وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الخَوْف وَالجُوع وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ
وَلَّت الشهورُ لتُثْبِت حقيقة الشَّائعات التي تَرَدَّدَت سابقًا في البِلاد وتُنذِر بما هو قادِم من فَقْر، فأضحت لُقمة العَيْشِ صعبة المنال، وبدأ الحال يزداد من سيءٍ إلىٰ أسوأ، فباتت الأيام ثِقال علىٰ الأنفس، ولعل أخَف الأيام ضِيِقًا علىٰ العباد كان يوم الجمعة من كل أسبوعٍ شَقِيّ يمر عليهم.
كانت صلاة الجمعة تُريح القلب وتُزيل من النفس كل ضِيِق، فَيَسْعد بها كل مهموم، ولم يكن هناك من هو أسعد من "بيجاد" بذلك اليوم المُبارك، فإنه من أشد الناس همًّا، فمع مرور الأشهر تَدهورت الأحوال أكثر وبات الرِّزق شُحًا في البِلاد، تحرك "بيجاد" باكرًا عن مَوْعد الصلاةِ إلىٰ مسجد (ابن عمروس)( ) المُلاصق لزقاق (أترُجة)، كان يَنوي زيارة صديقه الشَّيْخ "صالح"، أحدُ شُيوخ المذهب السُّني والقائم علىٰ المسجد، ذلك المذهب الذي تركه أثرياء الفاطميين للطبقة الفقيرة ليرتاعوا هم في مساجد الشِّيِعة( ).
أزاح "بيجاد" نَعْلَيْه عن راحةِ قدَمِيْه ليتركهما بالخارج ويَدْلِف إلىٰ المسجد الذي لم يَتوافد عليه المَصلُّون بعد، ذهب ليَقترب ويجلس بجوار الشَّيْخ الذي كان مُنْكَفئًا علىٰ قراءة كتاب الله بصَوْتٍ هادئٍ عَذْب، مَرَّت دقائق ليست بالكثيرة بعد ذلك ليُغلق المصحف ويضعه جانبًا ويَعتدل في جَلْسَتِه ناظرًا إلىٰ "بيجاد" وعلى وجهِه ابتسامة رؤياه، فبادره "بيجاد" بالحديث:
- "كيف حالك يا شيخي الفاضِل؟".
- "نحمدُ الله علىٰ ما نحن فيه يا بُنَيّ".
فأطبق "بيجاد" فَمَه عن الحديثِ بعد ذلك للحظات، قبل أن يسأله الشَّيْخ:
- "لم هذا التَّجَهُّم في يومٍ مُباركٍ كهذا؟".
ليُجيبه "بيجاد":
- "أفَلَم يصبح هذا شأن الجميع؟".
ثم عاد ليَستطرد الحديث بوجهٍ يَعلوه القلق:
- "فمنذ أن تمرَّد الجنود السودانيون ومرجوا إلىٰ صعيد مصر، وأهلكوا الأرض ومحاصيلها وهدموا قنوات الري، نِكَايَةً في المستنصر والأتراك الذين يُعاونونه في حُكْمِه( )، بارت الأراضي وهَلَك الحرث ومعها نَدُرَت التَّجارة وشُحَت الأقوات، وبات عَصيًّا علىٰ المرء أن يأمن الغد وما يليه".
فحدثه الشَّيْخ مُطمئنًا إياه:
- "أعلمُ أن الغلاءَ والبلاءَ قد طالا الجميع، وليُعيننا الله علىٰ ما نحن مُقدمون عليه".
ثم أمسك بالمصحف من جواره وهو يُطيل النَّظر إليه مُكْمِلًا:
- "ولهذا ففي كتابِ الله العزيز الصبر والسُّلوان، فَالجَأ إليه دائمًا، فَضّالَّة القلب والعقل تَكْمُن في كلماتِه".
مضىٰ وقتٌ ليس بقليلٍ من حديثهما معًا حتىٰ حان وقت الظَّهيرة، فقام "بيجاد" من مَجلسه ليَتحرك نحو بابِ المئذنة ليَصعد السلالم المؤدية للأعلىٰ، ليَسرح بنظرِه من فوق المئذنة لثوانٍ حول الأَزِقَّة والحواري المجاورة، ويَملأ رئتيه بالهواء ليَصدح من فوق المئذنة بالأذان، بَاذِل العزم في أن يصل صَوْتُه إلىٰ كل راغِبٍ وباغٍ رضا من الله ورُضوانه.
ثم عاد أدراجه بعد ذلك إلىٰ المسجدِ ليَجلس في الصفوف الأولىٰ وأمْسَك بكتابِ الله وأخذ يُطالعه في صَمْتٍ منه، ومع مرور الوقت امتلأ المسجد بالمُصَلِّين ليَصعد الشَّيْخ ويبدأ في خطبته، حاثًّا عِباد الله علىٰ الصبرِ علىٰ البلاء والدعوة بأن يُعَجِّل الله من انتهاء ما أصاب البلاد.
انتهت خُطبة الجمعة وتحرك المُصَلُّون للخارج.. لتزدحم عَتبة المسجد بهم وبنعالِهم، ومن بينهم كان "بيجاد" الذي وقف مُستندًا علىٰ الجِدار الحجري للمسجد، ليُجاوره شخصٌ آتٍ من الداخل لم تُبارح ملامحَه علامات التَّجَهُّم والحُزْن، فالتَفَتَ إليه "بيجاد" مُبتسمًا مُحدثًا إياه:
- "جمعةٌ مباركةٌ عليك يا عبد الرازق".
بدا علىٰ الرَّجُل أنه لم يَنتبه لحديث "بيجاد" إليه، فبدأ في ارتداء نَعْلَيْه ثم تحرك للخارج مع بَقِيَّة العباد.
كان "عبد الرازق" شارِد الذِّهن فيما هو مُبتلىٰ به، تمنىٰ لو كان سماع الخُطبة قد أحدث أي أثرٍ أو صدىٰ في نفسِه، فانشغال البال لا يُبارحه، وكيف يَهنأ له بال، وهنالك تلك الرِّقاب الأخرىٰ التي تتعلق في رقبته، رِقَاب أُسْرته التي بات عاجزًا عن تلبية أبسط مُتطلبات العيش لهم، تحرك في هَوانٍ إلىٰ السُّوق أملًا في أن يُبدل الله الحال ويُسعفه حظه في العثور علىٰ قوتِ اليوم، تذكر مُحاولاته الفاشلة في الأيام السَّابقة، لقد أمْسَت حِيَلَه وفِطنته لا جَدْوىٰ منهما أمام شُح الزمان، فباتت الأنفس عَكِرة لا تقبل الرِّياء أو الاستعطاف، وصارت الأموال لا تهون علىٰ مالكيها، فالجميع يحمل هم الغد جَرَّاء ذلك الغلاء الذي تفشىٰ بالبلاد.
أمضىٰ وقتًا طويلًا في السُّوق مُتجولًا بين الباعة، مُتفحصًا الرؤوس التي يُحلَّق فوقها الهَمَّ والضِيِق، فالباعة يَعرضون بضائعهم القديمة التي لا يَملكون سواها بأسعارٍ باهِظة علىٰ من يبتغيها، نظر إلىٰ جِوارِه نحو أحدِ دكاكين الخُضروات والفاكهة، ذلك الدُّكَّان الذي اعتاد رؤية بضائعه النَّضِرَة تستوي علىٰ طاوِلاته، تَصطف بعناية بمُختلف أنواعها، ولكن تَبَدَّل الحال ليَحل محلها ثمارًا وفاكهة ذابِلة تتراكم فوق بعضها ككمٍّ مُهْمَل، بينما أَغْلقَت بعض الحوانيت الأخرىٰ أبوابها بعد أن فَشَل أصحابِها في الحصول علىٰ السِّلع لبَيعها من الأساس.
فأكمل سَيْرَه في محاولةٍ منه لتَدَبُّر أمْرَه، ولكن باء مَسْعاه بالفشل حينئذٍ في مُحاولة الانضمام لحمالين البضائع من أحدِ السُّفن الراسية في الميناء، حتىٰ أن الباعة المُريدين كانوا يحملون بضائعهم بأنفسهم توفيرًا للمال، وسط حراسة مُشَدَّدَة من أصحاب السُّفن خوفًا من السرقةِ التي أصبحت أمرًا معهودًا يألفه الجميع.
تحرك "عبد الرازق" بجِوار أحد البائعين وخادِمه، بينما يحملان البضائع اللازمة لدُكانِه عارِضًا المساعدة مُقابل أي ما يَجُود به الرَّجُل، فما كان من نصيبه سوىٰ النهر والسُّباب، ليَعود هائمًا علىٰ وجهه في السُّوق مرةً أخرىٰ، ولكن ابتسم الحظُ للمرةِ الأولىٰ منذ وقتٍ طويلٍ وهو يمر عابرًا بجِوار إحدىٰ طاوِلات بائعي السَّمك، وحينئذٍ تحرك أحدُ الصِّبية وراء صديقه في مُطاردة لهو، ليَصطدم صديقه بإحدىٰ الطاوِلات ويَطرحُ ما تحتويه أرضًا، فتَحرك البائع من مَجلسه في عُجالةٍ من أمْرِه وهو يَسُب الفتىٰ المُسْرِع خلف صديقه.
ليَبدأ الرَّجُل في الانحناء والتِقاطها قبل أن تَنتَشِلها يدُ أحدِ السارقين، وهنا سارَع "عبد الرازق" في مُساعدة الرَّجُل في إعادة الأسماك إلىٰ مَوْضِعها.. كان البائع يَرمق "عبد الرازق" المُنشغل فيما يفعله بنظراتٍ مُتشككة خِشية أن يسرق شيئًا مما يُلَمْلِمُه من الأرض، لتَنتصب قامة "عبد الرزاق" بعد انتهائه من عمله، وهو لا يزال مُمسكًا بآخر سمكة التقطها دون أن يَضعها فوق الطاولة، نظر البائع إلىٰ السمكة التي كان لَحْمُها ينازع العفونة، والتي يُمسك بها "عبد الرازق" في يدِه، فَفَطِن إلىٰ ما يرمي إليه، فكانت نظرات "عبد الرازق" المُستعطِفة إياه كافيةً بأن يفهم مَقْصِدَه.
تحرك الرَّجُل عائدًا ليَجلس بجوار بضاعته دون أن يتحدث إليه أو يطالبه بإعادتها، وكأنها بمثابةِ موافقته علىٰ ما يَسترجيه منه، وهنا كانت سعادة "عبد الرازق" لا تُوْصَف بما قد امتلكه للتو، فذهب ليَنْكَفئ نحو النهر في مُحاولةٍ منه لإذهاب تلك الرائحة النَّفَاذَة التي لا تُبارِح لَحْم السَّمكة العَفِن، ولكن أتىٰ مَسْعاه دون جَدْوىٰ، فعاوَد الترحال قاصِدًا دارَه بنفسٍ خائبةَ الرجاء، وأثناء عودته ومروره من أحد الأَزِقَّة اعتراه همٌّ أثقل ذِهنه، فقد تبددت عزيمتُه في العودة بذلك الطعام إلىٰ أُسْرته، كان يخشىٰ أن تسكن العِلَّة جسد زوجته وولده إن تناولا ذلك اللَّحم العَفِن.
فتراخت يده في حُزنٍ ليَترك الطَّعام الفاسِد يقع أرضًا ويُكمل مَسيرته، ولكن أتاه بعد عِدَّةِ خطوات من مَسِيرته صَوْت مُواء لإحدىٰ القِطط الضَّالة التي انْقَضَّت علىٰ السَّمكة في نَهَم، وأخذت تَنهش في لَحْمِها، فأتت رؤيته للقطة بخاطرةٍ ما، فتحرك سريعًا عائدًا إلىٰ زُقَاق (أتُرجة) قاصدًا وِجهة دار السَّيدة العجوز.
بطرقاتٍ مُهَذَّبَة أصابت باب دارِها، خرجت العجوز لتَتقدم بخطواتٍ للأمام وتنظر نحو قاصِدها، فبادرها "عبد الرازق" بالحديثِ سريعًا:
- "إني أبتغي مُساعدتك في بَيْع الدَّجاج في السُّوق اليوم".
نظرت إليه دون أن تفهم سببًا لمطلبه، فقد حدث منذ حين أن تقدم بذلك الطَّلب وقابلته بالرَّفض، فحدثته بعد ذلك مُجيبة:
- "أنت تعلم أنني أقْصِد السُّوق بمفردي دون مُساعدة، كما أنني لا أحتمِل نفقة مُساعدَة أحدٌ لي في تلك الأيام الغابرة".
ثم عادت للوراء قليلًا لتَجذب بابها وهي تَنتوي إغلاقَه في وجهِه.
- "إن زوجَتي تَحمل في أحشائها طفلًا قادِم".
تَوقفت السَّيدة عن إكمال غَلْق البابِ بعدما ألقىٰ الرَّجُل بكلماته علىٰ مسامِعها، ليُكْمِل حديثه:
- "لقد أتتنا البُشرىٰ منذ بضعةِ أيام، وها أنا غير قادِر علىٰ إطعامِها ما يُعينها علىٰ ذلك الحَمْل، فأسْرَتي تبيت منذ يومَيْن علىٰ معدةٍ خاوية، ولم يَذُقْ جَوْفُها للزادِ من طَعْم".
ثم اقترب بخطواتٍ منها مُرتجيًا إياها:
- "إني أستحلفُكِ بالله أن تُساعديني اليوم، وأقسم بأني لن أُعكر صَفْوكِ بطلبي مجددًا.. إنه اليوم فقط دون غيره".
نظرت العجوز له مَليًا قبل أن تتحرك للخارج إلىٰ الحظيرة خاصتها، لتَعود مُمسكةً بدجاجتين تُجاهدان للفِرار من بين يديها الواهنتَيْن، لتُعطيهما له مُحدثةً إياه في جِدِّية:
- "لا تتأخر في العودة إليّ بعد بَيْعِهما".
فأحكم "عبد الرازق" قبضتيه عليهما في سعادة، وهو يُجيبها:
- "لا تحملي بالًا، سأذهب سريعًا وأعود في الحال".
تحرك "عبد الرازق" بخُطىٰ مُسْرِعة عائدًا للسوق، بينما وقفت السَّيدة تنظر نحوه لثوانٍ وقد بدأ في الابتعاد، فأتت زمجرةٌ من كلبِها بينما يخطو للأمام من داخل الحظيرة مُشخِص البصر نحو مَوْضِع شخصٍ ما، فالتَفَتَت سريعًا إلىٰ مَوْضِع نظره لتَجد شخصًا مارًّا ينساب شعرُه الأشْيَب من جانبي عباءة رأسِه التي يَتخفىٰ وجهُه أسفلها كعادته، توقف الرَّجُل في مكانِه ليَلتَفِت نحو (جَبَليّ) الذي نَبَح بقوةٍ تِجاهه فور مروره أمام الدَّار، ليُقرفِص الرَّجُل علىٰ الأرض فور رؤياه بينما يَنظر نحوه مُبتسمًا، ليترك (جَبَليّ) الحظيرة ليَركض بقوةٍ نحو الرَّجُل مُزمجرًا حتىٰ وصل إليه، وحينها تخلىٰ عن مظاهر قوتِه وبات كطفلٍ سعيدٍ بمُقابلة ضيفٍ له، فأخذ يلتَفُ حول الرَّجُل وهو يَتلمسه بجسده في سعادةٍ منه، فعلى الرُغم من كراهية (جَبَليّ) للبشر دون مالكيه، كان "غرير" هو الشخص الوحيد غيرهما الذي تجمعه بـ (جَبَليّ) علاقةُ صداقة لا يعلم أحدٌ سببها.
فداعب "غرير" رأس (جَبَليّ) وهو يبتسم لفِعْلَتِه:
- "كيف حالك أيها العجوز؟".
توقف الكلب بجانبه وهو يُحاول لَعْق إحدىٰ يديه، فأكمل "غرير" التمليس علىٰ ظهره مُتحسسًا الندوب التي تَجلَّت أثارها علىٰ غالبية جسده، فتملىٰ النَّظر نحو وجه (جَبَليّ) الذي أذهب التعذيب البصر من إحدىٰ عينَيْه ليبوء البياض بمحجرها، وهو يُكْمِل:
- "لا تحزن يا صديقي، فكلانا حُكم عليه بالمعاناة لأمرٍ ليس لنا ذنبًا به، فكلانا أدانه البَشَر بسبب هيئته، وكلانا يَمْقِتُهم جَرَّاء ما عانيناه منهم".
هَمْهَم "غرير" ضاحِكًا من نظرة (جَبَليّ) البَلهاء له وهو لا يَستوعب ما يُحَدِثُه به، ليُكْمِل:
- "لربما كان هذا سبب صداقتنا.. فنحن نتشارك أمورًا عِدة لا يعلم أحدٌ الكثير عنها".
تحرك (جَبَليّ) برأسه وقت ذاك جانبًا ليُزمجر غاضبًا، ليبدأ بالنُباح نحو رجلٍ يمر من جوارهما، فانجزع الرَّجُل ليَبتعد بخطواته عنهما ويُسرع الخُطىٰ في حَذِرٍ منه.
فضحك "غرير" حينها لِيَقُم من جَثْوَتِه وهو يُرَبِّت علىٰ رأس (جَبَليّ) ليُهدئ من روعه ليَترك الرَّجُل وشأنه، ثم بدأ بالتَّحرك مرةً أخرىٰ قاصدًا دارَه، ولكن صَاحَبَه (جَبَليّ) بضع خطواتٍ ليَبدأ في لَعْق يدِه الأخرىٰ والتي كانت تَدْمي بالدِّماء جَرَّاء جرحٍ يَسْكن راحتها، فانحنىٰ ليَدفع الكلب بعيدًا في رفقٍ وهو يُحدِّثه:
- "لا تقلق أيها العجوز، إنه مجرد جرحٍ سطحي.. فإنني علىٰ ما يرام".
تحرك الكلب عائدًا للحظيرة بعد ذلك، بينما أكمل "غرير" طريقه نحو دارِه بنفسٍ تَعَكَر صَفْوَها من التفكير في التأنيب الذي ينتظره.
فتح "غرير" باب دارِه ليَجد والدته العجوز جالسة علىٰ فراشها كعادتها دون أن تنظر نحوه أو أن تَنْبِس بكلمة، فتَوَجَه إليها ليأتيَ ببعض الدنانير من عباءته ويضعها بجوارها، ثم تحرك مُبتعدًا نحو إبريقٍ من الماء ليَصب الماء علىٰ يده الدامية، ثم بَلَّلَ يده الأخرىٰ ليعتصر شَيْب لحيته الذي أفاض بالدِّماء التي تَقَطَرَّت من فَمِه لِتُخَضِّب جانبها، وهو يسألها:
- "أين والدي؟".
فأجابته:
- "لقد ذهب باكرًا للحصول علىٰ قوت يومه".
فأكمل "غرير" غسل يده في صمت، ليتفاجأ بعد ذلك بالدنانير تُلقىٰ نحوه علىٰ الأرض.
- "هل يمكنك إخباري من أين حصلت علىٰ ذلك المال في وقتٍ تشُح فيه الأقوات؟".
فأجابها دون أن يلتَفِت تجاهها مُكْمِلًا غَسْل يده:
- "لقد شُحَّت الأموال أثناء سَعْي العِباد في الصَّباح، أما حياة اللَّيْل فلاتزال تُوفي الوعود بالمال".
ثم تحرك نحو قطعةٍ من القُماش ليُمزقها ويبدأ في تضميد يده في هدوء، فلم تمر ثوانٍ حتىٰ سمع صَوْت والدته وهي تنتحب في حسرةٍ منها.
- "ليتني قتلتَك في مهدِك كي لا أشهدُك من أشقياء اللَّيْل، فوالله ذلك هَمٌّ لا أستطيع مُعايشته".
تخلىٰ "غرير" عن هدوئه وتحرك سريعًا نحوها بينما لا زال مُعْتَمِرًا عباءة رأسه، تلك العباءة التي لا تُبارح مَوْضِعَها طوال الوقت حتىٰ أَنَسَ شعوره بها واعتاد الرؤية من ثنياتها فباتت جزءًا منه لا تُفارقه، وحينها أطاح بعباءةِ رأسه ليُحدثها مقتربًا بوجهه منها:
- "ليتكِ أزهقتِ روحي في المهد يا أمي، فلعلها كانت فِعْلَة تُريحني من مَشَقَّة ما قد اُبتليت به".
ثم تحرك مُبتعدًا قليلًا وهو يُشير إلىٰ وجهه، ذلك الوجه ذو الملامحِ الشابة الفَتِيَّة التي يُحاصرها الشَيْب من كل اتجاه، يَنسدل شعرُه فلا يُرىٰ للسواد مَوْضِعًا، يُحيط ذقنه شعرٌ فضيٌ لم يَتلون بِسِواه منذ كان صغيرًا، فبات الناس يُخطئونه من بعيد، فيَظنون به الشَيْب وكِبَر السَّن وما أن يتبينوا النظر إلىٰ ما يُحِيِطُه هذا الشَيْب فيجدونه شابًا يافعًا، فتتردد الأنظار لِتُطِيِل النظرَ إليه وتسوءه.
فأكمل حديثه في غضب:
- "ألا تتذكرين يوم مولدي؟ فأنا أتذكره جيدًا، فَالألْسُن لم تتوقف عن تناقُل الحديث لسنواتٍ طوال عما حدثتهم به تلك القابِلة، لقد أشاعت تلك اللعينة الخبر فور خروجها من الدَّار، لقد وَلدت عائلة كُردية طفلًا أشْيَب الرأس في المهد، لأُصبح نذير شؤمٍ لكل نفسٍ تراني( )".
فسارعت والدته لتُجيبه:
- "لا ذنب لك فيما وُلِدت عليه يا بني، إنها إرادة الله ونحن لها مؤمنون".
فأجابها مُستهزئًا:
- "لقد عانيت طيلة حياتي مما أنا عليه، فهل إرادة الله أن أُوْصَم طيلة حياتي؟".
ثم أخرج خنْجَرَه من غَمده وهو يُريها إياه:
- "لقد كلَّ نَصْل هذا الخِنْجَر منذ أن كنت فَتِيًّا في حَصْد الشَيْب من رأسي ولحيتي دون جَدْوىٰ، فكنت ولا زلت في نَظَر الناس نذير السوء الأشْيَب".
ثم أعاد خِنْجَرَه إلىٰ مَوْضِعه ليُحدثها والمرارة تملأه:
- "ليتكِ كتمتِ أنفاسي ذلك اليوم وأرحتِني من تلك الحياة".
تحرك "غرير" في عجالةٍ من أمره ليُعاود الخروج وهو يَرطم باب الدَّار بقوةٍ مُتجاهلًا صَوْت أمه المُنادي إياه، ليَعتمر عباءة رأسه مرةً أخرىٰ عائدًا من حيثما أتىٰ.
تحرك العبدان "قُصِيّ" و"يوساب" ذلك الوقت علىٰ مقربةٍ من دارِ الأشْيَب، كانا يَهُمان بالتَّحرك إلىٰ السُّوق مُصطحِبيْن إحدىٰ بهائم "الناصري" لبَيْعها، فتراءىٰ المشهد الأخير لهما دون أن يسترعىٰ شاغلًا لـ "يوساب"، ليكن النَّقيض من نصيب "قُصِيّ"، فقد أثار رؤيته لشجارٍ عائلي مشاعر بداخله لا يعرف لها تمييز.
فالتفت وهو يصطحب البهيمة إلىٰ رفيقه "يوساب" الذي كان يتقدمه بخطوات، يَتبختر كعادته في ظفرٍ مُبالَغٍ والسَّيف بجانبه كجنديٍ مُحارب، ليحدثه:
- "هل عرفت أباك أو أمك يومًا؟".
فأجابه وهو يُكْمِل طريقه دون أن يُشغله الأمر:
- "مجرد ذكرياتٍ مُبْهَمَة تعود لأيام الصِّغر، فقد مَحَا الزمن ملامحَهم والمواقف التي كانت تجمعنا معًا من عقلي منذ وقتٍ طويل".
فحدثه "قُصِيّ" بعينَيْن زائغتَيْن في الماضي البعيد:
- "لقد وُلِدتُ في كَنَف العبودية منذ أن أبْصَرتُ الدنيا، فالعَبيد الخِصْيَان يتم إبعادهم عن كَنَف ذويهم، وإخصاؤهم في الصِّغر حتىٰ يكونوا أقل عُرضة للموت".
ثم عاد ليسأله متلهفًا:
- "ولكن ألا تفتقد عائلتك يومًا؟".
ليُجيبه باقتضاب:
- "لا".
ثم مَدَّ ذراعيه في الهواء مُستعرضًا كتلتيهما العضليتَيْن وهو يُكْمِل:
- "ولكني أفتقد الجواري الحسناوات اللاتي كُنَّ يَتَلهَفْن عليّ فيما مضىٰ".
لتأتي إجابة "قُصِيّ" بغتةً لتُقاطع غرور "يوساب":
- "أنا لم أُثر إعجاب فتاة يومًا في حياتي".
التفت "يوساب" حينئذٍ إلىٰ "قُصِيّ"، وقد أيقن أن مَوطئ كلماته الغير محسوبة قد أصاب الحُزْن في قلبِ صديقه، فقد كان العبيد الخِصْيان يُصاحب إخصاؤهم تَغَيُر في الملامح والهيئة، فتتدلى شفاهم السُفلية وتتمدد الأصابع والأطراف( ).
فكانت تلك الملامح كفيلة بإبعاد الجواري عنه طيلة حياتِه، ليُبطئ "يوساب" الخُطىٰ ويضع يده علىٰ كَتِف "قُصِيّ" ممازحًا إياه وهو يُشير إلىٰ البهيمة من جوارهما:
- "لا تحزن.. فنحن تحت إِمْرَة الناصري الآن، ولن نعرف عن مُصاحَبَة الإناث سوىٰ تلك البهائم".
فسأله "قُصِيّ" في تَعَجُّبٍ مُستفسرًا:
- "وماذا عن سيِّدِتنا؟".
فنظر إليه مُتعجبًا ليُجيبه:
- "أتقصد زوجة "الناصري" السَّمينة؟ فوالله لأنها كبيرة البهائم".
* * *
ومضة
- "مرحبًا يا جِدِّي".
ضحك الأطفالُ علىٰ المُزاح السَّمِج لأحدِ أصدقائهم تجاه "غرير"، والذي جاوَرَهم في السَّن وفاق مظهره العُمر، فوقف "غرير" عاجِزًا عن الرَّد فيما قِيل له، بينما عَلا ضجيج ضحكات بَقِيَّة الأطفَال ليَملأ رأسَه، فاستشاط غضبًا ليَدفع الطِّفْل الآخر من أمامِه في غَضَب، حينها كَالَ الطِّفْل لـ "غرير" لكمة طَرَحَته أرضًا، وقد دَمَت أسنانُه من دَوِي اللَّكْمة، فقام سريعًا في مُحاوَلة للفَتْك بالطِّفْل، الذي ما لَبِث أن أعَاقَه بقدَمِه.. فافترش الأرض مجددًا.. ليَسْعُل إِثْر عَفَرة التُّراب حول وجهِه دون القُوىٰ علىٰ النُّهوض مجددًا.
- "توقف وشأنك".
التَفَت الجَمْع إلىٰ الطِّفْل قائل العِبَارة وقد بدا عليه الإصرار في حديثِه، فتَحَرك الطِّفْل الآخر تجاهه قائلًا:
- "لِمَ تُدافِع دَوْمًا عن نَذِير الشُؤم يا "بيجاد"؟، أليس له يدان ولسان؟".
حينها هَمْهَم أحدُ الأطفال ساخِرًا:
- "لربما يُريد مُساعَدة شخص عجوز ليس إلا".
قُضَي الأمْر، نهض "غرير" عازِمًا علىٰ خَطْفِ بَصَر الفتىٰ الذي طرحه أرضًا، فتحرك سريعًا تجاهه ليُثني أصابِع يدَه جميعًا عدا واحدٍ منها عازِمًا علىٰ أن يُسكنه في مُقلة عيَنِه، وما أن اقترب منه حتىٰ سدد إلىٰ "غرير" لكمة قوية تَوَسَطت أنفَه لتَتدفق الدِّماء الغزيرة منها، ليَسجد في الأرض مُمسكًا بأنفِه في ألم.
- "فلندع هذين التعيسَيْن وحدهما".
فتحرك بَقِيَّة الأصدقاء في مِزَاحٍ منهم وهم يتتبعون صديقهم كي يلهوا بعيدًا، لتَمُر لحظات من الصَمْت علىٰ الاثنين، حتىٰ مَدَّ "بيجاد" يدَه نحو "غرير" لمساعدته علىٰ النُّهوض.
فما كان من الأخير سوىٰ أن أطاح يد "بيجاد" بذراعِه في غِضِبٍ قائلًا:
- "أنا لا أحتاجُ إلىٰ مُساعَدةٍ أو شفقةٍ من أحد".
ليَصْلُب من قامَتِه ويَعدو سريعًا إلىٰ دارِه، بينما تَنْغزُ حَلْقِه غُصَّة الغَضَب والحُزْن علىٰ ما يمر به، فكلما قرر أن يعيش طفولتَه غير عابئ بما يَجْري من حوله ولا يعتري للدنيا من شاغِل سوىٰ اللَّهو، يُطارده دَوْمًا وَصْم الدُّنيا له.
* * *