آخر مرة، ولكنني لم أزُر منزل هولدر. إنها قضية صغيرة لطيفة للغاية، ولم
أكن لأفوِّتها بأي ثَمَن. ومع ذلك، يجب ألا أجلس هنا وأثرثر معك، بل لا بد أن أتخلصمن
«. هذه الملابس المشينة وأن أعود لهيئتي البالغة الاحترام
كنت أستطيع أن أرى من خلال أسلوبه أنه كان لديه أسباب قوية تجعله يشعر
بالرضا أكثر مما كانت توحي به كلماته وحدَها. كانت عيناه تلمعان، حتى خداه الشاحبان
كانا متورِّدين قليلًا. سارع إلى الطابق العلوي، وبعد دقائق قليلة سمعتُصوت باب الردهة
يُغلق بقوة، وهو ما أخبرني أنه قد خرج مرة أخرى ليستكمل مطاردته التي تناسب طبيعته
تمامًا.
0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.