{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}
[آل عمران: 185]
دنياك ساعات سراع الزوال وإنما العقبى خلود المآل فهل تبيع الخلد يا غافلًا وتشتري دنيا المٌني والضلال.
عمر الخيام
ربما تشعر أنَّ هذه قصتك أيها القارئ..
وفي النهاية أنَّ جزءًا منها يشبهك إلى حد ما!
رحيل
كانت السماء ملبدة بالغيوم تُنذر عن بدء موجات المطر التي لا تنتهي أبدًا في هذا الشهر من العام، ترجل من سيارة الأجرة بعدما عاد من زيارته الأسبوعية للمقابر، أعطى للسائق نقوده وما أن وطئت قدمه الأرض حتى بدأت الأمطار بالهطول وكأنها تنتظره لتنتقم!
دلف لمنزله في الطابق الرابع ليحتمي من الأمطار التي بدأت تشتد، وقف ينظر من النافذة بعد فترة نظر في ساعته فوجد أن صلاة المغرب اقتربت، نزل ليؤدي الصلاة وهو يحمل مظلته لتحميه من المطر واستقل سيارة أجرة وحين اقتربوا رفض صاحبها الدخول في هذا الحي فنزل وأكمل الشارع سيرًا، حين دخل المسجد لم يكن هناك إلا الإمام وقلة من الأشخاص فقط من بينهم رجل عجوز، في حين أن المقاهي كانت تعج بالناس الذين أغلقوا باب المقهى الخشبي وجلسوا بالداخل يشاهدون ما يحلوا لهم وأصوات ضحكاتهم تعم الأرجاء.
رغم الحزن الذي طغى على ملامحه إلا أنه لم يدُم كثيرًا، فهو نفسه ما كان لينزل في مثل هذا الجو من ستة أشهر ولو شنقوه شنقًا، انتهت الصلاة وبدأ الجميع في الخروج عدا هذا المسن الذي جلس مكانه على مقعده مرة أخرى بعدما كبّر لأداء سنة المغرب، والإمام الذي يبدو عليه أنه شاب في مثل عمر يحيى، نظر نظرة حانية إلى هذا الجالس مكانه في المكان الذي خصص للإمام ينهي أذكار ما بعد الصلاة وعاد بنظره سريعًا قبل أن يلاحظ هذا الشاب رغم أنه يتحجج بالمجيء لهذا المسجد تحديدًا ليراه ولعلهم يتحدثون ولكن يكبله شيء يعرفه جيدًا!
فطن أنهما سينتظران حتى يؤذن للعشاء وهذا طبيعي فمسن مثله لا يقدر على الخروج مرتين في مثل هذا الجو، نهض ليصلي هو الآخر وبعدما انتهى ظل يقرأ القران حتى أذن المؤذن للصلاة، وما أن أدوا الفريضة وخرج الشباب في عجالة كالعادة، بينما هذا العجوز الذي صار بطئ لكبر سنه ما زال ينهض من على مقعده، وقف يتأمله بذهول ودهشة ويسأل نفسه: "كيف أتى لهنا؟"، "ربما خرج قبل هطول المطر"، "ولكن ما أصبره على العبادة وكأنه شاب في مقتبل عمره لم يهرم بعد"، "ألا تؤلمه قدمه التي تحمله بصعوبة؟!" ظل يتساءل ويجيب نفسه حتى وجد نفسه يلحق هذا الرجل ويسأله قائلًا: أحمم هل يمكنني مساعدتك؟
رد باقتضاب: ومَن قال أنني في حاجة للمساعدة؟ وأردف وهو يبتسم بوجه بشوش: لكن بما أنك أتيت يا بني فلا مانع في أن تصحبني للبيت بتلك!
قال جملته الأخيرة وهو يشير بعصاه التي يتوكأ عليها على المظلة المستقرة في يد يحيى، ابتسم يحيى ووضع يده في يد العجوز وسار معه تجاه بيته والمظلة تحميهما من الأمطار التي قَلت عن السابق بقليل، كانت حركة الرجل بطيئة وضعيفة وبسبب الأمطار التي جعلت الطريق طينيًا فأخذ الطريق منهما ضعف الوقت تقريبًا وهذا جعله يشعر ببعد المسافة رغم أن بيت الرجل ليس بعيدًا عن المسجد لتلك الدرجة، إلى أن وصلوا أخيرًا، لو كان يعلم تلك العوائق من البداية لأوقف تلك السيارة الصغيرة ذات الثلاث عجلات "التوكتوك بالعامية" ولكن حتى لو فكر فيه من أين يأتي به الآن وفي هذا الوقت والمطر الشديد الذي يجعل الطريق يخلو من حركة السير ويضفي عليه هدوءًا يعشقه ويريحه من حمل البشر الذين لا يكفون عن افتعال المصائب على تربته، توقفوا أمام بيت الرجل، عمارة من عدة أدوار لها باب خشبي، قرر الخروج عن صمته أخيرًا وسأله قائلًا: كيف تأتي هذه المسافة خمس مرات يوميًا، ألا ترى أن الأمر شاق عليك؟
قال الرجل: كما أتيت معك الآن أسير حتى أصل للمسجد، كان يتحدث وابتسامته لا تفارق وجهه الذي ملأته التجاعيد وبالرغم من ذلك وجهه به نور عجيب وبشاشة تجعلك تحبه من الوهلة الأولى.
- أنت لم تفهم قصدي، لمَ لا تصلي في بيتك خصوصًا في هذا الجو الممطر، وأيضًا الله أجاز الصلاة في البيت في المطر الشديد، بالإضافة لأنك ليس عليك حرج لكبر سنك فلمَ تتعب نفسك هكذا و....
ابتسم الرجل وقال مقاطعًا: فهمت قصدك يا بني... لكن كما ترى، العمر لم يعد به بقية ولعل الخطوات التي أسيرها للمسجد تشفع لي عند الله يوم العرض عليه وتكون سببًا في رحمة الله ودخولي الجنة، عجز عن الرد واكتفى بتلك الابتسامة للرجل.
- حسنًا هيا لأوصلك للأعلى، في أي دور أنت؟
- لا تقلق أنا أسكن في الطابق الأرضي.
ابتسم وودعه، استدار ومشى قليلًا ثم عاد بنظره للمكان الذي كان يقف فيه العجوز وابتسم قائلًا لنفسه: يا ليت قلوب الشباب كقلبك هذا، وليت قلبي أنا أيضًا مثلك يا رجل... مَن المسن حقًا، أنت أم أنا!
ظل يسير وكلام العجوز يتردد في أذنيه حتى وصل لمنزله فتح الباب وألقى المظلة على الأريكة وألقى بثقله عليها أيضًا، بعد دقائق دلف لغرفته وأحضر منها شيئًا ما، كان يحمل أجندة سوداء وقلم وضعهم أمامه وبدأ يكتب.
"أنا يحيى راشد هذه أول مرة أكتب فيها مذكراتي رغم أنني في عامي الثلاثون، لا أحب هذه الأمور حقًا، ولكن حين قابلت هذا العجوز وتحدثت معه عن شيء كنت أتناساه دومًا الجزاء، حيت بداخلي الذكريات من جديد، ربما لم أنسَها حقًا وهل ينسى المجرم جريمته؟ صارت تجتاحني رغبة عارمة في الحديث لأحدهم، ولكن ليس كل الكلام يمكن أن نبوح به"
بدأ يكتب وهو يعود بذاكرته للوراء قبل أشهر قليلة من الآن بعدما تذكر رحيل تلك الحنون التي ألمها كثيرًا قبل موتها.
"كنا في الصباح الباكر وكنتُ أستعد للذهاب لعملي قبل أن تتصل بي أختي رقية وهي تبكي وتخبرني أن أمي مريضة بشدة وتريد أن تراني في أسرع وقت ممكن، ذهبت لأراها وأتت معي زوجتي سلمى، كنت أقف أمامها ولا أقدر على حمل قدمي ولا أريد أن أفتح عيني وأراها هكذا على ما هي عليه تتحدث إليّ بوهن شديد وقالت: بني، اشتقت إليك.
- ماذا بك يا أمي؟
- يبدو أن الوقت حان يا بني.
بكت رقية وزوجتي سلمى، نظرت لهن أمي بحنان وقالت: لا تبكيا غدًا نلتقي وأنا اشتقت لرؤية ربي ورسوله وأيضًا لرؤية أبيكم، تحدثنا قليلًا كنت أنظر في الأرض بأسى بينما قالت أمي حين انتهت: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله، وفاضت روحها للسماء.
اقتربت من أمي بعدما فاضت روحها إلى السماء وقبلت جبينها، ثم ما لبثوا أن شرعوا في تجهيز جسدها للدفن ولم أرَها بعدها قط إلا وأنا أحمل نعشها لأسير به إلى المسجد ومن ثم إلى مقابر العائلة وأدفنها بجوار أبي، وقفنا في المسجد نصلي عليها، بينما كانت أختي رقية منهارة جدًا ولا تقوى على النهوض البتة وزوجتي سلمى تضمها وتبكي هي الأخرى، انتهت صلاة الجنازة فحملنا النعش مجددًا ووضعناه في سيارة حتى نصل للمقابر، بعد أن وصلنا نزلنا وحملت الجثمان، نزلت به للمقبرة -و يا له من شعور- ودخل معي يوسف زوج أختي وفي دقائق معدودات رحلنا وصارت أمي بمفردها!
في طريقي كنت أتذكر كل كلماتها في الدقائق الأخيرة حين قالت لي وهي على فراشها بصوتها الضعيف حين ذكرت الموت والفراق فقلت: وتتركيني يا أماه بمفردي... أحتاجك وما زلت في أول الطريق.
أنسيت يا بني أن قد سبقنا رسول الله... لا أحد خالد في هذه الدنيا.. كُلنا راحلون... ثم أنني تركتم لله الذي لا يغفل ولا ينام يا بني.... فاحفظ دينك يحفظك الله ويحفظ لك دنياك وآخرتك.. فتكن دنياك معونة لك في رحلتك... لا معونة عليك، يا بني تذكر دائمًا قول ربك: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} الحياة ما هي إلا دقائق نحياها هنا على هذه الدنيا... فإن لم تستغلها ستجد نفسك في القبر بلا تحصين ولا عمل يشفع لك عند ربك ولا ثبات لك عند سؤال الملكين... وإن وجدت نفسك ستقع فإياك أن تنسى وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور... فلا تجعلها تغرك بزينتها الزائفة وأموالها الزائلة وقصورها الفانية ومتاعها الداني.. عدني يا بني أن تعود كما كنت.. عدني.... أمسكت بيدي وأردفت برجاء: عدني.
- أعدك يا أمي.
كنت أنظر في الأرض بأسى بينما قالت أمي حين انتهت: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله، وفاضت روحها للسماء.
حين عدنا للبيت دلفت أختي رقية لغرفة أمي فتبعتها بينما كان يوسف بالأسفل وسلمى زوجتي بالخارج تجلس على الأريكة تبكي في صمت وهي تحمل ابن رقية الرضيع على قدمها، جلست رقية على ركبتيها وهي تتحسس الفراش الذي كانت عليه أمنا منذ قليل، اقتربت منها واحتضنتها كي تهدأ حاولت التماسك أمامها كي لا يزداد الأمر سوءًا رغم براكين الحزن التي بداخلنا لم أكن أسمع سوى ذكرها لله من صوتها المتقطع هذا، كم تشبه أمي في المواقف الصعبة، عندما كان أبي على نفس الفراش وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة وكنت وقتها فتى صغير، أعتقد أننا كنا في نفس الشهر أيضًا، كان أبي مريض بالسرطان وانتهى به الأمر لفقد حياته، أتذكر كم كانت أمي الحنون ترافقه في المرض كما كانت رفيقته في الصحة فلم يمرض أبي إلا بعد ولادة أختي رقيه بفترة، ثم دخل في صراع مع المرض أكثر من عام تقريبًا، لا أذكر بالتحديد كم عامًا صارع المرض ربما أكثر من ذلك أو أقل، في النهاية انتهت رحلته معنا حتى هنا وسبقنا إلى العالم الآخر حيث اللا فراق").
غفى مكانه عندما توقفت يده عن الكتابة وهو يتذكر رحيل أبيه الحنون، كانت عينه تملأها الدموع ولم يشعر بنفسه إلا عندما استيقظ على صوت أذان الفجر، خبأ الأجندة قبل عودة زوجته في الصباح من زياراتها لبيت أبيها، وعاد لينام قليلًا بعدما عاد من الصلاة وقبل أن يستيقظ ليذهب لعمله.
***
على الجانب الآخر قبل ذلك الوقت بقليل في منزل أحدهم عمارة بسيطة حيث الطابق الثاني... دخل هذا الشاب يرتدي جلبابًا أبيض مهندمًا وسروال من نفس لونه لا يظهر إلا جزء بسيط منه أسفل جلبابه، طويل اللحية نسبيًا ويحمل تلك المظلة التي حمته من المطر، كانت أخته الصغيرة "خديجة" بانتظاره، قالت حين رأته: حمدًا لله على سلامتك أخي، هل أعد لك العشاء؟
هز رأسه نافيًا وهو يبتسم بوجه بشوش: سلمكِ الله يا خديجة، أين أحمد ألم يعد بعد؟
- لا اتصل منذ قليل وأخبرني أنه سيبيت عند صديقه في السكن، ما زال يدرس.
كان أخوه أحمد في كلية الصيدلة في عامه الخامس، بينما كانت خديجة في كلية الدراسات الإسلامية في عامها الثالث... كان دائمًا يفتخر بهما ويحمد الله أن أعانه على حفظ الأمانة التي سيُسأل عنها أمام الله وأمام أبويه.. فما كان أخوته محل فخره فقط لأجل ما بلغوه من تعليم عالٍ، بل لأجل خلقهم الرفيع أيضًا.. طوال الأعوام الماضية كان يستحضر قول رسول الله "أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ، وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ، وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ، أَلَا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ"، لذا كان حريصًا على تلك الرعية ولا يزال.
قال وهو يبتسم: هل صليتِ العشاء؟
قالت وهي تبادله الابتسامة: الحمد لله يا أخي... لا تقلق.
- حسنًا هيا اذهبي وأكملي دراستكِ قبل أن تنامي.
هزت رأسها بالإيجاب وانصرفت بعد أن ودعته وجلس هو شارد الذهن في هذا الصديق الذي تغير حاله أخيرًا إلى ما كان يتمناه ويدعو له به طوال الأيام الماضية حتى استقرت جفونه وغفى.
***
ذهب يحيى لعمله في الصباح، يعمل الآن في وظيفة لدى إحدى الشركات العالمية بعد ما توسط له يوسف وأقنع صديقه بأن يعمل يحيى معه في شركة أبيه.
ورغم كل ما كان فيه من خصال سيئة في الماضي إلا أنه كان شابًا أمينًا ولديه مهارة في عمله وهذا ما أعجب والد مروان، وأيضًا ذكائه الذي جعله ذراعه اليمنى رغم اختلاف دراسته ومستواه التعليمي عن ما أحتله من منصب يصعب الوصول إليه بتلك السهولة.. ما جعله محط كراهية وحقد الكثير من العاملين وخاصة من تطلعوا لهذا المنصب الثمين.. جلس في المكتب قبل أن تأتي السكرتيرة وتطلب منه أن يذهب للمدير.
طرق الباب ودلف، وأذن له المدير بالجلوس وأعطاه ملفًا وهو يقول: راجع هذه الصفقة جيدًا، إن وافقنا عليها سنجني الكثير من المال.
أخذه وهو يقول: حاضر سأراجعه الآن في مكتبي وأعود.
- لا داعٍ لذلك، راجعه هنا.
مر وقت طويل ولا يزال يراجع الملف، كان انتهى منه مبكرًا ولكنه تردد قليلًا في قول رأيه، حتى تردد في أذنيه "وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائم"
- هذه أول مره تعرض عليّ صفقة كهذه!
- أعلم أنك متعجب، أنا أيضًا لم أكن أريدها، ولا أريد العمل في مثل هذا النوع من الصفقات، لكننا خسرنا الكثير من الأموال خلال الفترة الماضية وحان وقت تعويض تلك الخسارة.
- وتعويض الخسارة لا يأتي إلا بتلك الطريقة؟
- ماذا تقصد يا يحيى، ألست موافقًا؟
- لا، ولن أسمح أبدًا بحدوث هذا، لن أسمح لك بتعويض خسارتك تلك على حساب الناس.
ارتفع صوت المدير وصاح قائلًا: ومَن أنت لتسمح أو تمنع! أنت موظف هنا تفعل ما أمرك به فقط ولا يحق لك الاطلاع أو التدخل في هذه الأمور، أنا الذي جعلك هنا وعاملتك مثل ابني مروان ولا ترسم عليّ الشرف فأنا أعلم الناس بماضيك.
- معك حق، ليس لي الحق أن أمنعك ولكن على الأقل لي الحق ألا أشارك في تلك الجريمة.
- إن لم توافق فأنت مرفوض وأرني كيف ستنفق على أسرتك وأنت على مشارف استقبال مولود جديد.
- "وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ" الرزق ليس بيدك، وما أنت إلا سبب سخره الله لنا وهو قادر على تسخير مَن هو أفضل منك.
قال له يحيى هذه الكلمات وخرج، ذهب لمكتبه يجمع أشيائه ليرحل من الشركة بأكملها بعدما كتب ورقة استقالته.
عاد إلى منزله متأخرًا، كانت سلمى تنتظره على الأريكة فنهضت مسرعة وهي تقول: حمدًا لله على سلامتك، هل أنت بخير؟
خرجت كلماته باقتضاب وهو يقول:نعم، أنا بخير الحمد لله.
- اتصلت بك كثيرًا ولكن هاتفك مغلق!
- أعتذر.
كانت كل ردوده باردة معها وما الجديد! فهو هكذا معها في أغلب الأوقات، تركته وتوجهت للمطبخ وهي تخفي بداخلها هذا الألم وتدعو الله في سرها أن يهدي ذات بينهم.. قالت قبل أن هذه تدخل: ثوانٍ ويكون الطعام جاهزًا.
- لا داعٍ للطعام، أنا مرهق وأريد أن أنام قليلًا قبل أن يؤذن للفجر.
دخل لغرفته ونام بينما هي نظرت في الساعة فوجدت أنه لم يتبقَ على أذان الفجر إلا قليل، فذهبت وتوضأت لتصلي ركعتي القيام وتدعو الله وترجوه أن يهدي ذات بينهم.
***
دخلت لتوقظه كالعادة قبل الفجر أيقظته وهي مشفقة عليه لأنه لم ينم إلا ساعة واحدة ولكنها أيضًا ما كانت لتتركه ينام عن صلاة الفجر بعد أن هداه الله وهذا ما كانت تتمناه حتى وإن كان هناك بعض الأشياء التي لم يتخلص منها بعد فالأهم الأن أنه أقبل على الله ومن المؤكد أن هذا الأشياء ستتصلح تدريجيًا.. شكرها ونهض بتثاقل فهو لم ينعم بالنوم بتاتًا في هذه الساعة التي سرقها قبل الفجر.. قام وتوضأ ليصلي... استغل انشغالها وأنها لا تزال في الغرفة وأخذ الأجندة ونزل للمسجد صلى ركعتي التحية وركعتي قيام وأوتر وظل يستغفر حتى أذن للفجر... صلوا وخرج الجميع إلا هو والمؤذن "علي" الذي اعتاد الجلوس حتى الشروق في أغلب الأيام، أخذ يحيى يكتب قليلًا في مذكراته عله ينسى ما حدث، فهو الآن يحمل لقب "عاطل" من جديد، وكانت هذه العيون تراقبه بصمت من حين لآخر.
"كان أبي رجل حنون في معاملته مع الجميع فكان رقيق الطبع صبورًا يعامل الناس بالحسنى والرفق ولا أظن أنني رأيت أطيب منه قط... لذلك كنت أرى أمي من بعده مكسورة كيف لا وهو زوجها وحبيبها وشريك الدرب الذي عاشت معه أعوام بمرها وحلوها فقرها وغناها، صارت من بعده ضعيفة لا تقوى على مواجهة الحياة وتحمل مشقتها بمفردها وخاصة أنني ورقية ما زلنا صغارًا.. لا يفارقني أبدًا يوم رحيله، أراه كلما كُنت بغرفتي أتذكر آخر مرة رأيته هنا على فراش مثل هذا في تلك الغرفة.
***
في مساء ذلك اليوم قارص البرودة ذهبت أمي لترى أبي وتطمئن عليه بعد أن وضعت لنا العشاء انصدمت حين دخلت للغرفة وحاولت إيقاظه لتناول الدواء، لم يرد عليها فكررت ذلك عدت مرات وأبي لا يجيب قلقت جدًا عليه ورأيتها تخرج من غرفتها مهرولة فتركت طعامي وذهبت لأرى أبي، ظللت مكاني أقف على الباب لا أقترب منه خوفًا -لم أكن أدرك وقتها ماذا يعني الموت ولا أن يرحل أحد عن عالمنا!- بينما كانت أختي رقية تلعب بألعابها عادت أمي للغرفة بعدما حدثت الطبيب وأتى بعد دقائق معدودة، أخبرها أن الله قد أسترد أمانته، انهمرت دموعها التي سبقها قول "إنا لله وإنا إليه راجعون" وساها الطبيب ورحل وأنا هرولت لكي أقف بجوار أبي بكيت على بكاء أمي ورحيل أبي ولا أعلم ماذا أفعل، دائمًا كان يخبرني أبي عن الموت ولكن لم أكن أدرك الأمر كباقي الأطفال في مثل عمري، حتى أصبح الأمر قريب مني أكثر ورحل أبي ولم أعد أراه، وقتها أدركت ماذا يعني الموت!
تحولت حياتنا بسرعة بعد وفاة أبي، الجميع في حزن دائم حتى أنا دخلت في اكتئاب وعانيت الوحدة بدون أبي فلم يكن هناك مَن هو أقرب إلي منه وأمي لا تزال تحبس نفسها في تلك الغرفة لا نراها إلا وهي تضع لنا الطعام الذي نتأمله أنا وهي بصمت دون أن تمتد له يدي بينما هي تطعم أختي الصغيرة، دائمًا كنت معه أينما ذهب صحبني في يده، حتى البيت تأثر وبدأ يظهر وكأنه مهجور من عدة سنوات، انقطعت عن الذهاب لمدرستي ودروسي فترة من الوقت لم أكن أطيق رؤية أحد أو الحديث معه حتى "يوسف وسلمى وسمية أختها" مَن كانوا يلعبون معي دائمًا، بعد فترة من ذهابي للطبيب النفسي قررت ألا أذهب مجددًا لا إلى الطبيب ولا إلى مدرستي مرة أخرى رغم حبي الشديد لها ولصديقي المقرب "يوسف زوج رقية" في تلك المدرسة الخاصة التي انتقلت لها بعدما رزق الله أبي بالمال وفتح عليه وتركنا بيت جدي في الحي وذهبنا للمنزل الجديد الذي اشتراه أبي، وكان مجاورًا أيضًا لبيت "يوسف وسلمى" ثلاث عمارات متلاصقة، ما جعلني أصبر على فراق صديق آخر كنت أظن وقتها أنني لن أراه مجددًا خاصة بعد وفاة جدي بعامين من انتقالنا وانقطعنا عن زيارة هذا الحي حتى وقت ليس بالبعيد من اليوم.
***
عاد لمنزله بعدما أغلق مذكرته وصلى الضحى، جلس على مقعده الذي يترأس طاولة الطعام يتناول الإفطار الذي أعدته زوجته لمعرفتها أنه يحب تناول الإفطار في ذلك الوقت وبعدها يرتدي ثيابه ويهب لعمله الذي ينشغل به حتى وقت متأخر، قالت بعدما جلست على المقعد المقابل له من جهة اليمين: جَهزتُ لكَ بدلتك.
- سلمت يدك، ولكنِ لن أذهب للعمل اليوم.
- هل حدث شيء ما؟ أنت تأخرت بالأمس ولم أرِد أن أضغط عليك بالأسئلة فوجهك يقول أنك تخفي شيئًا.
أكمل طعامه بهدوء ولم ينظر لها حتى لا تكتشف أنه يكذب عليها وقال بهدوئه المعتاد: لا لم يحدث شيء، فقط اشتقت إليكِ أنتِ غبتِ عني لأسبوع كامل ومكثتِ عند أهلك.
كانت تعلم أنه يكذب عليها، فهذه ليست أول مره تمكث عند أهلها تلك المدة وهو لم يفعل ذلك قط بل كان دائمًا يتحجج بعمله كي لا يذهب معها أو حتى يمكث معها في البيت حينما تكون مريضة، فحملها أجهد صحتها وأخبرتها الطبيبة أنها تحتاج لرعاية خاصة لهذا كان يحضر مَن يساعدها دائمًا لترتاح من عمل المنزل وإذا اشتد عليها التعب ذهبت لبيت أهلها لترعاها أمها وهو لم يعترض مره واحدة على ذلك ليكون هو إلى جوارها حتى يطمئن عليها وعلى ابنهما الذي تحمل في أحشائها، رغم خوفه الذي يكون جليًا عليه إذا حدث لها مكروه أو تألمت ولو ألم بسيط، لا تدري إن كان هذا الخوف عليها أم على ابنه فقط! دائمًا يتحجج بأنه ليس خبير في أمور العناية تلك ولم يعتدها ليوصلها سريعًا لأمها ويرحل وتعود هي مع أبيها حين تتحسن صحتها... أبعدت تلك الأفكار المزعجة عنها وقالت بهدوء مماثل: حسنًا!
ارتسمت ابتسامه صفراء على وجهه وهو يعلم من طريقتها أنها لم تصدقه، وهو لن يخبرها الحقيقة حتى لا تقلق فهي في شهور حملها الأولى خاصة أن حملها غير مستقر، لم يكن يعرف كيف ومن أين سينفق على بيته في هذا الشهر وتلك الأشهر الثمانية المتبقية قبل وضعها مولودها.
ضربت بيدها على مقدمة رأسها بحركة عفوية جعلته يضحك، وجعلتها تغضب قليلًا من ضحكه عليها ومن عفويتها تلك، ابتلعت غصتها وقالت: نسيت أن أخبرك.. بالأمس اتصلت رقية وأخبرتني أنها ويوسف يريدون منا الذهاب على الغداء اليوم.
- حسنًا.
***
بعدما رحل "علي" من المسجد جلس مع أخته يتناول الإفطار وبعدما انتهى من الطعام وجلس ينتظر كوب الشاي قالت باستحياء كالعادة وهي تطلب المال: أحم أبيه.
يعلم جيدًا حين تنطق تلك الكلمة أنها ستطلب شيئًا فابتسم وأومأ لها لتكمل فقالت: أحم.. أحتاج بعض النقود لشراء الملخصات يا أبيه.
ضحك على منظرها هذا وعلم من كلامها وقال: ألن تكفي عن الخجل وأنتِ تطلبين المال يا خديجة... أخبرتك مرارًا أنكِ ابنتي، اطلبي ما شئتِ وقتما شئتِ دون أن تخجلي.
هي لم تكن تخجل منه وإنما كانت تعلم كم الضغط الذي على أخيها من نفقات جامعة أخيه ونفقات البيت وجامعتها وجهاز كلاهما الذي أصبح يدخر جزء من المال لأجله... وينسى نفسه من بينهم!! فها هو قد شارف على عامه الواحد والثلاثين دون أن يتزوج واهبًا كل ماله ووقته وصحته وكل شيء لأجلهما فقط.. احتضنته بقوة وقالت: لا حرمنا الله منك يا أبيه.
قبّل جبينها وأخرج النقود من يده فقال مداعبًا وهو يضربها على رأسها بخفه: ولا منكِ يا رقيتي... ولكن ألن تكفي عن كلمة أبيه تلك.. فأنتِ أصبحتِ طولي الآن.
ضحكت وهي تلكزه بيدها وقالت بغضب مصطنع: احترت معك، إن قلت علي تضجر وإن قلت يا شيخ علي تضجر، وإن قلت أبيه تضجر... أنت لا يرضيك شيء يا حبيبي.
ابتسم قائلًا: معك حق... صمت قليلًا وهو يحك ذقنه بأنامله ويضم عينه كأنه يفكر ثم قال: قولي أبي إذًا يا بُنيتي.
شددت من ضم أخيها الحنون، كم تحب هذا الذي أفنى عمره لأجلهم، في هذه الأثناء دخل أخيه أحمد وهو أيضًا له لحية ولكنها أقل طولًا مما يضفي عليه شيء من الهيبة والجاذبية كأخيه علي، قال وهو يتصنع الصدمة وبصوت عالٍ نسبيًا: خيانة! الشيخ علي وخديجة، وأين في صالون بيتنا؟
ضحك أخويه على دعابته وفتح له أخوه ذراعه ليدخل هو الآخر في حضنه فتصبح أخته عن يمينه وهو عن يساره، قال أحمد مازحًا: هذا حقي في الحضن... أين إذًا حقي في الطعام فطرتم بدوني؟ قال علي: ألم تنم عند صديقك بالأمس هذا عقابك إذًا. أخرجت خديجة لسانها مغيظة له وقالت: أحسن... لكن سرعان ما اختفت ابتسامتها وانصدمت حين قال علي: خديجة أعدي لأخيكِ طعامًا قبل ذهابك للجامعة وأنا سأنزل المحل. فعل معها أحمد مثلما فعلت معه وأخرج لها لسانه مغيظًا فقالت بغيظ واضح في نبرتها وهي تضغط كل حرف: حسنًا.
ابتسم كلاهما وقال "علي" لأحمد قبل أن يذهب: تفضل يا أحمد.
أخذ منه المال بقلة حيلة وهو يخفي حزنه الدفين وقال: شكرًا.