حدقت في جبيني المقلوب
رأيتني: الصليب والمصلوب"
أمل دنقل.
الغيوم ليلتها لم تكُن تحتل السماء، بل تغتصب سُحبها بوحشية. والقمر قد أفل، والسّاعة لم تتجاوز العاشرة قبل مُنتصف اللّيل. شعرنا أن الهواء في باطنه مُخدرًا يفقدنا اتزاننا، أو ربما السبب بداخلنا، وفوق ذلك كان كئيبًا، وكل شيءٍ حولنا أسْود حتى وجوهنا.
كُنّا نحمل على مناكبنا الجثة رقم سبعون والتي قُتلت منذ ساعةٍ، بطريقةٍ لا يصفها لسانٌ مهما كانت فصاحته، والدور لا نعلم على مَن.
وصلنا بالجثمان إلى المقابر التي لم تعُد تساع أعداد الموتى الذين تخطوا عدد الأنفاس التي نزفرها.
نزعنا غطاء التابوت المُتصدع، كريه الرائحة، وأخرجنا الجسد المُغطى بمُلاءةِ فراشٍ، فراش الميت. مُلاءة شهدت سُباتًا وسعادةً وحُزنًا وجنسًا، حتى امتلأت بالمنيّ ودماء الطمث واللُعاب، واليوم لم نجد إلّا هي لنواري بها جثته، وغدًا أو حتى بعد سّاعةٍ ستشهد تلك المُلاءة جثمان زوجته، وقد لا أكون موجودًا وقتها، وعندئذٍ، تيقن أن دوري قد حان. الرَّجال والنساء مُنغمسون في الوجوم، لا تسمع منهم إلّا النفَس وحتى هذا قد بغضوه. خرجت الجثة من تابوتها وحُفرت المقبرة، ورفعنا الجسد الهامد، الذي لم تجف دماؤه بعد، ثم وضعناه بداخل مقبرته، أو راحته المُنتظرة تخليصًا من العذاب الواقع علينا. وحملت زوجته المُلاءة بصمتٍ وبلا دموع الفِراق، فهي تعلم أن لا فِراق ما دام موعد اللقاء قريب.
انفض الحشد وبقت زوجته والقلائل يتهامسون، وَجّهت الزوجة الفانوس إلى وجْه حبيبها قبل أن تترُكه - لأجلٍ ملحوق به، لكي تودعه بطريقتها، لكن لم تكُن الجثة منسوبة إلى زوجها! صرخت فعاد الجميع إليها، وبالفعل لم يكُن رفيق حياتها، بل للنصف الثان في رسمته. هرول الكل إلى الهياكل ليطمئنوا هُم أيضًا ويتحققوا، كالمجانين بعد الإفراج عنهم كانوا ينبشون الأرض وكأنهم يُفرغون الكبت، ملأ غبار الحفر الجو، والضباب تفوق على الرؤية فأخفاها، أول مَن أخرج جثمانًا مَن يعرفه صاح أنه تبدَّل، ثم الثاني ثم اللا عدد، منهم مَن سكن مذهولًا، ومنهم مَن ركض من وحوش الخوف التي تفتح أنيابها وتُرحب بالقلوب، الآن اللغز تضخم وبدلًا من سلسلة جرائم ورسومات، أصبحت جميع الجثث لا تخُص المقتولين، بل مملوكةً للنصف الآخر من الرسمة!
*****
(ديجور كان صامتًا)
(قبل أربعة أسابيع من ظهور الرسومات)
- "الشيء الحُلْو في هذا العالم، هي الموسيقى، فلا تبخل عليك بالمشاعر ولا حتى تهجُرك في وحدتك، وكلتاهما يفعلهما الإنسان باحترافية".
كان جالسًا في زاويةِ غرفته التي بها روحه، بها البيانو.. كان يعزف المقطوعة نفسها منذ أن ألفها منذ حوالي خمسة أعوام، في كل مساءٍ وعند السّاعة الثامنة يعزفها، في البداية كان السُكان منزعجين من صوت الألحان، ولكن بعد سبعة أيامٍ أو أقل بيومين، اعتادوا سماعها، ليس لأن اللحن رائعٌ، ولا حتى لأن العازف فنانٌ بديع، بل لأنه أصمٌ وأبكم.
وكل المُناوشات أو التوسُلات لن تفيد بشيء معه تمامًا، النصف سّاعة المسائية المُتكررة بشكلٍ يومي أصبحت اعتيادية، وكأنَّها غارة حربٍ ولابد من قذفها، سواء شئتم أو أبيتم. انتهى في الثامنة وثلاثين دقيقة بالضبط من العزف، ثم نهض لرؤية ما يسُرّ النظر، يحبّذ مشاهدة النجوم، ولأنه وحيدٌ ولا أحد يعرف له أهل، فكان مدوَّنًا أمام باب منزله:
- السماء أمي والنجوم عائلتي، والموسيقى عشيقتي، والرفيق هو (ديجور).
وبعد عشر دقائق من تأمل عائلته والتحدث مع أمّه، يتجه إلى المرآة ليرى وجهه قبل أن يسبح في اللا وعي، وقف أمامها وضوء الفانوس الناري المُعلق بسلسلةٍ في سقف غرفته يُنير له كل شيء، تحسس ذقنه المُنبتة بالشعر المُتفرق كأرضٍ أهملها صاحبها، ثم يحدق النظر إلى عينيه البُنية، ويضع يده على شعره القصير ليرجعه للوراء، وفجأة التفت إلى احتكاك لُعبته الخشبية -بيانو خشبي بحجم كف اليد- في قدمه وكان السبب هو "ديجو" كلبه النحيف، استكفى بتوجيه البصر له، ثم عاد إلى ما يفعل، مرر أنامله برفقٍ فوق بشرته السمراء، بعد ذلك أخرج سّاعته من جيب سرواله المُتهرئ وكانت تشير إلى التاسعة بالدقائق والثواني، فوَجه التحية إلى رفيقه، وسكَّر شرفته بهدوء، ثم رقد، وفي أوساط دقيقة أو تُرافقها أختها كان غاطسًا في السُبات. بعد أن نقش على جدار الغرفة بخطٍ كبير:
- "ديجور الليلة كان صامتًا، ديجور أخيرًا وصلته الرسائل، وأنا لستُ مُهتمًا "بنفسه" لأهتم بحال تلك المدينة، ولكن أقرأ لكم رسالته، احذروا سُكوت (ديجور)".
*****
(قبل ظهور الرسومات بثلاثة أيام)
انطلقت الصرخات من المنازل، ممزوجةً بألمٍ لا يُحتمل، منهن مَن كان صراخها كافٍ ليصم آذان الأفيال، ومنهن لم يسمع صراخها زوجها الذي بجانبها على حافة السرير، إنَّها أوجاع الولادة.
كان هو ووسط منزلهُما البسيط، الذي يُعد من أصغر المنازل الموجودة في المدينة، كان يمسك بيدِ زوجته ويُجفف لها عرق جبينها المُنهمر ويُخفف عنها بمحاولات الرَّجال وما يستطيعون فعله في مثل هذه المواقف، فبحثَ عن سيدةٍ لتُعين زوجته، ولكن الحظ أو الصدفة الغريبة أن جميع نساء المدينة في نفس الوقت جاءتهُن آلام المخاض!
وبعد الكثير من الصراخ والدموع رُزقت أخيرًا بمَن سيُكمل امتداد الدّم، ولكن ما هذا؟ نظر الزوج إلى رحمها ليتبين له أنه قد وُهب توأم، ذكرٌ تُرافقه أنثى.
شَكَرَ وحمَدَ الإله كثيرًا، بينما هي كانت وبوجهها الشاحب سعيدةً بالعطايا الإلهية، خرج زوجها من الديار يقفز في الهواء بسعادةٍ عارمة، ومع موعد خروجه، كان الرَّجال خارج منازلهم يحملون توأمين أيضًا، ذكرٌ وأنثى!
"هل الإله راضٍ إلى هذا الحد علينا ليهبنا جميعنا توأم؟".
وكان هذا هو لسان حال رجال المدينة، ولكن يبدو أن الإله لم يكُن راضيًا كفايةً، بل ساخطًا وبشدَّة، فبعد دقائق قليلة بل معدودة من مجيء أطفالهم إلى عالمنا القبيح، ماتوا بلا سقم، ومثلما جاؤوا سويًّا في ساعةٍ واحدة، رحلوا رفقةً في ساعة واحدة.