رفضتْ "ميرفي" ركوبَ سيارتي الزرقاء العتيقة ماركة «بيتل»، طراز «فولكس فاجن» . في الواقع لم تعد سيارتي الـ«بيتل» زرقاء بشكل كامل. فلقد تم تغيير بابين منها اُستُبدِل أحدهما بباب أخضر اللون والآخر بباب أبيض، وذلك عندما قام شيء ما له مخالب بتمزيق الأبواب الأصلية. لقد أُضرِمَتْ النيران في غطاء المحرك أيضًا، وقام "مايك" الميكانيكي الخاص بي باستبداله بغطاء محرِّك سيارة حمراء. لكن المهم هو أن سيارتي الـ«بيتل» ما زالت تعمل وإن كانت لا تفعل ذلك بسرعة كبيرة، إلا إنني على وفاق معها. فقد أكَّد لي "مايك" أن سيارات «فولكس فاجن» هي أكثر نوع سيارات يسهل إصلاحه في العالم، ولذلك ما زلت أقوم بقيادتها. يساعد "مايك" في جعلها تعملُ ثمانية أو تسعة أيام من أصل عشرة، وهو أمرٌ رائع.
تميل الأجهزة التكنولوجية إلى الخراب عند تواجد السحرة. فقط قم بالنقر على مفتاح الإضاءة، وسيكون ذلك هو الوقت الذي يحترق فيه المصباح. أو قم بالقيادة متجاوزًا أحد عمدان الإضاءة في الشارع وسوف يقرر فورًا أن يومض بتقطع ثم يتوقف تمامًا. كلُّ ما يمكن أن يخرب سيخرب، بما في ذلك السيارات.
لم أرَ أنه من المنطقي أن تخاطر "ميرفي" بسيارتها في حين أن بوسعها أخذ سيارتي، لكنها قالت إنها ستغامر بذلك.
لم تنبس ببنت شفة وهي تقود سيارتها «الساترون» عبر طريق مطار «جون كنيدي» متجهة نحو روزمونت . راقبتها، كانت تبدو قلقة طوال فترة رحلتنا. كانت في عجلة من أمرها، محاولة تجاوز الكثافة المرورية بطرق مختصرة أكثر من مرة، مما دفعني لوضع حزام الأمان، على الأقل لم نكن على متن دراجتها النارية.
سألتها:
- "ميرف"، لم هذه العجلة وكأننا نهرب من حريق؟
رمقتني بنظرة جانبية:
- أريدك أن تعاين ساحة الجريمة قبل أن يبدأ آخرون في التوافد إليه.
- الصحافة؟!
لم أتمكن من لفظ الكلمة من دون لهجة ساخرة. هزَّتْ كتفيها وقالت بلا مبالاة:
- أيًّا كان.
عبست في وجهها، لكنها آثرت الصمت كعادتها، فهي لم تكن تتحدَّث معي كثيرًا مؤخرًا. قُدنا بقية الطريق في صمت مطبق، وحين خرجنا من طريق مطار «جون كينيدي»، انطلقنا إلى ساحة انتظار السيارات في مجمع تجاري صغير قيد الإنشاء وترجَّلنا من السيارة.
عبرت من فوقنا طائرة نفاثة على علوٍ منخفض، كانت متجهة إلى مطار «أوهير» الدولي، الذي يقع على بعد أميال قليلة إلى الغرب، حدقت إليها للحظة، ثم نظرت إلى "ميرفي" وقطبت وجهي عندما قادنا ضابط يرتدي زيًّا رسميًّا نحو مبنى محاط بشريط الشرطة. كان هناك كثير من الأضواء، وكان القمر بالأفق في هيئة حلقة شبه مستديرة بالكامل، يرسل ضوءًا فضيًّا براقًا. وبينما كنت أسير أخذت أطراف معطفي الطويل ترفرف حول ساقي، فوقع ظلي ضخمًا شاهقًا أمامي قياسًا إلى ظلِّ "ميرفي" الذي يجاوره، والذي بدا أصغر بكثير.
قلت لها:
- "ميرفي" ألسنا خارج حدود مدينة شيكاغو؟
أجابت "ميرفي" باقتضاب:
- أجل.
- إذن ألا نكون بذلك خارج نطاق سلطتكِ، قانونًا؟
- يحتاج الناس إلى المساعدة أينما يمكنهم الحصول عليها، وقد حدثتْ جرائم قتل عديدة مؤخرًا في شيكاغو، لذا نريد أن ننظر إلى هذا الأمر بشكلٍ مباشر. لقد نسقتُ بالفعل مع القوات المحلية، لذلك لا يشكل وجودنا مشكلة.
- جرائم قتل عديدة؟! عديدة؟! أيعني هذا أنها أكثر من جريمة واحدة؟ "ميرفي"، تمهَّلي.
لكنها لم تفعل. وبدلًا من ذلك قادتني إلى مبنى فسيح من الواضح كونه قيد الإنشاء، فعلى الرغم من إنهاء العمل على واجهته إلا أن بعض النوافذ كانت لا تزال مغطاة بالألواح. لم أرَ اللافتة الموضوعة على الأبواب الأمامية للمبنى حتى اقتربت.
قلتُ وأنا أقرأها:
- «فارسيتي»؟ اعتقدت أن "ماركوني" أحرق هذا المكان بشكل كامل الربيع الماضي.
قالت "ميرفي" وهي تنظر إليَّ بطرف عينها:
- نُقِل ويعاد بنائه.
كان "جوني ماركوني" الملقب بـ«جنتلمان (الرجل الراقي)» زعيم الجريمة المقيم في شيكاغو، وهو كبير اللصوص في تلك الشوارع الوضيعة. وكان قد عمل على احتواء حجم الجرائم داخل المدينة، أما بالنسبة إلى الضواحي، كما هو الحال هنا في روزمنت، فقد جعلها ساحة مستحقة لتحقيق مصالحه. فعندما واجهته في النادي الخاص به الربيع الماضي، النسخة السابقة من ملهى «فارسيتي»، حول عقارٍ جديدٍ مُهلِك يتم ترويجه في الشوارع، انتهى الأمر بالمكان محترقًا عن آخرِه.
بعد انتهاء كل هذه الفوضى، وردت أنباء مفادها أن تاجر المخدرات الذي تخلصت منه كان عدوًا لـ"ماركوني"، وأنني قضيت على ذلك التاجر بناءً على طلبه. لم أدحض الشائعة، فقد كان من الأسهل ترك الناس يتحدثون بدلًا من خلق مشكلة مع "ماركوني".
كانت الأرضيات خشنة وغير مكتملة داخل المبنى، وقام شخص ما بتشغيل بعض مصابيح العمل الهالوجينية، ألقت على داخل المبنى ضوءًا أبيضًا واضحًا. كان الغبار يغطي المكان بالكامل، وكان هناك بعض طاولات لعب الورق، تُركِت فوقها أدوات العمال بشكل متفرق: دلاء طلاء بلاستيكية، وأغطية من المشمع، وكيس من فُرَش الطلاء الجديدة في انتظار الاستخدام. لم ألاحظ الدماء إلا عندما وضعت "ميرفي" ذراعها أمامي لتمنعني من أن أخطو فيه.
صاحت بصوتٍ متجهِّم:
- أَفِق يا "دريسدن".
توقَّفتُ ونظرت إلى الأسفل فرأيت دماء، كثير من الدماء، تبدأ بالقرب من قدمي وتمتد بشكل متناثر بدا كذراع رجل يغرق، صابغة الأرضية المغبرة بلون أحمر قانٍ. اتبعتْ عينَي اتجاه بقعة الدم الطويلة التي تنتهي إلى بركة ربما يبلغ عمقها ثُمن بوصة، والتي تحيط بكومة من القماش الممزق واللحم المُنتزع حيث ما يجب أن يكون الجثة.
تقلصت معدتي مهددة بإخراج كل قطعة لحم تناولتها سابقًا في ذلك المساء، لكنني تماسكتُ. درت حول الجسد محافظًا على مسافة منه. خمنت أن الجثة كانت لرجل في الثلاثينات من عمره. كان رجلًا ضخم البنية، له شعر قصير مدبب (سبايكي). كان قد سقط على جانبه ووجهه بعيدًا عني، لُويت ذراعاه تجاه رأسه، وثُنيت ساقاه تجاه أعضائه الحيوية. وعلى بعد سبعة أو ثمانية أقدام من الجثة كان هناك سلاح مُلقى بعيدًا عن متناول الضحية وهو عبارة عن مسدس أوتوماتيكي صغير.
مشيتُ حول الجثة حتى رأيتُ الوجه.
أيًّا كان ما قتله فإنه لم يكن بشريًّا. كان وجهه قد اختفت ملامحه، ببساطة نُزِع. شيء ما مزَّق شفتيه، وأمكنني رؤية أسنانه الملطخة بالدماء، وانتُزِع أحد جانبي أنفه، وتدلَّى جزء منه نحو الأرض. كان رأسه مشوهًا للغاية، كما لو أن صدغيه ضُغِطَا بشكل هائل مما أدَّى إلى تشويه جمجمته.
كانت عيناه مفقودتين، انتُزعتا من رأسه، التُهمتا، فقد كانت هناك آثار حادة وغائرة لأنياب منتشرة حول تجويفي العينين.
أغمضت عيني بإحكام وأخذت نفسًا عميقًا آخرًا للمرة الثالثة، لكنه لم يساعد. فقد كانت رائحة الجثة بغيضة، حيث انبعثتْ من الأحشاء الممزقة رائحة حادة كريهة أشبه برائحة الصرف. تأهَّبتْ معدتي على الفور كي ينفر ما بها من حلقي ويندفع من فمي ويسقط أرضًا.
كان بوسعي تذكر كافة التفاصيل الأخرى حتى وعيناي مغمضتان، وفهرستها بدقة للرجوع إليها لاحقًا. مُزِّقت سترة الضحية وقميصه إلى أجزاء صغيرة دامية على طول ساعديه في هيئة جروحٍ دفاعية. كانت يداه وذراعاه عبارة عن كتلة من اللحم الممزق المُنتزَع، وتقطَّعتْ كفاه وأصابع يديه إلى كتلٍ ممزقة. وعلى الرغم من تواري بطنه عني إثر انحناء جسده، إلا أنني أدركت أنها الموضع الذي تنساب منه الدماء وتنتشر كالحبر المسكوب من زجاجة. فقط أكدت لي الرائحة الكريهة أن أحشائه انتُزِعت.
التفتُّ بعيدًا عن الجثة وفتحت عينيَّ محدِّقًا في الأرض.
- "هاري"!
نادت "ميرفي"، من الجانب الآخر من الجثة. لقد غابت نغمة الصلابة التي كانت في صوتها طوال الأمسية. لم تكن قد تحرَّكت قَطُّ أثناء إجرائي لهذا الفحص السريع.
أجبتها:
- أنا أعرفه، أو أعتقد أنني أفعل. ستحتاجين إلى التحقق من سجلات طب الأسنان أو شيء من هذا القبيل للتيقُّن من هويته.
كان بوسعي سماع النبرة المتجهمة في كلماتها وهي تسأل:
- حقًّا؟! من كان هذا؟
- لا أعرف اسمه. لطالما ناديتُه بـ"سبايك" نظرًا لتصفيفة شعره. لقد كان أحد الحرَّاس الشخصيين لـ"جوني ماركوني".
صمتت "ميرفي" للحظة، ثم قالت باقتضاب:
- اللعنة.
- ما الخطب يا "ميرف"؟
نظرتُ إليها مرة أخرى من دون النظر إلى بقايا "سبايك" المشوهة.
بدا القلق يعتري وجه "ميرفي"، تبينته في نظرات عينيها الزرقاوين الشفافتين، إلا أنها أزالت هذا التعبير عن وجهها سريعًا كما تلمح ظلًا فيختفي، وتجانست خطوطه تاركة ملامحًا حيادية. أعتقد أنها لم تتوقع مني أن ألتفت نحوها. قالت:
- استطلع المكان من حولك أكثر. ثم سنتكلَّم بعد ذلك.
سألتها:
- ما الذي أنا بصدد البحث عنه؟
أجابت:
- ستعرفه حين تلقاه.
ثم أضافت في همسة أعتقد أنها لم تقصد أن أسمعها:
- آمل ذلك.
عدت إلى مباشرة عملي، ونظرت حولي في أنحاء الغرفة. لقد تحطَّمت إحدى النوافذ في أحد جوانب الغرفة. بالقرب منها قبعت طاولة على الأرض، كانت مائلة، سيقانها معوجة ومنحنية. توجهت إليها.
كان الزجاج المكسور متناثرًا على الأرض حول تلك الطاولة المنهارة. ونظرًا لأنَّ الزجاج كان داخل المبنى فلا بد أن شيئًا ما قد دخل عبر النافذة. كانت هناك دماء على عديد من قطع الزجاج المكسورة. التقطتُ أكبر واحدة منها وحدَّقتُ فيها، كانت الدماء حمراء قاتمة، لم تجف تمامًا بعد. فأخرجتُ منديلًا أبيضَ اللون من جيبي وطويتُ قطعة الزجاج فيه، ثم وضعتُه في جيب معطفي.
نهضت وجُلْتُ مسبلًا عينَي أتأمَّل الغبار، حتى وجدتُ بقعةً ما من الأرض نظيفة تقريبًا، كما لو أن صراعًا قد حدث هناك من دون إراقة الدماء. وفي بقعةٍ أخرى، لم تصلها إضاءة مصابيح الهالوجين بشكل واضح، كان هناك نقطة تجمع فيها ضوء القمر الفضي أسفل نافذة، فجثوتُ بجانبها.
خلال ذلك الضوء رأيت أثرًا لكف حيواني مطبوعًا على الغبار، كان تقريبًا بحجم يدي الممتدة، وكانت آثار النقاط على أطراف الكف تنم عن أظافر ضخمة، مخالب تقريبًا.
نظرت إلى أعلى من خلال النافذة إلى القمر الفضي شبه الكامل.
تسارعتْ أنفاسي:
- اللعنة! اللعنة!
جاءت "ميرفي" نحوي وتأملتني في صمت للحظة، في انتظار أن أتحدَّث. لعقتُ شفتي بينما أنهض ملتفتًا إليها قائلًا:
- لديكِ مشاكل.
- بلا شك. أخبرني بما توصلت إليه يا "دريسدن".
أومأتُ برأسي مشيرًا إلى النافذة وقلت:
- غالبًا جاء المهاجم من هناك، طارد الضحية وهاجمه ثم نزع المسدس منه وقام بقتله. تلك الدماء على النافذة تعود للمهاجم. ربما تصارعا لبعض الوقت هناك بالقرب من تلك البقعة النظيفة. شق "سبايك" طريقه نحو الباب، لكنه لم ينجح في بلوغه، لأنه تمزَّق إربًا قبل ذلك.
استدرتُ نحو "ميرفي" ناظرًا إليها بجدية مضيفًا:
- لقد حدثت جرائم قتل أخرى بالطريقة نفسها. ربما قبل حوالي أربعة أسابيع، عندما كان القمر بدرًا آخر مرة. تلك هي جرائم القتل الأخرى التي كنتِ تتحدثين عنها.
نظرتْ "ميرفي" إلى وجهي للحظة، متفادية أن تلتقي بعينَي، وأومأت برأسها مجيبة:
- أجل بالفعل قبل أربعة أسابيع تقريبًا. ولكن لم يتنبَّه أي شخص آخر لفكرة اكتمال البدر، أنا فحسب.
قلتُ:
- آه. إذن يجب أن تري هذا أيضًا.
قدتها إلى النافذة، وأريتها أثر المخلب المنطبِع على الغبار تحتها، فأعارته اهتمامها في صمت.
ثم أردفتْ بعد دقيقة:
- "هاري". هل هناك ما يدعون بالمذؤوبين؟
أزاحت خصلة من شعرها عن وجنتها بوهن غريب، وطوت ذراعيها حول بطنها كما لو كانت تشعر بالبرد.
أومأتُ إليها:
- أجل، ليس بالهيئة نفسها التي تشاهدينها في الأفلام لكن أجل. أعتقد أنك أدركتِ أن هذه هي الحال هنا.
زفرت نفسًا عميقًا قائلة:
- حسنًا إذن، ما الذي يمكنك أن تخبرني به؟ ما الذي أحتاج إلى معرفته؟
فتحتُ فمي لأتحدَّث، لكن لم تتح لي الفرصة لقول أي شيء. لقد كان هناك تبادل قصير للصياح في الخارج، ثم اقتُحِمت الأبواب الأمامية للمبنى. توترت "ميرفي"، ورأيتها وقد أطبقت فمها بإحكام واستقام ظهرها بحدة، وتوقَّفت عن احتضان نفسها، ووضعت قبضتيها على ساقيها. وقالت:
صاحت في توتر:
- اللعنة! كيف يصل هؤلاء الأوغاد إلى كل مكان بهذه السرعة؟
تقدَّمتُ إلى الأمام كي أتمكَّن من الرؤية. رأيت مجموعة من أربعة أشخاص يرتدون البذل الرسمية يدلفون من الباب، وينتشرون في تشكيل شبه عسكري. لم يكن الرجل الذي يتقدَّم المجموعة يماثلني في الطول، لكنه على الرغم من ذلك كان طويلًا، يبلغ طوله ستة أقدام وثلاث أو أربع بوصات. كان شعره أسود داكن، وكذلك حاجبيه، بينما لون عينيه رمادي شاحب كلون الدخان. لاقت به بذلته الزرقاء الداكنة، وكان لدي انطباع بأنها تخفي بنية رياضية، على الرغم من حقيقة أنه تجاوز بوضوح أكثر من أربعة عقود. يحمل شارة تعريف زرقاء كُتب عليها «مكتب التحقيقات الفيدرالي» بأحرفٍ ضخمة بغيضة تتدلى من طية صدر السترة.
قال بصوتٍ عميقٍ جاف:
- أَمِّنوا مسرح الجريمة. أيتها الملازم "ميرفي"، ماذا تفعلين بحق الجحيم في مسرح جريمة خارج نطاق سلطتكِ القضائية؟
قالت "ميرفي" بنبرة متبلدة:
- من اللطيف أن أراك أيضًا، أيها العميل "دينتون". أنتَ تصبح في الجوار سريعًا.
قال "دينتون" ضاغطًا على كلماته:
- قلتُ لكِ إنكِ غير مرحَّب بكِ في هذا التحقيق.
برقت عيناه الرماديتان، ورأيتُ انتفاخًا في الوريد على جبهته. ثم تحوَّل بنظره إليَّ وسأل:
- من هذا؟
- هار...
أوشكتُ على تعريفه بنفسي، لكن "ميرفي" قاطعتني قائلة:
- لا أحد.
ورمقتني بنظرة خاطفة تخبرني بوضوح شديد أن ألتزم الصمت، وقد أزعجني ذلك بشدة.
أجبت بصوت عالٍ وواضح:
- "هاري دريسدن".
ثم تبادلنا أنا و"ميرفي" نظرة ساخطة.
قال "دينتون":
- الدجال! لقد قرأت عنك في صحيفة «تريبيون».
عاد يحدق إلى "ميرفي" بنظرة حادة قائلًا:
- قد ترغبين أنتِ وصديقكِ الروحاني في الانصراف، فسنقوم بعمل جاد للشرطة هنا، من النوع الذي نهتم فيه بشأن بصمات الأصابع والألياف والمطابقات الجينية وأشياء سخيفة من هذا القبيل.
ضاقت عينا "ميرفي" كما عينَي، وعلى افتراض أن "دينتون" تأثر بذلك السخط المزدوج فهو لم يظهر على وجهه. قاما "ميرفي" و"دينتون" بمباراة تحديق قصيرة، كان غضبها في مواجهة حدته.
نادى "دينتون":
- أيها العميل "بن"!
التفتتْ إلينا امرأة لم تتخطَ عتبات الثلاثين من عمرها بعد، ذات شعر جميل يصل طوله إلى كتفيها أظنُّه تحول إلى اللون الرمادي قبل أوانه، محولة بصرها عن تأمُّلها الطويل للجثة. كان لها بشرة زيتونية اللون، وعينان خضراوان عميقتان، وفم رقيق صارم. سارت نحونا بنوعٍ من استعراض القوة الواضح، بتحركها كشخص قادر على أن يكون سريعًا وخطيرًا عند الضرورة. كانت هي الوحيدة من بين عملاء مكتب التحقيقات الفيدرالي الأربعة الذين دلفوا إلى الغرفة التي يبدو أنها تحمل سلاحًا. كانت سترتها مفتوحة الأزرار، لذا كان بإمكاني رؤية أحزمة حامل السلاح مثبتة على كتفها فوق قميصها الأبيض.
قالت "بن":
- أجل سيدي.
كان صوتها هادئًا للغاية. اتخذت عيناها موقعًا متوسطًا بيني و"ميرفي"، ولم تنظر إلى أي منَّا بشكل مباشر أثناء مشاهدتنا.
شدَّد "دينتون" على كلماته وهو يقول:
- من فضلكِ، اصطحبي هذين المدنيين إلى خارج مسرح الجريمة.
أومأتْ "بن" برأسها مرة واحدة من دون أن تقول أي شيء، فقط انتظرتْ. استجمعت نفسي وتأهبت للذهاب، لكنني توقَّفتُ. غرست "ميرفي" قدميها وخفضت ذراعيها بشكلٍ عرضي على جانبيها. ميزت زاوية فكها التي تبرز عند إطباقه في عناد، كانت لديها تلك النظرة التي بدت عليها عندما كانت موشكة على الخسارة في إحدى بطولات الفنون القتالية. كانت "ميرفي" مستعدة للقتال. اللعنة! كان عليَّ أن أجعلها تهدأ قبل أن نقوم بأي شيء.
قلتُ بهدوء:
- "ميرفي"! هل يمكننا التحدُّث في الخارج؟
قالت "ميرفي":
- بحق الجحيم! مهما كان هذا القاتل، فقد قتل نصف دزينة من الناس في الشهر الماضي. إنني هنا أسعى وراء هذا الرجل. أبدتْ دائرة روزمونت موافقتها على وجودي هنا.
حدقت "ميرفي" إلى "بن"، كان هناك فارق كبير بينهما في الحجم والعضلات لصالح العميلة الفيدرالية. رأيت عينَي "بن" تضيق، وأكتافها تزدادُ توترًا.
طالبها "دينتون" والوريد في رأسه ينبض بغضب أكبر:
- هل لديكِ هذا التصريح مكتوبًا؟ وهل تعتقدين حقًّا أنكِ تريدين مني أن أبلغ رؤسائكِ بهذا الأمر، أيتها الملازم؟
قالت "ميرفي" بنبرة تستعر غضبًا:
- - لا تستفزني يا "دينتون".
أجفلت قائلًا:
- أَنصِتي إليَّ "ميرفي".
وضعتُ يدي على كتفها مستكملًا حديثي:
- دعينا نخرج لدقيقة.
وضغطتُ على كتفها قليلًا.
التفتتْ "ميرفي" نحوي، وتلاقت عيوننا في نظرة خاطفة، بعدها استرخت قليلًا، كان وميض من عدم اليقين يكسو ملامحها، إلا أنها بدأت تهدأ، فتنفستُ الصعداء. فأنا بالتأكيد لم أرِد أن يتحوَّل الموقف إلى العنف، فذلك لن يساعد في تحقيق أي شيء.
قال "دينتون":
- أخرجيهما من هنا.
كان في صوته نبرة لم تعجبني.
تحركتْ "بن" فورًا وبسرعة بالغة ومن دون مقدمات، توجَّهتْ نحو "ميرفي" وسدَّدتْ إلى ذراعها حركة خاطفة بدت لي كنوعٍ من الفنون القتالية التي لم أكن على دراية بها. كانت هناك حركة سريعة مشوشة، فقد امتدت يدا "ميرفي" إلى الموضع المتوقع للضربة قبل أن تهبط عليه، وبطريقة ما استدارت رافعة "بن" من قدميها وضاربة المرأة ذات الشعر الرمادي بقوة إلى الجدار.
تحوَّل تعبير "بن" سريعًا من الصدمة والمفاجأة إلى الغضب العارم في غضون نصف ثانية. وضعت يدها داخل سترتها وترددت نصف ثانية ثم استأنفت الحركة. لقد صوبت مسدسها بدقة خبير وبسلاسة وسرعة من دون أن تبدو متعجلة. فقد استعرت النيران في عينيها الخضراوين. ألقيتُ بنفسي على "ميرفي"، مصطدمًا بها ودافعًا إياها إلى الأمام ثم إلى أسفل. كان ذلك عندما انطلقتْ الرصاصة من المسدس، بصوت أعلى من الرعد داخل المطعم نصف المكتمل، وهبطنا على الأرض المتربة.
- "بن"!
صاح "دينتون". ثم اندفع صوبها غافلًا عن وجود المسدس، ووقف بيننا وبين المرأة المسلَّحة. كان بإمكاني سماعه يتحدَّث معها بصوت منخفض ومضطرب.
صحتُ بحنق:
- أيتها العاهرة المجنونة! هل فقدتِ صوابكِ؟
أقبل الشابان الآخران من مكتب التحقيقات الفيدرالي بصحبة عديد من ضباط الدوريات من الخارج وهم يركضون. أخذت "ميرفي" تزمجر ثم ضربتني بكوعها في أمعائي بإصرار وقوة. فزمجرتُ في وجهها بدوري وتراجعت للخلف مبتعدًا عنها، ثم انتصبنا واقفين على أقدامنا من دون أن نصاب بأي أذى.
- ماذا حدث بحق الجحيم؟!
تساءل أحد الضباط وهو رجل كبير السن له شعر رمادي خفيف.
التفَتَ "دينتون" إلى الضابط، هادئًا وباردًا وأجابه:
- رصاصة طائشة. لقد كان هناك سوء فهم، وأطلق سلاح العميل "بن" رصاصة عن طريق الخطأ.
فرك الضابط فروة رأسه وتأمَّل "ميرفي" وسأل:
- هل هذا صحيح أيتها الملازم؟
لم أتمالك نفسي، وأردفتُ بغيظ مشيرًا إلى "بن":
- يا للسخف! هذه الداعرة المخبو...
لكزتني "ميرفي" بمرفقها في معدتي محدقة إليَّ، وقالت للضابط بينما أنا أفرك أحشائي:
- هذا صحيح، حدث ذلك مثلما قال العميل "دينتون"، لقد كان مجرد حادث.
حدَّقتُ بها:
- "ميرف"، ارحميني. هذه المرأة...
قالت "ميرفي" بنبرة صارمة:
- لقد وقع حادث بسلاحها، يمكن أن يحدث هذا لأي شخص.
حوَّلتْ "ميرفي" بصرها إلى الضابط المسن، فأجال بصره في وجهها بهدوء، ثم هزَّ كتفيه مستسلمًا.
عاد "دينتون" إلينا وتفحص "ميرفي" باهتمام للحظة، ثم أومأ برأسه ونادى:
- "روج"، "جورج"، لماذا لا تتأكدان من أن الملازم على ما يرام وتساعدانها في بلوغ سيارتها؟
- قال شاب نحيف ذو شعرٍ أحمر وأذنين كبيرتين ووجهه مغطى بالنمش:
- بالتأكيد، بالتأكيد يا "فيل". سيد "دريسدن"، حضرة الملازم "ميرفي"، لم لا نذهب للخارج ونستنشق بعض الهواء؟ اسمي "روجر هاريس"، وهذا هو العميل "ويلسون".
كان العميل الآخر في أواخر الأربعينيات من عمره، رجل ضخم البنية، يعاني من زيادة الوزن، وقد بدأ الصلع يزحف إلى شعره، بينما يتدلى بطنه الضخم من فوق حزامه، أشار إلينا أن نتبعه وسار نحو الباب. حدقتْ "ميرفي" إلى "دينتون" للحظة، ثم استدارت وسارت خلف "ويلسون" الضخم فتبعتها بدوري.
اقتربتُ من "ميرفي"، وحدثتها بصوت منخفض:
- لا أصدِّق ذلك! هل أنتِ بخير؟ بحق الجحيم لم تخبريهم بما فعلتْ؟
ردت "ميرفي" بصوت ليس منخفضًا جدًا:
- تلك العاهرة، لقد حاولت أن تضربني.
قلت لها:
- لقد حاولت أن ترديكِ يا "ميرف".
زفرتْ "ميرفي" من بين أسنانها، لكنها واصلت المشي. ألقيتُ نظرة خاطفة على الغرفة من خلفنا، ورأيت جثة "سبايك" الممزقة والمشوهة محاطة بمزيد من شرائط الشرطة. وصل فريق التحليل الجنائي وكان يستعدُّ لمسح الغرفة. كان "دينتون" راكعًا بجانب "بن"، التي كان وجهها غارقًا في راحتي يديها، وبدت كما لو كانت تنتحب. كان "دينتون" يراقبني، ويودعني بعيدًا بعينيه الرماديتين الغائرتين اللتين تنظران إليَّ بمكر من دون أي تعابير، من أسفل شعره الطويل الداكن، ووجهه النحيل ذي الملامح الصارمة الخالي من أي ندوب.
حدَّقتُ فيه لمدة دقيقة، فانتابني حدس قوي كنت متيقنًا منه تمام التيقن. كان "دينتون" يعرف شيئًا ما لم يبح به. ولا تسألني كيف عرفت ذلك، لكن هنالك شيئًا ما بشأنه جعلني أعتقد ذلك، كتلك الطريقة التي انتفختْ بها الأوردة في جبهته، أو الطريقة التي يمسك بها عنقه بتصنع.
قال الفتى "هاريس":
- ممم.
رمشت بعينيَّ واستدرت إليه. فقام بفتح الباب لي أنا و"ميرفي"، فعبرنا إلى الخارج.
- أتمنى أن تترفقا بـ"ديبورا"، فهي مرهقة حقًّا بسبب جرائم قتل «لوبو» هذه. لم تنَل قسطًا وفيرًا من النوم طوال الشهر الماضي. كانت تعرف أحد الرجال الذين قُتلوا، وهي منزعجة منذ ذلك الحين.
قال العميل "ويلسون" ذو الوزن الزائد بنبرة مشمئزة:
- اخرس يا "هاريس"!
ثم التفت نحونا وقال بصوتٍ هادئ:
- اغربا عن وجوهنا. لا أريد أن أرى أحدًا منكما حول مسرح جريمة ليست في نطاق منطقتكِ أيتها الملازم "ميرفي". الشؤون الداخلية لديها ما يكفي ليشغل وقتها، ألا تعتقدين ذلك؟
قالها ثم استدار عائدًا إلى المبنى، فنظر إلينا الفتى أحمر الرأس بابتسامة اعتذار مرتبكة. سارع إلى اللحاق بالعميل الذي يعاني من زيادة الوزن، رأيته يلقي عليَّ نظرة خاطفة بتعبير متفهم ثم يختفي. تركونا أنا و"ميرفي" في الخارج بعيدًا عن التحقيق والأدلة في مسرح الجريمة، وقاموا بإغلاق الباب من خلفهم.
نظرت إلى الأفق خلال الليل الصافي، إلى القمر شبه المكتمل. مذؤوبون يقفزون عبر النوافذ خلف أفراد العصابات في المطاعم قيد الإنشاء. جثة مشوهة وسط أرضية ملطخة بالدماء. عملاء ميدانيون لمكتب التحقيقات الفيدرالي يجن جنونهم ويشهرون المسدسات ويطلقون النار بقصد القتل. بعض من «الكونغ فو»، وبعض من «جون واين» ، وقليل من التهديدات العرضية.
«كل هذا حتى الآن»، هكذا فكرت وأعصابي تحتد، فقط في ليلة واحدة من العمل..
* * *