صديقتي القصيدة
ليس لي اسم محدد ولا هوية، فلتسمني الصحراء غيمة، وليسمني القاتل دما، ولتسمني الحافلة حجرا في الطريق، ولتسمني السماوات ظلا، وليسمني الشيطان عدوًّا، وليسمني أبي - المريد - على اسم شيخه، وليسمني الأصدقاء مرآة.. والحقيقة أنني أراقب هذا الشارع الكوني كأحد المصابيح المعلقة.
الأرض ما زالت عالقة في معاركها، تمطر السماوات مطرها فيتحول إلى فجوات كبيرة تشبه القبور، ويولد الحديد، فترضعه الأرضُ النار فيكبر في هيئة البندقية، والبنادق لا تعرف الحياد يا صديقتي، تمتلك عينا واحدة، وقد جُمع لها الحمق ونصف النظر، فكيف تظنينها تفعل؟
العالم الذي تندبين أقل مساحة من الهوة بين الطوائف، ومن مدى صرخة أمٍّ على وليدها، ومن عمق دمعة حفرت أخدودا تُلقى فيه الذكريات، ومن بحر أطماع العمائم والرايات والقمصان، العالم الذي تندبين عالم طفل، مشكلته الوحيدة أنه ولد في زمن يهوى القبور ولا يشيد سوى الأضرحة، لهذا لا يجد نفسه سوى في أحلام نايه وفرشاته وقصائده.
ما زلتِ تحملين النسخة الأولى للنخيل والأنهار، والعالم مذ عالجوا رأسه بالصدمات فقد الذاكرة، تأمليه طويلا يا صديقة، انظري إلى داخل عينيه، لعلك تعيدين له بعض ذاكرة الماء والطمي، وتغسلين عن عينيه ذاكرة الدم والدخان، أسقطي ما تعلق به من طفرات شاذة، وأعيدي حمضه النووي إلى نقائه الأول.
أعرف أن اختيارك دائما ما ينحاز للاحتمال السابع للنرد، وأعرف أنك تخشين المرايا لكي لا ترى الأمور التي تحملها ذاكرتك ضد كثيرين، أعرف أنك تحاولين الالتفات لكل جميل كي ننجو معا من زوايا القبح، حاولي أن تري الجمال ولو في عيون غروتيسكية، واعتمدي على ذاتك فقط.. ربما تنجين.
صديقتي القصيدة:
لأنكِ لم تسجدي مرةً
والنبوءاتُ لا تكتفي بالإشارةِ
بل ترسِمُ الدربَ حتَّى الحقيقةِ
- تلك انسيابيةُ القدرِ اللانهائيِّ -
صرتِ من الآن ملعونةً بالقرارِ الأخيرِ
ولا ملجأَ الآن إلَّا الغوايةُ
فلتسكبي نارَ شهوتِنا في المساءِ الحزينِ
لعلِّك يومًا تثورينَ ضدَّ اقتناعِ الحريرِ
بملمسِ أفعَى
إليكِ من الآنَ جسمِي
مِن الطينِ جاءَ
لتغرسَ كفَّاكِ فيه فراديسَ
غيرَ التي طردتْنا قديمًا
هناكَ على حافةِ الوقتِ
والزمنِ المتأرجحِ قبل النهايةِ
يُسعِدُ هذا البريءَ المشوَّهَ
أن ترفعَ النارُ صلصالَهُ رتبةً
- سوف يصبحُ أقوى على الاحتمالِ غدًا -
أو يرى نبتةَ التِّينِ ناريَّةً
سوفَ تذكرُ طفرتَهُ اليومَ موسوعةٌ للغرائبِ
طينٌ ويُنبِتُ فاكهةَ النارِ
يدخلُ من بابِ كلِّ القواميسِ
في شكلِ معجزةٍ
بعدما فشلَ الأمسَ أن يدخلَ الأبديةَ
في شكلِ شاعر
"أعرفُ أنَّكَ تحتَفِظُ بمكانٍ للشاعرِ
في صفوفِ الأبرارِ مِن الأفواجِ المقدَّسَةِ
وأنَّكَ تدعوهُ إلى الحفلِ الأبدِيِّ
للملائِكةِ والفضلِ والسِّيَادَة"
شارل بودلير (1821-1867)
كاللَّونِ
لا ينتمِي إلَّا لريشتِهِ
كالحبِّ
لا ينتهِي إلَّا لرعشتِهِ
أتيتُ أحملُ أقلامي وجمجمتي
عن الهبة السماوية: الشعر
خُذنِي تُرَابًا حينَ تُصبِحُ ماءَ
مِن طِينِنا سنؤلِّفُ الأشياءَ
ولعلَّنا نَهَبُ الحقيقةَ آدمًا
فيُصِيبَ من نَسْجِ الخلودِ رداءَ
رئتايَ واهنتانِ ناييَ صامتٌ
خُذ حصَّتِي وانثرْ رؤايَ غناءَ
اللَّوحة الأولى: بورتريه
مَا الشِّعرُ؟ قالَ العَارِفُ المُسْتَوْثِقُ
"أَرَقٌ على أَرَقٍ ومِثلِيَ يَأرَقُ"( )
مِن فَوْضَوِيَّتِهِ يُخَلِّقُ مَارِقًا
والشِّعرُ لو كتبَ الحقيقةَ يَمرُقُ
فِي (سَيكُلُوجْيَاهُ) اضطرابٌ دائِمٌ
وَجَعٌ رَزِينٌ وانتِشَاءٌ أحمقُ
طِفلٌ أمامَ الشَّمعِ يثنِي زَندَهُ
ليَرَى الجدارُ ذِرَاعَهُ تَتَعَمْلَقُ
(م) (دِكْتِاتُرِيَّةُ) شاعِرٍ فوقَ البَيَاضِ يصوغُ ما شاءَ الخَيَالُ المطلَقُ
والحرفُ رِيشُ حَمَامَةٍ أغرَى بها
حَبُّ المجَازِ بجوعِها تَتَطَوَّقُ
جوعٍ إلى الأضواءِ أو لحبيبةٍ
لو أسقَطَتْ سِحرَ النَّصِيفِ ستُشرِقُ
(تَتَمَسَّجُ) الكلماتُ فوقَ ضلوعِها
ليثورَ جسمٌ بالفَضِيلةِ مُرْهَقُ
في القلبِ ما يكفِي الرِّثَا لكِنَّمَا
يَا مُعجَمَ الأحزَانِ ضِحْكِيَ أعمَقُ
يا (صَخرُ) و(الخنساءُ) شيخُ طَرِيقَةٍ
بينَ الرِّثَائِيِّينَ ماذَا حَقَّقُوا؟
(م) نَجتَرُّ دَمعَ مَحَاكِمِ التَّفتِيشِ؟! ثمَّة ألفُ أندلسٍ تُطِلُّ وتبصُقُ
نحنُ الهُرَائِيُّونَ نَجلِدُ ذاتَنا
في (مازُخِيَّتنَا) السِّيَاطُ تُمَوْسَقُ
وَجَعٌ إِرَادِيٌّ لأنَّ مَصيرَنَا
بمصيرِ هَذِي (الأيقُنَاتِ) مُعَلَّقُ
نحنُ انتِهَازِيُّونَ نُطلِقُ حِبرَنَا
كَامِيرَا تُصَوِّرُ مَا يُريدُ المطلِقُ
فالوردةُ.. امرَأَةٌ / تَحَدٍّ سَافِرٌ للمَوتِ / مَقبَرَةُ افترِاَسٍ / مَوثِقُ
لُغَةٌ مؤُجَّلَةٌ / سَلَامٌ عَاجِزٌ / بِنتٌ تَضِيعُ / وثورةٌ تَتَفَتَّقُ
حَسَدٌ نِسَائِيٌّ / سُرَى أُسْطُورَةٍ / أصداءُ مُعجزَةٍ / سِلَاحٌ / بَيْدَقٌ
نحنُ المرَابُونَ الذين تنبَّأُوا
شِعرُ النُّبُوءَةِ ثَديُنَا المتَدَفِّقُ
مِن خلفِ مَكتَبِنَا نُسَوِّقُ أَبحُرًا
للحالمينَ ونشتِهي أنْ يَغرَقُوا
(م) نحنُ البِدَائِيُّونَ عَصرَنَةُ الأنُوثَةِ لا تليقُ بشعرِنَا إذ يَشْبَقُ
نحنُ اختِصَاصِيُّو الجمالِ لِواقِعٍ
مِن غَيرِنَا يبدُو كئيبًا يَنعِقُ
(م) لولا مَبَاضِعُنا لمرَّتْ كُلُّ فاتنَةٍ بِلَا ذِكْرٍ فَلَا تُتَمَلَّقُ
ولَمَا تمادتْ فِي اكتشافِ مَكَامِنٍ
تحتَ القَمِيصِ تَؤُزُّهَا إذْ تُورِقُ
(م) لولا فُحُولَتُنَا غَدَتْ عُذرِيَّةُ الأشجارِ تمنَعُ عَاشِقًا يَتَسَلَّقُ
ولَمَا خرجْنَا مِن ثيابِ زَمَانِنَا
نُجلِي بصيرَتَنا، نخوضُ، نُهَرطِقُ
نحنُ ابتِكَارِيُّو التناقضِ رُبَّمَا
نَسَقٌ تَشَظَّى أو تَشَظٍّ يُنسَقُ
(م) نحيَا بكِيمْيَاءٍ مُشَوَّشَةٍ فكلُّ خليَّةٍ فيها انفِصَامٌ مُقلِقُ
(م) قُرَّاؤُنَا هُم (مِكْيَفِيلِّيُّونَ) أيْضًا يَعبُرُونَ خِلالَنا كَي يُعتَقُوا
حتَّى إذا عبرُوا ضِفافَ قصيدةٍ
نظرُوا لها فتصوَّفُوا وتزَندَقوا
هذِي العلاقَةُ يا قَصِيدُ غريبَةٌ
لكِنَّها رَغمَ الغَرَابَةِ تُعشَقُ
اللَّوحة الثانية: تدوير
وعدٌ، وثَمَّ تبدُّلٌ وأفولُ
والصَّيفُ مرَّ ولم يعد أيلولُ
أيلولُ كان طفولةً عبثيَّةً
ألقى بها من حجرِهِ التدليلُ
حدّ انصهارِ القَلبِ كنتُ مهيَّئًا
لأصوغَ معنَى الضَّوءِ حينَ أسيلُ
قد كنتُ مشتَعِلًا بشمسِ حقيقتِي
حتَّى أضاءَ بها الوَرَى جبريلُ
لي (أيطَلَا ظَبيٍ) و(ساقُ نَعَامَةٍ)
لي في القصِيدَةِ قفزَةٌ وصَهِيلُ
شِبنَا كأنَّ الشمسَ ألقتْ جذوةً
ومضتْ ليُمعِنَ في الرَّحِيلِ رحيلُ
لا تضحكي للرَّملِ.. ماؤُكِ مُوجِعٌ
وتهيَّئِي... إنَّ الجراحَ فصولُ
إنْ تغلقِي بابَ المجَازِ فربَّما
أغرى القصيدةَ (حومَلٌ ودخولُ)
اللَّوحة الثالثة: وجع ثلاثي الأبعاد
"لَقَد فَضَحَت دُموعُ العَينِ سِرّي
وَأَحرَقَني هَواهُ بِغَيرِ نارِ"
ابن المعتز
وكُنَّا سكارَى الليلِ يَا كاسَ خمرِهِ
ثُلَاثِيَّةٌ أوجاعُنا بعدَ غدرِهِ
أميرٌ دَعَاهُ الموتُ يَومًا وليلَةً
وآخرُ مفتونٌ بـ(أزهارِ شَرِّهِ)
وكنتُ وكانَ الوقتُ ينسابُ بيننَا
حديثًا طبيعِيًّا على رغمِ سُكرِهِ
يقولُ (أبو العبَّاسِ): رافقتُ كَاغِدِي
إلى طبقاتٍ مِن جحيمٍ بشِعرِهِ
كَأَنِّيَ (دانْتِي) غيرَ أنَّ جَحِيمَهُ
تساوِي بِمَقهَى كاغِدِي بَعضَ جَمْرِهِ
أنوءُ برومَانْسِيَّتِي مُذ جعلتُنِي
نشازًا غِنَائِيًّا بألحانِ (نَشرِهِ)
لعلَّكَ تعنِي (چينَ) (بودْلِيرُ) قالَها
وفي كَفِّهِ (البوربُونُ) تُودِي بِسِرِّهِ
ستعشَقُكَ الأنثَى إذا كنتَ شَاعِرًا
يُعَلِّقُ نَهدَيهَا على صدرِ سَطرِهِ
فتًى بُرجوازِيًّا ينافِقُ حُسنَها
وقد يشرَبُ (البُورْدُو) ليحظَى بخِدْرِهِ
(م) يُخَاصِرُ أنثَى مِن رُخَامٍ (جَنَائِزِيَّةٌ رَقَصَاتُها) ويُلقِي بتِبْرِهِ
مُعَادَلَةٌ كم أثبتَ العمرُ صِدقَها
فأقصَى طُمُوحِ المرءِ إخفاءُ عُهرِهِ
فقلتُ أرَى الإنسانَ... بَل قلتُ لا أرَى
وألجَأَنِي صمتِي إلى قاعِ بِئرِهِ
أرَى صَاحِبَيَّ الآنَ مَزجًا مُرَكَّبًا
(وكِمْيَاؤُهُ) تقضِي عَلَيَّ بِهجرِهِ
أنَا لستُ مَرئِيًّا جنوبٌ مُؤَرَّقٌ
وراءَ شَمَالِ الشَّمسِ يُلقي بمُهرِهِ
يُجرِّبُ مِضمَارَ الفُحُولَةِ بينَما
سُحَاقِيَّةُ الأضواءِ تَرضَى بغيرِهِ
ولَا عرشَ يبدُو كي يقامِرَ ربَّما
إمارةُ هذا الشِّعرِ تكفِي لِجَرِّهِ
ويعجزُ عن جعلِ الحياةِ إلهَةً
تخُطُّ (ببُوهِيمِيَّةٍ) سِفْرَ عُمرِهِ
أنا نَمَطِيٌّ غيرَ أنِّي بِعَالم
مُوَازٍ أجُرُّ العُمرَ مِن شَيبِ شَعرِهِ
وأُلقِيهِ للفَوضَي فَيَذْرُو رَمَادَهُ
كفينيقَ يَغزُو جَوَّهُ بعدَ أسْرِهِ
صَمَتُّ طَويلًا فاستبَاحَا زُجاجتِي
وفرَّا إلى شِعرٍ ينوءُ بإصرِهِ
ونادِلُ مقهَانَا يَمُدُّ بدفتَرٍ
وليسَ مَعِي غيرُ القصيدِ وبحرِهِ
اللَّوحة الرابعة: المريد
وحدِي نَذَرْتُ خُطَايَ للطُّرُقَاتِ
فلرُبَّما وَصَلَتْ مَشَارِفَ ذَاتِي
وحدِي حجَجْتُ إلى المتَاهَةِ مُرغَمًا
مُذ كَفُّ قابِلتِي غَدتْ مِيقَاتِي
طِفلٌ على العَتَبَاتِ يفتَحُ قلبَهُ
فعَلامَ تغلقُ قلبَها عتباتِي؟!
تلتَفُّ مِن حولِي الحياةُ تطوفُ بِي
وأنَا أطوفُ بكعبةِ الحيوَاتِ
أنا والحياةُ على رصيفٍ مُبهَمٍ
نمضِي اعتِبَاطًا للرَّصِيفِ الآتِي
يمضِي قِطَارُ الحزنِ فوقَ ضُلُوعِنَا
فمتَى ستعبُرُ آخرُ العربَاتِ
لا قِبلَةً تحنُو عليَّ فأرتَمِي
في حِضنِهَا حتَّى تَتِمَّ صلاتِي
أنفاسُ أهلِ الأرضِ تخنقُ فِكرَتِي
فمتَى أُفَرِّغُ شحنةَ الزَّفَرَاتِ
أحيَا كمنْ جافَتْ رُؤَاهُ خيالَهُ
فمضَى لرهبَانِيَّةِ الخَلَواتِ
فلعلَّنِي والحُلمَ نعزِفُ مَرَّةً
في الرِّيحِ (سيمفُونَيَّةَ) الضَّحِكَاتِ
لا عينَ ترقُبُنَا، الخَيالُ مُمَهَّدٌ
فلننتِهزْ ثَورِيَّةَ الشَّطَحاتِ
ولنغتَرِفْ سِرَّ النُّبُوءةِ ولندَعْ
للأمسِ حِصَّتَهُ مِن الحَسَرَاتِ
شِعرِي سينفُخُ في الخلايَا بسمَةً
حتَّى وإن سَكَنَ البُكا (جينَاتِي)