أحوال العباد
في عام 457هـ، أطَلَّت شمس شهر (شعبان) بأشِعَتِها الحارة وقت الظَّهيرة علىٰ رؤوسِ العِباد داخل أحد أسواق (الفسطاط) المزدحمة، والتي تستضيف العامة( ) من كل حَدْبٍ وصَوْب، تَختَلف الملابِس مع اختلاف الجِنسيات( ) والكُل لسببٍ واحدِ آت، تتراصَف الدكاكين والحوانيت ببضائعِها المعروضة في رَواجٍ واضح ذلك اليوم، يَشْدُو المكان بِهَمْهَمَةِ المُتجولين يعلوها صَوْتُ الباعة والمُنادين، منهم من تفترش أقمشته الأرض بينما تتخاطَفُها أياديَ النساء، ومنهم من ينادي لبَيْع أباريق وصلت لِتَوها من (بلاد الشام)، يغمر المكان نسماتُ الصَّيفِ العليل، لتُحَلِّق بها طيورُ النورس فوق سَواري السُّفُن التي تتراصف علىٰ الضَّفة المُطلة علىٰ السُّوق، بينما يَكِدُّ العُمال في إنزال البضائع منها إلىٰ الباعة، والكل منشغلٌ في أمرِه ومَسْعاه.
ومن وسَط زِحام العِباد، تَواجَد رَجُلٌ هزيلُ المظهرِ أشْعَثُ الشعرِ، تُنازع ملابسُه لفَحَات الشمسِ التي بَهُتَت ألوانها، لا يعبأ للدنيا همًا سِوىٰ أمرٍ واحد، لقد كان "عبد الرازق" يمشي في السُّوق بعيَنَيْن ترصُدان المكان بحثًا عن فرصةٍ لِكَسْب رِزْق يومِه، فكل يومٍ بالنسبةِ له بمثابة فُرصة عملٍ جديدة، فعلى الرُغم من عدم امتلاكِه لعمَلٍ ثابتٍ أو حرفةٍ تعوله، إلا أن ذلك لم يُثْن من عزيمتِه يومًا، فَحِرفَته كانت تتجلىٰ في ذكائِه وفطنتِه في إيجاد قوتَ يومِه من أبْسَط الفُرص، فتارة يُتِيِح له القَدَرُ رِزْقه من خلال حَمْل البضائع للباعة مع الحمَّالين، وتارة يَجِد رِزْقه من مُساعدةِ أحد الصباغين، واليوم هو يومٌ جديدٌ له وفرصة أخرىٰ لِكَسْب الرِّزْق، فأخذ يتجول هائمًا في السُّوق.. حتىٰ تراءت لعيَنَيْه فرصةٌ سانحة.
أسْرع الخُطىٰ نحو رجلٍ يعتلي بغْلتَه وتبدو عليه مظاهر تَفُوقُ السَّتْر، كانت البَغْلَة تَسْلك دربًا مزدحمًا يَعوق سَيْرَها بينما يتأفف صاحِبها بنفسٍ مُتعالية، فتحرك "عبد الرازق" من أمامِه سريعًا وهو يَصِيح في الخَلْق لِيُفسِحوا للبغلةِ طريقًا للتَّحَرك، صاح في رياءٍ واضح بينما يُعْلي من شأن الرَّجُل، يدفع الناس من أمام البَغْلَة في حماسٍ وهمةٍ من أمرِه، التفت سريعًا ليَلْمَح علاماتَ الرِّضا والزَّهْو في نَفْسِ الرَّجُل، وكأنها بمثابة إشارة من الرَّجُل لكي يستمر "عبد الرازق" في ريائه ومدحِه الزَّائِف، ابتسم في سعادةٍ وهو يكمل ما بدأه بتفانٍ، الأمر الذي أسْفَر في نهايتِه عن بضعة دراهم ألقاها له الرَّجُل في نهاية مَسِيرته عبر السُّوق، فالتقطتها "عبد الرازق" في سعادةٍ غامرة وقد أتت فعلته بثمارها.
أخذ يُحدق النظر بها في يَدِه وهو يُعِيد إحصاءها أثناء طريق عَوْدَتِه لدارِه، لربما يَكْفِيه ما في الدَّار من قوتِ اليوم فيوفرها للغدِ أو ليومٍ بائر، أو لربما يَسْعِفه الحظُ يومًا في توفير بعض المال الكافي لِيبدأ عمله الخاص بتجارةٍ صغيرة، ولكن باقترابه من الدَّار قاطَع شرود ذهنِه صَوْتُ طرقاتٍ قوية أتت علىٰ أحد أبواب الدِّيار المُجاورة له، فرفع رأسه المُنْكَفِئ نحو يدِه وهو يدرك الأمر الموشِك علىٰ الحدوث.
جاءت قطةٌ مسرعةٌ من خلفه علىٰ غفلةٍ منه لتَعْبر من بين قَدَمْيه، بينما يَلحَق بها أحد الكلاب اللاهِثة من خلفِها ليَرتطم بقَدَمِ "عبد الرازق"، فيَجْزَع وتَسْقط الدَّراهم من يدِه لتتناثَر علىٰ الأرض، فانحنىٰ لالتقاطها الواحد تلو الآخر في غضبٍ منه، ليَرفع رأسَه بعد ذلك ويتابعهما بِنَظرِه ولسانِه يلعَنُ تلك الحيوانات التي اُبْتُلي بها زُقَاق (أترُجة).
رَكض الكلب سريعًا خلف القِطةِ المُسرعة أيضًا، ولكن ليس لمطاردتها أو الفَتْكِ بها، فكلاهما أتىٰ مُسرعًا نحو صَوْتِ الطَّرْقِ الذي اعتادا سماعه كل يومٍ ويُمَيِّزانه جيدًا، ليَقفا أمام باب الدَّارِ المنشود، وقف الكلبُ يلهثُ بينما يُداعب ذَيلُه الهواء في سعادة، ناظرًا نحو تلك السَّيدة العَجوز التي تقف قُبالته أمام عَتبةِ دارِها، ابتسمت "أم البراء" نحوه وهي لا زالت تَطْرق بيدِها علىٰ البابِ الخَشَبِيّ دون هَوان، استمرت في فِعْلَتِها لبعض الوقت حتىٰ اصْطَفَّ أمام دارِها عددٌ لا بأس به من الكلابِ والقططِ الضالة، قَدِموا من الأَزِقَّة والحواري المُجاورة فور سَماعهم للطَّرق غير عابئين بأمرٍ سِواه.
حينئذٍ فتحت بابَ دارِها لتُخْرِج بعض الصُّحون القديمة وتُفَرِّقُها علىٰ الأرض، ثم عادت لتَصْطَحِب إناءً كبيرًا مُمتلئًا بالطَّعام، لتَبدأ في توزيع ما يَحتويه في تلك الصُّحون، نظرت وقتها بسعادةٍ نحو تلك الأفواه الجائعة التي انْكَفَأ كلٌ منها يَنْهَم طعامَه دون خوفٍ أو تشاحنٍ بينها، فقد كان الكل يَنْعَم بالسَّلام في حَضْرَتِها.
كانت "أم البراء" امرأةً عجوز أحنىٰ الزمن ظهرها وسَكَن ملامحها الهادئة، كادت صدمة فُقدان زوجها منذ سنواتٍ أن تُفقدها عقلها، لولا أن وجدت هدفًا يؤنِس وحْدَتَها الطويلة، فلطالما اعتبرت الحيوانات الضَّالة بمثابة أبنائها الذين لم تَحظْ بهم يومًا، كانت تستيقظ من أجلها وتَحْمِل همّ قُوُتِها، فتذهب إلىٰ السُّوق كل يومٍ لتقوم ببيعِ دجاجاتَها بعزيمة شابٍ يافعٍ يسعىٰ ويَكِدُّ لإطعام أسْرَتَه.
انتظرت حتىٰ فرغت الصُّحون وامتلأت البطون، فانحنت لالتقاطِها وسط تلامُس الحيوانات لها من حولها في سعادةٍ وامتنان، ولكن لم يَلَبِث وأن انْفَضَّ الجَمْع من حولها جَرَّاء نُباحٍ قوي عَلا من الحظيرة المُلاصِقة لدَارِها، لِيَظهر كلبٌ قوي البنية من الداخل، ومن ورائه لاحت ظلالٌ أخرىٰ تَتَوارىٰ خلفَه، وقد لم تعتَد مُقاربة أحدًا من بَني جنسها سوىٰ رفيقها، إنه (جَبَليّ) وبصحبته (زرقاء اللَّيْل).
لقد كانا الكلبان الخاصان بتلك السَّيدة العجوز، فهما آخر ما تبقىٰ من ذكرياتٍ جمعتها مع زوجِها الراحل، فقد أتىٰ يومًا بجروين صغيرَيْن كان قد عَثَر عليهما أثناء رحلة سفره، ليَعْقِدا العزم علىٰ الاحتفاظ بهما وتبنيهما كفردَيْن من الأُسْرة، وقتئذٍ قرر الزوج تسمية الجَرْوْ الذَّكر باسم (جَبَليّ) لبأس ملامحه المُقْفِرة، بينما قرَّرَت هي أن تُسمي الأنثى بـ (زرقاء اللَّيْل)، فهو أول اسم قد خَطر علىٰ ذِهنها حين رأت عينَيْها للوهلةِ الأولىٰ، وقد تلونتا بِزُرْقَة اللَّيْل الذي ينيره ضوء القمر السَّاطع.
دَلَفَت العجوز إلىٰ داخل الحظيرة لِتَضَع الطعام في صحنَيْهِما، وهنا أتت زمجرةٌ عاليةٌ من (جَبَليّ) ليَنبح نحو إحدىٰ الدجاجات التي خرجت لتُهِيم علىٰ وجهها خارج الحظيرة، تحركت العجوز لتلحق بالدَّجاجة للإمساك بها، لِتُرَفْرِف في الهواء مُبتعدة عن مُتناول يدَيْها، فتحركت نحوها سريعًا في تأففٍ لتعاود المُحاولة فتبوء بالفشل مجددًا، بينما بدأت الدَّجاجة في الابتعاد عنها، حتىٰ أتت قَبْضة أحدِهم ليُحكم الإمساك بها في قوةٍ ويحملها عائدًا إلىٰ العجوز.
- "هل حاوَلَت الهربَ منكِ مجددًا؟".
ابتسمت "أم البراء" في ارتياحٍ لانتهاءِ معاناتها، ليتحرك "بيجاد" إلىٰ الحظيرةِ ويعيد الدَّجاجة إلىٰ مَسْكنِها، بينما رافقته وهي تُحدِّثه مازحة:
- " لقد سَئِمْتُ من تلك الدَّجاجة المارقة، وكأنها تُطالب بأن يحين دورها وتُعَجِّل من أَجَلِها".
ضحك الشَّاب بينما يمر وسط الحشد الذي بدأ في التَّفرق ليَعود من حيثما أتىٰ، لِيقف علىٰ عتبةِ الحظيرةِ مُحدقًا النَّظر نحو الكلب الذي يعترض بابَ الحظيرةِ ويَرمِقه بنظراتٍ يحكمها الجمود، ليقف الشاب في حيرةٍ من أمرِه سائلًا إياها:
- "هل ينوي الإفساح لي أم ماذا؟".
- "لا أظن ذلك".
قالتها العجوز ضاحِكة وهي تأخذ منه الدَّجاجة وتدْلِف من جِوار الكلب إلىٰ الدَّاخل في هدوء.
فتحرك الشَّاب بضع خطواتٍ جانبًا لينظر نحوها ويَهُم بإكمال حديثه لولا أن قاطعته زمجرةٌ متوعدةٌ من الكلب، ليَتَسَمر في مَوْضِعه بنظراتٍ مثَبَّتة نحو (جَبَليّ) مُحدثًا نفسه في هَمْهَمَة:
- "لا أعلم سبب خِشْيتي من هذا الكلبِ دون غيره".
كانت "أم البراء" تفهم جيدًا المقْصِد من وراء مقولَتِه تلك، فقد كان (جَبَليّ) هجينًا غريبًا لا أحد يعلم شيئًا عن أصوله التي أسْفَرَت عن ملامحٍ ممتزجةٍ لفَصَائلٍ صحراوية عِدَّة، نَتَج عنها وجهٌ دميم، زاغ البَصر عن إحدىٰ عَينَيْه، يمتلك جسدًا عتّيًا مُغطىٰ بشعرٍ أسْوَد كاللَّيْل الحالك يُنذر بالخَوْف لمن تقع عيناه عليه، مليءٌ بندوبٍ عديدة لماضٍ لا يَعْلَمه أحدٌ سواه قبل أن يأتي به سيَّدُه ويَحْتَضِنُه في كَنَفِه.
لتَخرج بعد ذلك تَنْفِضُ الأتربة عن ملابسِها وهي تُحدِّثه:
- "لا تُعِر همًا لـ (جَبَليّ)، فهو علىٰ عكس ما يَظن الجميع من هيئته، فإنه يمتلك قلبًا من ذَهَبِ، كما أن قلبي يحمل له حُبًّا جمًّا، فإنه آخر ما ترك زوجي من أَثَر، كل ما في الأمر إنه لم يعتَدْ صُحْبَة البشر يومًا".
مَرَّت الدقائقُ ليَنتهيَ الحديثُ بينهما وتَدْلِف العجوز إلىٰ دارِها ويعاودُ "بيجاد" التَّحرك نحو السُّوق، ليَصل إليه متوغلًا بين الجموع قاصدًا وجهته حتىٰ وصل إليها، تخطىٰ حين ذاك بعض النُّسْوة اللاتي وَقَفَن بِجوار أحدِ الدكاكين، يَنْظُرن نحوه وهُنَّ يَتَحَدَّثْن بصَوْتٍ مُبْهَمٍ من خلف أخْمِرَتِهُن الرقيقة، الأمر الذي أشْعَره بحرجٍ وهو يَدْلِف إلىٰ الدُّكَّان الذي لا يهدأ صَليل الحديدِ به، ليَقِف بجانب صاحِب الدُّكَّان الذي كان مُنشغلًا في الطَّرْق علىٰ إحدىٰ الأواني دون كللٍ أو مَلَل.
- "صباح الخير يا والِدِي".
لم يُعِره الرَّجُل اهتمامًا واستمر في عملِه، فتَحرَّك "بيجاد" علىٰ استحياءٍ ليأخذ منه المِطْرَقة ويُكمل العملَ بَدلًا منه، فَتَنحَّىٰ والِدُه جانبًا ليُجلس جسده المُرهق علىٰ كرسِيِّه الخشبي مُحدثًا إياه:
- "لقد أتيت متأخرًا كعادتك".
- "فَلتَغْفر لي تَأَخري اليوم، لقد زارني أحدُ أصدقائي من جيش المُستنصر( ) لِيَزُف لي أمرًا جلِلًا بعثَ الحُزْن بداخلي".
نَظَر إليه والده وقد استرعىٰ الحديثُ اهتمامه.. ليُكْمِل ولدُه حديثه:
- "إن الأوضاع لا تُبَشِّر بخيرٍ علىٰ الإطلاق، فلقد نَشُب العِراك منذ بضعةِ أيامٍ بين أطرافِ الجيش الفاطمي، فَقَتل فَصيل الأتراك أحدَ أبناء السودان أثناء نزاعٍ احْتَد بينهما( )، وقد نال الخِلاف اهتمام أفراد القصر لحُظْوَة كل فريقٍ منهما بتأييدٍ مختلف بين الملك ووالدته".
- "وفيما يُعْنيك الأمر؟".
فأجابه "بيجاد" وهو مُنْصَب الهِمة في الطَّرْقِ علىٰ الآنِيَة:
- "سوف تُخلف تلك الأزمة عائقًا كبيرًا أمام تَقَدُّمي للانضمام للفصيل التركي في الجيش، فسوف يَتطلب الوَضْع الكثير من الوقت ليَهدأ، فالكُل منشغلٌ في أمره وكل ما يُعنيه شأنَه دون غيره الآن".
نظر إليه والِدُه معاتبًا إياه:
- "لا أعلم سبب رغْبَتك في الانضمام لجيش المستنصر دون أن تَحمل عن والدك عبء هذا العمل الشَّاق".
كاد "بيجاد" أن يُجيب والده لولا أن اعترضهما صَوْتٌ أُنثَوِي:
- "هل سيَطول انتظارنا؟".
نظر الرَّجُل العجوز إلىٰ المرأة التي حَدَّثَته من أمام عتبة الدُّكَّان، ثم التَفَت إلىٰ "بيجاد" علىٰ الفور والذي سَارَع بالحديث:
- "لقد انتهيت".
ثم تحرك في عجالةٍ إلىٰ المرأة ليُناولها الآنِيَة مُبتسمًا، فأخذتها منه في حين أطالت النظر إلىٰ وجهه ناصِع البياض لثوانٍ، فبدا حينها علىٰ "بيجاد" الحرج إِثْر ذلك ليرتدي رداء الصمت منتظرًا أجره، فتركت المال في يدِه بابتسامةِ خَجَل أطلَّت علىٰ وجهها، بعد أن أطْلَقَت صديقاتها من خلفِها ضَحِكاتٍ خافتة فَضَحَت أمرَها، فأسْرَعت عائدة إليَهٌنَّ لتَنْغِز إحداهن في كَتِفِها ليَسْتَمْرَرَن بالضَّحِك ويَتَخافَتْن في الحديث عائداتٍ من حيثما أتَيْن.
فعاد "بيجاد" إلىٰ والده الذي كان يُشاهد الموقف بابتسامةٍ ساخِرة ارتسمت علىٰ وجهه ليُحدِّث فَتَاه:
- "ألا تَنْوي الزَّواج يا "بيجاد"؟ أخشىٰ أن يأتيَ اليوم الذي تتقدم فيه إحداهن لطلب خِطبتك مني".
ضحك "بيجاد" علىٰ ما يُحَدِثُه والده به، وأكْمَل السَّيْر نحو بعض الأواني الكبيرة التي لاحظ صدور بعض الأصوات قادِمة من خلفِها حينما دَلَف للدُّكان منذ قليل، ثم وقف بِجوارها وهو يُحَدِثه:
- "إن أمر الزِّيجة لا يشغلني همًّا يا والدي العزيز، ففي الوقت الراهن لا يَشغلني سوىٰ أمرَيْن، أحدهما الالتحاق بفرقة الأتراك في الجيش الفاطمي، بينما الآخر هو الاهتمام بهذين المشاغِبَيْن".
ثم التفت سريعًا للوراء وانقضّ بِيدَيْه علىٰ من يختبئان وراء الأواني، لِيَلتَقط طفلَيْن صغيرَيْن فيحملهما علىٰ كَتِفِه ويدور بهما حول نفسِه، وهما يصرخان من الضحك مُكْمِلًا حديثه:
- "هل تظنان أيها المشاغبان أني لم ألحظ غيابكما؟ لا زلتما صغيرَيْن علىٰ إغفال أخيكما الأكبر".
ثم أنزلهما أرضًا بعد ذلك، فجلس أصغرهما علىٰ الأرض.. بينما حاول الثاني الوقوف مُتَزِنًا من الدوار وهو يضحك.
فحدَّثه والده وهو ينظر نحوهما:
- "لقد أفسدت خطتهما في إخافَتِك، وجعلتها تضيع هباءً".
جلس "بيجاد" بجوار أخويه وهو يُداعِب شعر أحدهما ليُحدِّث والده:
- "كيف أفكر يومًا في ترك هذين الصغيرَيْن دون رعايةٍ مني؟ لربما يحين وقت زواجي حينما يَشتَد عودهما فلا أحمل لهما هَمًّا".
كان "بيجاد" عاقِد العَزْم في قرارَةِ نفسه منذ اليوم الذي رحَلَت فيه والدتهم عن الدنيا علىٰ أن يكون أخواه الصغيران هما شاغِله الشاغل، فقد أتت والدته بأخيه الصغير للدنيا لتُبتَلىٰ بحملِ أخيه الأصغر علىٰ الفور، الأمر الذي لم يَسْتَطِع جسدُها الواهن تَحَمُّله ففارَقت الحياة أثناء ولادته، لتترك طفلَيْن في رقبة أبيه العجوز، وقد لم يَتَجاوَز أكبرهما الخمسةَ أعوام، وبذلك لم يعرف أخواه معنىٰ الأمومة يومًا، فكان لهما الأخ والحنان والعَوَض.
أتىٰ صَوْتٌ مجددًا من الخارج مُطالبًا، فتحرك الصَّغير نحو الخارِج في فضول، ليُمسك به "بيجاد" سريعًا ويُجلسه في حِجْر والده وهو يبتسم قائلًا:
- "لم يَحِن أوانك بعد لاستلام العمل بدلًا مِنِّي".
ثم تحرك إلىٰ الخارج مُلبِيًا نداء الغريب..
- "مرحبًا بيجاد".
أومأ "بيجاد" برأسه مُرَحِبًا بالرَّجُل من أمامه:
- "صباح الخير يا قُصِيّ، كيف أستطيع خدمتك؟".
- "لقد جئت من أجل استلام حَدْوَة بغلة سيِّدي الناصري، هل جُهِّزَتْ بعد؟".
تحرك "بيجاد" لداخل الدُّكَّان ليَعبَث ببعض الأغراض، ثم ما لَبِث وأن عاد بمَطلبه، فأعطاه "قُصِيّ" أجْرَه مُوَدِّعًا إياه، ليُسْرِع الخُطىٰ عائدًا لسَيِّدِه الذي كان يقف علىٰ مَبعدةٍ منه عند أحد القَصَّابِين( )، وأثناء سَيْرِه صَاحَبَه من ورائه بخطواتٍ قليلة بضعةُ أطفالٍ مُشاغِبون يَتَلمزون ويَتَغامَزون فلم يُعرْهم اهتمامًا، حتىٰ تردد علىٰ مسامِعه ما قد اعتاد سماعه ولكنه لم يعتَدْ تقبله يومًا، فقد أتىٰ صَوْتُ أحد الأطفال من وسط ضحكاتِ أصدقائه ليَصِيِح بصَوْتٍ عالٍ:
- "قُصَيّ.. العبد الخَصِيّ".
استَدار "قُصِيّ" للخلفِ صائحًا بهم في غَضَب.. فلاذوا بالفِرار سريعًا ضاحِكين حتىٰ اختفوا وسط الحشود السائِرة، فالتَفَتَ عائدًا، لِيُواصل طريقَه حينها بِصَدْرٍ يملأه الحَنَق.
"قُصِيّ، العبد الخصِيّ".. إنه الوَصْف الذي اعتادَ سماعِه من بين تهامُسات النَّاس في الخفاءِ من حوله، فقد كان مالِكَه "الناصري" لا يتوانىٰ عن الحديث أمام كل من يعرفه منذ يوم شرائِه بأنه عبدٌ خَصِيّ، بَذَل الكثير من الأموالِ من أجلِ الحصول عليه للتَّباهي بامتلاكِه لأحد العبيد الخِصْيَان( )، شَرَد ذهنُه فيما حَدَثَ لِتَوه عابرًا المارة حتىٰ وقف بِجوار العبد الآخر الذي يُدعىٰ "يوساب"، والذي كان يقف مُمسكًا ببغلة سيِّدِهما.
لقد كان كلاهما زميلَيْن في العبودية تحت إِمْرَة "الناصري"( )، وإن كان القدر قد أحَسَن إلىٰ "يوساب" عن رفيقِه، ذلك العبدُ الحَبَشي مَفتول العضلات الذي اشتراه مالِكُهما ليرعىٰ ويحرس شأنَه وأملاكَه، بينما كان من نصيب "قُصِيّ" المعاناة والشقاء كخادمٍ لأمْرِ مالكِه وأُسْرَتِه.
- "لقد انتهى الحَدَّاد من عملِه".
قالها "قُصِيّ" إلىٰ رفيقِه وهو يُعطي الحَدْوَة له، فأخذها الأخير ليَضَعها في سِرج البَغْلَة ليَقف يَنظر نحو سيِّدِه منتظرًا إياه، فنَظَر "قُصِيّ" هو الآخر نحو مالِكهما "الناصري" الذي كان يقف علىٰ مَقربةٍ منهما يَتَشاحن في الحديثِ مع القَصَّاب.
- "علامَ كل هذا الانتظار؟".
فأجابه "يوساب" في هدوء:
- " يبدو أن القَصَّاب غير راضٍ عن بَيْعة اليوم".
ثم صَمَت الاثنان في محاولةٍ لاسترقاقِ سَمْع الجدال الذي علا صَدَاه بين مالكهما والقَصَّاب، فقد كان "الناصري" قد قرر رَفْعَ سِعْرَ الماشيةِ التي يبيعها للقَصَّاب عن السعر المُتَّفق عليه في الأيام المُنْصَرِمة، كان "الناصري" يعلم بأمر ازدياد الأسعار فيما هو مُقبل، فقد وصَلَتَه الأخبار المُتناثرة بين ألْسِنَةِ سكان (القاهرة) عن المشاكل والتَّشَاحُنات التي حَلَّت بالقصر والذي أوشك أن يقع صداها علىٰ العامةِ في الأيام القادمة، فانتهز فرصة كَوْنِه تاجر البهائم الوحيد في نِطاق مَعِيشته ليُحكِم قَبْضَته علىٰ رِقابِ القَصَّابين في تلك المُجاورة.
استمر الجدالُ بينهما حتىٰ أسْفَر عن انصياع القَصَّاب لأمر "الناصري"، الذي تحرك مُبتعدًا وهو يضع سُرَرَ الدنانيرِ في عباءته بينما تعتلي وجهه نشوة الظَّفر بحصولِه علىٰ مبتغاه، تاركًا من خلفِه القَصَّاب يَرمِقه شزرًا بينما يَسُب ويَلْعَن إياه مُهَمْهِمًا.
تحرك "قُصِيّ" سريعًا لكي يُهيئ من أمر السَّرْجِ ليَعتليه سيِّدُه ويعاودوا التِرحال، كانت الأموال تهتز في عباءة سيِّدِهما طيلة الطَّريق ومعها تهتز الأفكار في رأسه، فكان "الناصري" عاقِد العَزْم علىٰ توسيع تجارته وإحكام قبضته علىٰ تجارة (الفسطاط) بأكملها، ربما ليس اليوم أو غدًا ولكنه سوف يكون عن قريب.
أسْفَرَت تلك الأفكار عن ابتسامةِ زهوٍ وتعالٍ علىٰ وجهه طوال الوقت، ولم يُعَكِّر صَفْوْ تلك الأفكار سوىٰ اقترابِه من أحدِ الأَزِقَّة المؤدية إلىٰ دارِه القابِع في قلب الزُّقَاق الذي لا يُطيق المُكوث فيه أكثر من ذلك.
إنه زُقَاق (أترُجة الشاهد)( ).. ذلك الزُّقَاق العَتيق الذي تتراصف به الديارُ وتتجاوَر معها أحوالُها وشؤون سُكانها، يَسْكُنه العامة الذين يَدُسُّون أنْفَهم فيما لا يُعنيهم شأنًا، فقد وَرَثَ عن أبيه في هذا الزُّقَاق تلك الدَّار بحظيرةِ الماشِية التي تكاد تفوق دارَه حجمًا، لقد طال الانتظار فيما يُريد، ولكنه قد قارَب علىٰ الوصول إلىٰ مُبتغاه وشِراء دار في (القاهرة) بعيدًا عن حُشود الطبقة المتوسطة التي تنتمي إليها عائلته، لقد أوشك علىٰ جَمْع ما يَكفي من المال من أجل القيام بذلك، وقد صار الوقت الذي سيَتمكن فيه من العَيْشِ كالأعيان ومُغَادَرة ذلك المكان الذي يَدْفِن أطماحه وشيكًا.
توقفت البَغْلَة بغتةً عن السَّيْرِ إِثْر مرور رَجُلٍ من أمامها، كان الرَّجُل يرتدي عباءة تُغطي جسده وتَعْمُر رأسه، ولا تكشف من ملامحِه سوىٰ أنفٍ مدببٍ سَكَنَ فوق شفتَيْه اللتَيْن غمرهما الشيب، ويَنسدل شعرٌ فضيٌ طويلٌ من جانبي عباءة رأسِه، يَسير الخُطىٰ شاخِص النَّظَر إلىٰ الأسفل ليَعبر قاطِعًا طريقه دون أن يعبأ بالًا لأحد، الأمر الذي جعل "الناصري" يُوشِك علىٰ الوقوع من فوق بغلتِه إَثْر وقوفها المفاجئ.. فَتَشَبَّث بالسَّرْج سريعًا حتىٰ لا يَقع في فِعْلَة أفقدته تلك الهَيْبَة التي تملأ نفسه، فنظر إلىٰ الرَّجُل الذي استمر في تَحَرُّكِه دون أن يَلتَفِت إليه ليَصِيح غضبًا:
- "اللعنةُ عليكَ أيها العجوز النكِد".
توقف الرَّجُل بعد سماعِه لحديثِ "الناصري"، الذي أفاض في السُّباب مُكْمِلًا:
- "فوالله لولا خوفي من تَعَثُر البَغْلَة لأمرتها باعتلاءِ جسدَك وإزهاق روحَك البَخْسة".
حينها التَفَتَ الرَّجُل إلىٰ "الناصري" وقد استند براحةِ يدِه إلىٰ خِنْجَرِه المُغْمَد في جانبِه، ليُزيح القليل من عباءة رأسِه رافعًا هامَتَه نحو الرَّجُل، وهو يبتسم في صَمْت معتبرًا ذلك التهديد بمثابةِ دعوة يُرَحِّب بها دَوْمًا، ترددت يدُ العبد "يوساب" المُمسكة بمِقْبَضِ السِّيْف من جانبه، ليُدرك هو و"الناصري" ما قد تَوَرَّط به جَرَّاء لسان سيَّدِه فور رؤيتهما لوجهِ الرَّجُل، فقد أدرك حينئذٍ شأن من يتحدثون إليه.
ثوانٍ من الصَمْتِ قد مَضت، حتىٰ تَحَدَّث "الناصري" إلىٰ عبدَيْه مُحاولًا إخفاء تَوَتُّره الجَلي:
- "هيا أيها الحمقاوان، فأنا لا أملك الوقتَ الكافي لهذا الهُراء، فلدي تجارةٌ أعتني بها وأفواهٌ لأُطْعِمَها".
تحرك الرَّجُل بينما يَلْكُز البَغلةَ ليَستمر في التَّحرك ويُعَجِّل من أمرِه، ومن خلفِه تحرَّك العبدان في انصياعٍ لأوامرِه، مبتعدين عن الرَّجُل الذي أعاد من تمَوْضُع عباءة رأسه ليُكمل هو الآخر سَيْرَه، ليتحرك الأخير من خلال الأَزِقَّة والحواري حتىٰ وصل إلىٰ المكان الذي يُنْشِده.. دار (ابن مرزبان المُقامر)( ).
كان يَعُم المكان قهقهة السَّكارىٰ المُغَيَّبِين، تجلس النَّساء فوق حُجُورِهم تتمايلن في أنوثةٍ وغوايةٍ بينما تملأن المكان بضَحِكاتِهن الرقيعة، في حين يَتجرع الرجال الخَمْر المُتَقَطِّر من رقابِهن، ويَنزوي أحد الرجال بإحداهن في شهوةٍ منه، بينما يَتسامر الآخر مع أخرىٰ للظَّفر بقلبِها، دون علمٍ منه أنها كباقي عاهرات المكان تسعىٰ للظَفْر فقط بأمواله، مع وعودٍ منه بالعودة وبذل المزيدَ من أجلِها، ليَعلو المكان فوق كل ذلك صَوْت المقامرين في نشوةٍ زَائِفة منهم.
ومن وسط ضجيج السَّكارىٰ والمُتَخَلِّيَات عن عُذْرِيَتِهن، تحرك الرَّجُل الأشْيَب إلىٰ مكانِه المُعتاد في أحدِ أركان الحانة، ليَجلس علىٰ مِنضدةٍ تَبْعُد عن رفيقاتها، وما أن أتىٰ الخمر إليه وقرر أن يُذْهِب عقلَه، حتىٰ أتىٰ ما يُعَكِّر صَفْوْ ذهنِه، فقد تَنامىٰ إلىٰ مسامِعه حديثٌ جِدِّي بين رجلَيْن يبدوان أنهما لا يَنتميان إلىٰ المكان، لم يَألفْهُما من قبل من بين الوجوه التي اعتاد رؤيتها هنا، فَعَلا نقاشهما القَلِق ليَسمع لَغْوَهُما علىٰ الرغم منه.
كان أحدهما قد أتىٰ من (القاهرة) منذ بضعةِ أيام، وأخذ يتحدث مع صديقِه وقد أصابه الارتباك لما يَجري في شؤون البلاد.
- "لا أعلم.. فالأوضاع لا تُبشر بخيرٍ علىٰ الإطلاق، فتلك المرأة لا تَدَع أحدٌ يَمكث في الحكم إلا لأيامٍ قليلة لتُطِيِح به بعد ذلك( )".
فأجابه رفيقُه الآخر بينما يَتجرع الخَمْر من كأسِه:
- "الجميع يعرف أن والِدة المستنصر هي من تتولىٰ شؤون البلاد وتتحكم في مَقاليد كل شيء، وتُسَيِّر الأمور علىٰ أهوائها الشخصية، لَعَنَ اللهُ تلك الجاريةَ النوبية".
- "أيها الغبيان، أنتما تُؤَرِّقان المسامِعَ بالحديثِ عن السياسة في مكانٍ ليس به شأنًا سوىٰ الخمر والنساء".
التفت الاثنان إلىٰ صَوْتِ الرَّجُل الأشْيَب والذي صاحَبَه ارتطام كرسي قد أطاحه بقدمِه نحوهما، ليَصطدم بالكرسي الآخر الذي يَجلس عليه الرَّجُل القَلِق، فنهض رفيقُه علىٰ الفور في حَفيظةٍ منه لما حدث للتو، حينها أتت إحدىٰ العاهرات علىٰ الفور من جِوارهم لتَضع يدها علىٰ كَتِفِه مُحاوِلَة دَفْعَ السُكْر عن نبرةِ حديثها قائلة:
- "العِراك المسموح به هنا هو العِراك علىٰ قلب إحدىٰ الحسناوات فقط".
ثم تمايلت علىٰ كَتِفِه حتىٰ أجلسته مرةً أخرىٰ، بينما لا زال ينظر إلىٰ الرَّجُل صاحِب عباءة الرأس بنظراتٍ مُتوعِدة، لتتحرك الفتاة نحو صاحِب العباءة تُجاهد للاتزان في خُطَاها حتىٰ وصلت إليه، لتترك جسدها يتهاوىٰ نحو صَدْرِه في أنوثةٍ تَخَلَّىٰ عنها الحياءُ منذ زمنٍ بعيد، ثم نظرت إليه وقد أمالت رأسَها علىٰ كَتِفِه لتنظر إلىٰ وجهه وتَبتسم، فأتت حينئذٍ بفِعْلَةٍ لم تكن في الحُسبان.
لقد أذهب الخَمْرُ عَقْلها وخَبَا وضوح قراراتِها وأفعالِها، فإذ بها تبتسم في مُشاكسةٍ منها لتَرفع عباءة رأس الرَّجُل علىٰ بغتةٍ منه.
دفع الرَّجُل بالمرأة السِكِّيرة لتَسقط أرضًا بينما أخذت تُقَهْقَه ضاحِكة علىٰ ما حدث، ليُعاوِد من تمَوْضُع العباءة فوق رأسِه في عُجالة، لحظاتٌ قليلةٌ قد مَرَّت وهو عاريَ الرأس، لحظاتٌ كانت كافِية ليَتَبَيَّن الرَّجُل الآخر ملامحَه، بينما كان لا زال شاخِص البصر نحوه في غضبٍ طيلة الوقت مُتابعًا إياه.
حينئذٍ قام رفيقُ الرَّجُل بينما يضحك ساخِرًا، لينظر إلىٰ صديقه ويُمازحه:
- "هل رأيتَ وجْهَه؟!".
ثم اقترب نحو الرَّجُل الأشْيَب وهو يُكْمِل:
- "وأنا الذي كنت أخشىٰ ضَرْب من يُنَاهِز والدي سنًا، ولو كان به...".
أتت لكمة قوية من الأشْيَب صاحَبَت نهوضه المفاجئ لتَسْكُن أسفل فك الرَّجُل وتُطيح بقدميه في الهواء ليسقط أرضًا ويمسك بِفَكِّه مُتململًا.
عَمَّ الصَّمْت للحظاتٍ علىٰ المكان، وحينها سارَع صديقُه للعون، ولكن قبل أن يَتمكن من توجيه ضَرْبَته للأشْيَب كان من نصيبه رَكْلَة صَدَمَت مُنْفَرِجَه؛ ليَخِر ساجِدًا وقد ضُج احمرارًا وانتفضت عروقُ وجهه، بينما يُنازع آلامًا مُبرحة أفقدته القُدرة علىٰ النُّطق أو حتىٰ التَّأوُه من شِدَّةِ الألم.
ترك الأشْيَب الرَّجُل الأخير، ثم عاد ليَلْتَفِت إلىٰ صديقِه المطروح أرضًا ليَجثو فوقَه، وقد بدأ يُكَيِّل اللكمات لوجهه.. الواحدة تلو الأخرىٰ، منها ما أصابت أسنانه فأنزفتها لِتُفَارِق بعضها البَقِيَّة وهو يجاهد لابتلاع لُعابَه الدامي، وأخرىٰ أصابت إحدىٰ عينَيْه فأورمتها ولم يَعد يرىٰ من أمامِه سوىٰ خيالِ من يعتليه، ومنها ما أصابَت أنفه فكسرتها دون أن يُدرك للألمِ الجديد من مَوْضِع، لكماتٌ عِدَّة انهالت علىٰ وجه الرَّجُل بنهجٍ ثابتٍ وغضبٍ عارِم، جعلت الجَمْع المُلْتَف حولهما لا يتجرؤون علىٰ إغاثة الرَّجُل ممن يَفتك به، فلم يتجرأ أحدٌ وقتها علىٰ مقاطعة الأشْيِب حتىٰ لا ينوله جَزاءً هو الآخر.
كان صَوْتُ اللكمات المُوجهة لرأسِ الرَّجُل كصَوْتِ الرَّطْم الغاشِم، والآن بات صَوْتُ اللكماتِ رَطِبًا، يَنزاح بعضُها لِيُلاقي الأرض إِثْر ملامسته للدماء اللزجة التي غَطَت وجه الرَّجُل كليًا، وبات علىٰ مقربةٍ من مُفارَقَة الحياة.
حينها قام الأشْيَب بينما تتلاحق أنفاسه دون انتظام، ليَتَحرك إلىٰ صُحْبَة القمار ويُلقي بمالَه مُمسكًا بِفَصَّيّ النرد( ) أملًا في أن يتحسن هذا اليوم ولا يُشابه ما سبقوه.
* * *
ومضة
هوىٰ طرقٌ شديدٌ علىٰ الباب، أيقظ صاحِبتَه في فَزَعٍ من نَوْمِها، لتَهْرع إليه وترىٰ من الطَّارِق.
- "لقد جاءت البِشارة".
ابتسمت المرأة للرَّجُلِ الماثل من أمامها، ثم هَرولت مُسرعة لتأتي بأغراضِها، وتَهُم بالمغادرة لتُصاحِبه في الطَّريق.
قَطَعا الطريق وسط الديارِ النائمة في ليلٍ مُتأخِر حتىٰ وَصَلا لدار الرَّجُل.
كان أنين ألم زوجتِه يَلوح لمسامِعِهما فور اقترابِهما من الباب، فسارَع الرَّجُل للدُلوف ومن ورائه أتت المرأة لتَفترش أغراضها أرضًا وتُشْرِع في عَمَلِها.
جلس الرَّجُل بِجوار زوجتِه التي نظرت له بابتسامةٍ يَشوبها الألم وهي تَجِزُّ علىٰ شفتيها، قابِضةً علىٰ يدِه بقوةٍ من فَرْط مُعاناتها لألم الطَّلْق الذي يَكاد أن يُقسم ظهرَها.
وقتٌ طويلٌ قد مَرَّ علىٰ تلك الدَّارِ بعد ذلك.. عَلا به صَوْتُ آلام ولادة نُطْفَتِهما الأولىٰ، ليَخبو رويدًا رويدًا صَوْتُ الألم، ويَعلو عليه صَوْتُ بكاء مولودهما المُنتظر.
قَبَّل الرَّجُل جَبين زوجتِه المُتصبب عَرَقًا، بينما أغمضت عينَيْها في استقبال لحظات سكونٍ تاقَت لها، ثم نَهض ليَنظر إلىٰ القابلةِ الجالسة عند مُنْفَرَج زوجتِه في لهفةٍ منه لمعرفة جنس المولود، فإذ به يرىٰ وجهها وقد اعتلته نَكبةٌ جعلتَها تَعْجَزُ عن الحديثِ والمُبارَكة.
كانت القابِلة تُمسك بطفلٍ صغيرٍ، يكسو الشَّيْبُ شعر رأسِه الكثيف، يتحرك علىٰ هوانٍ بين يديها بينما يزال جِلده الرَّطِب يُضفي عليه التَّجاعيد، فبدا من أمامِها كشيخٍ عجوزٍ وُلِد لِتَوه من رحم أمه.
أمسكت القابِلة بالطِّفْل وناولته إلىٰ والديه بتروٍ، ثم سارَعت في ترتيب أغراضها لتُبارح المكان في عجالٍة دون أن تَنْبِس بكلمة، وقد انقبض قلبها هَلعًا مما رأته.
احتضن الرَّجُل وليدَه في حنانٍ دون أن يبالي بما وُلد عليه، كان بُكاء ابنه غير المنقطع بمثابة لحنٍ يُشَنِّف أُذنيه، فها هو يَحتضن بين يدَيْه طفلًا اشتاق طويلًا لرؤياه.
التَفَت جانبًا ليُناول صغيرَهما إلىٰ زوجتِه طريحةِ الفراش، فإذا بها تُمسكه والحُزْن والهمُ يَعتريانها، فقد أدركت ما سوف يُعانيه صغيرُها في كل ما هو قادم من حياتِه... لتُحَدِّث زوجها مهمومةً في أمْرِها:
- "لقد رزقنا الله بطفلٍ مُبْتَلىٰ.. فليُعينه الله علىٰ ما هو عليه".
جلسَ الرَّجُل مرةً أخرىٰ بِجوار زوجتِه ليَحنو عليها قائلًا:
- "فلندعو الله أن يُعيننا علىٰ تربيتِه تربيةً حسنة، وكل شاغلٍ آخر سوف يزول".
فأتت أول ابتسامه لزوجتِه نحو وليدِها وهي تسأله:
- "إذًا ما الاسم الذي سيناله في الدنيا؟".
تَمَهَلَّ الزوجُ في الحديث لثوانٍ بينما يُداعِب الشعر الشائب في رأس طفلِه، ليُجيبها بعد ذلك:
- "سوف يَناله من الصِّبا ما يَكفيه طِيلة عُمْرِه.. سوف اسْمِيه غرير"( ).
* * *