Darebhar

Share to Social Media

"مِشوار الألف ميل يبدأ بخطوةٍ"
هذهِ كانت وستظل قَناعتي دومًا، فطريق الصّعاب مِن وجهة نظري يبدأ بأولِ خطوةٍ أخطوها، لا بخطواتِ الآخرين، سأثقُ بقدراتي وأعلم يقينًا أنه كلما زادت خطواتي كلما اقتربتُ أكثر مِن تحقيق حُلمي!
أنا «تميم» شابٌ وحيد لأسرة متوسطة، أبي رجلٌ مُتقاعدٌ على المعاش، يتقاضى ما يسدُّ بهِ رمق عيشتهِ بعدما ترفَّع عن مغرياتِ الحياة، وأمي رحمة الله عليها وافتها المنيَّة مذُّ كنتُ في المرحلة الثانوية، ما زالت طبعةُ يدها الحنون على وجهي حاضرة، وكلماتها العذب صداها بأذني لا ينقطع، طالما كانت تقول لي:
- الحياةُ كالجنة بعينٍ راضية، وكالنار بعينٍ شاقية، وبين هذا وذاك نفوسٌ تتأرجح على حافةِ الهاوية، فلا تكوننّ ممن بترَ فيشقى!
تخرجتُ حديثًا مِن كُلية الآداب جامعةُ القاهرة، بتقدير عام امتياز مع مرتبةِ الشرف، تَطلعت لأنْ يتم تَعييني مُعيدًا بِقسمي، مِنذُ الوهلة التي وطأت فيها قدمايّ أرض الكليّة، ثابرتُ واجتهدتُ ولمْ يكُ هناك مَن هو أجدر مِني لقنص هذا المنصب.
حتمًا فرضية التمني والرغبة في تحقيقها تختلف قطعيًا عن الواقع الذي نحياهُ، لِذا فقد تأخر جواب تعييني مُعيدًا لحد فقدت معهُ الأمل في وصولهِ.
بَدأتْ مَشارف السنة الدراسيّة الجديدة تَهِل، ومعها تلاشى حُلمي وأصبحَ مُجردُ أمنيةً تُراودني كأضغاثِ أحلامِ اليقظة، أنحيتُ ما علق منها بنفسي جانبًا، وقبلتُ على مضضٍ التعيين بوظيفةٍ إدارية بالجامعة، ضمن التعيين بنظامِ التعاقد المؤقت، فالحلمِ مهما بلغَ مبلغهُ لنْ يتحقق ونحن مكتوفي الأيدي، كل ما نفعلهُ هو الانتظار وحسبْ، علينا أنْ نسعى وإنْ أجبرتنا الحيّاة على تغيير المصير، فما علينا إلا أنْ نرضى، حتى يُحدث الله أمرًا كان مَقضيًا.
ارتديّت حُلّة كنتُ أحتفظ بها لارتدائها يومَ تعييني مُعيدًا بالجامعة، تأنّقتُ وأنا أبتسم لأحلامي التي تتبدد وأنا أقف مكتوفَ اليدين، استقللت الحافلة المتجهة صَوب الجامعة، وما أنْ وطأتُ أرضُها، حتى لاحَ حُلمي الذي عاد مِن رُكادهِ يُراودني مِن جديد، قادتني قدميّ هاتين إلى قسم شئون الخريجين لأقف مُتسائلًا عن الأوراق اللازمة لاجتياز الدراسات العُليا.
وقفتُ صامتًا وما زال بقلبي بقايا حُلمي الذي انطفأ، لم يئن أوان انقشاعه بعد، همستُ بسريرتي:
- لعلها خطوة تُقربني مِن هدفي، مَن يدري لعلهُ خير!
لمْ يكن في تصوري مهما بلغتُ مِن تخيّل، أنني على موعدٍ جديد مع القدر، وأنَّ طريقي سيتغير _الذي شرد عمّا أريد_ ليعيدهُ مرةً أخرى إلى نصابهِ الصحيح.
دقائق مِن القلقِ والتوتر اصطحبتني وأنا أجلس قُبالة عميد الكليّة، لحظاتٌ لم أمر بِحياتي بمثيل لها، جلستُ مُتصنعًا الهدوء، أرسمُ على وجهي بعضًا مِن البشاشة المغلّفة بالدهشة وقليل مِن الاتزان، أمّا دَواخلي النفسيّة كانت شبيهةٌ ببركانٍ في أوج ثورتهِ، صدى انفجارهِ أسمعهُ جَليًا في صوتِ صمتي، أتنفس ببطء لعلَ بهذا تهدأ ضرباتُ قلبي، فلا يُسمع لها أيُّ صدى.
لم يكن بِداخلي شيءٌ آخر أفكر بهِ يَشغلني عن طول تلك اللحظة الحرجة، كنتُ كالباحث عن أيّ شيءٍ أُطمئن بهِ روحي المبعثرة، وقعت في شِركٍ؛
أصدق أو لا أصدق!
لقد تحولت وجهتي تمامًا مِن النقيض إلى النقيض، ألجم الخبر لساني فعقدهُ عن الكلام، وأعجزتني هولُ الصَّدمة عن التعبير!
لقد راجعت قائمة اختيار المعيدين لهذا العام آلاف المرات، لم يكن اسمي مُدرجًا، بل لم يكن لقسمي أيّ نصيبٌ في قائمةِ الإختيارات، فجأةٌ وبدون سابق إنذار تم اختياري مُعيدًا!
أهكذا أرى حُلمي يتحقق بهذهِ السهولة!
آن لي أنْ أُصدق بمنتهى البساطة، أكاد أُجن مِن فرط الدهشة!!
انتشلني مِن حيرتي المُفعمة بالحيوية صوت الدكتور «رحيم» وهو يقول بوجهٍ مُبتسم:
- أهلا بكَ ومُبارك عليكَ مقعدكَ الجديد.
نظرت إليهِ وأنا أبتلع دهشتي، كنتُ أراه وكأني أراهُ لأول مرةٍ، بدا التعامل معهُ بمذاقٍ مُختلف، لقد كان أحد أساتذتي المُفضلين الذي شرفتُ بالتتلمذ على يديهِ قبل اختيارهِ عميدًا لكلية الآداب العام الفائت.
اليوم صَحبتهُ هالةٌ عجيبة لم ألحظها قَط، تبسمتُ في وجههِ أنا الآخر وشرعتُ مُحاولًا أنْ أنتقي بعض كلماتِ الشكر والتبجيل علّي أُصيب قدرًا يوفيهِ قدرهُ، فقلتُ بِبشاشةٍ:
- لن ترقى الكلمات لأن توفيكم قدركم ولو جاهدتُ مُحاولًا فلن أبلغهُ ما حييت.
نظر إليّ مُعربًا عن امتنانهِ، فقال بهدوءٍ وعلى وجههِ لمسة سماحةٍ ظاهرة:
- الشكر الحقيقي لجهودك طوال فترة الدراسة، حَفرتَ مِقعدكَ بصبرٍ واجتهدت بعزيمةٍ قويةٍ، فنلت ما استحققتهُ بجدارة.
أعاد النظر إليّ ثم أكملَ بثقة:
- وخلقك! شهادةُ جميع مُحاضريكَ صبّت في صالحك.
كم تمنيتُ أنْ يكون أحدهم إلى جواري، يلكزني بيديهِ أو حتى قدميهِ لأعي أنني يقظٌ بأرضِ الواقع لا غارق في الأحلام الورديّة.
كان إطراؤهُ لي أيّما إطراء، شهادة فخرٍ على جبيني، وسام شرفٍ لا يُضاهيهِ شيء، عجزتْ كلماتي أنْ تكون حاضرةً تنوب عني لشكرهِ، فاستكانت بداخلي مُمتطية لجام العجز.
لقد كانت فرحتي أعظمُ مما تخيلتْ، كم تمنيت أنْ يتوّج تعبي وأحقق حلمي، لكن وقعهُ يتحقق؛ لأعمقُ بكثيرٍ مِن تمنيهِ يَحدثْ.
خرجتُ مِن مكتب عميد الكلية مُتوجهًا إلى مكتب رئيس قسم الآثار لأُتمم تسلمي مقاليد وظيفتي الجديدة، كان يُحاورني هو الآخر بلباقةٍ شديدة، حَفّني بكثيرٍ مِن السّعادة التي استنطقتها مِن تعابيرِ وجههِ، كانت تتوارى خلفَ صمتهِ المطبق، ما زلتُ أحفظ أدق تفاصيلهُ، كم تطلعتُ إليهِ مُتمنيًا أنْ أحذو حذوهُ، بادلتهُ بكثيرٍ مِن الاحترام اللائق بشخصٍ مثلهُ، مِن ثَمّ انصرفتُ مُستأذنًا.
رحتُ أتفقد كامل أركان الكليّة، غدوت مُرتديًا حُلَّةٌ الفخر أتلمسُ كل ركنٍ وزاويةٍ فيها، كانت عينيَّ تدورُ بالمكان تراهُ كما لم ترَهُ مِن قبل، ضحكتُ مِن أعمقِ الأعماق، وقلتُ بزهوٍ:
- لقد فعلتها، قلبي الضعيف لا يتحمل وقع تلك الحقيقة!
استفقتُ مِن شرودي على صوتٍ جهور يُناديني، التفتُّ صوبَ الصوت مُتفقدًا المنادي إذ بهِ «نائل».
ابن خالتي، يصغرني بعامٍ ونصف العام، التحق بذاتِ الكليّة ولكن بقسمٍ آخر، صافحتهُ بحرارةٍ فقلمّا نلتقي، كان يقطن بعيدًا عن منزلنا وانهماكي في الدراسة حال دون زيارتي لخالتي فتباعدت بيننا المسافات، ولم أكن ألتقي بهِ كثيرًا في الجامعة فأيام دراسته تختلف عن أيامي هي الأخرى، لكن في النهايةِ قدّر لهُ أنْ يكون أول مَن يُشاطرني فرحتي، سألني بدهشةٍ باديةً على ملامحهِ:
- لأيّ السبل تمضي، ألم تُنهِ دراستك؟
أمسكتُ بياقةِ قميصي وقلتُ مُعتزًّا:
- ألا تدري، لقد عيّنتُ مُعيدًا بقسمي!
تهللَ وجههُ فرحًا، ربّت على كتفي وصاح قائلًا:
- مرحى يا رجل، لقد فعلتها أخيرًا.
ضحكتُ مِن أعماقي وقلتُ بكل ارتياح:
- نعم فعلتها، وكدتُ أفقد الأمل في أنْ أُصيبها، لكن العبرة بخاتمة الأمور.
لكزني بمعصمهِ قامَ على أثرِها بِعدّة حركاتٍ عفويةٍ، نمّت عن سعادتهِ الغامرة، والتي يكنها لي بداخلهِ، سرعان ما عادت إليهِ رزانته، فتعجبتُ لأمرهِ ورفعتُ هامتي أتأمله لأعرف ما أصابهُ، وجدتهُ منصبّ النظر على ملاكٍ في صورةِ بشر.
فتاةٌ تخجل الشّمس أنْ تعتلي عليائها في حضرتها، عيناها العسليتين صائبتك بسهامها لا محالة، ضحكتها الهادئة وصوت أنفاسها المتقطع، نظراتها الخجولة التي ترسلها، وحُمرة الورد على وجنتيها كان شذى عبيرهُ يفوحُ بالأفق، تَغريدةُ صوتها العذب حين تحدثتْ، كل هذا انتشلني مِن عالمي وطرحني بعالمٍ آخر.
اقتربتُ مِن مِحرابها تائهًا مُتلهفًا، فوقعت مِن فوري مأسورًا بجمالها الخلاب، مُستسلمًا للهزيمة لا أستطيع الحراكَ دونما مُقاومة.
توقفَ مسارُ الكون بأكملهِ وسكن كل بموضعه، تجمدت الصورة أمام عينيَّ وكأنَّ العالم تضامنَ معي، فوددتُ مِن صميم قلبي أنْ أظل قابعًا بتلك اللحظة أمدًا لا أفيق، وليتوقف الكون بمن فيهِ غير آبهٍ ولا مُكترثٍ لأحد.

الأدب في العصور القديمة؛
ما زال راسخًا مَليئًا بالقيم الجيدة!


تظهرُ في أفقِ السّماء أيّها الشّمس الحيّة،
الذي يقدر الحياة،
تشرق في الأفقِ الشرقيّ في الصباح،
وتملأ البلاد بجمالك،
أنت جميلٌ وعظيمٌ ومشرقٌ الآن،
فوق جميع البلدان؛
وآشعتك تملأ كل البلاد حتى آخر كل ما خلقت.

من روائع الأدب في العصر الفرعونيّ
جزء من ترنيمة «آتون العظمى»:
هي ترنيمة قديمة كتبها
الملك «اخناتون»
لإله الشمس «آتون»
في محاولة منه لتوحيد عباد



0 Votes

Leave a Comment

Comments

Write and publish your own books and novels NOW, From Here.