أمسيةٌ مميتةٌ
«1 يونيو 2003»
مكان مجهول، لا ماهية له من الأساس، ظلمات تغشي الأجواء بأكملها، رعد وبرق يطرقانِ بالسّماء طرقًا شديدًا يقدح المِنطَقةَ كلها، السحاب المسخر يخزن كمًا صخبًا مِنَ الأمطار الّتي تهطل بغزارة، الليل المكتظ يحجب الرؤية تمامًا، يكاد البرق يخطفُ الأبصار، وتكاد الآذان تصرخ مِن شِدَّة الألمِ.. وقرت تمامًا من صوتيّ الرعد والبرق الشديدين، وجلتِ القلوب المقذوفة مِن شدة الهلع الّذي يقتحمُ الأعماق، وانخلعت من مواضعها الآمنة، وتجن العقول مما يحدث وكادت أن تُتلف خلاياها، جحظتِ الأعين في اتساع شديد ذهولاً نتيجة ما يجري وتوارت خلف إطار أسود، أهرع من ذاك المكانِ الغريبِ الّذي لا أعلم ماهيته، قد هربتُ إذًا. أفرُّ في الظلامِ الطويلِ الّذي يسود بكلّ الضفافِ، وإذ تسوقني قدماي لمكانٍ غير المكان الّذي كنتُ به.. وعلى حين غرَّةٍ اصطدمَتْ تلك القدم الهاربة بصخرةٍ متينة فوثبت عليهما، فصدرت آهة من جوفي كادت أن تمزّق أحبالي الصوتية؛ فتسمّرت مكاني كالتمثال تمامًا، لا أشاهد أيَّ شيءٍ سوى العتمةِ، لكنَّني أتحسَّسُ الدماءَ الّتي تسيل مِنْ أطرافِ أصابعي، غير أنَّ بدني ابتلَّ بمياه الأمطارِ الغزيرةِ وامتصَّها، اندفعتُ واقفًا، ثم أخذت أزيد من هرولتي شيئًا فشيئًا حتى إذا انزلقتْ قدماي والتصقتْ بالطين اللزج، وافترشتُ بجسدي عليه.. قد غطّى بدني كله، لم يترك جزءًا منه إلا ولوثه.
ولكن ما لم يكن متوقعًا.. أن هذا يحدث معي حين ينتصف الليل..
حتّى صار قلبي غطيسًا في بحر منَ الخوف والهلع، ويكتظ عقلي بتساؤلات لم أجد وقتًا لطرحها ولن أستطيع فقط ما عليّ الهروب.. كلما هرولتُ انحبست أنفاسي منَ الخوف، ورُجتِ الأرض رجًا.. أهرع باحثًا عن موضع أمان يقيني شر ذلك المشهد الضبابيّ الغامض، الّذي يتبعه بعض أصوات البوم ولهث الكلاب اللذين لا أراهم، مشهد بدوت فيه تمثالاً أصمًا..
ثم من هول ما رأيت خمَّنتُ بأنّ شيئًا ما سيحدث لي ولن أطيقه.. ها أنذا أطوفُ ببصري للأمام.. بدأ الظلامُ يهدأ تارةً، وتارةً أخرى أسمعُ صوتَ أقدامٍ تهرولُ، فبدأتْ الرؤية تضحُ، ويقلُّ معدل الظلمةِ، وإذ فجأةً أرى أناسًا كثيرين يسيرون في خطى عرجاءٍ وتميل أجسادهم.. يا إلهي!! إنَّني أرى موتى يسيرون. مهلاً يلفتني رؤية أبي وأمي يمشيانِ كالموتى تمامًا، أرى شيخًا كبيرًا يقف بعباءته ويدعو الله، ورجلاً يقف يتبسّم ضاحكًا، لا أُصدِّق ما أراه تمامًا؛ حالةٌ مِنَ الذهولِ الرهيبِ تتوَّغل بعقلي، والأشدُّ عجبًا الّذي شاهدتُه الآنَ: اثنان يسيران يلائمان بعضمها البعض، الأوَّل بهيئته الطبيعية خالٍ تمامًا مِنْ أيِّ شيءٍ يلفتُ الأنظارَ، أما الثاني فقد أثارَ الجدلَ لي.. وجهه لا يخلو مِنَ الجروحَ والتشوهاتِ، يخطو نحوي في خطواتٍ غريبةٍ، لا بدَّ وأنَّها خطواتُ الموتى! حدقتا عينيه تتسع اتساعًا غريبًا، والثاني يقف مُتمعنًّا ويتبسَّمُ ضاحكًا، أما الثاني لا يتركه الغضبُ، وإذ ينفخُ شدَّقيه ويبْرقُ بعينيه بريقًا لامعًا مُشّعًا.. يقتربُ مني في خطواتٍ سريعةٍ، فتسارَعتْ نبضاتُ قلبي عن معدلِّها، يكادُ اللعابُ يمزِّق البلعوم، ترتعشُ أطراف أصابع يدي، تتخبَّطُ ركبتاي وتلتصق ببعضهما البعض، قلبي على وشك الخفقان، أطلقُ زفيرًا وشهيقًا يُخالفانِ معدلَ دورةِ التنَفُّسِ.. ألتقط أنفاسي غصبًا، أطلقتُ تنهيدةَ خوف من أعماقي تكاد تصل لعنان السَّماء مما تراه.. بركة من الهلع انزلقَ قلبي فيها، هذانِ الشخصانُ يبرقان لي ويشيران بالسَّبابةِ نحوي، الموتى في كلِّ مكانٍ، لا تتركُ أقْدَامهم بقعةً من بقاع الأرْضِ إلَّا وتطأُ عليها.. اقتربا هذانِ فكدتُ أن أفتقد وعيي، وأمسكاني بإحكامٍ.. أصيحُ في وجههما، وأجذبهما بيدي لكنَّهما لا يتوقَّفان عما يفعلانه بي، ويطرقان على وجهي بقبضةِ يديهما، ويستمران في الضربِ على وجهي، نزفَ أنفي.. تنتابني الدوخة الشديدة نتيجة الضربِ العنيفِ، ويضرُباني في بطْني بقبضة يديهما، من شدَّةِ الضربِ تقيأتُ، فأمسكاني واقتاداني وأزحف بركبتي على الترابِ المنثور بقاع الأرضِ، أصابتني الأعجوبة مما شاهدتُه الآنَ؛ إنَّنا نقتربُ نصب قبرٍ مِنْ أحد المقابر. الباب مفتوحٌ كأنَّه يعلم أنَّني آتٍ إليه، أصرخُ صرخاتٍ عاليةٍ في ضجر شديدٍ في المِنطَقةِ بأكملها، أحدثهما وأنا أحدق لهما، وأنظر إلى السَّماء وأعول بصوت عالٍ وكادت أحبالي الصوتية تتمزَّق:
- اتركاني أيها الأحمقان؛ ماذا ستفعلان بي، وماذا تودّان مني؟ إنَّني لا أدركُ ما يحدث يا الله! هل إنَّني بين الحقيقة والخيال، أم بين الصحَوِ والمنَّامِ، أم بين الموتِ والحياة، انجدني يا الله مما أنا فيه..
ينظران في نظراتٍ صارمةٍ، يهتفان قائليْن بصوتٍ غليظٍ في نبرة تهديد ووعيد:
- القبرُ ينتظرك، وحين يجيءُ إليه أحدٌ لا يرفضه، بل يستقبله في صدرٍ رحبٍ..
أرتعش، وأتحدّثُ في لجلجلةٍ والعرق الغزيز يتساقط على جبهتي:
- مَنْ.. مَنْ أنتما؟!
يضحكان، ينظران إليّ وهما ينفخان شدّقيهما:
- نحن الموت.. أو نحن مَنْ سنقذفك في هاوية الموتِ!
أصرخُ وأنادي الله، أشعرُ أنَّني ميتٌ، العالم هنا مليءٌ بالموتى، أرتعدُ مِنَ الخوفِ، أنظر إليهما في ذهولٍ تامٍ، تكادُ أسناني تتساقط مِن فمي، أهمُّ بالهروب؛ لكنَّهما يمسكانِ الرسغ بإحكامٍ بقبضة يديهما، فلا أستطيع الإفلات منهما.. أجثو على ركبتي.. لكنّهما يجذباني ويحدثاني ببعض الكلمات الغريبة، لكنَّني أرتعد مما يحدّثَاني به، لا أفهم ولا أصدِّق ولن أصدِّق ما يحدث الآن!
أصيحُ بنبرةٍ عاليةٍ ولا هناك مجيبٌ واحدٌ ينجدني مِن هذا المأزق العسير، ويسمعني حتمًا، ذاك المأزقُ الّذي لا تتحمّل العيْنُ رؤيته، ولا القلبُ الشعور به، ولا العقل أَن يستوعبه، يدفعاني إلى الداخل، أقاوم محاولاً جذبهما بعيدًا عني؛ لكنَّني لا أقدر.. أدخلاني بجوف القبر الّذي يبتلعُني رويدًا رويدًا؛ صوتُ صرخاتي لا يتوَّقف، يوصدان بابَ القبرِ.. لم ترَ عيناي سوى الظُلمةَ الّتي أغشيتْ مقلتي.. فصرختُ صرخةً عاليةً.
وإذ فجأةً استيقظت مندفعًا مِنْ على السرير مفزوعًا -كأنَّني لم أفزع بهذه الطريقةِ مِن قبلُ- وتصدر مِنْ أعماقي صيحةٌ عاليةٌ مِن هول ما حدثَ، يدقُ قلبي دقاتٍ سريعةً، ألتقطُ أنفاسي لأهدأ رويدًا رويدًا، دفعتُ الملاءة الحريرية من على بدني، ثُمّ جلستُ بمقدمة السرير.. في جوف الليل المظلم الساكن سرت رجفة قوية وعنيفة انتابت قلبي.. وإذ وجدتُ أمي تهرع متجهةً نحوي وعلى ملامحها علاماتُ الحيرةِ والاستغرابِ، تقترب مني.. تقف أمامي، تُسيِّر يديها على كتفي، تطرقُ بعض الطرقات الخفيفة، وتتساءل في أعجوبةٍ وهي قلقةٌ:
- إسحاق؟! ما لك يا بُنَّي.. لِمَ صرختَ بهذه الطريقة يا صغيري، ماذا حدث؟!
أصمتُ قليلاً، لم يكن في جعبتي شيء يقال، سوى الصمت الطويل السائد بجوفي، ثُمّ بدا على لساني اللجلجة التي أصبحت منطلقه:
- لا يوجد شيءٌ.. لا يوجد يا أمي، إنَّني بخيرٍ.. لا تقلقي.
لم تنطق بكلمةٍ واحدةٍ، تطرقُ طرقاتٍ خفيفةً على ظهري لتهدئنّي وتطمئني، توّقفتْ عن الطرقِ، خرجَتْ مِنَ الحُجرةِ، وظللتُ مكاني على السرير أفكِّر بشأن هذا الكابوس الغريبِ، وإذ أنبئْني دخولُ أمي مرةً أخرى وهي تحمل في يديها كوبًا مِنَ الماء، تسير نحوي في خطواتٍ بطيئةٍ، تتقدَّم مِن مركز جلوسي، تمدُّ كوب الماء بيدها اليمنى لتسقيني، وباليد اليسرى تضعها على مؤخرة رأسي، وأشرب المياه الّتي تبدو مِنْ هاتين اليدين داويةً ومهدئةً لما أشعره الآن، تناولتُ كمية صغيرة مِنَ الماء، تصعد على السرير لتجالسني، استرخَتْ بمحاذاتي، وأحدثُها في نبرة حانيّةٍ:
- شكرًا لكِ يا أمي..
تنظرُ إليّ وتتبسَّم، وتُكلِّمني في حنّوٍ:
- أتودد لأعلمَ ما لك يا بُنَّي.. لِمَ استيقظتَ هلوعًا بهذه الطريقة؟
- لا تقلقي يا أمي؛ مُجرَّدُ كابوسٍ قط.
تصمتُ قليلاً، وهي تنظر إليّ مُتمعنّةً، ثُمّ قامتْ مُتحدثةً بنبرتها الحنونة:
- حَفِظَكَ الله يا إسحاق يا بُنَّيّ، وألَّا يُصيبك مكروهًا أبدًا، سلامٌ على قلبك وروحك حتَّى يهدئا..
ابتسمتُ ابتسامةً باهتةً في وجهها، بدأ معدل القلق يقل رويدًا، ويزداد معدل الطمأنينة لكن ببطءٍ، وهي تزال واقفةً لا تودُّ أن تتركني إلَّا حينما تطمئن أنَّي صرتُ بخيرٍ، وأرغم ذاتي أن لا أقصص رؤيتي عليها حتّى لا تقلق، فتساءلتُ معها قائلاً في جديّةٍ:
- هل أبي لا زالَ نائمًا يا أمي؟!
أجابَتْ:
- بالفعل يا إسحاق، إنَّه منذ مجيئه مِنَ العمل وبدنه التصقَ بالسرير، لم يقدر على أن يظل مستيقظًا.. متعبٌ مما أدَّاه اليومَ.
هززتُ رأسي، فرددتُ في جديةٍ:
- أعانه الله يا أمي، وأدامه لنا..
ومِنْ ثَمَّ أتساءل مرةً أخرى:
- كم الساعة يا أمي، وهل اقتربَ موعد آذان الفجر؟!
أردفَتْ قائلةً وهي تتبسم:
- الساعة الثالثة ونصف صباحًا يا طبيب.. بالفعل لا يزال سوى نصف ساعة على آذان الفجرِ..
قاطعَتْني مرةً أخرى وهي تتساءل بجديةٍ:
- ألديك محاضراتٌ بالغد.
نظرتُ إليها مبتسمًا؛ فأجابتُ:
- بالطبع يا أمي.. الساعة الحادية عشر صباحًا -بإذنِ الله-.
- أسأل اللهَ التوفيقَ لك، وأن يحفَظِكَ مِن كلِّ سوءٍ يا طبيب.
اقتربتُ من يديها، أخفض رأسي لأقبلِّها، وهي تُسيِّر يديها على شعري، وتقبل رأسي وتدعو لي.. فأخبرتُها أنَّني سأنهض لأتوضأ حتّى أستعد للفجرِ، هممتُ على الفورِ للنزولِ مِن على السريرِ، ولاحقَتْني أمي حتّى تتوضأ وتصلّي الفجرَ، أخرج مِن باب الغرفة.. الغرفة الّتي عرضها متران، وطولها متران.. طلاؤها يحوي اللون الفضيّ، تحوي اثنين مِنَ الصّوانة المصنوعتين من خشب العاج، خزانة ملابسي ذات الطراز الحديث، وشرفةٌ مطلّة بالغرفة، هأنذا أخطو مُتجهًا نحو الحمام، أشعر بالحرارة الّتي تجتاح هذا البدن، دخلتُ الحمام فتوضأتُ فشعرتُ بانسجامٍ ينعش أعصابي، ويُقلِّل معدل الحرارةِ، ثُمّ خرجتُ مرةً أخرى وكانت أمي تنتظرني بالخارج، تركتُ لها ابتسامةً قَبْل أن أغادرَ، ذهبتُ إلى الحجرةِ مرةً أخرى لأستبدل ملابس البيتِ بالعباءة، خرجتُ.. ومِن ثَمَّ أخطو نحو بابِ الشَّقْةِ، أرتدي حذائي الخفيف دون الكعبِ، ونزلتُ مِن على درجات السُلَّمِ الرخامية مُستندًا بذاك "الدرابزين"، أقصد مخرجي مِن بوَّابةِ العِمارةِ، عمارة تضمّ ثلاث طوابق، قبو كبير بالمنطقة السفلية يحتفظ أبي بوضع الآلات الهندسية به، أما عن الأجواءُ بالشوارعِ؛ فقد تختلفُ عَن الأجواءِ في البيتِ؛ في ظلّ حرارة الجو القائظ.. تجمعَّتِ الغيوم بالسّماء في حلقاتٍ متراكمةٍ فوق بعضها، حتّى بدأَتْ الأمطارُ تهطل كالندى تمامًا، فشعرتُ بانسجامٍ مُريحٍ لأعصابي، غير صوتِ زقزقة أسراب العصافير الّتي تستقرُّ بغصون الأشجار الّتي تطرأ على أوراقَها الخضراءَ النسمات الجميلةُ مع حفيفِها الهادئِ النابعِ منها، وصوتها الشجيّ الّذي يطمئن الفؤاد، أراضٍ زراعيةٌ موجودة بضفتيّ الطريق، والنخَال الشامخة تلتصق بقاعِ الأرض، نسيم الهواء الرطب الّذي يخفِّف عني صعوبة تحمُّل حرارةِ الجو، غبار الأتربة الّذي يصطدم بجفون عيني، عواميد الإنارة الّذي ضوؤها يُنير عتمة الشارعِ المكتظة، والأرصفة التّي تسير عليها القطط السوداء الّذي بريق عينيها يشعُ مع لمعان خافتٍ، أسير بالطريقِ وأطوف بصري جميع الجهاتِ، المكان خالٍ مِنَ الناس تمامًا عدا المصلّين الّذين يرتدون العباءاتِ: مِن كبار السن، وشبابٍ مثلي.. ورجالٍ يصطحبون أبْناءَهم الصغار في أيديهم.. بعض الكلاب الّتي تعوي بنباحهم و تهرول في الطريق.. استكملتُ مسيري نحو المسجد الّذي لا يبتعد عن منزلي إلَّا بعض الأمتار.. وصوتُ العُمّالِ بأفران الخباز يعلو والنساء يقفن ليشترين الخبز والرجال يشترون بمحاذاتهن أيضًا.. وفي جولة السير؛ وجدتُ كلبًا يعوي بصوت عالٍ؛ كأنّما طفلاً صغيرًا يجهشُ بالبكاءِ، تقريبًا قذفه أحدهم بالحجارة. ازدادَتْ أعجوبتي لأنَّني لم أشاهد أحدًا غير المصلّين.. رُبما بعضُ شباب طائشي العقول مَن قاموا بهذا.. استحالةٌ أن يكونوا السائرين لإقامة الصلاة، استدعاني ذلك أن أطوفَ ببصري؛ لأرى ما يحدث، فجأةٌ ظهرَ خيالُ شخصيْن؛ فوقفتُ لثوانٍ؛ حتّى أتأكد أنَّهما مَن قاما بذلك، وعلى حين غرةٍ.. لاحظتُ خطواتِ أقدامٍ.. خيالها فقط يظهر على الأرض ليس إلّا، تقريبًا شخصان يرتدان ثوبًا داكنًا، لا أقدر على تحديد لونه بالضبط، و لا أرى ملامح وجههما جيِّدًا، يصعب عليّ التدقيق فيهما لأنَّهما يبتعدان جدًا، لم أشاهدْ فقط سوى خيالهما الّذي ينعكس نتيجة مصابيح العواميد المُنارة، لم أبالِ.. أستكمل المشي نحو المسجدِ، أَلتفتُ إلى الخلفِ برأسي و أنا سائرٌ؛ تحسُّبًا لأيِّ خطرٍ سيؤذيني، حتّى كادت أنْ تلتوي رقبتي، أسيرُ للأمام، وأرجع البصر مرةً أخرى ورائي، سمعتُ صوت ضحكاتٍ يصدر في أذني، نظرتُ خَلفي.. لم أشاهد أحدًا، أصابَني الذهول الشديد، أتساءل مع نفسي وأفكِّر، وأصبعيّ السبابة والإبهام أحرّكهما على ذقني:
- ما الذي يحدث بالضبط؟! ليس معقولاً الّذي يحدث.. يا تُرى أيتلصَصُ عليّ أحدٌ قط!
أيْقظَني مِن تفكيري صوتُ المؤذِّن الّذي صوته يصدح الحيّ بأكمله، فأسرعتُ في خطواتي، على وشك الوصول إلى المسجدِ، مرَّتْ دقائق وقد وصلتُ، صعدتُ مِن على درجات سُلّمه، ثم خلعَتُ حذائي، فدخلتُ إلى المصلى، بعدما انتهى الرجل مِن رفع الأذان..
صلّيتُ ركعتيّ السنَّة، وانتظرتُ حتّى الإقامة، ذاك المسجد به نوافذ تطلُ على طريق المشاةِ، وبه أسلاك معدنية لتمنع دخول الحشرات، شعرت فجأةً أن شيئًا يهتز بتلك الأسلاكِ، وخيال بشريٍّ تقريبًا، فحدثتُ ذاتي مندهشًا:
- اذهبْ، وشاهِد ماذا يحدث يا إسحاق..
فأنبئني صوتُ رجلٍ يرتدي عباءةً بيضاءَ اللون كثيفة.. تبرز هذا الجسد السمين الّذي يكاد هذا الكرش أن يمزقها، طول قامته يجعلني في حالةٍ مِنَ الذهول، وجورب أسود اللون يرتديه في قدميه، وجهه مستدير لا يخلو مِنَ الابتسامة العريضة والبشاشة.. يحمل البشرة البيضاء، عيناه متسعتان تتواريان خلف إطار بني اللون، لحيته متهدلة ومخضبة، شَاربُه خالٍ مِنَ الشعر تمامًا، أنفه صغير، يرتدي قبعة بيضاء فوق رأسه.. علامة الصلاة تتواجد أعلى جبهته، وجنتاه الورديتان منتفختان.. يمشي في خطواتٍ بطيئةٍ لكنَّها قوّية، قد قدّرتُ عمره أربعين عامًا، راح يهتف في غلظةٍ:
- أيها الفتى.. إلى أين أنتَ ذاهب؟
فالتفتُ ورائي لأجيبه، فرددتُ بنبراتٍ متقطّعَةٍ:
- إنّني.. إنَّني، سأذهب حتّى أنظِّفُ هذا التُرابَ الّذي يلتصق بأسلاكِ النافذةِ..
ضحكَ، وراح يقول بلهجةٍ جادةٍ مُتعجّبًا:
- لِمَ أراك خائفًا أيّها الصبيّ! لماذا هذه النافذة فقط، خصوصًا أنَّ جميع النوافذ تحتاج إلى التنظيف؟!
لم أستطعْ الرّد، ألزمتُ السكوتَ قليلاً، وبدأتُ أُفكِّر فيمّا سأقوله، يمعنُ النظر إليّ ينتظر مني حرفًا واحدًا أهجوه، حاولتُ أنْ أتكلَّم؛ لكنَّه قاطعني بصوت عالٍ:
- يا فتى، إنَّني لا أحقِّقُ معكَ في قضيّةٍ؛ فقط أتعجّب مما ستقوم به..
هززتُ رأسي، ورسمتُ على ثغري ابتسامةً لأخْفي حقيقةَ ما شاهدتُه، وألقيتُ نظرةً مرة أخرى على النافذة؛ لم أرَ أيِّ شيءٍ مما كان يحدث، والناس ينظرون إلينا، ويحدقون بأعينهم، وأقامَ المؤذِّن الصلاةَ؛ فتحرّكنا جميعًا لنصلّي.. استوَتْ صفوفنا، وذاك الرجلُ: مَن كنتُ أتحدث معه سيقف بنا إمامًا، وبعد الانتهاءِ مِن صلاة الفجرِ، منا مَن جلس للتسبيح والتهليل، ومنَّا مَن أسرعَ بالخروجِ، نظر إليّ الإمام وهو يقعد منزويًا بالقِبْلةِ سيقوم بإسداءِ بعض الكلماتِ فجلستُ لأنصتَ لما سيقوله، بدأ هذا اللسان الفصيح يتفوَّه بالكلمات.. مع كلّ جزءٍ مِنَ الكلمات يلتقط أنفاسه ليستكمل حديثه:
- افعِلْ ما تودّ فعله لطالما في الطريق الصحيح، ودعْ ألسنة الناس تهجو بما ستهجو به، الناس إن رأوك تنافقهم ففي أعينهم ستبدو صريحًا وعلى حقٍ، وإن رأوك تصارحهم فأنتَ مِنَ المنافقين وشخصٍ باطلٍ، لكن لا يهمُّكَ يا بنّي ولا تهتم بأمرهم، كُنْ صريحًا أمام الله فقط، ارْضِ الله فقط، الدنيا زائلةٌ، والظفر الحقيقيّ هو الجنَّة، اجعلْ غايتك ومرادك في هذه الدنيا الظفر بالآخرة، وربما تظفر بالدنيا وبالآخرة معًا، إذا ألهتَك الدنيا عن دينك، فأنتَ تهواها ولا تبالي للآخرة، اجعلْ الدنيا تأتيك وهي راغمةٌ زاحفةٌ على قدميها، تستكين أمامك.. ولا تخبر نفسك بأنَّكَ حرٌ وليس لأحدٍ شأنٌ بأموري الّتي تختص بي، فالحرية الّتي تخالف قواعد دينك؛ هي حريةٌ باطلةٌ ومهلكةٌ لصاحبها، ولا تخَالِفْ ما أمرك الله به.. اتبعْ هداه واهتدِ بسُنَّة نبيِّه والنهجِ الصحيحِ، الناسُ تتعلّق بشهواتِ الدنيا، ولا يشعرون بذنوبهم؛ فهؤلاء ضلَّ سعيُهم في الحياة، ويزعمون أنَّ ما يفعلونه هو أفضل الصنعِ، يعتقدون أنَّهم على الدربِ الصحيح، ولا يعلمون أنَّ هذا الدربِ سيوصلهم إلى ما سيمزق هاتين القدمين! ربما تجد شخصًا قريبًا مِن الله جدًا.. لكنَّه ليسَ سعيدًا، فهذا يحبّه الله، ومبتليٌّ بالمصائب الدنيوية، وشخصٌ آخر يفعل كلَّ الفواحش ما ظهر منها وما بطن.. وتراه سعيدًا وفي أحسن حالاته النفسية، فهذا يتركه الله إلى يومٍ يأتيه عذابه، يوم القيامة يأتيه فردًا، فتظلّ تلوم ذاتك حائرًا: -لِم أنا؟! وهذا الفلان سعيدٌ رغم أنَّه يرتكب الذنوب والمعاصي، فمثالٌ بسيطٌ، يضربُكَ أبوك ضربًا قاسيًا، وحين تستأذن منه للخروج، أو مثلاً اقترفتَ خطأً معينًا وهو قد علم به، قد رفضَ أن تخرجَ، وعاقبَكَ على ما فعلتَه، فتظنُّ أنَّه يمقتَكَ مقتًا كبيرًا، وتخبر ذاتك بأنَّه لا يصلح كأبٍ لك، لَكِنْ في الحقيقة هو يهواك، يخَافُ عليكَ، يودُّكَ إنسانًا صالحًا، على عكس أبٍ آخر.. لا يهتم بأمركِ، ويخبر ذاته أنَّه ليسَ له شأنٌ بك وليس مسئولاً عنك، فليفعل ما يفعله، ولا يبالي لأمرك، فكذلك الله؛ وحاشاه أن أشبهه بأيّ شيءٍ آخر؛ فليسَ كمثله شيءٍ، حين يهواك الله وتقوم أنتَ باقتراف الذنوبِ، يؤلِّمك، يضعك في ابتلاءٍ، ينبهك... يشعرك بالذنبِ الّذي ارتكبتَه، فيلومك ضميرك.. فتتوب إليه، أما إن لم يحبَّكْ.. يتركُكَ تفعل ما تفعله، ويرسمُ لك عقلُك أنَّك على النهج الصحيح، فيأخرّكَ الله ليوم الحساب، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛ علَّ لنا لقاءً آخرًا يا أحبَّائي.. ألقاكم عما قريب إن شاء الله.
أنهى حديثَه ذاكَ الشيخُ، تأثرتُ جدًا مما قاله، بدأ قلبي ينبضُ.. أنبهني كلامه جدًا لأشياءٍ أخرياتٍ نافعاتٍ لي، فنادى وشفتاه ترتسم بالابتسامة مع الإشارة بيديه أن أتيَ:
- تعالَ إلى هُنا يا فتى.
هززتُ رأسي استجابةً لمناداته، وسرتُ نحوه في خطواتٍ معتدلة، فقلت بنبرةٍ هادئةً:
تفضّل يا شيخنا.
طرقَ بكف يديه على كتفي طرقةً خفيفةً، ثُمّ حرَّكَ شعري كأنَّه يسرِّحه.. ثمّ تساءل معي بجدية:
- ما اسم الجميل؟!
أجابتُه:
- إسحاقٌ.
ابتسم قائلاً:
جميلٌ جدًا يا إسحاق. وبالمناسبة أنا اسمي كريمٌ..
تركتُ ابتسامةً دون أن أرّد، يحدثني بجديِّةٍ:
في الحقيقة يا إسحاق، إنَّني لا أريدكَ أن تحزنَ مني، لكنَّني تعجبتُ كثيرًا مِنَ الموقف فقط، قد ظننتُ أنَّ هناك شيءٍ قد أصابكَ؛ فأردتُ أن أطمئنَ عليك، وأدرك ما لك، إن كان هناك مكروهًا انتابكَ أو شيءٌ مِن هذا القبيل؛ فأخبرني، وهذا كلُّ قصدي.
حدثتُه كأنَّني أبرّر موقفًا:
لا تقلق يا شيخنا، إنِّي فقط رأيت اهتزاز النافذة؛ فوددتُ أن أعلم ما هُناك، فلم أرِدْ أن أقلقك خصوصًا أنَّنا في صلاة الفجرِ.
ردَّ عليّ:
- لا يهمك يا بني، الأهم أنَّك بخيرٍ.
قلتُ له مبتسمًا:
إنَّني بخيرٍ يا شيخ كريم.. لا تقلقْ.
رأيت وجهه ينيرُ فرحةً، سيَّرَ شعري بكف يده في سرعةٍ وابتسمَ، وأخرّج مِن جيبه قطعة حلوى صغيرةً لي؛ فشكرتُه واستأذنتُ منه لكيّ أغادر، كان هناك بعض المصلّين يسّبحون ويدعون الله، سرتُ نحو الخارج.. أتذَّكر ذاك الصوتَ العذب الّذي جعل الفؤاد ينبض سكينةً، إنّه صوتُ الشيخ «كريم» الّذي حدثني بطريقة جميلة، إنَّه إمامٌ جديدٌ للمسجد، وها نحنُ قد خرجتُ مِنَ المسجد قليل مِنَ الشُبانِّ، ارتدينا الأحذيَة، حينما خرجتُ ظللتُ ساكنًا مكاني، ومِن ثَمّ ألقي نظرةً ناحية النافذة الّتي كانتْ تهتز، المكان هناك معتمٌ للغايّة، لكنَّني شاهدتُ دخانًا يتطاير، فانتابني الفضول أن أخطو نحو هناك؛ لأشاهد ما الأمر الّذي يثير بداخلي هذه الحيرة كلّها، أسرعتُ في خطواتي.. وقفتُ ساكنًا مكاني لأتفحَّصَ ما يجري، فلّما مشى المصلّون، خطوتُ لأرى ماذا يحدث فجأةً؛ وجدتُ شخصين واقفين يتناولان السجائر، لا أرى ملامحها جيَدًا، كليهما يرتدان وشاحًا الّذي لا يظهر مَنه سوى عيناهما، فوقفتُ مكاني حتّى لا يشعران أنْ أحدًا يتتبعهما، كانا واقفين ينظران إلى الأمام، نظرًا لظلمة الجو؛ فلم أستطعْ رؤية الملبس بوضوحٍ ولا ملامحهم فاقتربتُ ببطءٍ شديد، أحسستُ أنَّ قدمي قد داستْ على عصا خشبية، فأخفضتُ يدي دون رأسي؛ فقط أوجها نحوهما؛ حتّى لا يصبني أحدهما على غفلةٍ، أجذبتُ العصا مِن منتصفها بباطن يدي بإحكامٍ، قمتُ ببطِءٍ وأحمل تلك العصا حتّى لو حدثَ شجارًا عنيفًا بيننا، والتفتا بغتةً تجاهي هذانِ الشابان اللذانِ أثارا القلق داخلي، وتسّمرا أمكنتهما، رمى واحدٌ منهما السيجار.. هرعتُ نحوهما، أقف أمامها وهما يقفان ويجهّزان أنفسهما للشجِار، فإذ أخرجَ واحدٌ منهما آلةً حادةً.. وكادَ أن يصوبها نحوي، اقتربَ مني يمدُّ تلك الآلة ليجرحني بها، لكنَّني أمسكتُ بيدي رسغه.. فجذبَ يده على حينَ غرةٍ فجرحتْني تلك الآلة بصدري، والآخر يهرع بعدها، بعدما جرحني هذا المختال؛ أطلقتُ مِن أعماقي آهاتٍ عاليةً، وهرولا الاثنان معًا، لم أقْدِرْ على أن ألحقَهما نتيجة الألمِ الّذي جعلني أتسَّمرُ مكاني، كأنَّهما كانا يعلمان أنَّي قادمٌ إليهما، لم أتحرّكْ، وضعتُ كفّ يدي اليمنى عليه، أضغط على أسناني مِن شدة الألمِ، أحدق بعيني بكلِّ شدةٍ، حرقةٌ شديدة بتجويف صدري، فرجعتُ لكيّ أستكمل مسيري نحو البيتِ و لا أقدر على السير.. لكنِّي أرغمُ ذاتي لأسير حتّى أستطيع أن أصحو غدًا، فبدأتُ أخطو كما جئتُ إلى هنا.
قد وصلتُ أمام بوّابة العمارةِ، إقامتْنا بالطابق الأوَّل ساعدَتْني جدًا ألَّا أبذلُ أيِّ مجهودٍ للصعودِ.. صعدتُ فقط مِن على بعض درجات السُلَّم القليلات، فتحتُ باب الشَّقةِ، وجذبتُه ببطء حتّى لا يشعر أبوايّ بما أصابني ولا يقلقان، وأغوص بعقلي في دوَّامةِ الأسئلة الّتي لا تنتهي، لكنِّي وجدت أبي يمشي تجاه الصالون، فوجدني حينما حاولتُ الدخول.. فتعجبتُ لأنَه كان نائمًا، ربما أيقظَتْه أمي حتَّى يصلي الفجرَ "هكذا أخبرتُ ذاتي".. رآني، تبسّم، ثُمّ أردفَ قائلاً:
- حفِظَكَ الله يا إسحاق..
رددت مبتسمًا وفي هدوءٍ:
- وأنتَ أيضًا يا أبتِ
صدرَتْ مني آهةٌ صغيرةّ نتيجة الحُرْقةِ مِنَ الألم الّذي يجتاح صدري، فلاحظها أبي، فتساءل مستغربًا:
- ما بك يا إسحاق.. أأنتَ بخيرٍ يا بُنَّيّ؟!
حاولت أن أخفي ألمي بابتسامتي الباهتة، لكنّني لم أستطِعْ، ورددتُ بصوتٍ خفيضٍ، وحاولت أن أتذرَّعَ ببعض الأعذار الواهية لأداري حقيقةَ الأمر:
- بالفعل يا حاجّ.. إنِّي بخيرٍ، هذا ألمٌ بسيطٌ فقط.. لا تقلق.
راح يتساءل مرةً أخرى في إصرارٍ وإلحاحٍ:
- لا يبْدو عليك أنَّكَ في حالةٍ جيِّدةٍ.. أبك شيءٌ يا بُنَّي؟! بِمَ تشعر؟! أخبرني.
أقسمتُ له، لكنَّه لا يصدِّقني، وضعتُ يدي على صدري لأنَّني لم أقدِرْ على تَحمُّلِ الألمِ، فلاحظَ أبي مرةً أخرى، ربما قَدْ أدرَكَ أنَّ شيئًا يصيبني ويؤلمني، فإذ يتقدَّم خطواتٍ إلى أن يصِلَ أمامَ مركزِ القلبِ.. ألقى نظرةً ناحية المكان الّذي أضع به يدي، ثُمّ أمعنَ النظر إليّ، عيناه تتسع اتساعًا شديدًا، يلقي نظرةً ليعي ما بي، فتساءل بصوت عالٍ وهو ينظر إليّ مذهولاً:
- ما بصدرك يا إسحاق؟!
أجابتُ بصوتٍ منخفضٍ حتّى يهدأ:
- لا يوجد أبي.. صدري يؤلمني، لا تقلقْ سأتناول كوبًا مِنَ اللبن وسأصير بخيرٍ بأمر الله..
فطلب مني قائلاً وهو يثرثر:
- هيا.. هيا بنا إلى المُستشفى.
رفضتُ ورحتُ أقول بلهجةٍ هادئة ليطمئنَ ويهدأ مما هو فيه: لا.. لا داعٍ يا أبي، مجرّد ألم بسيط وسيزول، لا يستحق كلَّ هذا القلق. أحسستُ أنَّه لم يصدقني، وراح يستشيط مِنَ الغضب نتيجة أنَّي لا أودُّ أن أخبره ماذا حدثَ بالضبط:
- يا إسحاق!! أخبرني ما لك، وإياك أن تكذبَ.. قل لي يا فتى ماذا حدث لصدرك.
أطقطقُ مكزًّا على بأسناني على شفتي، ظللتُ أقسمُ لكنَّه لم يصدّق، وطلبتُ منه أن ننهي هذا الحوار حتّى لا تستيقظ أمي فتقلق، أخرجَ عُلبة السجائر مِن جيب عباءته، وخطى ليجلس على أريكة الصالون، وقدميه تهتز، وبدأ ينفث ذاك العقبَ الّذي دخانه يتناثر بالصالون، لا أرى سوى الغضب على ملامحه، فخطوتُ نحوه.. جثوتُ على ركبتي، وأمسكتُ بكفِّ يديه، ورحتُ أحدثِّه في هدوءٍ:
- يا حاجّ، والله أنا بخيرٍ جدًا، مُجرَّدُ ألمٌ بسيط فقط..
لم يردّ عليّ قط، ولم يلتفتْ إلّي ما عليه سوى أن ينفثَ ذاك العقبَ، أخذتُ ألحُّ عليه وناديتُ عليه بصوت خفيضٍ، وأخبّط على ركبتيه، لم يستجِبْ لي أبدًا، عقله جعله يصرّ على ألَّا يحدثني ويخَاصمني، رحتُ أضحك معه ليتأوه عما يحدث، بعد محاولات عديدة، التفتَ إلّي، وقال بلهجة جادة لكنها غاضبة في صوتٍ خفيضٍ:
- إنَّك تعلمَ أنَّ أباك يخافُ عليك خوفًا شديدًا، وأحبّك حُبًّا جَمًّا، عليكَ أن تدركَ هذا جيِّدًا، إنَّك ابني الوحيد الّذي لم أنجبْ سواه، أختك قد تزوجت واطمأننت عليها ولا يزال أمامي سوى أنتَ، ولا يُوجد شيءٌ أهمُ منكَ في هذه الدُنيَّا بالنسبة لي، إنَّني أحبّك يا إسحاق، وأهابُ جدًا أن يصيبكَ شيءٌ ولو كانَ صغيرًا، أردتُ فقط أن أعلِّمكَ كم أخاف عليكَ.. لكنَّك لا تدرك هذا..
ابتلعتُ لعابي حُزنًا، أثرَّتْ فيّ كلماتُ أبي، فرحتُ أقول وكدتُ أن أبكي:
- أدرك هذا يا أبي جيِّدًا، أنتَ سندي في هذه الدُنيّا إِن سقطتُ، عمود البيتِ الّذي ينير بأعماقنا تلك العتمة..
لطفٌ في ظلّ كلِّ شيءٍ مريرٍ، الطمأنينة الّتي تعمّ رغم أي ذعرٍ، أنتَ نادرٌ في هذا الزمان يا والدي، روحك الّتي تجعلنا نحيا، رباه أن يطيلَ بعمرك إلى الأبدِ، أهواك يا أبي.. أرجوك يا والدي لا تحزنْ مني، تالله إنِّي لا أهوى أن تحزنَ مني، هذا الموضوع لا يستحقُ كلَّ هذا الحَزنِ.
استمعَ لكلماتي، ونظرَ إليّ في فرحةٍ عارمةٍ، فرحتُ أقبِّلُ يديه، وهو يجذبني مِن رأسي لأكفَّ عن التقبيلِ، هرولتُ إلى أحضانه والبكاء ينحدر مِنَ المآقي بغزارةٍ، عينان غارقتان في الدموع، ويحتضنَّي بقوَّةٍ، وأخذنا نتبادل بعض الضحكاتِ والفكاهاتِ، استيقظَتْ أمي في هذه اللحظةِ، وخرجتْ مِن باب الغُرفة، عيناها حمرواتان، ناعستان، أشارَ والدي بيديه ناحيتنا حتّى تُجالسنا، خطَتْ نحونا بخطواتِها البطيئةِ، جلسَتْ منزويةً بجانبنا، أخذنا نتبادل بعض الأحاديثِ، مرَّتْ دقائق، وأصابَتْني اللهفة في النَّومِ، تركتهما مع ترك ابتسامةٍ، مشيتُ نحو غُرفتي، استبدلتُ العباءة بملابس البيت.. ثُم بعدها صعدتُ على السرير؛ لأخلد إلى النّومِ، حينَ وضعتُ رأسي على الوسادة، أيقظني صوتُ طرقٍ في الزُجاج.. فنهضتُ متجهًا نحوه؛ لكيّ أشاهد مِن أينَ يجيءُ مصدر هذا الطرقِ، خطوتُ نحوه ببطءٍ، ففجأةٌ ألفتَني حجرٌ مُصوَّبٌ نصبه ضئيلُ الحجمِ، فلم ينكسرْ الزجاجُ؛ لكنَّه أصدرَ صَوْتًا، تعجبتُ جدًّا مما شاهدتُه، وبدوت في دائرة التساؤلات ضحيَّةً لها لما يجر، فرحتُ أطوف بنظري في جميع الجهاتِ حتّى أرى مَن فعل ذلك، لم أرَ أحدًا قط! وقفتُ لثوانٍ نتيجة شدَّة الأعجوبة، مَن يتلّصص عليّ بهذه الطريقة، وماذا يريد مني.. «هكذا أفكِّر مع نفسي» عدتُ مرةً أخرى لفراشي لأنامَ.. وظللتُ أفكِّر مَن صاحب هذه كلِّ الأفعال الغريبة، لكِن غلبني نعاسي، وغاصَ هذا العقل في النَّوْمِ العميق.